د. أسامة جادو
عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الزهراء
للمؤمنين الصادقين منهاج في التثبت من الأخبار، فليس كل حديث يترامى إلى سمعهم يلقى عندهم القبول بل عليهم أن يتثبتوا؛ فإن بدا لهم صدق القول وعدالة الناقل تلقوه بقبول حسن، وإلا ردوه على قائله أو ناقله.
قواعد الصادقين في التعامل مع أحاديث الإفك
الأولى: التثبت والتبين، الثانية: حسن الظن بالمؤمنين، الثالثة: إمساك اللسان عن الخوض في أعراض الناس والقول فيهم بغير علم، الرابعة: تجنب تدليس أهل العلم و طلابه، الخامسة: ناقل الكذب والفاحشة مشارك فيهما لا يعفيه من ذلك إلا البيان الواضح ووصف المنقول أو الخبر بالكذب. السادسة: ملاحقة الأفاكين ومحاصرة أحاديث الإفك.
القاعدة الأولى: التثبُّت والتبيُّن
ليس كل قول يقبل من قائله، وليس كل خبر يصدق، بل يجب التثبت بالتحقق من استيفائه لشروط الضبط وصحة النقل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:٦ ]، وروى الإمام أحمد في سبب نزول هذه الآية عن الحارث بن ضرار الخزاعي سيد بني المصطلق -والد السيدة جويرية أم المؤمنين رضي الله عنهما- أنه قَالَ: (قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَدَخَلْتُ فِيهِ، وَأَقْرَرْتُ بِهِ، فَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ، فَأَقْرَرْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي، فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَنْ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولًا لِإِبَّانِ كَذَا وَكَذَا لِيَأْتِيَكَ مَا جَمَعْتُ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لَهُ وَبَلَغَ الْإِبَّانَ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِ، احْتَبَسَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَلَمْ يَأْتِهِ، فَظَنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سَخْطَةٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ، فَدَعَا بِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ وَقَّتَ لِي وَقْتًا يُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلْفُ، وَلَا أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلَّا مِنْ سَخْطَةٍ كَانَتْ، فَانْطَلِقُوا فَنَأْتِيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَرِقَ فَرَجَعَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ وَأَرَادَ قَتْلِي، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعْثَ إِلَى الْحَارِثِ، فَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ إِذْ اسْتَقْبَلَ الْبَعْث وَفَصَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ، فَقَالُوا: هَذَا الْحَارِثُ، فَلَمَّا غَشِيَهُمْ قَالَ لَهُمْ: إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ؟ قَالُوا: إِلَيْكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ، قَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً وَلَا أَتَانِي، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَنَعْتَ الزَّكَاةَ، وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي؟)) قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ وَلَا أَتَانِي، وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتَبَسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَشِيتُ أَنْ تَكُونَ كَانَتْ سَخْطَةً مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ؛ قَالَ: فَنَزَلَتِ الْحُجُرَاتُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] إِلَى هَذَا الْمَكَانِ: {فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:8]([1]). تأمل الآية الكريمة وسبب نزولها والتوجيه القرآني للأمة العاصم لها من القواصم صونًا لدماء الناس وأعراضهم وأموالهم وحفظا لحقوقهم أن تنتهك بخبر غير صحيح غابت عنه معايير الدقة والضبط ولم يرق إلى درجة القبول والعمل.
