الدكتور: عبد السلام البيطار
لا شك أن الأمة اليوم تعيش في زمان عصيب يختلف كثيرًا عن الأزمنة السابقة، وقد جدت فيه دواهي وحوادث لم تكن تخطر على قلب بشر، وبعض هذه الحوادث كان في مجال السياسة بنوعيها الداخلي والخارجي؛ إذ غلبت على السياسية العالمية اليوم مجموعة من الأخلاقيات الشريرة التي لم تعهدها البشرية من قبل بهذه الفظاظة والقبح، لقد غدت سلوكيات مثل الظلم والخديعة وتدمير المجتمعات أخلاقيًا واقتصاديًا أو محو شعوب وأمم بأكملها من أساسيات القوة السياسية اليوم، كما غدت السياسة مسلكًا أكثر دقة من ذي قبل، حتى إن غفلة بسيطة تنشب حروبًا أو تودي بمصائر دول وأمم.
ما موقف الإسلام من كل ذلك؟ وما واجبات السياسي المسلم اليوم وهو يعيش وسط هذه المستنقعات غير الأخلاقية التي تأخذ بالبشرية إلى مصير أسود محتوم؟
والحقيقة أننا في خضم هذه التحديات التي تعصف بأمتنا الإسلامية من كل حدب وصوب، نحتاج إلى خطاب سياسي إسلامي يتناغم مع المعطيات في واقعنا؛ يحرر مواطن النزاع والخلاف، ويطلق مبدأ الحوار الأخلاقي.
إن من خصوصيات ديننا الإسلامي صلاحيته لكل زمان ومكان، لما فيه من سعة في الخطاب ومرونة منضبطة في قواعد الاجتهاد، وإن السعة والشمولية في الخطاب الإسلامي هما الأساس الذي يجعل الدين الإسلامي قابلًا للعيش والحكم في الحياة الإنسانية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
إن ما يميز النظام السياسي في الإسلام عن باقي الأنظمة السياسية البشرية؛ عدم انفكاكه أبدًا عن مقاصده الأخلاقية أو الدعوية، كما أنه لا يمكن أبدًا أن يتعارض مع مقتضيات العقل السليم أو الحاجات البشرية الصحيحة، وهذا ما سنطالعه الآن في تتبُّعنا للنصوص القرآنية المتعلقة بهذا الباب؛ إذ نجد دعوة الإسلام إلى الأخلاق والفضيلة وتوحيد الله تمشي جنبًا إلى جنب مع خطابه السياسي بل لا تنفك عنها أبدًا.
لقد ورد في القرآن الكريم أنواع مختلفة من الخطابات، تتنوع بتنوع الميادين التي يعيشها البشر؛ إذ تجد له خطابًا يتعلق بالعقيدة والعبادة، وآخر بالأخلاق، وثالثًا بالاقتصاد وغيرها من ميادين الحياة المادية، وكان من هذه المحاور التي عالجها القرآن الكريم الخطاب السياسي الذي تضمنت آياته ما يتعلق بنظام الحكم والخلافة والدولة والرعية والروابط بينها، وفيه حث وتوجيه ودعوة إلى الحوار اللين المرن الهادئ مع ترسيخ للقيم والمبادئ، وهي خصائص تميز بها الخطاب السياسيُّ في القرآن الكريم، مما جعله منهجًا صالحًا وأساسًا واضحًا لبناء نظام سياسي متكامل، يجمع في طياته أسباب النجاح إن تم العمل بمقتضى الفهم الصحيح له، والاستنباط السليم وحسن القياس ومراعاة الواقع ومتطلباته.
إن الخطاب السياسي عبارة عن حقل للتعبير عن الآراء، واقتراح الأفكار والمواقف حول القضايا السياسية، كشكل الحكم وأقسام السلطة وأنواعها، ويُعتبر خطابًا إقناعيًّا يهدف إلى حمل المُخاطَب على القبول والتسليم بصدقية الدعوى، عن طريق توظيف الحُجج والبراهين، وإن الخطاب السياسي في القرآن الكريم متحور حول هذه الأمور ومتعلقاتها؛ إذ يتحدث عن بناء الدولة ونظام الحكم وعمارة الأرض بأساليب متعددة من الكلام، منها خطاب الله المباشر، ومنها خطاب الأنبياء وحوار الناس فيما بينهم، ولهذا الحديث السياسي أنواع مختلفة تعرض في آيات الذكر الحكيم، منها حديث سياسي ذو طابع منطقي يخاطب العقل والفكر، وآخر سياسي بأهداف تربوية وإنسانية، أو سياسي يقرر مقاصد دعوية جاء الإسلام لتبليغها، وأنواع أخرى يجدها الإنسان المتأمل في كتاب الله.
