أ. د. ماجد الدرويش – أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الجنان – لبنان
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
منذ فترة ليست بالبعيدة ونحن نسمع عن الأقليات في العالم وعن ضرورة حفظ حقوقها، مما يوحي بوجود ظلم لاحقٍ بالأقليات في المجتمعات المتنوعة.
ثم التركيز الأكبر دائمًا على منطقتنا العربية التي تعتبر عقر دار المؤمنين، لأن فيها نسيجا منوعا من عقائد مختلفة، وقوميات مختلفة، وما كان لهذا التنوع أن يبقى إلى اليوم لولا عقيدةُ الإسلام وأحكامُه في التعامل مع المخالفين، من باب تأويل قول الله عز وجل: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة الحجرات: آية 13]، فلم يبن المسلمون محاكم للتفتيش، ولم يجبروا أحدا على تغيير معتقده، بينما وجدنا بعضًا من غير المسلمين؛ إذا دخلوا بلاد المسلمين عنوة منتصرين؛ يلجؤون إلى الإبادات التي تطهر البلاد من غيرهم، أو في أحسن الأحوال يخيرون الناس بين تبديل المعتقد أو الطرد، إن لم نقل القتل، وما الأندلس، أو كوسوفا، أو البوسنة والهرسك عنا ببعيد.
فالإسلام ابتداءً ليست له مشكلة مع المخالفين، ولذلك حفظ وجودهم وضمن لهم استقلاليتهم وخصوصيتهم، أما اليوم وبعد اضمحلال السلطة السياسية للإسلام، فقد بات هذا التنوع سُبَّة على المنطقة، وباعثَ قلاقل وحروب، ومفتاحًا لتقسيم البلاد وإضعافها سياسيا وجغرافيا.
ومع معرفتي بأن دراسة هذا الموضوع دراسة علمية تحتاج إلى نظر في قواعد الفقه السياسي، ونشأة المجتمع المسلم، والضوابط والأصول التي أصلتها الشريعة في التعامل مع المخالفين، وكيف نظرت إليهم؛ هل اعتبرتهم أقليات بمفهوم اليوم؟ أم رعايا؟ أم جاليات؟ أم مواطنين؟
وهل مفهوم المواطنة في الفقه السياسي الشرعي يتوافق مع مفهوم المواطنة في الفكر السياسي للمدارس السياسة المختلفة اليوم؟
وهل منطلقات الفكر السياسي الإسلامي في تعامل الإسلام مع المخالفين؛ تشبهها منطلقات الفكر السياسي للمدارس السياسية المختلفة اليوم؟ بل هل مفهوم الدولة في الإسلام يشبهه مفهوم الدولة اليوم؟
هذه كلها أسئلة تحتاج إلى إجابات صريحة وواضحة، لأنه على أساسها تكون العلاقات بين سائر شرائح المجتمع.
طبعا لن أدخل في متاهة الجواب عن شيء من هذه الأسئلة، إلا أنني سأعرض للواقع الذي نعيشه عرضًا مبسطًا، محاولًا البحث عن الدوافع التي تحرك مفهوم الأقليات اليوم، والإجابةَ عن بعض الإشكاليات التي تُطرح بدهاء ومكر. لذلك سأبدأ بالتعريف بمصطلح (الأقليات) وتاريخ نشأته، ثم أعرج على الدوافع لبروزه، محاولًا بيان وجهة نظري في هذا الموضوع.
مصطلح الأقليات.. النشأة والتاريخ
لم يعرف المسلمون في تاريخهم ولا في كتبهم ولا ثقافتهم هذا المصطلح، وإنما ظهر مع بوادر ضعف الدولة الإسلاميـة المتمثلة بالإمبراطورية العثمانية وفَـقْدِ نفوذهـا، وظهور ما بات يعرف يومها بالمسألة الشرقية، حيث كانت أوروبا خاصة والغرب عامة يعدون العدة لوراثة الرجل المريض، فتوسلوا إلى ذلك بالوصاية عليهم، وكان ذلك من خلال افتعال الفتن بين المسلمين وأبناء المجموعات الأثنية التي تشكل مع المسلمين نسيج المجتمع المسلم، ثم وضع الدولة العثمانية تحت الأمر الواقع وإجبارها على الاعتراف بوصايتهم على هذه المجموعات الإثنية.
يومها بـدأ هذا المصطلح بالظهور مع التركيز على ضرورة حماية هذه المجموعات التي أطلقوا عليها لقب (الأقليات)، وإنما المسألة في الحقيقة نوع من الوصاية المباشرة بهدف التدخل في الشأن الإسلامي والضغط على السلطنة لتقديم التنازلات وتقليص نفوذها.
