محمد حازم طباخ
إن أحد أهم محاور الخطاب الإسلامي اليوم الحرب على الإلحاد والملحدين وفلسفة الطعن بالدين والتشكيك فيه والاستهزاء بثوابته، وإن هذا الخطاب قد نجح إلى حد ما في الحفاظ على الدين والأمة، ولكنه في بعض الأحيان تجده يخلو من المنطقية في الطرح والمناقشة وذلك لجهل بعض الدعاة بحقيقة الطرف الآخر الذي يدعو لنسف أسس الديانات والإيمان بالله، إن معرفة الطرف المقابل شيء أساسي لبناء الخطاب الإسلامي وفق قواعد حوار منطقي مقنع يجيب على شكوك الطرف الآخر ويستخدمها لإرشاده وهدايته.
لدى مراقبتنا لخطاب الدعاة المسلمين العاملين على مواجهة هجمات التيار المادي الإلحادي نجدهم ينقسمان إلى قسمين رئيسين: الأول منهما وقف مصادما لكل ما جاء عن الماديين والملحدين ومحذرا منه ومن خطره على المجتمع استدلالا بآثاره المدمرة على الأمم، والثاني منهما قام بدراسة الخطاب الإلحادي واستيعابه وفهمه، ثم بعد ذلك استخدم قواعده ومنطلقاته في محاورة الآخر ورده إلى الصواب، ومن أبرز من حاول استيعاب منهج الماديين والفلاسفة واستفاد منه في محاورتهم الشيخ نديم الجسر في كتابه “قصة الإيمان”. إن هذا المقال جاء ليشرح عن الإلحاد بما يبين حقيقته للمسلم ثم يسلط الضوء على أسلوب الشيخ نديم الجسر في محاورة تيار الشك والإلحاد، وهو أسلوب شَهد له كبار العلماء بالتميز والإقناع حتى غدى كتابه من ركنا من أركان الفكر الإسلامي في القرن العشرين.
يعد الإلحاد إحدى الظواهر الجديدة القديمة التي تؤرق بال كثيرٍ من الباحثين والمهتمين بشؤون الدين والفلسفة، وهي ظاهرة باتت تشكل هاجسًا لدى كثير من الدعاة والمفكرين، ذلك أن هذه القضية هي المدخل إلى كثير من الظواهر الخبيثة التي تنخر في كيان المجتمع، فظواهر الانحراف الخلقي والفساد المجتمعي والقلق والانتحار غالبًا ما تنشأ عن هذه الظاهرة، ولذلك فهي تحتاج إلى مزيد من تسليط الضوء والكتابة والبحث، ومزيد من العناية والاهتمام من قبل الباحثين والمختصين في مختلف مجالات الفكر الإنساني.
وقد ظهر في عصرنا الحديث أناس لبسوا لَبوس العلم وبدؤوا بنشر الأفكار التي ترسخ مبدأ الإلحاد وتدعو إليه، بحجة أن قوانين العلم لا تدل على وجود الله، وأن العلم الحديث يتعارض مع مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه، وللأسف كان منهم ممن طلب العلم الشرعي وتستر به فترة من الزمن، وبدأ بنشر سمومه وأفكاره المنحرفة تحت هذا الستار، وغزوا عقول الشباب المتنور بهذه الترهات والتفاهات التي يسمونها (علمية)، وهي بعيدة عن العلم بعد المشرق عن المغرب.
وإذا درسنا الإلحاد من ناحية تاريخية فهو قديم قدم البشرية، ولكنه لم يكن بهذه الصورة المعهودة اليوم، بل كان عبارة عن إنكار وجحود لبعض المسلَّمات كالبعث، ووُجدت نماذج من الانحلال الخلقي في بعض الديانات كالمزدكية، ولكنه في أيامنا التي نعيشها ظهر التبجح بإنكار وجود الله بطريقة غير مسبوقة وغير معهودة من قبل، والسبب في ذلك قيام مؤسسات وأنظمة عالمية كبرى بالعمل على نشر الإلحاد بغية أهداف سياسية أو اقتصادية أو دينية.
