د. محمــد العبــدة
علاقة المنفعة بالعلم والإيمان والتشريع:
كانت السنة النبوية واضحة بأنَّ العمل والتطبيق في كل ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة الدنيا وفي كل ما يؤدي إلى السعادة في الآخرة هما الثمرة المتوخَّاة من العلم، وهو عينُ ما فقهه الجيل الأول من الكتاب والسنة، وإن فهمًا كهذا لَيَصُون الإنسان عن الخوض فيما لا ينفعه أو فيما ليس من شأنه وطاقته؛ لئلا يضيع وقته في جدل عقيم أو في تصوُّراتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد تعوَّذ الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه من علم لا ينفع.
ومما يرشد إليه التوجيه القرآني والنبوي باستمرار الاهتمام بالعمل والنتائج وكل ما هو نافع دون البحث عما ليس في مُكْنة الإنسان: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات/42] فالسؤال كان عن وقتها، وهذا في علم الله سبحانه وحده، وحسب الإنسان أن يعلم أنها واقعة وأنها أمارةٌ علَى الحساب، ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنها قال للسائل: ((ماذا أعددت لها؟))، مُعرِضًا عن صريح سؤاله إلى ما يتعلق به مما فيه فائدة للسائل، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وهذا يفيد أنهم لم يجابوا إلى سؤالهم؛ فهو مما لا يُحتاج إليه في التكليف، وأي نفعٍ يؤمَّل من معرفة جواب كهذا في سياق الجهود التربوية الإسلامية التي يتوخَّى منها جلب المصالح ودرء المفاسد، وهي عينُ الاستقامة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
إن الإسلام يعلمنا دائما أن المطلوب هو المعرفة النافعة التي تسهم بوضوح في سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وقد أعطانا الله -سبحانه وتعالى- العقل والفكر لنستخدمهما فيما ينفع ويفيد، روى الإمام مالك عن القاسم بن محمد بن أبي بكر أنه قال: (أدركت الناس وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل)، ويروي الإمام الزهري عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنه كان إذا سئل عن أمر يقول: (أكان هذا؟)؛ فإن قالوا: نعم، حدَّث فيه بالذي يعلم؛ وإن قالوا: لم يكن، قال: (فذروه حتى يكون)، ومن هذا الفقه العملي عند أئمة أهل السنة أنَّ الإمام مالك رحمه الله قال: (أكره أن ينسب أحد حتى يبلغ آدم ولا إلى إبراهيم، ومن يخبره من بينه وبين إبراهيم؟!)، فهو يرى أن الانشغال بأنساب مظنونة ترف لا يغني شيئًا، واشتهر عنه أيضًا أنه: (كان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل).
وأكدت التوجيهات النبوية أن على المسلمين ألا يخوضوا في أمور لن يصلوا منها إلى نتيجة، بل قد تؤدي بهم إلى التهافتِ والضَّلال، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس يسألون، يقولون: ما كذا ما كذا؟ حتى يقولوا: الله خالق الناس فمن خلق الله؟ فعند ذلك يضلون))، وفي رواية البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته))، وجاء في الأثر: ((تفكروا في المخلوق، ولا تتفكروا في الخالق))، قال الإمام ابن تيمية: (لأن التفكير والتقدير يكون في الأمثال المضروبة والمقاييس، وذلك يكون في الأمور المتشابهة وهي المخلوقات، وأما الخالق -جل جلاله- فليس له شبيه ولا نظير، فالتفكر الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه، وإنما هو معلوم بالفطرة)، والله سبحانه يُعرف بآثاره وصفاته وأسمائه ولا يُسأل عن كنهه، فالشرع الكريم حينما حث على التفكر قصد التفكر في خلق الله الذي يؤدي إلى تعظيم الخالق والخضوع له ولدينه وشرعه، وليس التفكر في ذات الله وقياسه على المخلوقات حيث تنبت الوساوس وتنتهب صاحبها حتى يضل، فهذا تفكُّر لا نفع فيه، بل فيه من الضرر ما فيه، يقول الشيخ ابن عاشور رحمه الله: (إن ما يشتمل عليه الكتاب والسنة من أخبار عالم الغيب إنما قصد منه لفت العقول والقلوب إلى ما وراء المحسوس حتى يؤمنوا به مجملًا، ثم يقبلوا إلى تعلم علم يرجون منه دراية وعملًا…، إنه أجدر بأهل العلم في الأمة الإسلامية الاهتمام بتمحيص ما ينبني عليه عمل نجيح أو اعتقاد صحيح، وأن يوفروا زمانهم فيما هم إليه أحوج؛ فإن الزمان نفيس).