وقد برز هذا التوجه جليا في معاهدة برلين سنة 1878م، والتي أُلْزِمَتْ فيها الدول الأوروبية الجديدة المنفصلة عن السلطنة العثمانية، وهي: بلغاريا، وصربيا، والجبل الأسود، ورومانيا، إضافة إلى السلطنة العثمانية، بقبول كل الالتزامات التي نصت عليها هذه المعاهدة وفي مقدمتها: حماية الحريات الدينية، والمساواة لمصلحة الأشخاص المنتمين إلى الأقليات([1]). مما يؤكد القول بأن مصطلح الأقليات إنما هو مصطلح سياسي جديد بدأ ظهوره واستعمالـه بشكل كبير في بداية العهد الاستعماري الحديث.
“إلا أن حماية حقوق الأقليات بقيت مجرد حالات معزولة لا تعبر عن سياسةٍ قانونيةٍ عامة حتى إنشاء عصبة الأمم؛ التي وضعت نظامًا دوليًا لحماية الأقليات؛ طبق في مواجهة عدد محدود من الدول.
وبعد فشل نظام العصبة المتعلق بحماية الأقليات وانتهاء العمل به؛ بزوال عصبة الأمم وحلول الأمم المتحدة محلها؛ بات مستقرًا في أذهان القائمين على إنشاء الأمم المتحدة عدمُ الجدوى من إنشاء نظام خاص لحماية الأقليات، وأن فكرة عالمية حقوق الإنسان والمساواة كافية لوضع حد لمشكلة الأقليات، إلا أن الأمم المتحدة سرعان ما شرعت بدراسة الموضوع، فوضعت صكوكًا دولية عديدة تهدف الى حماية الأقليات”([2]). وبذلك صارت (حقوق الأقليات) جزءًا من شرعة حقوق الإنسان، وصارت وسيلة ضغط فعالة تسوّغ التدخل في شؤون الدول بحق وباطل.
ومما يؤسف له أن بعض هذه المجموعات العرقية أو الأثنية أو القومية؛ قبلت أن تكون وسيلة ضغط للقوى الاستعمارية، متذرعة بالخوف على الوجود والمصالح، مع شيء من الطمع بأن تتحول هذه المجموعات إلى دول، وما دَرَوْا أنهم بقبولهم هذا كانوا يمهدون لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين.
مصطلح الأقليات
تعريف مصطلح الأقليات:
كون هذا المصطلح ناشئًا، فإنه لا وجود له في قواميس السياسة الشرعية عندنا، وإنما نجده في قواميس السياسة المعاصرة.
وكحال أي مصطلح ناشئ حديث النَّحت، فإنه يَعْتَوِرُه بعض الاضطراب، والسبب في ذلك أن تعريفات هذا المصطلح هدَفَ واضعوها من خلالها إلى جعلها مفتاحًا لتأمين مصالحهم في الدول التي فُصِّلَ هذا المصطلح من أجلها وعلى مقاسها!
فمثلًا الموسوعة البريطانية تعرِّف الأقليات بأنهم: (جماعة من الأفراد يتمايزون عرقيًا أو دينيًا أو قوميًا أو لغوياً، عن بقية الأفراد في المجتمع الذي يعيشون فيه). وهذا تعريفٌ بالوصف.
أما الموسوعة الأمريكية فتعرف الأقليات بأنهم: (جماعة لها وضع اجتماعي داخل المجتمع أقل من وضع الجماعة المسيطرة في نفس المجتمع، وتمتلك قدرًا أقل من النفوذ والقوة، وتمارس عددًا أقل من الحقوق مقارنة بالجماعة المسيطرة في المجتمع. وغالبًا ما يُحْرَمُ أفراد الأقليات من الاستمتاع الكافي بحقوق مواطني الدرجة الأولى).
وهذا تعريف مبني على الهدف الذي يسعى إليه واضعوه وهو دغدغة مشاعر المعنيين لفتح باب للتدخل المباشر، لأن مضمون هذا التعريف لم يوجد إلا في ظل الدول التي أتت بها اتفاقية سايكس-بيكو، أما في تاريخنا الإسلامي فمضامين هذا التعريف غير موجودة. عدا عن أن الحاكم الذي يمارس سلطةً أعلى على مجموعةٍ عندها حقوقٌ أقل؛ قد لا يكون من مجموعة ذات أكثرية عددية، وهناك مجتمعات تتسلط فيها (الأقليات) على (الأكثريات) وتغتصب حقوقها، وبالتالي فهذا لا يصلح تعريفًا.
