الدكتور: أيمن يزبك – دكتوراه في التاريخ الإسلامي ومحاضر في جامعة دمشق سابقًا
لم تكن الحركة العلمية الثقافية التي شهدتها بلاد المغرب في القرن الخامس الهجري -الحادي عشر الميلادي- محصورة في المساجد، بل إن الرُّبُط والثغور والقلاع والحصون كانت مراكز إشعاع علمي أيضا، فيها تعقد حلقات العلم وتدرس علوم الشريعة من توحيد وفقه وحديث وتفسير ولغة وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة؛ لذلك كان ابن جبير يمدح أهل المغرب بقوله: (إنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب لأنهم على جادة واضحة، وما سوى ذلك بهذه الجهات الشرقية فأهواء وبدع وفِرَق أو شيع إلا من عصم الله عز وجل من أهلها)([1]).
وكان القائمون على هذه الأماكن من الفقهاء والعلماء مالكيَّة، يعتمدون في منهجهِم التعليميِّ التعليمَ العامَّ أو الشعبيَّ، والمقصود به الاتصال والتواصل مع عامة الناس، وتعليمهم أمور دينهم وأسس عقيدتهم وفقه المعاملات حتى يصبحوا على الجادة والسبيل القويم، وقد كان مالكية المغرب في الحرب قادةَ رباط وجهاد، وفي السلم شُعَلَ علم وإرشاد لا شُغل لهم إلا العلم والدعوة، غايتهم إنشاء جيل واعٍ بقضايا الأمة في الأندلسِ وبلادِ الشرق كلِّها وكلِّ بقعةٍ من الأرض أقام عليها المسلمون لا في بلاد المغرب فحسب؛ لكي تبقى علوم الشرع مستمرة في حياة الأمة ينقلها جيل عن جيل، هذا ما كرَّس له علماء الغرب الإسلامي حياتهم وقدموا لأجله التضحيات؛ فقد آمنوا بأهمية التعليم وعدِّه من مراتب العبادة السامية ودورِه في تحقيق أمن المسلمين وحماية عقيدتهم.
وقد توارث العلماء أساليب التربية وطرق التعليم، ووضعوا في ذلك التآليف والتصانيف، من هؤلاء ابن سحنون([2]) الذي اعتمد على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في استخراج الأساليب التربوية، ثم إنَّ جهوده وجهود أمثاله كأبي الحسن القابسي([3]) -الذي عُدَّ هو وابن سحنون من المنظِّرين في ميدان التربية الإسلامية- أسفرت عن مثل وجاج بن زلو([4]).
عرف وجاج بن زلو بهذا الاسم الذي يعني باللغة البربرية العالم الكبير في قومه، وكانت نشأته في منطقة إداو سملال من نواحي مدينة سوس التي تقع جنوب مراكش، أخذ عن علمائها، ثم تنقل بين مدن المغرب وإفريقية يطلب العلم، فنزل القيروان وتتلمذ على أبي زيد القيرواني ثم على أبي عمران الفاسي، ثم ارتحل إلى الأندلس وأمضى فيها بضع سنين، ثم عاد إلى المغرب ليستقر في مدينة سوس ويتفرغ للدعوة والتدريس([5])، ثم أقام في منطقة أكلو أو أجلو رباطًا علميًّا تجاوز إشعاعه العلمي حدود المغرب، فذاع صيته وقصده طلبة العلم من الآفاق.
يُعرف هذا الرباط اليوم بالمدرسة العتيقة أو مدرسة أكلو، وما زالت إلى يومنا هذا قائمة بهيكلها ونظامها القديم، وتقع في ضواحي تزميت فوق ربوة جبلية محاذية لجبال الأطلس الصغير على حافة الوادي قريبًا من شاطئ أكلو، وهي تتكون اليوم من ثلاثة طوابق ومطبخ ومساكن للطلبة تستوعب نحو مئة شخص، ومكاتب ومجالس للفقهاء وقاعة للضيوف ومرافق صحية وقاعات للتدريس وخزانة كتب، وقد أسست لتكون مدرسة للعلوم الشرعية والقراءات، ذكر المختار السوسي أنها أول مدرسة بنيت في المغرب أوائل القرن الخامس الهجري إلا أنه لم يجزم بهذا([6])، وهو مصيب بقوله؛ ذلك أن مهمة التعليم في بلاد المغرب لم تكن محصورة في المدارس، وليست المدارس هي أول ما وجد من مراكز التعليم هناك بل إن كل مسجد وزاوية كان بمنزلة مدرسة، ومن أرَّخوا لتاريخ المغرب لم يعتنوا كثيرًا بالتفريق بين هذه الأماكن كما هو الحال مع مؤرخي الشرق الإسلامي.
يعد وجاج الأبَ الروحيَّ لدولة المرابطين، خاصَّةً أنه يُعد واحدًا من أبرز العلماء الذين رسخوا فقه الإمام مالك في المغرب، وأصلوا في نفوس الناس علم السنة ومفاهيم التصوف والورع والزهد وحثّهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان أن نشأ تلاميذه على القيم السامية، ومن هؤلاء التلاميذ عبد الله بن ياسين الذي كان نسخة عن شيخه وجاج، وقصة الاثنين وعلاقتهما بالدولة المرابطية تعود بنا إلى أبي عمران الفاسي الذي يعد من أعلام المدرسة المالكية في المغرب في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجري، ومن الذين أسهموا في تحقيق الوحدة السياسية والدينية لبلاد المغرب والأندلس أواخر القرن الخامس الهجري، ومَنْ أراد الخوض في تاريخ دولة المرابطين لا يسعه إلا أن يذكر هؤلاء الثلاثةَ ومعهم ثلاثةٌ من أركانِ دولة المرابطين: يحيى بن إبراهيم وأبو بكر بن عمر ويوسف بن تاشفين.