إن التَّبيُّن مرتبة من مراتب وصول العلم، ويراد بها تنقيح ما يحصل من العلم بعد الالتباس، فالعلم ليس مجرد خبر مرَّ على مسمع الإنسان وصادف رغبة دفينة عنده فصار متيقنًا منه متحدثًا به، ثم انقلب ناشرًا له مدافعًا عنه؛ بل لا بد من أن نعلم بأن خطر الأمر يستلزم درجة كبيرة من اليقين والتثبت، يقول الإمام الكفويُّ: (اعلم أنّ مراتب وصول العلم إلى النّفس: الشُّعور ثمَّ الإدراك ثمَّ الحفظ ثمَّ التَّذكُّر ثمَّ الذِّكر، ثمّ الرَّأي وهو استحضار المقدّمات وإجالة الخاطر فيها، ثمّ التّبيّن وهو علم يحصل بعد الالتباس، ثمّ الاستبصار وهو العلم بعد التّأمّل)([2]) وقال العلامة الطاهر بن عاشور في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:٩٤] (التَّبَيُّنُ شِدَّةُ طَلَبِ الْبَيَانِ أَي التَّأَمُّل الْقَوِي حَسْبَمَا تَقْتَضيهِ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ، وَالتَّثَبُّتُ هو التَّحَرِّي وَتَطَلُّبُ الثَّبَاتِ وَهُوَ الصِّدْقُ)([3]) وجاء في فتح القدير: (وَالْمُرَادُ مِنَ التَّبَيُّنِ التَّعَرُّفُ وَالتَّفَحُّصُ، وَمِنَ التَّثَبُّتِ الْأَنَاةُ وَعَدَمُ الْعَجَلَةِ وَالتَّبَصُّرُ فِي الْأَمْرِ الْوَاقِعِ وَالْخَبَرِ الْوَارِدِ حَتَّى يَتَّضِحَ وَيَظْهَرَ)([4]).
القاعدة الثانية: حسن الظن بالمؤمنين
من الواجبات الشرعية على المؤمنين أن يحسنوا الظن بإخوانهم وأن يعتقدوا أنَّ حال المؤمن يؤول إلى الخير، وليس من أخلاق أهل الاستقامة أن يسيئوا الظن بإخوانهم أو يتلمسوا لهم العيوب الظنية المنهي عنها، قال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:١٢] هنا ذكر القرآن الكريم نوعًا من الظن المحمود، وهو الظن الحسن بالمؤمنين وظن الخير والصلاح، وهو ظن محمود لا شك في ذلك، قال العلامة الطاهر بن عاشور: (فيه تنبيه على أنَّ حقَّ المؤمن إذا سمع قَالَةً في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظَّن لا على الشَّك، ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام، فإذا نسب سوء إلى من عرف بالخير ظنَّ أن ذلك إفك وبهتان حتى يتضح البرهان؛ وفيه تعريض بأنَّ ظنَّ السُّوء الذي وقع هو من خصال النِّفاق التي سرت لبعض المؤمنين عن غرورٍ وقلة بَصارَة، فكفى بذلك تشنيعًا له) وزاد أبو حيان الأندلسي أن على المؤمن (أن يقول بناء على ظنِّه: هذا إفك مبين، هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطَّلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحَسَن) وقال الخازن: (والمعنى: كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول أهل الإفك أن يكذِّبوه ويحسنوا الظَّن، ولا يسرعوا في التُّهمة وقول الزُّور فيمن عرفوا عفَّته وطهارته).
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:١٢]، قال ابن حجر الهيتمي: (عقَّب تعالى بأمره باجتناب الظَّن، وعلَّل ذلك بأنَّ بعض الظَّن إثم، وهو ما تخيَّلت وقوعه من غيرك من غير مستند يقيني لك عليه، وقد صمَّم عليه قلبك أو تكلَّم به لسانك من غير مسوِّغ شرعي). ويقول الطبري: (يقول تعالى ذكره: يا أيُّها الذين صدقوا الله ورسوله، لا تقربوا كثيرًا من الظَّن بالمؤمنين، وذلك إن تظنوا بهم سوءًا فإنَّ الظَّان غير محق، وقال جلَّ ثناؤه: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} ولم يقل: الظَّن كلَّه، إذ كان قد أَذِن للمؤمنين أن يظنَّ بعضهم ببعض الخير، فقال: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:١٢]، فأَذِن الله جلَّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنَّ بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه وإن لم يكونوا من قِيلِه فيهم على يقين، عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} يقول: نهى الله المؤمن أن يظنَّ بالمؤمن شرًّا. وقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ} يقول: إنَّ ظنَّ المؤمن بالمؤمن الشَّر لا الخير إِثْمٌ؛ لأنَّ الله قد نهاه عنه، فَفِعْل ما نهى الله عنه إِثْمٌ).