أما الخبير الإيطالي فرنسيسكو كابوتورتي([3]) فقد عرف الأقلية في دراسته المكلَّف بها من قبل الأمم المتحدة، والتي اعتُمِدت في المنظمة الدولية، بقوله: (الأقلية: هي مجموعةٌ أقل عددًا بالنسبة إلى باقي السكان في دولة ما، وفي مركز غير مهيمن في الدولة التي ينتمون إليها، وتمتلك هذه المجموعة خصائص ثقافية: طبيعية أو تاريخية أو دينية أو لغوية تختلف عن باقي السكان، ويعبرون عن شعور بالتضامن للمحافظة على ثقافتهم أو دينهم أو لغتهم). وهذا التعريف لا يختلف في مضمونه عن سابقه لكن عبارته ألطف. ويقال فيه ما يقال في سابقه.
وكذلك الأمر في عبارة الخبير النرويجي اسبيرون أيدي، الذي اعتمدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تعريفه في الدراسة التي أعدها عام 1989 م عن حقوق الإنسان، حيث قال: (يقصد بالأقلية كل مجموعة من الأشخاص المقيمين في دولة ذات سيادة، ويشكلون أقل من نصف السكان في المجتمع الوطني، ويتمتع أفرادها بخصائص مشتركة عامة ذات طبيعة إثنية أو دينية أو لغوية تميزهم عن باقي السكان). فلم يعرِّج على الامتيازات السياسية.
وليس ببعيد عنه التعريف الذي أورده الدكتور سعد الدين إبراهيم في موسوعته «الملل والنحل والأعراق» حيث عرف الأقليات بأنها: (أية مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة).
ومن خلال هذه التعريفات نلحظ من دون كبير عناء كيف أنها لا تتفق فيما بينها إلا على موضوع العدد والخصوصية الثقافية أو العرقية أو الدينية، وبعضها يزيد قيودًا تهدف إلى دغدغة مشاعر المجموعات العرقية والقومية المختلفة، وكأنها تحرضها على بعضها البعض.
إن كل الصكوك الرئيسة التي أصدرتها الأمم المتحدة، المتعلقة بحقوق الأقليات، لم تُعَرِّف فيها الأقليات تعريفًا واضحًا، وإنما أعطت أوصافًا لما يمكن أن يعتبر أقليات، ونصت بتلقائية مفرطة على أن هؤلاء عندهم مشكلة مع الغالبية المهيمنة على قرار البلد، ثم بنت على ذلك أنه لا بد من التدخل المباشر لحماية حقوق هذه الأقليات، لدرجة أنه كانت تختلق مشاكل وحروبًا لتسويغ فرض هذه الحقوق، التي هي في حقيقتها استعمار من نوع جديد.
مع العلم أنه توجد دول تحكمها أقليات بمفهومهم، وهي متسلطة فيها على الأكثريات، بل وربما مارست ضدها ما يشبه حروب الإبادة، فلو نظرنا إلى بلادنا العربية مثلا لوجدنا دولا تحكمها أقليات، وتتمتع فيها بامتيازات لا توجد عند الغالبية، وهذا بالتالي يخرجها من حيز مصطلح الأقليات بحسب التعريفات المعتمدة اليوم، وهذا برأيي ينقض هذا التعريف ويجعله غير منضبط، مع تمييزنا بين أقليات وأخرى، إذ ليس كل حكم لأقلية يعني أن الأمر على ما وُصِف، فقد تحكم الأقلية وتكون عادلة، بنَّاءة، تعمل للصالح العام.
بالإضافة إلى أنه ليس صحيحًا أن كثيرًا من المشكلات التي تقع داخل مجتمع فيه أقليات وأكثريات سببه تسلط الأكثرية على الأقلية، ونحن لو استقرأنا تاريخ المنطقة لوجدنا أن الأكثرية السنية كانت عامل استقرار في المنطقة، ولم تكن يومًا عامل إثارة قلاقل، ولعل الإشارة إلى فتنة عام 1860 التي وقعت في جبل لبنان ودمشق بين الدروز والموارنة، والتي تولت فرنسا كبرها، والوقوف على الدور الذي قامت به الأكثرية السنية الحاكمة في وقف الفتنة من خلال الدور الذي قام به الأمير عبد القادر الجزائري، تبين ما أقول.