ومما سبق فإن كل خطاب قرآني وإن اختلف شكله وتنوع، يحمل من تلك الخصائص القدر الذي يتناسب مع الحالة والواقع الذي سيق فيه أو لأجله، وهنا يظهر إعجاز القرآن الكريم وربانيته، وهذا ما لا نجده في أي دستور دولة أو نظام حكم أو حزب أو جماعة أو مؤسسة، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [سورة النساء: آية105].
شمولية الخطاب السياسي في القرآن الكريم:
إن الشمول من صفات آيات القرآن الكريم، وهي أدق من العموم، والعموم صفة ملازمة للقرآن الكريم كذلك، فهو مخاطب لعموم أصناف البشر في كل زمان ومكان، وكونه شاملًا، أي يتناول جوانب القضايا الإنسانية الكبرى بشكل مفصل، كاف لبناء رؤيته المستقلة دون الدخول في التفاصيل الهامشية، ومثال على ذلك من توجيهات القرآن الكريم في الجانب السياسي قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [سورة النساء: آية58] فهذا الخطاب ذو مضمون سياسي موجه للحكام والقضاة وأهل الرأي، ومن يعمل في ميدان السياسة بكافة أشكالها وطرقها، ففيه دعوة للحكم بالعدل بين الرعية، وهو شامل عام لا يقتصر على مرحلة بعينها، صالح لكل الأزمنة، من عمل به تحقق له الحكم والسيادة، وأَولى المطالبين به حملة هذا الدين، فهذا دستورنا ومنهاج حياتنا، وإن تخلى عنه المسلم فلم يعدل ولم يتق ربه في تعامله مع الآخر؛ تساوى مع خصمه الكافر حتى تكون الغلبة للأقوى.
يقول الشيخ النورسي رحمه الله: (فالقرآن الحكيم يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر، كأنه متوجه مباشرة إلى تلك الطبقة خاصة، وهو يدعو جميع بني آدم بجميع طبقاتهم ويدرسهم الإيمان ومعرفة الله والأحكام الاسلامية بما يوافق كل نوع وكل طائفة… فالدرس واحد وليس مختلفًا، وعليه فيلزم وجود الطبقات في عين الدرس، فيأخذ كل منهم حصة درسه عن طبقة من طبقات القرآن حسب الدرجات)([1]).
وهذا الشمول والاستيعاب، يجعل على عاتقنا مسؤولية كبيرة لا يمكن التهرب منها أو الانفكاك عنها، فلا عذر لنا في أي خلل أو أذى يصيبنا، أو ضعف يلحق بنا، أو عدو يستهدفنا وينال منا. إن دستورنا القرآن يحتوي على برامج عمل متكاملة، ويوضح طرق التنفيذ وآلياته، بنتائج مضمونة ومرتبطة بوصفة ربانية صادقة، فإن آمنا وطبقنا ونفذنا وعملنا بها؛ مكَّن الله لنا فحكمنا العالم ودانت لنا العرب والعجم من شتى الأمم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد: آية7].
عمق الخطاب السياسي في القرآن الكريم:
إن ما يميز الدستور القرآني عن غيره من الدساتير البشرية العمق، ويحتاج السياسي إلى الغوص في معانيه وألفاظه، ليستخرج منه ما يحتاجه ويناسب واقعه وحاله، ومهما كان ذلك الميدان الذي يدور في فلكه، فسيجد له تفسيرًا وشرحًا وتأويلًا ومخرجًا.