هذا في العلم، وأمَّا الإيمان والتشريع فكانت دلالة القرآن الكريم على أهمية ما فيهما من منافع أصرحَ وأوضح، فلم تقتصر الآيات على بيان الثواب أو العقاب في الآخرة بل ذكرت آثار الإيمان والتقوى ومنافعهما الدنيوية والأخروية، وحذرت من الكفر وعدم شكر النعم، وبينت أضرار ذلك في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف/96]، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء/105]، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل/97]، ومن الحياة الطيبة التمكين في الأرض للصالحين ووفرة الخيرات في الأرض والصحة النفسية التي تساعد على الصحة الجسدية، ثم إنَّهُ لا أدلَّ على عدِّ المنفعة أصلًا في باب الامتثال للأوامر الشرعية من اعتبار تطبيقها نفسه حياةً للناس {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة/179].
وبضدِّها تتميز الأشياء، وإن أهمية المنافع في الإيمان والتشريع كما دلَّ عليها القرآن الكريم لتتجلَّى في الأضرار المترتبة على الإعراض عن مقتضى الإيمان والتشريعات الجالبة للمصالح الدارئة للمفاسد، تأمَّله وهو يصف الشقاء الذي يقع فيه الذين يبتعدون عن الإيمان والأعمال الصالحة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه/124]، ناهيك عن التمزق والفرقة والشقاق والشقاء في الدارَين {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام/159]، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية/21].
وإمعانًا في تجلية موقِع المنفعة من الإيمانِ نعى الله سبحانه على من يعبدون أوثانًا لا تضر ولا تنفع، فالاستدلال بما للإيمان بالشيء من منافع برهانٌ معقول، وكم في الإعراض عنه من دلالةٍ على منتهى جهل القوم وضعف عقولهم {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 191-192]، بل قد بلغ بهم جهلهم بأهمية مكانة المنفعة في الإيمان أنهم عبدوا عجلًا جسدًا له خوار: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه/89]، فما الذي دهاهم ومعيارُ النفع والضرر مؤشِّرٌ فطري في الإنسان! فالإنسان يختار ما ينفعه ويبتعد عما يضره بفطرته، اللهمَّ إلا اذا انحرفت فطرته فأصبح يميل إلى الأشياء الضارَّة.
المنفعة والطبيعة في القرآن:
أفاض القرآن الكريم في ذكر الطبيعة موجِّهًا الأنظار إلى آثارها النافعة، مذكِّرًا الإنسان بما فيها من منافع ونِعم حباها الله له كي يتمتع بها ويشكره عليها؛ فينبغي عليه أن يستفيد منها ويستثمرها ويستدل بآثار تلك المنافع على المؤثِّر، وهذا يظهر أهمية المنفعة وأثرها في تقدير القرآن لقيمة الطبيعة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل/10-12]، والإنسانُ أعنَى بالغوص في أعماق الطبيعة ليقدرها قدرها من خلال آثارها ثم يستدل بالأثر على المؤثر: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر/12]، {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل/60] فالمسلم ليس في صراع مع الطبيعة، بل إنَّ للغايات الإيمانية العليا الكامنة في الطبيعة ارتباطًا بالعلم المادي، ومن ثَمَّ فإنَّ لها بعدَها النفعيَّ الدنيوي والأخرويّ.
الغرب والمدرسة البراغماتية
رائدُ هذا المذهب أو هذه النظرية الفيلسوف البريطاني جيريمي بنثام (1748-1832م)، وخلاصة هذا المذهب كما يقول أحد فلاسفته تشارلز بيرس أنَّه “إذا كان لديك فكرة، وأردت تحديدًا لمضمونها، فانظر ماذا عسى أن يكون لها من نتائج تطبيقية في دنيا العمل، قم اجمع هذه النتائج يكن لك قوام فكرتك”([1])، أي عوضًا عن التساؤل عن مصدر الفكرة وأصلها تتساءل البراغماتية عن النتائج والثمرة، فالفكرة هي صواب إذا كانت نتائجها مما يسعف ظروف حياتنا العملية ويفيدنا في حل مشكلاتنا، يقول الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون: “إن إنفاقك في الدراسة النظرية وقتًا طويلًا هو ضربٌ من الكسل والخمول ومحبةٌ في الظهور”.