مصطلح الأقليات والسلطة:
ومصطلح “الأقلية” لا يقف عند هذا الحد، بل نجد أنه يتخطاه إلى مفهوم السلطة في النظام الديمقراطي، حيث يحكم الأكثرية الأقلية، وتمارس الأقلية دور المعارضة، ولا يلزم أن تكون المعارضة مقهورة، إلا أن هذا لا يؤدي إلى المشاكل التي يؤدي إليها نظام الأقليات القائم على القوميات والعرقيات والإثنيات، فالأول غالبًا يبني، والثاني غالبًا يهدم ويقسم.
أمةٌ وجاليةٌ.. لا أقلية:
إذا كان مصطلح الأقليات لا وجود له في ثقافتنا، فماذا أطلق المسلمون على هذه الفئة من الناس التي يدور حولها البحث؟
لا بد من الرجوع لبدايات نشأة الدولة في الإسلام لمعرفة كيفية التعامل مع غير المسلمين في المجتمع المسلم، لأن الذي يرسم سياسة التعامل معهم هو الشرع، لذلك فلا بد من النظر في نشأة مجتمع المدينة المنورة للنظر في كيفية التعامل مع أهل الكتاب الذين كانوا يستوطنون المدينة المنورة. وهذا يمكن أن نجده في وثيقة المدينة المنورة التي نظمت حياة الناس، والتي تعتبر أهم وثيقة دستورية في تنظيم حياة المجموعات المختلفة في المجتمع المسلم الواحد.
وقد نظرت الوثيقة إلى اليهود على أنهم “أمة” أي مجموعة لها استقلاليتها الدينية الكاملة ضمن المجتمع المديني، واعتُبِر ما اتفق عليه بمنزلة معاهدة، والمعاهدة تكون بين طرفين متمايزين عادة، وقد عَنْوَنَ لها ابن إسحاق في مغازيه بقوله: (وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ، وأقرَّهم عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَشَرَطَ لَهُمْ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ)، ومما جاء في الوثيقة: ((وَإِنَّ يهودَ بَنِي عَوْف أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إلاّ مَنْ ظَلم وأثِم، فَإِنَّهُ لا يُوتِغ-أي يهلك- إلا نفسَه، وأهلَ بَيْتِهِ.
وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف، وإن ليهود بني ساعدة مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَم مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الأوْس مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلبة مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف، إلا مَنْ ظَلم وأثِم، فَإِنَّهُ لا يُوتِغُ إلا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ))([4]).
وهكذا فقد تمتع اليهود في المدينة بحكم ذاتي شبه تام، ووزِّع ولاؤهم على قبائل العرب حتى لا يؤخذ بطنٌ بجريرة غيره، وهذا غاية العدل، ولذلك عندما غدر يهود بني قينقاع لم يُجْلَ سواهم، وكذلك عندما غدر بنو النضير لم يحاسب يهود خيبر، وهكذا.. إلا أن اليهود أَبَوْا إلا أن يجتمعوا على الغدر، فجاء الحكم العام بإجلائهم عن الجزيرة نهائيًا، ومن هنا أطلق عليهم فقهاؤنا لقب “الجالية”، وقد أطلقه علماؤنا ابتداءً على أهل الكتاب خاصة، ثم على كل من كان في ذمة المسلمين عامة، فشمل كل المجموعات التي كانت تعيش في كنف الدولة المسلمة.
يقول الإمام مرتضى الزبيدي في معجمه الفريد «تاج العروس»: (والجالِيَةُ: الَّذين جَلَوْا عَن أَوْطانِهم: يقالُ: فلانٌ اسْتُعْمِل على الجالِيَة، أَي على جِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ كَمَا فِي الصِّحاحِ. وإنَّما سُمّوا بذلِكَ لأنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رِضَي الله تَعَالَى عَنهُ، أَجْلاهُمْ عَن جَزِيرَةِ العَرَبِ لمَا تقدَّمَ مِن أَمْرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم([5])، فسُمُّوا جالِيَةً، ولَزِمَهم هَذَا الاسمُ أَيْنَ حَلُّوا، ثمَّ لَزِمَ كلّ مَنْ لَزِمَتْه الجِزْيَةُ من أهْلِ الكِتابِ بكلِّ بلَدٍ وَإِن لم يُجْلَوْا عَن أَوْطانِهم)([6]).