إن القرآن عميق ومتين وثابت لا يتغير ولا يتبدل، ومع هذا فإنه مرن لين سلس، والإنسان كلما تفكر وتعمق في مدلولات آيات القرآن الكريم أخرج من الكنوز والدرر الكثير مما يناسب حاله وبيئته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ))([2]) وهذا من إعجازه ومزاياه وصلاحه لكل زمان ومكان، فما كان من خطاب سياسي موجَّهٍ لحاكم أو مجتمع في زمان معين، يصلح أن يقاس عليه في زمان آخر وواقع مختلف، وإن تقدم العلم.
فأسس الخطاب ثابتة واضحة، والتعمق في فهم الخطاب السياسي ومدلولاته وآثاره يجيب عن كثير من التساؤلات، ويعالج كثيرًا من المشكلات، مثال ذلك خطاب الله لنبيه موسى وأخيه هارون عليهما السلام في قوله تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه: آية42-44] فهذا التوجيه ببيان أهمية العمل الجماعي، والتسلح بالحجج والبراهين، مع قوة في الطرح وصبر وذكاء في طريقة التعامل مع الحاكم الظالم، كلها سياسة يعلمنا إياها القرآن الكريم، ومن تعمق في فهم هذه الآيات وربطها بالواقعة التي تنزلت فيها أو جاءت في سياقها؛ وجدها صالحة بكل معانيها للتعامل مع فراعنة هذا الزمن، فما ذكره القرآن الكريم في وصفهم ينطبق على أشباههم اليوم ممن يحذون حذوهم، ومن يُعمل النظر يجد وكأن الآيات الكريمة نزلت لزماننا، وقد جاء في ذكر قوم فرعون في ذلك الزمان: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [سورة الزخرف: آية54] فكان هذا في وصفهم وما لحق بهم من الحمق والضعف، وهو توصيف ينطبق بحذافيره على حال بعض شعوبنا مع فراعنة هذا الزمان.
واقعية الخطاب السياسي في القرآن ومخاطبته العقل:
إن من خصائص الخطاب السياسي في القرآن الكريم محاكاته للواقع وخطابه للعقل وتناغمه مع معطيات كل مرحلة على حدة، فكما هو معلوم إن ميدان العمل السياسي بكل أشكاله وأنواعه، من نظام حكم وتأسيس دولة وتشكيل حزب أو تيار، ونظام قضائي أو تشريعي أو تنفيذي، وما إلى ذلك يحتاج إلى عقل راجح وحكمة وذكاء ودهاء، فكان أن جاء الخطاب القرآني السياسي مخاطبًا للعقل ومحاكيًا للواقع.
فمعطيات الواقع لا بد لها من عقل يوازن بين الصالح والأصلح، والفاسد والأشد فسادًا، ومن لا يُضَمِّن الواقع قراراته السياسية لا عقل له ولا سعة أفق وسيورد رعيته المهالك، فبحسب الواقع تصدر الأحكام من تشكيل الدولة إلى بيان شكل العلاقة بين الدول، وهي تعتمد كذلك على دراسة واقع الدول الأخرى، لمعرفة الطريقة المثلى في التعامل معها بما يخدم المصلحة العامة، فكل هذا بحاجة إلى عقل يميز ويقارن ويقيس.
وقد يلاحظ أن في العمل السياسي من المرونة والليونة ما لا نراه في أي مجال آخر، وفيه مجال للمناورة ورخصة وسعة، وقد ورد في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تبين ذلك الترابط بين الواقع والعقل، وأثر ذلك في الأحكام والقرارات السياسية، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم ما نقله الله من حوار ملكة سبأ مع أفراد حاشيتها ليكون ذلك عبرة ودرسًا للمؤمنين.. لقد وقع كتاب سليمان عليه السلام في يدها، ورأت فيه تهديدًا شديد اللهجة، فلم تتخذ القرار بمفردها وإنما سألت ملأها عن رأيهم في ذلك، وقد حكى القرآن جوابهم فقال تعالى: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [سورة النمل: آية33] يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: (لقد وضعوا الأمر في رقبتها وهي امرأة، ففكرت: سأجرب وأختبره وأنظر أهو طالب مُلك أم صاحب دين فأرسلت هدية له، وقد حكى القرآن ما قاله سيدنا سليمان عندما تلقى الهدية، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [سورة النمل: آية36] فعرفت بلقيس أن المُلْك ليس هدفه، وبعد ذلك عرفت أنه صاحب رسالة، فقالت: أذهب إليه وأسلم. انظر أداء العبارة القرآنية عندما تصور إيمان ملكة قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة النمل: آية44] ).