أنواع الإلحاد:
يحاول الملحدون دائما أن يُظهروا أنفسهم بمظهر العلم والمنطقية، وأنهم وصلوا إلى الإلحاد نتيجة استدلال علمي منطقي، ولدى مراقبة أنواع الملحدين نجدهم أنواعًا وأصنافًا تختلف عن بعضها البعض بحسب الدافع لهم إلى الإلحاد، كما أن إلحادهم درجات متفاوتة، فمنهم من ينكر الإله الخالق تمامًا، ومنهم من ينكر الأديان فقط، ومنهم من يبقى في حيرة بين إنكار الخالق وإثباته، بينما تجد آخرين اتخذوا من الإلحاد دينا ومنهج حياة يدعون إليه بكل ما أوتوا من قوة وحجة وبيان.
وكل أنواع الإلحاد المعروفة لدى الباحثين ترجع إلى نوعين على العموم؛ الإلحاد العاطفي والإلحاد العلمي.
الإلحاد العاطفي:
إن الإلحاد العاطفي: هو إنكار الإله الناتج عن صدمات نفسية نتيجة لبعض الأزمات والأوضاع الصعبة التي عاناها الشخص، وقد يكون نتيجة شعور الملحد بأن الله غير عادل أو لا يتدخل لإنقاذ الضعفاء، كما حدث في الحرب السورية والعراقية والأفغانية وأمثالها من الحروب التي انتصرت فيها قوى الشر والكفر والطغيان على المؤمنين، وقد قامت قوى الشر في هذه الحروب بارتكاب مجازر فظيعة ضد الأطفال والمدنيين أدت إلى صدمة لدى بعض الشباب الذي يحمل تصورًا مغلوطًا عن الإيمان والدين وقوانين الكون والحياة، وهذا الصنف من الملحدين يحمل حقدًا كبيرًا على الدين وممثليه.
ومن أشكال الإلحاد العاطفي الإلحاد المادي، ومن أسبابه شعور الملحد باستحقاقه لقدر أكبر من الرزق في الحياة وأن الإله ظلمه إذ أغنى فلانا ولم يغنه، كما أن من أسبابه محاولة النفس التخلص من الشعور بوجود الإله في ظل جموحها نحو الشهوات والفواحش أو الجرائم، إذ تشعر النفس بالضيق من فكرة الحساب والقيامة والإله، ومع الأيام تتكون لدى الملحد قناعة بأن الله والأديان ليس لهم وجود في الواقع.
كما أن لأخطاء رجال الدين الفاسدين دورًا كبيرًا في انتشار هذا النوع من الإلحاد، كما حدث بفعل الكنيسة في القرون الماضية في أوربا، وكما يحدث اليوم في بلاد المسلمين بسبب شيوخ السلاطين والشيوخ الماديين، أو بسبب التنظيمات المتطرفة المشبوهة التي تجعل بعض الضعفاء يتخلى عن الدين ويراه سببًا لكل مصيبة متجاهلًا الأسباب الحقيقية لمشاكلنا السياسية والاجتماعية والأخلاقية.
هذا النوع من الإلحاد قد يلجأ صاحبه إلى إظهاره بمظهر الإلحاد العلمي والمنطقي ويستهزئ بالمؤمنين كنوع من الجدل والإقناع والتسويغ للنفس في إنكارِ وجودِ خالقها.
وهذا النوع من الإلحاد غالبا ما يختفي بزوال أسبابه الاجتماعية أو وجود الشاب في بيئة اجتماعية منضبطة أخلاقيًا ودينيًا.
يقول الله تعالى في وصف هذا الصنف من الناس: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [سورة الجاثية: آية 23-27].
الإلحاد العلمي:
إن الإلحاد العلمي: هو الإلحاد الناتج عن مسيرة بحثية قام بها الملحد حتى وصل إلى نتيجة إنكار الإله، سواء كان الدافع له قبل ذلك شكًا عقليًّا محضًا أو أسبابًا عاطفية، ولكن الملحد في هذه الحالة يستدل لما يعتقده بأدلة يظنها علمية منطقية غير قابلة للنقض، وكثير من هؤلاء الملحدين هم من عباقرة العلوم الذين وصلوا بانغماسهم في المادة إلى إنكار كل ما لا تراه عيونهم أو تلمسه أيديهم أو تدركه عقولهم.