فالإسلام نظر إلى هذه الجماعات منذ أول يوم على أنهم أمة مع المؤمنين، وأنهم جزء أصيل في المجتمع، لهم حقوق وعليهم واجبات، وإن كنا بحاجة لتحرير مفهوم وصف الأمة الذي أطلقه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الأمر مع نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في العام التاسع للهجرة، ونزلوا المسجد النبوي الشريف، فعاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب لهم كتابًا، ومما جاء فيه: ((ولنجرانَ وحاشيتِها، جوارُ الله وذِمَّةُ محمدٍ النبيِّ رسولِ الله على أموالِهم، وأنفسِهِم، وملّتِهم، وغائبِهم، وشاهدِهم، وعشيرتِهم، وبِيَعِهِم، وكلّ ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغيَّرُ أُسْقُفٌ من أسقفيّته، ولا راهبٌ من رهبانيّته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليهم رِبِّيَّة ولا دم جاهلية، ولا يُحْشَرُون ولا يُعَشَّرُون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النَّصَفُ غير ظالمين ولا مظلومين))([7]).
فهل تعرف دساتير اليوم وضعًا خاصًا كالذي أعطاه الإسلام لهذه المجموعات التي كانت تشارك المسلمين البلاد؟
وهل ضاقت صدور المسلمين بالتعدد الذي كان يُلَوِّنُ مجتمعهم، كما ضاق صدر فرنسا بحجاب تضعه المسلمة على رأسها، وبالأمس ضاقت شوارعها على رجل يصلي في الطريق! وضاق صدر سويسرا بمآذن ترتفع في سمائها؟ أهكذا يكون التسامح وقبول الآخر؟
ويومًا إثر يوم نرى كيف أن صدور المخالفين تضيق بقبولنا، ولذلك أرى أننا نحن المعنيون أكثر من غيرنا بمصطلح قبول الآخر، بمعنى أن يقبلنا غيرنا، فيوم كنا حكام المنطقة وحاول خليفة المسلمين أبو جعفر المنصور إجلاء الموارنة من جبل لبنان بسبب ثورة قام بها بعض شبابهم، لم يأذن له الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى بتشتيت الناس وإجلائهم عن أراضيهم، ولم يسمح له أن يؤخذ البريء بجريرة المسيء وكتب له كتابًا طويلًا في الدفاع عن حقوقهم كان منه: (قَدْ كَانَ مِنْ إِجْلَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، مِنْ أَهْلِ جَبَلِ لُبْنَانَ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ خُرُوجُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ، وَلَمْ تُطْبِقْ عَلَيْهِ جَمَاعَتُهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً، وَرَجَعَ بَقِيَّتُهُمْ إِلَى قَرَاهُمْ، فَكَيْفَ تُؤْخَذُ عَامَّةٌ بِعَمَلِ خَاصَّةٍ؟ فَيَخْرُجُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؟ وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ الْخَاصَّةَ بِعَمَلِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَأَحَقُّ مَا اقْتُدِيَ بِهِ وَوُقِفَ عَلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَحَقُّ الْوَصَايَا بِأَنْ تُحْفَظَ وَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ: ((مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ فَأَنَا حَجِيجُهُ)) … إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِعَبِيدٍ فَتَكُونُوا مِنْ تَحْوِيلِهِمْ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فِي سَعَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ أَحْرَارٌ أَهْلُ ذِمَّةٍ،)([8]).
ويوم جاء التتار لبلاد الشام وأسروا عددًا لا يستهان به من المسلمين واليهود والنصارى، ذهب لفَكاكهم الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، ولما أراد القائد التتريُّ أن يعطيه أسارى المسلمين فقط رفض، وقال له: (بَلْ جَمِيعُ مَنْ مَعَك مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ذِمَّتِنَا؛ فَإِنَّا نُفْتِكَهُمْ وَلَا نَدَعُ أَسِيرًا لَا مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ)([9]).
ونحن اليوم لا نحاسَبُ على أفعال السلاطين، وإنما على مواقف العلماء، لأنها هي الترجمة الحقَّةُ لأحكام الدين ونصوصه، وإذا كان بعض النصارى ظُلِمَ من بعض الحكام، فإنَّ كثيرًا من المسلمين وأئمتهم وعلمائهم ظلموا من نفس الحكام أكثر بكثير، ولم يحدث في تاريخنا الإسلامي أنْ فرّط علماؤنا بحقوق أهل الكتاب عامة، والمسيحيين خاصة.
وعليه فما نراه اليوم أو نسمعه لا يمكن تفسيره إلا بأنه حقد دفين على الإسلام والمسلمين، فهو غير مسوغ تاريخيّا ولا آنيّا، لأننا لم نُقِّصر يوما في معاملة غيرنا معاملة تليق بهم.