وهذا يعني أنَّ على الإنسان أن يتجه نحو الأفكار التي لها تطبيق عملي في دنيا الواقع، وأن يبتعد عن الإغراق في التنظير أو حفظ معلومات لا تفيد شيئًا في الحياة العملية، يقول أحد دعاتهم المشهور باهتماماته التربوية جون ديوي: “خيرٌ من أن يحفظ الطالب أسماء جبال منطقة المتجمد الجنوبي نعلمه كيف يربي حيوانًا أو كيف يزرع نباتًا”.
لقد أفاد هذا الاتجاه في البلاد التي ظهر ونشأ فيها أكثر من غيرها من البلاد الأخرى، وهذا ما جعل الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون يصف الشعب الإنجليزي بأنه “ذو تصور صحيح يسمح لصاحبه بإدراك الجهة العملية في المحسوسات ولا يضل في أبحاث وهمية”([2])، وهو يعني بالذين يضلون في أبحاث وهمية الشعب الفرنسي.
ولكن هذا المذهب النفعي -أو الذرائعي كما يوصف أيضا- وإن أفاد حين ابتعد عن التنظير الكثير، إلا أنه تطرف في الاتجاه المادي الذي لا يبالي بالمبادئ، فقدس الفكرة بمقدار ما تقدم من نفع دنيوي، وتطرف أيضا في تمجيد النزعة الفردية على حساب المجتمع، ولم يكتف بذلك حتى أدخل الدين أيضا في دائرة النفع، يقول كبير فلاسفة البراغماتية الأمريكية “وليم جيمس” متحدثًا عن الدين: “إذا كان فيه نفع لنا يريح ضمائرنا ويبعث فينا القدرة والرجاء والخيرية ويطابق أشواقنا النفسية، فلا بأس به”. وهو لا يتحدث عن دين معين بل يقصد أي دين، يقول: “نحن نرى المؤمن متفائلًا مستبشرًا بحياته، وهو على خلاف زميله المنكر للدين الذي نراه متشائما منقبض النفس معدوم الرجاء، فهذا يجعل لعبارة الدين معنًى”، أي لا بأس أن نؤمن بالله في المسائل التي لا تثبت بالتجربة العملية إن كان هذا الإيمان يساعدنا في بعض جوانب حياتنا المادية، فالحق أصبح عند “جيمس” وأمثاله كالسلعة، قيمتها ليست في ذاتها بل في الثمن الذي يدفع فيها.
إن النفعية البراغماتية قد توفر النفع في ميادين خاصة، ولكنها تفرز شرورًا وأضرارا جسيمة في ميادين أخرى، وهذا شيء طبيعي في كل نظرية إنسانية تبتعد عن منهج النبوات والوحي السماوي وإن كان فيها جزء من الحق.
ورغم اعتداد الإسلام بالنفع المادي للإنسان واعترافه به إلا أنه لا يقرُّ أبدًا الحالة المتطرفة التي وصل إليها التيار النفعي المعاصر لسببين:
الأول: في حياة الإنسان السوي مبادئ عليا لا تجر نفعا ماديًّا، منها قول الصدق ولو أدى إلى ضرر شخصي للمسلم، وقول كلمة الحق أمام سلطان جائر، والعمل التطوعي والعمل الخيري ولو أدى إلى خسارة الإنسان كثيرًا من ماله ووقته، وكذلك العمل الدعوي ولو أدى إلى اضطهاد الدعاة أحيانًا وتعرضهم لأنواع الأذى، فإنهم يصبرون ويتحملون وليس وراء ذلك نفع مادي.
الثاني: هناك أمورٌ في الإسلام تتولى نصوص الشرع تحديد النافع والضار منها، فيكون الضرر والنفع ما يقدره الشرع ويحدده لا ما تقضي به مخرجات العمل فقط ولا ما يحدده مذهب أو طريقة ما، والشيء النافع الذي يحدده الشرع هو المنسجم مع سنن الله الكونية والتصور الإسلامي للوجود، والله تعالى أعلى وأعلم.