إن انطماس البصيرة واعتداد الملحد بعقله إلى درجة تأليهه له سبب أساس في هذا النوع من الإلحاد، وقد ذكر الله صنفًا من الناس الذين يعادون الله ورسله ودينه بسبب الكبر ووصف حالهم أبلغ وصف، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة غافر: آية 56-58].
لقد ظهر الإلحاد العلمي في العصور الحديثة في أوربا، إذ كان ردة فعل على طغيان الكنيسة واتحادها مع الحكومات في استعباد الناس وقهرهم ومنعهم من التحرر والانفتاح، وأما الإلحاد بين المسلمين فهو ناشئ – في الغالب – عن تقليد أعمى للغرب بعد النهضة العلمية التي وصل إليها بعد إنهاء سلطة القساوسة والباباوات على المجتمع والعقل الغربي وحصرهم في الكنائس.
إن الأسباب التي أدت إلى ظهور الإلحاد العلمي صادرة في الغالب عن الكنيسة ومشاكل المجتمع الغربي، ولهذا لا يمكن الحديث عن حلول للإلحاد إذا لم ندرس أسبابه.. ومن المخيف اليوم محاولة الغرب ومن معه من حكومات عميلة ورجال دين فاسدين وتنظيمات متطرفة دينية وعلمانية صناعة ظروف في العالم الإسلامي تتشابه تمامًا مع ظروف المجتمع الغربي إبان ظهور الإلحاد فيه.
الأسباب في ظهور الإلحاد العلمي:
الجهود في مواجهة الإلحاد:
عندما شاع الإلحاد في العصور الحديثة بداية من أوروبا برز في مواجهته كثيرٌ من القساوسة ورجال الدين المسيحيين؛ إذ لم تكتفِ موجة العلمنة والإلحاد بمحاربة الفساد الكنسي، وإنما كان هدفها هدم الكنيسة بحد ذاتها واجتثاث الإيمان بالله ورسله من أساسه بحجة الفساد الذي استشرى في كبرى الكنائس والأديرة النصرانية، ورغم عدم إنكار جهود رجال الدين النصارى في مواجهة الإلحاد فقد كانت نتائجها محدودة بسبب الفساد الحقيقي الموجود في أصل الديانة النصرانية المعروفة اليوم نتيجة لتحريف النصوص والتلاعب بها عبر مئات السنين.
وعندما وصلت موجة الإلحاد إلى العالم الإسلامي إثر سقوط الخلافة العثمانية وبداية عصر الاستعمار وما خلفه من حكومات علمانية أو لا دينية؛ قام العلماء المسلمون بمواجهته بكل ما أوتوا من قوة وظهرت كتب ومصنفات كثيرة في هذا الباب وقد أدى ذلك إلى تراجع الملاحدة واختفائهم من المجتمعات الإسلامية تدريجيًا.
إن صحة الدين الإسلامي ودعوته للعلم، وحكمته في التوفيق بين الإيمان والحياة وتماسك المجتمعات الإسلامية أدت لهزيمة الإلحاد، وكان من أشهر الكتب التي غدت مرجعًا في كشف حقيقة الإلحاد العلمي ومواجهته كتاب (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) للشيخ نديم الجسر[7] رحمه الله.
بعد هزيمة الإلحاد في نهاية القرن العشرين عاد للظهور من جديد إثر ثورات الربيع العربي وما أعقبها من عودة الطغاة إلى الحكم من مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية، وهو إلحاد عاطفي على العموم، يختلف عن موجة الإلحاد العلمي التي طالعتنا في أواسط القرن العشرين.
الإلحاد العاطفي يحتاج إلى استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي لتزول آثاره، ولكن الخطر الذي بدأ يواجهنا هو محاولة الإعلام استخدام بعض المفكرين العلمانيين للحديث عن الدين والتشكيك به لتحويل الإلحاد العاطفي إلى إلحاد علمي أصيل في المجتمع، مستغلين بذلك الصدمة التي تعيشها الشعوب الإسلامية عمومًا والعربية منها خصوصًا.