وسواء اعتُبِر النصارى في بلادنا جالية أم أقليّة أم رعايا، فالسؤال الذي يجب أن يطرح: هل ظلمهم الإسلام يوما؟ وإن كنا نفهم التوجس من الأنظمة الظالمة المستبدة، وإنْ تَجَلْبَبَتْ بجِلْبَابِ الإسلام، إلا أننا لا يمكن أن نستوعب التوجس غير المسوغ من الإسلام السُنِّي على الإطلاق.
المسيحيون الموارنة في لبنان
بعد هذه المقدمات السريعة أَلِجُ إلى بلدنا لبنان وما فيه من خصوصيات، لا لأعرض لتاريخ نشأة لبنان والظروف التي شكلته سياسيًا، وإنما لأتكلم عن امتيازات من يعيشون فيه.
فمن أكثر الجماعات الدينية التي استفادت من الوصاية الأوروبية على الدولة العثمانية في القرنين الماضيين: المسيحيون، وبخاصة الموارنة، الذين ربطوا أنفسهم بالكنيسة الكاثوليكية استجابة لدعوات الآباء الكبوشيين، ثم تولَّت فرنسا الضغط على الباب العالي للمطالبة بحق حماية المسيحيين الكاثوليك في الإمبراطورية العثمانية([10])، فكانت كل الفرمانات الهمايونية التي تصدر تراعي وجودهم وخصوصياتهم، حتى اشتهر المثل الذي يقول: (هنيئا لمن له مرقد عنزة في جبل لبنان).
ومنذ أن بدأ التدخل بدأت المشكلات تظهر تباعًا بين أطياف المجتمع اللبناني، وتاريخنا ليس بالبعيد، وبالتالي فالكل في ذهنه صور وتطبيقات لهذا التدخل وآثاره، وإن اختلفت التأويلات.
وتجنبًا لكثير من السلبيات التي برزت في تاريخنا الحديث، وبالتحديد منذ ظهور مصطلح الأقليات، توسل اللبنانيون لذلك مبدأ الحوار، وبالأخص الإسلامي المسيحي، وثقافة قبول الآخر، وغير ذلك من الطروحات التي هدف أصحابها إلى زرع الطمأنينة في قلوب (الأقليات)، وبخاصة بعد سلسلة من الصراعات التي لم تجلب سوى الويلات، وإن كان بعض هذه الطروحات يستشف منها اتهام الإسلام بأنه مقصر في قبول غير المسلمين، ثم تُحشد شواهد الحال على ذلك والتي تُخْتَصَرُ اليوم بادعائهم تعرض مسيحيّي الشرق للتضييق والاضطهاد الذي أدى إلى هجرتهم من بلادهم، لذلك فإن أعدادهم في تناقص مُطَّرِد يؤذن بشرق جديد ليس فيه أحد من المسيحيين.
هكذا يصور الأمر تصويرًا قاتمًا مستفزًا، وما أظن أن أحدًا فيه مُسْكَةٌ من مروءة يقبل بذلك، إذ كيف يُقبل أن يُهَجَّر إنسان من أرضه وبيته وتاريخه؟ وبخاصة أن المسيحية في الشرق موجودة قبل الإسلام!! لذلك فإن الانطباع الأول حيال هذا العرض أن المسلمين عليهم أن يحترموا منطق التاريخ والجغرافيا وأن لا يعملوا على إفراغ الشرق من أبنائه المسيحيين. مع العلم أن واقع الحال والتاريخ يشهد بعكس ذلك.
ومن أجل تدارك هذا الخلل أنشئت هيئات للحوار الإسلامي المسيحي، وانتدب لها أفاضل الناس من كلا الديانتين، وكانت الندوات دائما تعرض لتاريخ العلاقة بين الإسلام والمسيحية كدين، وبين المسلمين والمسيحيين كشعوب متجاورة متداخلة، ثم يُدلَف بعد ذلك إلى الواقع الأليم الذي وصلت إليه المنطقة اليوم، حيث يشهد العالم بشكل عام، والشرق الأوسط بشكل خاص، تطرفًا دينيًّا وتزمتًا وتناميًا لمشاعر العداء بين الأديان المختلفة، أو بين المِلَلِ والنِّحَلِ في الدين الواحد، حتى إن أحد المحاضرين ربط يومًا بين تنامي ظاهرة التطرف الديني والهجرة المسيحية في الشرق، وبرأيي هذه معادلة ظالمة لأنها تنافي واقع الحال. إذ التطرف ليس مقصورًا على دين بعينه ولا شعب بعينه، وإنما التطرف سلوك نجده عند كثيرين من أتباع الديانات وفي بلاد شتى.