القاعدة الثالثة: إمساك اللسان عن الخوض في أعراض الناس والقول فيهم بغير علم
من شيم الصالحين الإعراض عن الخوض في الأعراض وتجنب غيبة الناس وتجريحهم، فالقول على الناس حكمٌ عليهم توثيقًا أو تضعيفًا، تجريحًا أو تعديلًا، فهذه ساحة محكمة وقضاء ليس لآحاد الناس الولوج فيها بل هي مهمة الثقات من أهل العلم والاختصاص؛ ولهذا ورد فيها تحذير شديد، روى الإمام البيهقي بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: ((مَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ!))، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ لَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ: ((مَرْحَبًا بِكِ مِنْ بَيْتٍ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَلَلْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مِنْكِ وَاحِدَةً وَحَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثًا: دَمَهُ وَمَالَهُ وَأَنَ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ السُّوْءِ))([5]) وفي رواية عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: ((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ: مَاله ودمه وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا))([6]).
قال الإمام الغزالي: (فلا يُستباح ظنُّ السُّوء إلا بما يُستباح به المال، وهو نفسُ مشاهدته أو بَيِّنةٌ عادلةٌ، فإذا لم يكن كذلك وخطر لك وسواس سوء الظَّن فينبغي أن تدفعه عن نفسك، وتقرِّر عليها أنَّ حاله عندك مستور كما كان وأنَّ ما رأيته منه يحتمل الخير والشَّر. فإنْ قلت: فبماذا يُعرف عقد الظَّن والشُّكوك تختلج والنَّفس تحدِّث؟ فنقول: أمارة عقد سوء الظَّن أن يتغيَّر القلب معه عما كان، فينفِر عنه نُفُورًا ما، ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقُّده وإكرامه والاغتمام بسببه، فهذه أمارات عقد الظَّن وتحقيقه).
القاعدة الرابعة: تجنب تدليس أهل العلم وطلابه
تجد أحدهم يبدأ حديثه مقرِّرا حرمة الأعراض وتحريم انتهاك عرض المسلم واغتيابه ويحشد لذلك الأدلة والشواهد، ثم يبدأ حملة شعواء ويشن غارات على مخالفيه، ويذكر أن هناك فارقًا بين القدح في الأعراض وذم الشخص وبين نقد مواقف الأشخاص وتقدير قراراتهم، ولربما قال: إن ما حمله على ذلك الحديث هو القيام بواجب النصيحة، فتجده يكيل الاتهامات ويقدح في الرجال ومواقفهم ويخطئ ويجهِّل ويخوِّن، ثم يرجع فيقول: إن الأعراض مصونة وكأنه فاته مفهوم العرض في الشرع الإسلامي، وهو: (ما يُمْدحُ ويُذَمُّ من الإنسان في نفسه وحسبه أو فيمن يلزمُه أمرُه، أو ما يفتخر به الإنسانُ من نسب أو شرف، أو ما يصونه الإنسانُ من نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره كالزَّوجة والبنت، ومنه قول حسان بن ثابت وهو يذب عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم: فإن أبي ووالده وعرضي — لعرض محمد منكم وقاء)([7]).
يا معشر من آمن بلسانه ولدغ به إخوانَه أما سمعتم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:١٢] رحم الله ابن القيم وقد تأمَّل في هذه الآية الكريمة فعقب بقوله: (وهذا من أحسن القياس التمثيلي، فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه، ولما كان المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان كأنه بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت).