والبداية عند أبي عمران الذي كان يعمل بالدعوة إلى الله في مدينة فاس، غير أن التحولات الخطيرة التي شهدتها مدينة فاس بعد سقوط الأمويين في الأندلس واستيلاء بني حمود عليها دفعتْه إلى الارتحال إلى القيروان والاستقرار فيها عام427هـ-1035م والتفرغ للتدريب، كانت مدينة القيروان في تلك الفترة قد استعادت عافيتها ونالت حريتها بعد صراع طويل مع الشيعة الإسماعيلية، وعادت المدرسة المالكية لتتصدر حركة التعليم الإسلامي السني بعد انتصارها على المدرسة الشيعية([7]).
التقى أبو عمران مع أمير جدالة وهو عائد من الحج، فشكى إليه الأميرُ حالَ قومه والجهلَ الذي يعم فيهم والفرقَ بينهم وبين من رآهم في الحج في تنظيمهم وعبادتهم، وقال له: (إننا في الصحراء منقطعون لا يصل إلينا إلا بعض التجار الجهال، حرفتهم البيع والشراء، وفينا أقوام يحرصون على تعليم القرآن وطلب العلم ويرغبون في الفقه والدين لو وجدوا إلى ذلك سبيلًا)([8])، طلب الأمير من الفاسي أن يرسل معه داعية من تلاميذه ليعلم قومه أمور دينهم، فأرسله أبو عمران إلى تلميذه وجاج، وهناك التقى الأمير يحيى بالشيخ وجاج، فأطْلعه على حال قومه وسلَّمه رسالة شيخه أبي عمران([9]).
وهنا كان الاختبار الصعب العصيب لتلاميذ الشيخ، فمن ذا الذي يرضى أن يذهب إلى أعماق الصحراء المغربية حيثُ أقوامٌ لا يعلمون عن سلوكهم وطباعهم شيئًا؟ فانبرى عبد الله بن ياسين ليجيب نداء شيخه ويعرض نفسه لهذه المهمة.
عبد الله بن ياسين:
هو عبد الله بن ياسين بن مكوك بن سير بن علي الجزولي، أصله من قرية تماماناوت في طرف صحراء غانة، ويُنسَب إلى قبيلة جزولة إحدى القبائل الكبرى، ومن هذه القبائل جدالة ومسوقة ولمتونة التي قامت بدور كبير في عهد المرابطين في المغرب والأندلس، وكانت جزولة هذه تشغل المنطقة الممتدة من جبال درن حتى وادي نول القريبة من المحيط الأطلسي.
درس على يد فقيه السوس وِجاج بن زلو، ثم رحل إلى الأندلس في عهد ملوك الطوائف وأقام فيها سبع سنين، وكانت الأندلس يومئذٍ تحت محنة حكام الطوائف الذين قسموا البلاد فيما بينهم، كان ذلك في بداية القرن الخامس الهجري، فرأى ما آل إليه الحكم في هذه البلاد وطغيانَ هؤلاء الذين اغتصبوا الحكم وما فعله بعضهم ببعض، وكيف لَحِقَ بالحكامِ الشعراءُ والفقهاء والعلماء من ضعفاء الإيمان، فأباحوا لهم المنكر وحللوا لهم الحرام([10]).
اجتهد ابن ياسين في ظل هذا الواقع المرير في طلب العلم من فقهاء الأندلس، وابتعد عن المشاركة في الحياة السياسية، ثم عاد إلى المغرب ليصبح مِن خيرة طلاب الفقيه وجاج بن زلو، فعندما طلب أبو عمران الفاسي مِن تلميذه وجاج بن زلو أن يرسل مع يحيى بن إبراهيم فقيهًا عالما ديِّنا تقيًّا مربِّيا فاضلًا وقع الاختيار على عبد الله بن ياسين الصنهاجي الذي قدم نفسه لهذه المهمة، وكان عالما بتقاليد قَومه وأعرافهم وبيئتهم وأحوالهم، ولما دخل عبدُ الله بن ياسين مع يحيى بن إبراهيم في مضارب ومساكن الْمُلَثَّمين من قبيلة جدالة عام 430هـ-1038م([11]) استقبله أهلُها، واستمعوا له فأخذ يعلمهم، فكان تعليمُه باللغة العربية لطلبة العلم، أما الإرشاد الديني للعامة فكان بلهجة أهل الصحراء البربرية([12])، يقول القاضي عياض: (وجَّهَ الشيخ أكاد عبد الله بن ياسين مع جوهر بن سكن، وكان موصوفًا بعلم وخير، فسار معه وفهم له سيْرَه ولقومه، وأَخذ من الشدةِ في ذات الله تعالى وتغييرِ المناكير وانعزامِ صاحبِه مَنْ لم يقبل الهدى، ولم يزل يَستَقْرِ تلك القبائل حتى علا عليهم وأظهروا الإيمان هنالك)([13]).
يصفه ابن أبي زرع بأنه من الأذكياء النبهاء النبلاء، ومن أهل الدين والفضل والتقى والورع والفقه والأدب والسياسة، مشاركٌ في العلوم([14])، فابن ياسين لم يكن فقيهًا فقط بل كان عالما محدثًا مفسرًا([15]) كما أجمع الرواة على أنه (كان من الفقهاء النابهين الحذاق، شهمًا قويَّ النفس ذا رأي وخير وتدبير)([16])، وقد بدأ دعوته في شرح الإسلام للناس وشرح عقائده وبيان فضل الإسلام، واستجاب الناس لدعوة عبد الله بن ياسين إلا أنهم سرعان ما أجهضوها، قالوا: أما الصلاة والزكاة فقريب، وأما قولك “من قتَل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنا يجلد” فلا نلتزمه، فاذهب إلى غيرنا؛ فعمَّهُم الجهل، وانحرفوا عن معالم العقيدة الصحيحة، وتلوثت أخلاقُهم، هذا فضلًا عن اصطدام توجيهِهِ بمصالح أمراء القوم وكبرائهم؛ فثاروا عليه وكادوا يقتلونه إلا أنه ترك قبيلة جدالة، وانتقل إلى قبيلة لمتونة يدعو فيها ويؤسس له فيها أنصارًا لدعوته([17]).