وقد خرَجت هذه المنتديات والحوارات بنوع من التوصيات التي يمكن أن تعالج هذا الخلل الحاصل، منها: التركيز على التاريخ الناصع للعلاقة بين الديانات عبر التاريخ من خلال تعاليم هذه الأديان نفسها، لأن هذا النوع من العلاقة أمر بدهي طالما أننا نتشارك الأرض نفسها، أما الجنة فيقضي الله بها لمن يشاء، ونحن – بني البشر – لنا أن نختار العقيدة التي نرى أنها تبلغنا تلك الجنة الموعودة، وبالتالي فنحن مسؤولون عن اختيارنا أمام الله سبحانه وتعالى، وملزمون بعد ذلك بالعمل وفق هذا الاختيار.
غير أن بعض الطروحات التي كانت تعرض لم تكن منطقية وواقعية، ولم تعالج المشكلة، وإنما حلقت أزمات جديدة وهيَّأت لصراعات جديدة، كما أن فيها حَيْدَةً عن المطلوب، وخروجًا عن المعالجة الصحيحة للمشكلة؛ إذ لا يخفى على ذي لب أن هذه المشكلات حديثةٌ حدوث مصطلح الأقليات، فالعقائد لم تكن يومًا هي المشكلة، وهذا باعتراف الجميع، إذ الكل يستشهد بالتاريخ على طيب العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.
وقد سبق ذكر إقرار الإسلام لغير أتباعه على دينهم، وعلى لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي لا يدع مجالا للتأويل.
وسواء كان المسيحيون أو غيرهم جاليةً أم أقليةً، فإن الإسلام راعى خصوصياتهم وحفظ وجودهم فأخذوا حقوقهم في ظل حكمه وأكثر.
فإذا كان الأمر على ما ذُكِر فما الذي جعل الأمور تصل إلى ما وصلت إليه؟
هذا الذي ينبغي أن نسأله لأنفسنا ابتداءً: ما سبب هذه المشكلة؟ ذلك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
والمشكلة التي ينبغي أن نعالجها ذات شقين: الشق الأول، الهجرة المسيحية من الشرق، والشق الثاني، مظاهر العداء المتنامي بين المسلمين والمسيحيين، التي بلغت أوجها في تصريحات غبطة البطرك الراعي في فرنسا، والتي تدل دلالة واضحة على تحالفِ ما بات يُعْرَفُ بالأقليات في مواجهة الإسلام السُّنِّي – تحديدا – ذي الانتشار الواسع، وبخاصة أنها تزامنت مع ما يروج له البعض تحت مصطلح (يقظة السنة في المنطقة).
وهذه المواقف لا تحافظ على الوجود المسيحي في لبنان بل تعرضه لخطر جديد، وبالتالي يتوجب على العقلاء دراسة الكلام جيدًا قبل التصريح به، وبخاصة المرجعيات التي تحظى في المجتمع باحترام كبير.
وفي رأيي – واختصارًا للكلام – أن السبب الأساس هو ما خُطِّطَ لبلادنا باسم (الشرق الأوسط الجديد)، الذي بدأ مع سياسة التدخلات الأوروبية في السلطنة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، والذي تمخَّض عن دخول العنصر اليهودي على المنطقة من خلال قضية فلسطين، ومن خلال الأنظمة التي تدعم هذا الكيان والتي تسعى إلى إيجاد حالات تطرف لتسويغ تطرف اليهود، كما تسعى هذه القوى إلى إيجاد حالات عداء بين المختلفين: إن في المعتقد أو في المذاهب، لإضعاف ذلك المدِّ المتجانس الذي يحيط باليهود في فلسطين، سواء بشقه الإسلامي أم بشقه المسيحي، وكل ذلك سعيًا نحو السيطرة الكاملة على هذه المنطقة المهمة في التاريخ والجغرافيا، والتي تسمى (البلاد العربية).
وأستطيع أن أُدَلِّلَ على قولي هذا بكلمة قالها “ناحوم غولدمان” رئيس المنظمة اليهودية العالمية في المؤتمر الذي عُقد في باريس سنة 1968م بأنه إذا أرادت إسرائيل أن تعيش مطمئنة في فلسطين فعليهم تفسيخ الشعوب من حولها، ثم أعطى تصورًا عن كيفية وصولهم إلى مبتغاهم، فذكر أن ذلك يكون عن طريق إقامة دويلة مارونية في لبنان ودويلة علوية في سوريا، ودويلة كردية في شمال العراق، وهذا يعني أنهم سيضربون على وتر: القوميات والعرقيات والأثنيات، وهو الذي أطلقوا عليه اسم “حقوق الأقليات”.