وهنا تظهر أهمية كتاب قصة الإيمان في مواجهة الإلحاد العلمي كأحد أهم المراجع في هذا الباب.
كتاب قصة الإيمان:
هو كتاب من تأليف الشيخ نديم الجسر، وقد أصدره في السنة التالية لاختياره مفتيًا لمدينة طرابلس نحو عام 1961م، وقد جاء الكتاب في فترة انتشار الفكر الاشتراكي والإلحادي في المشرق، وكان له أثر كبير في توجيه الجيل المسلم في تلك الفترة بجانب مجموعة من الكتب الأخرى التي كونت منظومة الفكر الإسلامي في القرن العشرين.
لم يكتف الشيخ نديم في كتابه بعرض قضية الإلحاد بطريقة علمية والرد عليها بأساليبها؛ بل أضاف إلى ذلك الأسلوب الأدبي الذي تمتع به الكتاب، وطريقته القصصية الشيقة والسهلة في تقديم الأفكار الفلسفية والعقدية وتبسيطها مهما بلغت من التعقيد أو الدقة.
قصة الطالب:
يروي الكتاب قصة الطالب “حيران بن الأضعف” مع شيخه “أبي النور الموزون” لقد عانى “حيران” في مقتبل شبابه من خطرات وأفكار تسربت إلى كيانه، وساقته الظروف إلى الالتحاق بجامعة (بيشاور) وهي جامعة عريقة في باكستان، ولكن دراسته الجامعية لم تشفه مما ينتهبه من شكوك وأفكار، ولم يجد أجوبة للأسئلة التي تتوارد على خاطره ليل نهار، فلجأ إلى والده يعرض عليه ذلك، وأنه يعاني من استهزاء الأساتذة والمشايخ بأسئلته وإشكالاته، فأخبره والده بأنه مر بنفس تلك المعاناة وأن الله سخَّر له شيخًا جليلًا عالما سار به إلى شاطئ الأمان، وأن هذا الشيخ قد كبرت سنه وارتحل إلى بلده “سمرقند” ليعيش بقية حياته.
بسفر حيران بن الأضعف إلى سمرقند ولقائه بالشيخ “الموزون” تبدأ القصة وتبدأ معها الرحلة نحو النور واليقين.
تساؤلات العقل:
قد كانت أول محطة في رحلة هذا الشاب الباحث عن الحقيقة بعض التساؤلات التي كتبها في ورقة صغيرة قبل أن يلتقي بذلك الشيخ الوقور، وهذه الأسئلة تبدأ بــ (ما …؟ ومَن …؟ ومِمَّ …؟ وكيف…؟ وأين…؟ ومتى…؟).
وقد كانت هذه الأسئلة فاتحة الجلسات الطويلة، التي دارت بين هذا الشاب الحيران وذاك الشيخ الوقور الموزون، وقد بدأت تلك الجلسات بالحديث عن بداية ظهور الفلسفة الإنسانية وخاصة اليونانية منها.
بحر الفلسفة:
كانت نظرة معظم علماء المسلمين تفيد بوجوب القطيعة مع الفلسفة باعتبارها نقيض الإيمان، ولكن الشيخ نديم الجسر رحمه الله يصل إلى نتيجة مغايرة، ذكرها على لسان الشيخ “الموزون” لتلميذه “حيران” حينما قال له: (إن الفلسفة بحر على خلاف البحور، يجد راكبه الخطر والزيغ في سواحله وشطآنه، والأمان والإيمان في لُجَجِه وأعماقه)[8].
الفلاسفة والإيمان:
بحسب الكتاب؛ فإن الفلاسفة انقسموا في قضية البحث عن الإله الخالق إلى ثلاثة أنواع، فمنهم من اهتدى إليه وآمن به، ومنهم من عجز عقله عن تصوره فأنكر وجوده، ومنهم من حار عقله فتردد بين إثبات الخالق وإنكار وجوده.