رباط عبد الله بن ياسين:
أقام ابن ياسين رباطَه في الحوض الأدنى لنهر السنغال، وموقعه يدلُّ على أهداف ابن ياسين التي أعد لها، فهو يقع قريبًا من مملكة غانة الوثنية؛ لذلك هو مُهدَّد دائمًا بالأعداء، ولا بُدَّ للجماعة المقيمة فيه من الجهاد، وهو غير بعيد عن ديار الْمُلَثَّمين، ومن ثم يمكن الاستناد إليهم في حالات الخطر([18])، كما أنَّ تلك الديارَ تشكِّل موردًا بشريًّا لا ينضب لمن يريد الانضمام إليه، وهذا يفسر كثرة عدد رجاله، وقد عمل جاهدًا على تحكيم شرع الله على الأفراد وفي مُجْتَمَعه الجديد، ولم تكن إقامة الشرع في أبناء تلك القبائل بالأمر السهل، فكانوا مرات عدة يخرجون عن حدود الشرع وابن ياسين يقوِّمهم ما استطاع، لقد عاشوا حياة أشبه ما تكون بالجاهلية قبل أن يقدم إليهم ابن ياسين ويعمل على دعوتهم وإصلاح شؤونهم، وقد حدث أن وجاج عاتب ابن ياسين لما بلغه أن جماعة المرابطين قد أكثروا القتل والنهب في بعض المواضع، فأجاب يعتذر بأن هؤلاء كانوا في جاهليَّةٍ، يَزنُون ويُغِير بعضهم على بعض، وَمَا تجَاوزتُ الشَّرعَ فِيهِم([19]).
كان ابن ياسين يهتمُّ اهتمامًا بالغًا بأهل العلم والمعرفة، ويرفعهم إلى مراتب عالية؛ فالتف حوله مجموعة من الفقهاء والعلماء ليساعدوه على تربية النَّاس وتعليمهم وتأهيلهم للمرحلة القادمة، ولم يكن الحياءُ يمنعه من طرْد مَن لا يراه مناسبًا لهدفه المنشود، وكان شيخه وجاج على اتصال دائم معه للتشاور والتباحث فيما يستجد، فينصحه ويوجهه ويمده بالعلم اللازم، وقد أسَّس الداعية الرباني ابن ياسين رباط السنغال، فكانَ منارة يشعُّ نورُها في تلك الصحاري القاحلة، فأصبح مركزًا علميًّا مهمًّا، جذَبَ أبناء قبائل صنهاجة إليه، ووفَّر الأمن والاستقرار في تلك الديار الصحراوية البعيدة، فأصبحت القوافل تمرُّ بأمن وسلام دون أن يعرِضَ لها أحد بسوء، وقد أدَّى ذلك إلى ازدهار التجارة، وتميَّزَ ذلك الرِّبَاط بحسن إدارته وتنظيمه وتشكيله؛ فساعد على قُوَّة النواة الأولى لدولة المرابطين، وتشكل مجلس الشورى، وجماعةٌ للحلِّ والعقد تطورت بمرور الأيام وأصبحت مرجعية عليا لِلْمُلَثَّمِين([20]).
أصول المنهج التربوي والعلمي عند ابن ياسين:
يُعد الفقيه ابن ياسين من علماء أهل السنة والجماعة، مالكي المذهب استمدَّ أصوله من أصول المالكية التي كانت ولا زالت ضاربة بجذورها في قلوب أهالي الشَّمَال الإفريقي، إلا أن لابن ياسين اجتهاداته الحركية والتنظيمية التي أملتها عليه طبيعة دعوته التي عاشها، ويمكن القول بأنه فقيه مجدد صاحب حركة دعوية، وبأنّ الأصول التي أسس عليها حركة المرابطين هي ذاتها الأصول التي أقام عليها الإمام مالك مذهبه الفقهي: القرآن والسنة وعمل أهل المدينة وأقوال الصحابة والمصالح المرسلة والقياس وسد الذرائع.
ولَمَّا رسَّخ ابن ياسين مبادئ الدعوة الإسلامية وقيمها السامية في نفوس أتباعه التفت إلى الجانب الاقتصادي، فأمرهم بإيتاء الزكاة وأداء العشر، واتخذ لذلك بيت مال يجمع فيه ما يُرفع إليه من ذلك، ومن أموال الزكاة والأعشار والخمس كان ابن ياسين ينفق على طلبة العلم في بلاد المصامدة خاصة مدرسته أكلو التي نشأ فيها، وحيثما وُجد مركز علمي أرسل له ابن ياسين الدعم المالي، ثم انتقل ابن ياسين إلى المرحلةِ الثالثة مرحلةِ الجهاد، فبدأ يركز على الجانب العسكري، وأخذ يشتري السلاحَ والخيول المعدة لخوض المعارك والجمالَ المجهزة لحمل الجيوش الْمُلقى على عاتقها حماية الدعوة وتطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد التي تحت يدِهَا.
استطاع ابن ياسين أن يقيم مدرسته المرابطية على هذه الأصول والمعاني الدينية التي تسمو بالفكر والنفس معًا، وقد أمَّ هذه المدرسةَ أعداد كبيرة من الطلبة ليتتلمذوا على يد علمائها، ثم انطلقوا بعد انتهاء دراستهم إلى المدن والأرياف وأعماق الصحراء لينشروا علوم الشريعة التي تلقوها في هذه المدرسة، وأمضى ابن ياسين في هذه المدرسة عِقدين من عمره، يُعِدّ جيل القادة الذين لعبوا دورًا كبيرًا في جملة المتغيرات السياسية والفكرية والاجتماعية التي عمَّت أرجاء الغرب الإسلامي، ومن أبرز هؤلاء القادة أبو بكر بن عمر اللمتوني وابن عمه يوسف بن تاشفين.