إننا نلاحظ كيف أن القوم ذكروا الملكة بواقعهم وما لديهم من بأس وقوة، ولكنهم انتظروا القرار السياسي المستند إلى حكمة العقل لا إلى غرور القوة، فالعقل يوازن ويقدر ويرجح بين الجيد والسيئ، وبين الجيد والأجود أو السيئ والأسوأ. وقد كان من حكمة بلقيس وعقلها أنها ردت على رسالة سليمان عليه السلام بإرسال هدية قيمة له تختبر من خلالها حقيقة أمره وتتعرف على مرامه وهدفه، وعندما عرفت تعاليه عن الماديات وتسامي هدفه سعت نحوه مؤمنة بالله عز وجل.
إن في هذا الدرس القرآني أصنافًا شتى من عبر السياسة ودقائقها، فلا بد للحاكم أن يعرف واقع الطرف الآخر وأهدافه، حتى يحسن اختيار طريقة التعامل لعل عقله يهديه إلى الصواب وتجنيب الأوطان الدمار وويلات الحرب، وعند ذلك ما يكون على الرعية إلا السمع والطاعة لولي الأمر الذي بذل جهده في حماية شعبه ونصحه وتجنيبه دركات الفشل والضياع.
في مقابلة هذه الحكمة السياسية التي دعا إليها القرآن الكريم يستطيع المسلم أن يقارن بين واقعه السياسي المحزن وبين مصير الأمم العاقلة التي تقودها قيادات راشدة، ليعرف من أين أتى وإلى أين سيصير أمره. إن الخطاب السياسي في القرآن الكريم شامل وعميق ولين وواقعي وعقلاني، فأين نحن من ذلك، إن ما أصاب أمتنا اليوم في ميادين السياسة هو نتيجة حتمية لبعدنا عن تحكيم المنطق والعقل الذي أمرنا به القرآن الكريم.
القيم الأخلاقية في خطاب القرآن السياسي:
هنا لابد أن نعلم أن من أهم الخصائص التي اختص بها الخطاب السياسي في القرآن الكريم دعوته إلى القيم قولًا وعملًا وسلوكًا في كل المجالات السياسية، فقيمة العدل والشورى والحرية والمساواة والتواضع والصبر والإحسان وغيرها من الأخلاقيات الفاضلة جعلها الله جل جلاله مرتكزات أساسية لبناء سياسي متين، وهذا ما لا نجده في حسابات الكفار والملحدين، لا في أعمالهم ولا في سلوكياتهم، فالمطبخ السياسي عند الأنظمة الغربية والعلمانية يهدف إلى السيطرة على ما في يد الأمم الضعيفة واستعبادها ولو كان ذلك على حساب القيم الإنسانية، فالظلم والكذب والدجل والتزوير عناوين للقدرة، ونقض العهود وخيانة المواثيق جزء من الذكاء السياسي؛ طالما أنها توصل إلى الأهداف الشريرة التي تسعى نحوها.
إن الانحطاط الأخلاقي الذي تتميز به معظم مراكز السياسة العالمية اليوم، لا يقف في وجهه إلا النظام السياسي الإسلامي المبني على القيم الأخلاقية الفاضلة، وهذا سر اتفاق قوى الشر في العالم على منع قيام النظام الإسلامي السياسي العادل، من خلال الحرب المباشرة عليه، أو محاولة تشويهه بواسطة بعض التنظيمات المتطرفة المرتبطة به بشكل أو بآخر.