وقد تحدث الشيخ الموزون فيما أملاه على تلميذه حيران عن الفلاسفة الغربيين كباكون، وديكارت، وباسكال، ومالبرانش، وسبينوزا، ولوك، وليبنز، وهيوم، وكانط، وبرغسون، الذين تلاقَوْا مع فلاسفة المسلمين على الإيمان بالعقل والإيمان بوجود الله ووحدانيته وعلى البراهين الدالة عليه؛ تلاقيًا يكاد يكون حرفيًّا، وقد عنون لهذه الفصول التي تتحدث عن هؤلاء الفلاسفة والتقائهم مع الفلاسفة المسلمين بــ “تلاقي العباقرة”.
دارون والشيخ حسين الجسر:
وقد عقد المؤلف رحمه الله فصلًا كاملًا عن والده الشيخ حسين الجسر[9]، صاحب (الرسالة الحميدية) وهي من أهم كتب العقيدة التي ألفت في القرن الماضي للرد على الملاحدة وخاصة المستندين في إلحادهم إلى نظرية التطور والنشوء الصادرة عن “دارون”، وكان ذلك من خلال الحوار بين الشيخ الموزون وتلميذه حيران بن الأضعف، حينما تطرق الحديث إلى دارْوِن صاحب نظرية النشوء والارتقاء، وكيف رد الشيخ حسين الجسر رحمه الله على الماديين في ذلك الكتاب العظيم.
ومما جرى ذكره في هذا الفصل أن “دارون” لم ينكر وجود الخالق، كان يؤمن به، وكان يؤمن بخلقه لأصل الأنواع.
يسأل حيران في ضمن حواره مع شيخه الموزون: إذن يريد دارون أن يقول: إن جميع الأحياء نشأت من أصل واحد تكون بخلق الطبيعة وبالتولد الذاتي لا بخلق الله؟
فيرد الشيخ الموزون: هذا من جملة ما أشيع عن دارون جهلًا أو بهتانًا. والحقيقة التي لا ريب فيها أن دارون مؤمن بوجود الله، أما أصل الأنواع فإنه يبدو مترددًا في تحديده لأنه مع ميله إلى رد الأنواع الحية كلها إلى أصل واحد يصرح بأنها ترجع إلى أربعة أصول أو خمسة، مخلوقة خلقًا من زمان طويل، كل زوج منها أصل، ولا يتردد دارون أبدًا في الاعتراف بأن الله هو الخالق لأصل الأنواع سواء أكانت أصولًا عديدة أو أصلًا واحدًا، لأن عقله لم يتسع لتصديق رأي القائلين بأن أصل الأنواع تولد تولدًا ذاتيًّا بنفسها وبفعل الطبيعة.
وبحسب الشيخ الموزون فإن الذين نشروا الإلحاد اعتمادًا على نظرية دارون هم من جاؤوا بعده من الملاحدة؛ إذ لم يرضوا قوله بوجود الخالق وأنه من خلق أصل الأنواع، ثم ادعوا أن أصل الحياة بدأ من كرية بسيطة ذات خلية واحدة، وادعى بعضهم أن الحياة نشأت عن كتل زلالية حية صغيرة، ومن أشهر القائلين بذلك (أرنست هيكل).
وبحسب الشيخ الموزون فإن أول من قال بنظرية التطور العام في الحياة البيولوجية وغيرها هو الفيلسوف “سبنسر”، ولكن لم تقم الحملة عليه كما قامت على “دارون” لأنه لم يأت بجديد في نظرية خلق الأنواع غير الذي ذكره دارون، كما أن الحملة ضد دارون كانت قد استنفدت قوَّتها يوم نشر سبنسر فلسفة التطور، فكان من الطبيعي ألا تثير آراؤه ضجَّة جديدة[10].
الفلسفة الحقيقية لا تتعارض مع الإيمان:
لقد خلص الشيخ الموزون وهو يحاور تلميذه إلى نتيجة عرضها التلميذ على شيخه وأعجب بها أيما إعجاب، ومؤداها: أن نتاج الفلسفة الصحيح الذي انتهى إليه أكابر الفلاسفة وتلاقوا عليه، لا يتنافى أبدًا مع الدين الحق، في إثبات وجود الله، بل يؤيد هذا الإثبات بالنظر العقلي الخالص، الذي تتلاقى فيه عقول الأكابر من رجال الدين، مع عقول الأكابر من الفلاسفة، على أدلة واحدة.. وأن الدين الحق لا يتصادم ولا يتنافى مع حقائق العلم، التي قام على صحتها البرهان العقلي القاطع، لأن الدين الحق يجعل للعقل الكلمة الفاصلة العليا، في معرفة الحق.