أبو بكر بن عمر اللمتوني:
هو من قبيلة لمتونة إحدى القبائل العربية التي تنحدر من حمير اليمنية، هاجرت إلى المغرب أيام الخليفة أبي بكر الصديق، وتُعرف اليوم بالطوارق([21])، وكان أبو بكر من بيت عرف الإمارة، فأخوه يحيى كان أميرًا على لمتون، وتبنى دعوة الشيخ ابن ياسين، أقبل عليه في رباطه بستة آلاف من رجال قبيلته تأييدًا لدعوته إلا أنه لم يمكث طويلاً بعد دخوله في دعوة الشيخ ابن ياسين لأنَّه تُوفِّي، وتولَّى شؤون الإمارة بعده أخوه أبو بكر الذي اختاره ابن ياسين بعد ذلك ليكون أمير المسلمين والقائد السياسي للدولة المنشودة.
سار أبو بكر مع ابن ياسين في طريق الجهاد، فتمَّ لهم فتح سجلماسة وملك السوس بأسره، ثم امتلك بلاد المصامدة وفتح بلاد أغمات وتادلة وتامسنا عام 449هـ-1057م، وكان معهما يوسف بن تاشفين الذي كان تحت قيادة أبي بكر، ثم خاضوا معًا معارك شديدة ضد قبيلة برغواطة -وكانت من بقايا العبيديين في المغرب- حتى انتصروا عليهم، لكن في إحدى هذه المواجهات استشهد الشيخ عبد الله بن ياسين، وكان قد جمع الشيوخ والأعيان قُبيل وفاته عام 451هـ-1059م فقال لهم: (إني ميِّت عنكم؛ فانظروا من ترضونه لأمركم، فاجتمع الرأي على أبي بكر)([22]) فاجتمعت لأبي بكر الزعامتان السياسية والدينية معًا، لكن ابن خلدون يعارض هذه الرواية ويرى أن أبا بكر نال الزعامة السياسية فقط، أمَّا الدينية فانتقلت إلى سليمان بن عدو([23]).
أراد أبو بكر أن يبني مدينة على أحد السهول يتخذها عاصمة لدولته، فأنشأ مراكش التي غدت مع الأيام في نظر المؤرخين بغداد المغرب([24])، ولما شرع يبنيها جاءه خبر من جنوب السنغال عن خلاف وقع بين لمتونة ومسوفة، فخاف على دماء المسلمين، فولى الأمر لابن عمه يوسف بن تاشفين، وغادر إلى الصحراء وتم له ذلك([25]) إلا أنه فوجِئ هناك بأن قبائل كثيرة تعيش على الوثنية ولا تعلم شيئًا عن الإسلام، فتذكر شيخه ابن ياسين وحرصه على إيصال الدعوة إلى الناس قبل الحكم عليهم أو مقاتلتهم، فقرر العيش في الصحراء وترك شؤون الدولة لابن تاشفين، وهكذا حقق تغييرًا عظيمًا في حياة أهل الصحراء وعمَّ الإسلام فيها؛ فاتسعت رقعة الدولة المرابطية بالدعوة وعم الإسلام رقعة واسعة من إفريقية اليوم([26]).
قضى أبو بكر حياته كلها يدعو ويجاهد حتى توفاه الله عام 462هـ-1069م وهو في جهاده، واجتمعت بعد ذلك الكلمة لابن عمه يوسف بن تاشفين الذي أكمل المسير على نهج ابن ياسين في حكم البلاد والعباد.
يوسف بن تاشفين:
يوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتوني الصنهاجي، أُمُّه بنت عم أبيه فاطمة بنت سير بن يحيى بن وجاج بن وارتقين، كانت قبيلته قد سيطرت بسيادتها وقيادتها على صنهاجة وآلت إليها الرئاسة منذ أن أقرَّها الإمام ابن ياسين فيها بعد وفاة الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي، وهكذا نما يوسف عزيزًا كريمًا في قَومه، وهو أول من وحد بلاد الغرب الإسلامي تحت دولة واحدة من حدود تونس إلى غانا جنوبًا والأندلس شمالًا، وقد برزت شخصية يوسف القيادية للمرابطين في معركة الواحات عام 448هـ-1056م التي كان فيها قائدًا لمقدمة جيش المرابطين المهاجم، ولما فتح مدينة سجلماسة عيَّنه الأمير أبو بكر واليًا عليها، فظهرت مهاراته الإدارية في تنظيمها، ثم غزا بلاد جزولة وفتح ماسة، وحين عاد أبو بكر من الصحراء جمع أعيان الدولة وشيوخها وأشهدهم على أنه تخلَّى ليوسف عن الإمارة([27]).
ولَمَّا تم لابن تاشفين بسط نفوذه على أنحاء المغرب كافَّة جاءته مناشدة من فقهاء الأندلس وأهلها المستضعفين، طلبوا منه التوجه إليها لإنقاذها من خطر الصليبيين؛ فقد بدأت مدن المسلمين تسقط في أيديهم واحدةً تلو أخرى في غفلة من حكامها المتنازعين فيما بينهم، ولم يكن أحدهم يجد حرجا في الاستعانة بالصليبيين من أجل قتال جارِه والاستيلاء على ملكه مقابل تنازلات يقدمها لهم([28]).
ما كان من ابن تاشفين إلا أن لبى نداء المسلمين المستضعفين، فدخل الأندلس بجيوشه وكانت موقعة الزلاقة عام 479هـ-1086م من أكبر المعارك التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا كبيرًا على الإسبان، وهُزم ملكهم ألفونسو السادس هزيمة منكرة، فقضت هذه المعركة على آمال الإسبان الصليبيين في احتلال الأندلس بعد أن استولوا على طُلَيْطلَة([29])، ثم رجع يوسف إلى المغرب ولم يُبدِ أي رغبة في الاستيلاء على الأندلس، وإنما كانت غايته نصرة المسلمين وتلبية دعوة الفقهاء، لكنَّ ملوك الطوائف عادوا إلى سابق عهدهم من التنازع، فلم يصبر أهل الأندلس ولا فقهاؤها على هذا الحال، فراسلوا أمير المسلمين ابن تاشفين مرَّة أخرى يطلبون منه القدوم وتسلم زمام الأمور، وكانت قد صدرت فتوى من أرض الشام من الإمام أبي حامد الغزالي وأبي بكر الطرطوشي تحثُّ ابن تاشفين على إنقاذ الأندلس مِنْ هؤلاء الحكام وتبيح له قتالهم، وما كان يُقدِم على ذاك تورعًا عن دمائهم.