إن القرآن الكريم قد ركز في نصوصه على مقاصد السياسة الحكيمة العادلة، بينما تجاهل التفاصيل المؤقتة، فهو يضع المعالم ويترك لأتباعه حرية اختيار الطريق السليمة التي يرونها الأصلح للوصول إلى القيم السامية التي أرشدهم إليها، (ففي نظام الحكم مثلًا، لم يفصل القرآن الكريم نظامًا لشكل الحكومة ولا لتنظيم سلطتها، ولا لاختيار أولي الحل والعقد فيها، وإنما اكتفى بالنص على الدعائم الثابتة التي ينبغي أن تعتمد عليها نظم كل حكومة عادلة، ولا تختلف فيها أمة عن أمة، فقرر العدل في قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء: آية58] والشورى في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: آية159] والمساواة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [سورة الحجرات: آية10]، أما ما عدا هذه الأسس من النظم التفصيلية فقد سكت عنها ليتسع لأولي الأمر أن يضعوا نظمهم ويشكلوا حكومتهم ويكوّنوا مجالسهم، بما يلائم حالهم ويتفق ومصالحهم غير متجاوزين حدود العدل والشورى والمساواة)([3]).
يقول سيد قطب في قيمة الشورى: (إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية، وهي من ألزم صفات القيادة، أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوبًا في قالب حديدي، فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان)([4]).
وقيمة المساواة مثلًا هي من أعظم القيم التي حث عليها القرآن الكريم، في كل خطاباته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فلا يجوز أن يفرق الحاكم بين أبناء شعبه على أساس العرق أو الشكل أو اللون، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة الحجرات: آية13] وفي زماننا هذا نجد التفرقة الطائفية والعنصرية والقومية من أهم إفرازات السياسة العالمية التي تهدف من وراء ذلك إلى تشتيت المسلمين وإضعافهم، ومنعهم من حماية بعضهم أو حماية الأقوام الضعيفة التي لاذت بهم عبر تاريخها الطويل.
الترابط بين الخطابين السياسي والدعوي في القرآن الكريم:
الخطاب الدعوي في القرآن الكريم ما كان مضمون الخطاب فيه متعلقًا بالعبادات بأشكالها، والمعاملات بأنواعها، وترسيخ العقيدة الصحيحة، والحث على تزكية النفس وبيان طرق التعامل بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة النحل.125] بل إن الخطاب الدعوي أكثر من ذلك وأعم وأشمل، فيضم في أعماقه الخطابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ إذ كلها جزء من دعوته للنهوض بالحياة الإنسانية نحو الخير والفلاح الدنيوي والأخروي، وإن الخطاب الدعوي يتحرك عبر ثلاث قنوات، أو بوابات كبرى: أولها التاريخ؛ أي الزمن، وثانيها العالم والطبيعة والكون: أي المكان، وثالثها اليوم الآخر: أي المصير.
ولقد تنادى في زماننا جمع من العلماء والشيوخ، وأطلقوا دعوات لفصل السياسة عن الدعوة، وأصبحت حديث طلاب العلم والعامة من الناس، أملًا في أن يكتب للمشروع النهضوي الإسلامي النجاح بهذا الفصل، وهو خلطٌ مآله الفشل ومصيره الزوال! والسؤال لماذا نحكم على هذا الفصل بالفشل؟
لو فرضنا جدلًا أننا قمنا بفصل العمل السياسي عن الدعوي، فإننا سنواجه الفشل والخسران على جبهتين، الأولى الجبهة السياسية والثانية الجبهة الدعوية.
أولًا- الفشل السياسي:
إن فصل الدعوة الإسلامية عن ميدانها السياسي يعني الفشل الحتمي للمشروع السياسي الإسلامي؛ إذ تصبح سياسته بلا جدوى حقيقية، من خلال انتقاله من السعي إلى المثل العليا إلى اللهاث خلف المصالح المؤقتة والمكاسب الآنية الوهمية التي لا تعدو السراب في نظر أصحاب القيم الإنسانية السامية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [سورة النور: آية39].
إن دعوة الفصل هذه ناتجة عن التسرع والتخبط والاضطراب، والرغبة في تحقيق النجاح السريع، والأصل في ذلك التأني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)) ([5]).