القاعدة الخامسة: ناقل الكذب والفاحشة مشارك فيهما، لا يعفيه من ذلك إلا البيان الواضح ووصف المنقول أو الخبر بالكذب
كان الأئمة الأعلام يوصون أهل الحق أن يميتوا الباطل بهجره وأن يكبِتوا البدعة وأهلها بعدم ذكرها، بل حذر القرآن الكريم أمة الاسلام أن تميل قلوبهم لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:١٩].
القاعدة السادسة: ملاحقة الأفاكين ومحاصرة أحاديث الإفك
لا ينبغي للمسلم الغيور على دينه وعرض إخوانه المسلمين أن يبقى سلبيا ويترك أحاديث الأفك تمر بين يديه ليلا ونهارا، لا يكفي هنا أن تعرض بقلبك وتنكر في نفسك بل الذي ينبغي أن تكون مبادرا مواجها للأفاكين الخائضين في الأعراض الوالغين في الظلمات، فلتكن كما وصف القرآن الكريم أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين سمعوا حديث الإفك {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:١٢] إن أصبع السبابة لا بد أن يشير رافضًا للافتراء ولسانُ الحق يشهد بكلمة الحق قائلًا: هذا إفك مبين.
من النماذج الرائعة في محاصرة الأفاكين وملاحقة أحاديث إفكهم ما ورد عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- أن رجلًا دخل عليه فذكر له عن آخر شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦]، وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:١١]، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا).
قال علي مختار: (بعد حدوث ثورات الربيع العربي كثرت الشائعات المدبرة، وزادت الأكاذيب الممنهجة، وتكاملت الخطط لإسقاط هذه الحركات التي تطالب بحرية الشعوب للعيش بكرامة وإبعاد المفسدين ومحاسبتهم وتقديم المصلحين لتولي المسؤوليات، ولكن نظرًا لوجود هذه الثورات المضادة التي تعمل على عدم التخلص من الفساد والمفسدين، وتستغل وسائل الإعلام لنشر الأكاذيب وترويج الاتهامات، ونظرًا لضعف التربية في جانب التثبت والتبين وجدنا التساهل بل التفريط والتسرع في نشر الشائعات وترويج الأكاذيب قبل التأكد والتثبت؛ وجدنا أن الناس تثق في وسائل الإعلام ولا تتأكد ممن تنقله وتنشره، بل صار نشر الشائعات وترويج الأكاذيب علمًا وفنًّا، وتخصصت في نشرها قنوات عديدة ووسائل إعلام كثيرة تهدف إلى تشويه سمعة الشرفاء وترويج الشائعات على الأبرياء واختلاق الأكاذيب على المصلحين وصرف أنظار الناس عن الإسلاميين، وغاب عن الكثيرين المنهج المستقيم في البحث عن مصدر الخبر ومعرفة مدى صدقه من كذبه والتثبت والتأكد قبل نشر الأقوال أو الأكاذيب، بل نسي كثير من المسلمين المنهج الإسلامي الأصيل في التأكد من صحة الأخبار قبل نشرها، والتثبت في النقل قبل الإعلان، والتبين من صحة الشائعات، والتأكد من صدق الكلام، والاستعلام عن صدق المصدر لمعرفة صدقه من كذبه)([8]).
([1]) مسند أحمد 30/ 403, مجمع الزوائد للهيثمي 7/111، وقال: “رجاله ثقات”، الدر المنثور للسيوطي 13/540، وقال: إسناده جيد.
([3]) التحرير والتنوير، 5/167- 26/231.
([4])فتح القدير للشوكاني، 5/71.
([5]) شعب الإيمان للبيهقي، 9/ 75.
([6]) سنن ابن ماجه 2/ 1297، صححه الألباني في “السلسلة الصحيحة” رقم (3420)، “صحيح الترغيب والترهيب” رقم (2441).
([7]) فتح الباري لابن حجر، 1 / 107، لسان العرب مادة (ع ر ض).
([8]) مقال نشر على موقع لها أون لاين بتاريخ 2 /ربيع أول/ 1435هـ، 28 /كانون الثاني/ 2014م.