توجه ابن تاشفين إلى الأندلس فدخلها وأخضع جميع مدنها لحكمه، وتمت الوحدة بين المغرب والأندلس تحت قيادة واحدة([30])، وأرسل إلى الخليفة العباسي المستظهر يطلب منه توليته وأن يُقَلِّده ما بيده من البلاد ليكون أميرًا شرعيًّا على ما تحت يده، فبعث إليه الـخِلَعَ والأَعلام والتقليدَ ولَقَّبه بأمير المسلمين؛ ففرح بذلك وسُرَّ به فقهاء المغرب([31]).
ملامح الحياة الثقافية عهد المرابطين:
ربما لم يكن أحد يتصور في ذلك الزمان أن القبائل الهائمة في صحاري المغرب ستكون جزءًا من الحضارة الإسلامية وتسطر أروع البطولات في تاريخ الإسلام المجيد في ميادين الدعوة والجهاد والسياسة، لكن الدعوة التي قام بها ابن ياسين قلبت حياتهم وحولتهم من حياة الجاهلية إلى الحياة بالإيمان، وقد ظهر على إثر ذلك جيل من الفقهاء الصنهاجيين ممن عرفوا بالورع والتقوى وإنكار الذات، من أشهرهم لمتاد بن نفير اللمتوني الذي أصبح مضرب المثل بالفتوى في بلاد الصحراء، وميمون بن ياسين اللمتوني الصنهاجي الذي قدِم من الصحراء وسكن المرية ورحل إلى مكة، وحدث بالأندلس وسمع عنه الناس بإشبيلية وغيرها.
مكانة العلماء في دولة المرابطين:
لما بسط المرابطون سيطرتهم على المغرب كله والأندلس استقدموا طائفة من علماء الأندلس إلى مراكش، واتخذوهم كتَّابًا ووزراء، وقد صرف الأمير علي بن يوسف بن تاشفين همته إلى استدعاء أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك، كان أمراء المرابطين يوقرون حملة العلم ورسالتهم في الحياة، فكانوا يستقدمون خيرة العلماء والفقهاء لتأديب أبنائهم وتعليم أهل المغرب، يصف ابن خلدون ذلك فيقول: (نقل عنهم اتخاذُ المعلمين لأحكام دين الله لصبيانهم، والاستفتاءُ في فروض أعيانهم، واقتفاءُ الأئمة للصلوات في بواديهم، وتدارسُ القرآن بين أحيائهم، وتحكيمُ حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم)([32]).
وأشار بعض المؤرخين إلى ازدهار العلوم على عهد علي بن يوسف بن تاشفين، فذكر أن دولتهم نفقت فيها العلوم والآداب، وكثر النبهاء وخصوصًا الكُتاب، كما شجع أمراء المرابطين الفلاسفة والأطباء وباقي حملة العلوم، واقتفى آثارهم في ذلك الأمراء والنبلاء والقادة حتى غدت مجالسهم مقصدًا للشعراء والأدباء([33])، فظهر في تلك الفترة جيل من حملة علوم الشريعة ممن عرف بالتقوى والصلاح والعلم الغزير أمثال المنصور بن محمد بن الحاج بن داود بن عمر الصنهاجي اللمتوني، برع في معرفة الأخبار والسنن والآثار، وصحب العلماء وسمع منهم، ونافس في الدواوين والأصول العتيقة، وهو فخر صنهاجة ليس فيهم مثله؛ وأمثال الأمير أبي بكر بن تافلويت الصنهاجي الذي برع في العلم وتبحر فيه، والأمير عمر بن ذمام بن المعتز الصنهاجي الذي بلغ به العلم أنْ سُمي الفقيهَ القائد، ومنهم أيضًا زاوي بن مناد بن عطية الله بن المنصور الصنهاجي المعروف بابن تقسوط، وعبد الكريم بن عبد الرحيم بن معزوز أبو موسى الصنهاجي المعروف بالغفجومي، وأحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي، وخلوف بن خلف الله الصنهاجي، وموسى بن حماد الصنهاجي، وغيرهم.
المدارس في عهد المرابطين:
انتشرت المدارس في إفريقية على عهد المرابطين، منها ما كان قائما ومنها ما استحدث، فقصدها الناس من كل صوب، ومن أهم هذه المدارس مدرسة فاس التي كانت في ذلك الزمان أكثر مدارس المغرب تفوقًا، وزادت شهرتها بعد اضطراب أمر القيروان وقرطبة ونزوح الكثير من العلماء والفضلاء إليها، فأصبحت دار علم وفقه وحديث، بل شبهها القلقشندي بالإسكندرية في المحافظة على علوم الشريعة وتغيير المنكر والقيام بالناموس([34])، واشتهرت كذلك مدرسة سجلماسة، وقد كانت ركنًا من أركان المذهب المالكي، اشتهر فيها الفقيه بكار بن برهون بن الغرديس، وقصده الطلاب من كل حدب وصوب، وغدت مدرسة تلمسان دارًا وموئلًا للعلماء والمحدثين من حملة الرأي على المذهب المالكي، وتألقت مدرسة سبتة التي أنجبت العالم الكبير القاضي عياض اليحصبي 544هـ-1149م، وعمت المدارس أيضا طنجة وأغمات التي انتشر فيها جلةٌ من الفقهاء والعلماء.
أما مدرسة مراكش فرغم حداثتها إلا أنها تفوقت تفوقًا واضحًا لكونها عاصمة الدولة ومقر السلطان، فوفد إليها العلماء من كل صوب لينعموا بالعيش الرغيد قريبًا من مقر الأمراء، وأما جوهرة الصحراء فهي مدينة تمبكتو الواقعة في دولة مالي اليوم، كانت من أهم المراكز الثقافية والفكرية والتجارية غربَ إفريقية، أنشئت عام 490هـ-1096م، فهُرع إليها العلماء من المغرب وبلاد السودان كافة ومن مصر والمشرق، فوجدوا فيها كل وسائل التشجيع والرعاية، وفي القرن السادس الهجري تألقت مدينة جني بعد أن أسلم أهلها، وكانت مركزًا للتجار البربر والعلماء العرب والدعاة، فقصدها العلماء والفقهاء من كل صوب حتى اجتمع فيها أربعة آلاف ممن يعملون بالعلم في زمن واحد.