ثانيًا- الفشل الدعوي:
كما أن فصل السياسة عن الدعوة يفشل المشروع الإسلامي السياسي العادل؛ فإنه في الوقت نفسه يؤدي إلى فشل الميدان الدعوي؛ إذ تتحول الدعوة من خلال هذا الفصل إلى قضية نظرية تعاني الجفاف والمنطق العملي، وإن الفصل بين هذين الميدانين كفصل الروح عن الجسد، وعليه فلا بد من بقاء العلاقة بينهما كما جاءت في القرآن الكريم، فالسياسة العادلة تحمي الدعوة والدعوة السليمة تضبط المجتمعات بضوابط الإسلام السامية، وتؤهلها للعيش الصحيح وفق قانون العدالة والمساواة الذي جاء به الإسلام.
وعندما نشبه العمل السياسي والدعوي بالروح والجسد، فإننا بحاجة لبيان ما لكل واحد منهما من أدوات خاصة وطرق تغذية منفصلة، فللجسد غذاؤه وللروح غذاؤها، ولكنهما في الوقت نفسه مرتبطان ببعضهما ارتباطًا تامًّا يفضي إلى اعتماد كل منهما في حياته على بقاء الآخر وحياته.
وإن هذا الارتباط والتكامل بين الميدانين السياسي والدعوي لا يعني أبدًا الخلط بينهما؛ فلكل واحد منهما معالمه الخاصة التي تقوم برعايتها مراكز وإدارات مختلفة تمامًا في طريقة عملها عن الأخرى.
إن الغرب بتنوعه الديني والعرقي، لطالما ربط بين الكنيسة والسياسة وبين معتقداته وسياسته وهو يسعى إلى السيطرة على العباد والبلاد بهذه الطريقة، ولكننا غافلون. إن أعداءنا يوازنون بين سياستهم وعقيدتهم، بينما يبحث العلمانيون العرب عن حضارتهم ونهضتهم من خلال رمي تعاليم الدين خلف ظهورهم والانطلاق إلى الحياة والسياسة بعقول فارغة إلا من المصالح والمكاسب الآنية التي لا تعدو كثيرًا فكر القبيلة الذي كان سائدًا في العصور الجاهلية.
لا يرى المفتونون بالغرب أن منهجه السياسي مبني على الظلم والاستهتار بالوجود البشري وقيمه الإنسانية الفاضلة، وسلوك كل أنواع الكذب والدجل ونقض العهود والمواثيق للوصول إلى أهدافهم الشريرة، امتدادًا لحالهم في الكذب على الأنبياء وتحريف الكتب السماوية وتزويرها.
في مقابل ذلك يتجاهل العلمانيون العرب أن المنهج السياسي الإسلامي منهج مؤسس على القيم الفاضلة المستندة إلى أخلاق النبي الخاتم وتوجيهات القرآن الكريم الداعية إلى الصدق والإخلاص والعدالة والالتزام بالعهود والمواثيق مع الحرية الكاملة للعقل البشري في سلوك الطرق المؤدية إليها.
فإذا كان الفصل الذي يدعو إليه البعض، هو الفصل بين الحق والباطل وبين الكذب والصدق فبها ونعمت، وإن كان الفصل بين السياسة القرآنية النبوية، والأخلاقية الدعوية، فهو مرفوض مردود.
إن العلاقة التي تربط بين الخطابين السياسي والدعوي في القرآن الكريم هي علاقة تشاركيةٌ ترابطيةٌ تكامليةٌ، إذ مصدر الخطابين من الله تعالى، والمخاطَب هو الإنسان، وإن الفصل الحق الذي ينبغي أن نسعى إليه اليوم هو فصل الاختصاص بين مؤسسات الدعوة والسياسة، لا فصل الانسلاخ والتفلت، فإن لكل ميدان مؤسساته ورجاله.
وفي نهاية هذا المطاف على المسلم ألا ينسى أن الخطاب الدعوي في القرآن الكريم لا يخلو من السياسة كما لا يخلو السياسي من الدعوة والتوجيه، قال الله تعالى مخاطبًا نبيه موسى عليه السلام: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه: آية42-44] ففي مضمون الآية، توجيه دعوي ودعوة وحوار وفيه سياسة وتنبيه على أفضل أساليب التعامل مع الحاكم الظالم.
وأختم بما ذكره الفيلسوف الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله في هذا المضمار إذ قال: (عندما يحال بين الفكر والعمل السياسي، يبقى الأول غير مثمر والثاني أعمى)([6]).