كيف أثبت القرآن وجود الله:
حاول الفلاسفة قديمًا أن يثبتوا وجود الله أو ينفوا ذلك بواسطة بعض الأدلة والأقيسة العقلية، وقد سلك بعض علماء المسلمين هذا المسلك نفسه في إثبات وجود الخالق للرد على المشككين بوجوده من زنادقة أو ملاحدة الفلاسفة، أما منهج القرآن في ذلك فقد كان أبسط مما هو عليه الأمر لدى الفلاسفة ومن سلك مسلكهم، ألا وهو الاستدلال بالخلق على إثبات الخالق، وقد عقد المؤلف رحمه الله في كتابه قصة الإيمان فصلًا عن الدلائل والآيات التي ساقها القرآن للاستدلال على وجود الله سبحانه، وأتبع ذلك بفصول عن آيات الله في الكون والآفاق، وآياته العظيمة في السماء وفي الأرض، وما فيها من الصنع العجيب والإتقان المحكم البديع.
وينبغي للمسلم اليوم إذا ما أراد أن يعالج هذه الظاهرة أن يسلك منهج القرآن في الاستدلال بآيات الله في كونه؛ إذ هو نوع من الاستدلال الفطري الذي يخاطب الفطرة والقلب في آن واحد. “إن إشاعة التفكر في الكون بين الناس له أثر عظيم في علاج الشك والإلحاد، وهو علاج قرآني من نوع فريد، يغنينا عن قضاء الوقت في الجدل “البحث عن الإيمان في داخل الإنسان بدل قضاء الوقت في استيراده من الآخرين”.
إثبات وجود الله بين القرآن والفلاسفة:
لا بد لنا ونحن نحاور حملة الفكر المادي أن نميز بين الإلحاد والشك، فإن بينهما بونا في المعالجة وأسلوب الخطاب، كما لا بد لنا أن نقارن بين الأدلة العقلية التي ذكرها القرآن على وجود الله والأدلة التي ذكرها الفلاسفة والحكماء – من المسلمين وغير المسلمين – واستدلوا بها على وجود الله ووحدانيّته وصفات كماله.
لدى جمعنا بين ما استدل به الفلاسفة العباقرة وما جاء به القرآن من أدلة عقلية لإثبات الألوهية وصفاتها الأساسية نكاد نشعر بالعجب من شدة التوافق والتقارب في طرق الاستدلال والنتائج، وما ذلك إلا نتيجة للخطاب القرآني المنطقي الذي توافقه العقول الصافية والفطر السوية.
النهاية:
في نهاية القصة يصاب الشيخ بوعكة صحية ويشفى منها ويصاب على إثرها تلميذه حيران بحمى قاسية ويأخذه شيخه إلى المستشفى فيمكث مدة يأتيه الخبر في نهايتها بوفاة الشيخ “أبي النور الموزون” بعد أن ترك له ملفًا من المكتوبات التي كتبها بيده قبل وفاته.
وفي هذه الوصية ذكر الشيخ الموزون ما مر عليه من شك وكيف وصل إلى اليقين، وكان منها:
(يا حيران بن الأضعف! لقد عراني في عهد الشباب من كرب الشك والحيرة مثل الذي عراك، وأغراني بالفلسفة مثل الذي أغراك.
وأولعني بالجدل والسفسطة مثل العلم الأبتر والنظر الأخزر الذي أولعك.
وأوجعني من بعض رجال الدين مثل الجمود الذي أوجعك.
وقطعني عن البحث والدرس مثل الذي قطعك..
ثم يذكر بعد ذلك هدايته على يد الشيخ حسين الجسر صاحب كتاب “الرسالة الحميدية” الذي نصحه بالتوسع في قراءة كتب الفلسفة والطبيعة جنبًا إلى جنب مع القرآن الكريم، وجمع ما قاله الفلاسفة عن الألوهية ومقارنتها بما ورد من أدلة إثباتها في القرآن الكريم، ففعل حتى وصل إلى اليقين بأن العقل والقرآن لا يتعارضان في قضية الألوهية بل يتوافقان تمام التوافق.