خزانات الكتب:
وترتب على اهتمام المرابطين بالحياة العلمية انتشار الخزانات العلمية، فاشتهرت خزانة الأمير علي بن يوسف بن تاشفين في مراكش وطبقتْ سمعتها الآفاق، كما اشتهرت خزانة ابن الصقر في مراكش، أنشأها أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الأنصاري (ت569هـ-1199م)، وكانت خزانة كبيرة مملوءة بالذخائر، وصفها ابن فرحون بقوله: (اقتنى من الكتب جملةً وافرة سوى ما نسَخ بخطه الرائق، وكان معه عند توجهه إلى مراكش خمسة أحمال كتب، وجمع منها بمراكش شيئًا عظيمًا)([35])، ناهيك عن انتشار عشرات الخزانات الخاصة في المغرب والأندلس لكبار العلماء أمثال ابن العربي وابن باجة وابن زهر وغيرهم.
منهج العلوم:
كانت ثقافة الشعب في ظل دولة المرابطين تعتمد على العلوم الوافدة من المشرق الإسلامي خاصةً؛ إذ كان علماء المرابطين يقومون بالرحلة لطلب العلم إلى مصر والشام والحجاز والعراق، وكان المورد الآخر لثقافتهم العلمية ما يتلقونه عن أهل الأندلس من علوم ومعارف في شتى أنواع العلوم، كان الطالب ينتسب إلى المكتب فيتعلم القراءة والكتابة ويحفظ القرآن الكريم، ثم يترقى فيدرس تفسير القرآن والحديث النبوي وشعر المواعظ والأناشيد الدينية في الربط، وفي مرحلة أخرى تكون الدراسة في المساجد، ويشكل المذهب المالكي وكتبه محور الدراسات الفقهية بجانب العلوم الدينية الأخرى، وفي التفسير اعتمد العلماء على تفسير الطبري في ذلك الزمان واشتهر بين المغاربة، وفي الحديث اعتُمد موطأ مالك وصحيح مسلم وشرح أبي الفضل عياض اليحصبي (ت544هـ-1149م) صاحب كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ومشارق الأنوار، أما في الفقه والأصول فكان يدرس المذهب المالكي وكتب أبي الوليد الباجي، وفي اللغة والنحو اعتمد على كتاب سيبويه والإيضاح لأبي علي الفارسي والمخصص والمحكم لابن سيده وغير ذلك.
انتشار العلم:
إن هذه الأجواء العلمية أدت إلى تكوين جيل من أبناء الملثمين يتقن الثقافة العربية إتقانًا تاما؛ وذلك لتوفر الأمن والاستقرار والتشجيع والدعم من قبل الدولة، وازدهار الحركة الثقافية في بلاد المغرب من خلال احتكاكها بالنبع الثقافي في بلاد الأندلس والقيروان والمشرق الإسلامي، فشهد القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجري -الحادي عشر ومطلع الثاني عشر الميلادي- نهضةً شاملة في الحياة الثقافية عمت بلاد إفريقية، فتدفقت منها بحور الأدب وطلعت منها نجوم الكتب ورمَتْ أقاصي البلاد بمثل ذُرَى الأطواد([36])؛ فأصبح طلب العلم سجية لكل أبناء الدولة وطبقاتها حتى كان بعض الأمراء ممن لم تسنح لهم فرصة طلب العلم يدعو العلماء إلى قصره ليأخذ عنهم ويتعلم منهم، ومما يروى في ذلك أن الشيخ أبا الحسن علي بن حرزهم قدم إلى مراكش -وكان فقيهًا حافظًا للفقه زاهدًا في الدنيا- فاستدعاه بعض أمراء صنهاجة للقراءة عليه والأخذ عنه، فدخل عليه أبو الحسن وهو على سريره فجلس أبو الحسن تحته، فقال له أبو الحسن: أهكذا كنت تفعل مع من كنت تتعلم منه؟ أجاب الأمير: نعم، فقال له أبو الحسن: انزل إلى مكاني وأكون أنا مكانك -وهكذا ينبغي أن يكون المتعلم مع المعلم- فأجابه الأمير إلى ذلك، ونزل عن سريره وجلس عليه أبو الحسن.
وكان الأمير إبراهيم بن يوسف يرسل في طلب الفقيه أبي علي الصدفي ليسمع منه الحديث وينتفع بعمله وفضله، إضافة إلى تشجيعه الكتاب والشعراء([37]) كابن خاقان([38]) الذي شجعه الأمير إبراهيم للإقدام على تأليف كتاب قلائد العقيان، وابن خفاجة([39]) الذي شجعه على قرظ الشعر بعد انصرافه عنه، وابن زهر([40]) الذي ألف له كتاب الاقتصاد في إصلاح الأجساد.
وبما أن الدولة المرابطية قامت على أسس إسلامية فقد عمل أمراؤها على تشجيع العلوم الشرعية بكل وسيلة، فقربوا الفقهاء من مجالسهم وأغدقوا عليهم الأموال، وأخذوا بمشورتهم في كل الأمور الصغيرة والكبيرة، وامتزجت دراسة الفقه بعلم الأصول، وعُني المغاربة بعلم القراءات والتفسير والإقبال على دراسة الحديث وروايته، وتعددت الرحلات لسماعه والأخذ عن رجاله في علو الإسناد والضبط والإتقان، واشتهر كثير من الفقهاء في هذا العصر، منهم القاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي (ت544هـ)، والقاضي أبو موسى عيسى بن الملجوم قاضي فاس (ت543هـ/1148م)، والقاضي عبد الملك المصمودي (ت479هـ)، واهتم الناس أيضًا بدراسة التصوف في هذا العصر، وكان تصوفهم زهدًا ورياضة لا تصوفًا فلسفيا كما حدث في عهد الموحدين.