خلاصة الكتاب:
إن فكرة الكتاب تتلخص في أن العلم الصحيح والفلسفة العميقة لا يتعارضان مع الإيمان، بل يثبتان ما أثبته القرآن من الإيمان بالله ووحدانيته وكمال صفاته.
كما أن الكتاب يعطي نصيحة مهمة – لا تقل أهمية عن الفكرة العلمية فيه – مفادها؛ على الدعاة المسلمين أن يفهموا الآخر أو الحادث الوارد عليهم فهمًا صحيحًا حتى يستطيعوا التعامل معه بشكل صحيح، وإلا فإن الرفض الجامد ومنع الشباب من الاطلاع عليه بحجة خطره عليهم لن يشبع عقولهم ولن يدفعهم إلا إلى مزيد من البعد عنا والوقوع فيما نحذر.. إنه لن يعصم جيلنا من الشك وحبائل الشيطان إلا الإجابات المقنعة المعتمدة على أساسات متينة من علوم العصر مع توجيهات القرآن الإيمانية.
خاتمة:
إن الشباب المسلم لم يشك ويلحد إلا نتيجة الفراغ الذي يشعر به في وجدانه، وما ذلك إلا بسبب القصور في بعض جوانب الخطاب الديني المعاصر عن ملامسة أفئدتهم وعقولهم، أو عدم استماعهم له بشكل كاف بسبب المشوشات التي ملأت حياتنا اليوم.
إن كثيرًا من المدارس الإسلامية لا تزال تكتفي بتدريس الكتب العلمية القديمة دون الاهتمام بما جدَّ لهذه العلوم والكتب من تطورٍ وما جدَّ عليها من حوادث.
إن واجب المدارس والجماعات الإسلامية اليوم أن تهتم بتحديث مناهجها وَفق كل جديد لتكون متوافقة مع تغيرات العصر وأفكاره، وما يطرأ فيه من قيم علمية وفكرية وفلسفية جديدة، وإعداد طلبة العلم إعدادًا جيدًا بما يؤهلهم لدخول معترك الحرب الفكرية بأحدث الأساليب العلمية الموجودة في عصرنا الراهن، وعرض دين الحق بما يتناسب مع أساليب تفكير الناس في زماننا، لعله يكون على أيديهم نجاة الجيل المسلم والإنساني مما يعانيه من انهيار أخلاقي وقيمي وإيماني.
([1]) بديع الزمان سعيد النورسي، مجموعة المقالات الكبرى، ترجمة محمد زاهد الملا زكردي، مطبعة رسائل النور، ط1، 2010م، ص445
([2]) رواه أحمد في مسنده عن أنس رقم (13052) والبيهقي في باب القصد في العبادة والجهد رقم (4931)
([3]) عبد الوهاب خلاف، الإسلام والسياسة العادلة، شبكة الألوكة.
([4]) سيد قطب، في ظلال القرآن، ط17 ،1412هـ-1992م، دار الشروق.
([5]) رواه البخاري في باب القصد والمداومة على العمل، رقم (6463).
([6]) مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، إشراف: ندوة مالك بن نبي، دار الفكر الجزائر، دار الفكر سورية، ط3 ،1988م، ص29
[7] الشيخ نديم الجسر عالم وسياسي لبناني ولد في طرابلس لبنان عام 1897م درس في حمص وخدم في الجيش العثماني عام 1916 وتولى مناصب مختلفة في سلك القضاء في لبنان، دخل البرلمان اللبناني عام 1957 برفقة الزعيم السني رشيد كرامي، انتخب مفتيًا لمدينة طرابلس عام 1960، توفي عام 1980، من كتبه: قصة الإيمان، الإسلام في العالم المعاصر، تراثنا بين التقدمية والرجعية، غريب القرآن ومتشابهاته. “موقع ذاكرة طرابلس وتراثها” على الشبكة العنكبوتية.
[8] كتاب قصة الإيمان، ص 18
[9] كتاب قصة الإيمان، ص 180 – 222
[10] المصدر نفسه، ص 192 و193