ونبغ في علوم اللغة في عهد المرابطين عدد كبير من العلماء في النحو وعلوم اللغة الأخرى، منهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي (ت521هـ)، وأبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري النحوي (ت542هـ)، وأبو العباس أحمد بن عبد الجليل بن عبد الله المعروف بالتدميري (ت555هـ)، أما في علوم التاريخ والجغرافية فقد ظهر في عصر الرابطين عدد كبير من أعلام الرواية والكتابة التاريخية، منهم أبو زكريا بن يحيى بن يوسف الأنصاري المعروف بابن الصيرفي، ومالك بن وهيب (ت535هـ)، وأبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال (ت578هـ)، وفي العلوم الجغرافية برزت مجموعة من العلماء في عصر المرابطين، منهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الإدريسي (ت560هـ) صاحب كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وعبد الله بن إبراهيم بن الحجاري ( كان حيا سنة530هـ) صاحب كتاب المسهب في غرائب المغرب.
وتقدمت العلوم الطبية والصيدلانية في عهدهم، فمن أشهر الأطباء الذين برزوا في عهد المرابطين أبو العلاء زهر بن أبي مروان عبد الملك بن محمد بن مروان (ت525هـ)، كان يعتمد الطرق المخبرية وجس النبض في تشخيص الأمراض، وأبو عامر محمد بن أحمد بن عامر البلوي (ت559هـ) صاحب كتاب الشفا في الطب، وأبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن سعيد السعيدي (ت533هـ)، وغيرهم كثير؛ فأحدث المرابطون منصبا يعرف باسم رئيس الصناعة الطبية، وهذا من أرقى ما وجد في ذلك العصر من الاهتمام بعلم الطب والصيدلة وحامليهما.
ظهور الموشحات والزجل:
في ظل الرخاء والاستقرار الذي أشاعه المرابطون في الأندلس والمغرب زاد الاهتمام بالشعر والأدب حتى استحدثت بعض الفنون في هذا الميدان منها فن الموشحات الشهير، قال ابن خلدون في نشأته: (وأمَّا أهل الأَنْدَلُس فلما كثُر الشعر في قطرهم وتهذَّبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنًا يسمونه بالموشح، ينظمونه أسماطًا وأغصانًا يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة, ويسمون المتعدد منها بيتًا واحدًا, ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليًا فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كلُّ بيت على أغصانٍ عددُها بحسب الأغراض والمذاهب, ويَنسبون فيها ويمدحون كما يُفعل في القصائد وتجاوزوا في ذلك إلى الغاية، واستطرفه النَّاس جملةً الخاصةُ والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه)([41])، ومن أبرز من برعوا في هذا الفن الأعمى التُّطَيْلِيّ، ومن مشهور موشحاته:
دمعٌ سَفُوحٌ، وضلوعٌ حِرار: ماءٌ ونارْ ما اجتمعا إلا لأمر كُبارْ
بئس لعمري ما أراد العذول عمر قصير وعناء طويلْ
يا زفراتٍ نطقت عن غليل ويا دموعًا قد أصابتْ مسيل…([42])
وهناك فن آخر انتشر في ذلك الزمن هو فن الزجل، تحدث عنه ابن خلدون فقال: (إنه لما شاع فنُّ التوشيح في أهل الأَنْدَلُس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابًا، واستحدثوا فنًّا سموه بالزجل، والتزموا النَّظْم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاؤوا فيه بالغرائب, واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة)([43])، وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية على عهد المرابطين أبو بكر بن قزمان القرطبي حتى عُد إمام الزجالين في الأندلس، ومما قاله([44]):
قالوا عني بأني عاشق فيك إش تقول يصدقوا
يا حبيبي لقيت كثير في الناس بالحكم ينطق
هذا شي والنبي يا نور عيني ما تحدثت بيه
ولَا والله خطر على بالي لا ولا خضت فيه
إنما في الطريق أنا أمشي كل من ألتقيه
يدنو ميني وسرعة ليسألني عندما نلتقو
ويقول لي فلان -بحق الله- من صحيح تعشقو
خاتمة ونتائج:
هذه صورةٌ مصغرةٌ لواحدةٍ من المدارس التي لعبت دورًا حضاريا في تاريخ الأُمة الإسلامية، فكانت أشبه بالشجرة التي كلما تفرع منها غصنٌ تفرع عنه أغصانٌ أخرى، كانت مدرسة أكلُو وشيخها وجاج حلقة الوصل بين مدرسة أبي عمران الفاسي في القيروان -الذي كان له دورٌ كبير في إسقاط مذهب التشيع في إفريقية في القرنين الرابع والخامس للهجرة- ومدرسة عبد الله بن ياسين التي كانت نواة الدولة المرابطية، فهذه المدارس الثلاث تمثل في مجموعها حلقة الوصل بين جهود السابقين عليهم واللاحقين لهم، جاءت هذه المدارس لتؤكد وحدة الحضارة الإسلامية وأنها حضارة تقوم على العلم والأخلاق الإنسانية الفاضلة المستمدة من الوحي الإلهي والتعاليم السماوية التي جاء بها الإسلام.
وقد خلصت في هذا البحث إلى جملة من النتائج:
وفي الختام إن تاريخ الدُّول الإسلامية مليء بالعبر والعظات والدروس النافعة التي تحتاجها الأمة اليوم لقيام دولتها الكبرى التي تسعى إلى لم شمل المسلمين ورد عادية الأعداء عنهم، وإن التفتيشَ في تجاربنا التاريخية مع فهم الحاضر والدراية به والاهتمام بما اشتغل به أسلافنا من العلم وتزكية النفس وتربية الأجيال أسسٌ متينةٌ لإعادة بناء الأمة الإسلامية والانطلاق بها في ركب الحضارة الإنسانية… {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
([1]) ابن جبير: الرحلة، دار الكتب العلمية، 2003م، ص (55).
([2]) محمد بن عبد السلام التنوخي فقيه المالكية في المغرب صاحب المدونة في فقه الإمام مالك وكتاب آداب المعلمين. الذهبي: سير أعلام النبلاء، ت: شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم عرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413هـ، (13/60).
([3]) علي بن محمَّد بن خلف أبو الحسن القابِسي المَعافِري القَيْرَواني الفقيه المالكي. نايف منصور: الرّوض الباسم في تراجم شيوخ الحاكم، دار العاصمة، الرياض، ط1، 1432هـ، (1/739).
([4]) وجاج بن زلو أبو عبد الله محمد بن زَلّو بن أبي جمعة بن محمد بن أبي القاسم بن يعقوب بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن الفضيل بن يحيى بن إدريس الأزهر [بن إدريس الأكبر] بن عبد الكامل بن الحسن السبط ابن الحسن المثنى ابن علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
([5]) السلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتاب، الدار البيضاء (2/7).
([6]) المختار السوسي: سوس العالمة، مؤسسة بن شرة، الدار البيضاء، ط2، 1404هـ، ص (17).
([7]) علي الصلابي: فقه التمكين عند دولة المرابطين، مؤسسة اقرأ، القاهرة، ط1، 1427هـ، ص (15).
([8]) ابن خلدون: العبر، ت: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط2، 1988م، (6/243).
([9]) ابن خلدون: العبر، (6/243).
([10]) إبراهيم الجمل: شخصية عبد الله بن ياسين، مقال منشور في مجلة الجامعة الإسلامية، عدد 16، ص (391).
([11]) أبو الثناء الصفاقسي: نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار، ت: علي الزواري ومحمد محفوظ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1998م، (1/432).
([12]) علي الصلابي: فقه التمكين عند دولة المرابطين، مؤسسة اقرأ، القاهرة، ط1، 1427هـ، ص (21).
([13]) القاضي عياض: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، ت: عبد القادر الصحراوي وآخرين، دار الفضائل المحمدية، الرباط، 1970م، (8/81).
([14]) ابن أبي الزرع: روض القرطاس، دار المنصورة للطباعة والوراقة، الرباط، ص (79).
([15]) يقول إبراهيم الجمل: (برع في الفقه والحديث والتفسير وفي السياسة والجهاد وقيادة الشعوب وقيادة الجيوش). الإمام عبد الله بن ياسين، دار الإصلاح، ط1، 1981م، ص (139).
([16]) حسن أحمد محمود: قيام دولة المرابطين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1957م، ص (116).
([17]) ابن الوردي: تاريخ ابن الوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1417هـ، (1/345).
([18]) محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، دار الخانجي، القاهرة، 1997م، (2/302).
([19]) الذهبي: سير أعلام النبلاء، (18/427).
([20]) علي الصلابي: فقه التمكين، ص (43).
([21]) يذكر أن أسلاف هذه القبيلة وغيرها خرجوا من اليمن فِي الجيش الَّذِي جهزه الصديق إِلَى الشام، ثُمَّ انتقلوا إِلَى مصر، ثُمَّ توجهوا إِلَى المغرب مع مُوسَى بْن نصير، ثُمَّ توجهوا مع طارق إلى طنجة، فأحبوا الانفراد فدخلوا الصحراء، وهم لمتونة وجدالة ولمطة وإينيصر وإينواري ومسوفة وأفخاذ عدّة. الذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ت: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 2003م، (10/170).
([22]) السلاوي: الاستقصا، (2/218-219).
([23]) ابن خلدون: العبر، (6/244).
([24]) ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، المجمع الثقافي، أبوظبي، 1423هـ، (5/721).
([25]) ابن خلدون: العبر، (6/244).
([26]) وهي التي تقع عليها اليوم غينيا بيساو جنوب السنغال، وسيراليون، وساحل العاج، ومالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وغانا، و داهومي، وتوجو، ونيجريا، والكاميرون، وأفريقيا الوسطى، والغابون، وهذه المساحة تقوم عليها اليوم نحو 15 دولة أي ما يعادل ثلث مساحة القارة الإفريقية.
([27]) ابن أبي الزرع: روض القرطاس، دار المنصورة، الرباط، ص (86).
([28]) ابن خلدون: العبر، (6/248).
([29]) عبد المنعم الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، ت: إحسان عباس، دار ناصر للثقافة، بيروت، ط2، 1980م، (1/291).
([30]) ابن خلدون: العبر (6/249).
([31]) السيوطي: تاريخ الخلفاء، تحقيق حمدي الدمرداش، دار نزار الباز، ط1، 1425هـ، ص (303).
([32]) ابن خلدون: العبر، (6/137).
([33]) علي الصلابي: فقه التمكين، ص (186).
([34]) القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2005م، (5/151).
([35]) ابن فرحون: الديباج المذهب، ص (49).
([36]) ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ت: إحسان عباس، الدار العربية للكتاب تونس، 1979م، (8/597).
([37]) الذهبي: تاريخ الإسلام، (11/218).
([38]) أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان بن عبد الله القيسي الإشبيلي صاحب كتاب قلائد العقيان، وله أيضا كتاب مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملمح أهل الأندلس، وقد اختلف على عام وفاته، والراجح أنه 529هـ. ابن خلكان: وفيات الأعيان، (4/23-24).
([39]) أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله خفاجة من أعلام الشعر الأندلسي. أحمد الهاشمي: جواهر الأدب، مؤسسة المعارف، بيروت، (2/200).
([40]) عبد الْملك بن زهر الْإِيَادِي من أَهْل إشبيلية، طبيب مسلم عالم كبير له مؤلفات شهيرة في الطب. ابن الأنباري: التكملة لكتاب الصلة، ت: عبد السلام الهراس، دار الفكر، بيروت، 1415هـ، (3/81).
([41]) ابن خلدون: المقدمة، ص (436).
([43]) ابن خلدون: العبر، (1/825).
([44]) ابن حجة الحموي: بلوغ الأمل في فن الزجل، ت: رضا محسن القريشي، وزارة الثقافة والإرشاد، دمشق، 1974م، ص (13).