أليس هذا ما تعيشه منطقتنا اليوم؟
وتفنيدًا لبعض المزاعم أقول: لننظر إلى أكثر المناطق التي يُتعرَّضُ فيها للمسيحيين، كالعراق وفلسطين ومصر مثلًا: ففي العراق نحن نعلم أن المسيحيين موجودون قبل المسلمين بدهور، وقصة نبينا صلى الله عليه وسلم مع عدّاس الغلام النصراني، الذي جاءه بقطفة العنب يوم آذته ثقيف في الطائف دليل واضح على ذلك. وكان عداس من أرض نينوى قرية نبي الله يونس بن متى عليه السلام في العراق.
ثم جاء المسلمون وبنوا الكوفة والبصرة ثم بغداد، وفي كل مراحل تاريخ العراق الإسلامي ما سمعنا أن أحدًا تعرَّض للوجود المسيحي، بل كل كتب التاريخ تؤكد على أن كثيرًا من الشخصيات المسيحية كانت لها حظوة عند خلفاء المسلمين، فما الذي تغيَّر اليوم لتفجَّر كنائسهم ويُهَجَّروا من أرضهم؟ إنه الواقع الجديد الذي طرأ على العراق، إنه الاحتلال.
والأمر نفسه يقال عن الوجود المسيحي في فلسطين، فيوم تسلم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مفاتيح القدس من بطريكها المسيحي، مَن كتب لهم العُهدة العمرية التي اشترطوا لأنفسهم فيها ألا يساكنهم فيها يهود! ومن يومها ما أظن أن أحدًا تعرض للوجود المسيحي في فلسطين، بل أكثر من ذلك؛ حتى عندما احتل الفرنجة أجزاء من العالم الإسلامي متسترين بالصليب، لم يتعرض المسلمون لمسيحيي الشرق لأنهم يعلمون أن تلك الحملات لم تكن دينية وإنما كانت سياسية وتستهدف خيرات بلاد المسلمين، بل أكثر من ذلك، فكثير من مسيحيي الشرق قاتلوا مع المسلمين ضد القادمين من الغرب باسم الصليب، فما الذي طرأ لتكون هذه الهجرة المسيحية من فلسطين؟ إنه الاحتلال اليهودي الذي يدعمه النظام الغربي بكل قوته.
ويبقى الوجود المسيحي في مصر، وقد فضحت الثورة المصرية دور النظام الذي كان قائمًا بمباركة الغرب في فبركة الخلافات بين المسلمين والمسيحيين، وحادثة كنيسة القِدِّيسَيْنِ خير دليل على ذلك.
ثم عندنا الوجود المسيحي في لبنان وفي سوريا، لماذا لا يتعرض لما يتعرَّض له سائر المسيحيين في الشرق؟ لأنه لا يوجد ذلك العنصر المفَجِّر وهو الاحتلال. مع العلم أن الوجود المسيحيَّ في لبنان له امتيازات تفوق امتيازات المسلمين السنَّةَ في كثير من دولهم، وما قضية اتفاق الطائف والمناصفة في الحكم إلا ترجمةٌ عمليةٌ لإقرار أرباب السياسة السنة بهذه المعادلة، لذلك استغرب الجميع تصريحات غبطة البطرك الراعي في فرنسا والتي تخوف فيها من المدِّ السنيِّ في بلاد الشام والعراق، هذا بالرغم من الوضع المتميز الذي يتمتعون به، مع العلم أنه ليس السنَّة الذين يطرحون المثالثة في لبنان!! وإنما الذين جاء بهم النظام الذي أبدى غبطته التعاطف معه حرصًا على المصلحة والمصير!
إن لبنان في هذا البحث هو مثال حي لحالة التدخل الغربي في بلادنا باسم الأقليات، بغية إثارة الفتن والنعرات في هذه المجتمعات المطمئنة بشكل مباشر أو بواسطة الأنظمة التابعة له.
ولو انتقلنا إلى الجانب الآخر من المشكلة، وهو العداء بين أبناء الملة الواحدة، ففي العراق مثلًا يوجد عدَّة أماكن تعتبر مقدَّسة عند الشيعة، منها مرقدا الإمامين العسكريين في سامراء، وسامراء تاريخيًا مدينة سُنِّيَّةٌ ليس للشيعة فيها وجود، بناها أمير المؤمنين المعتصم لتكون مركزًا لتجميع أجناد الدولة الذين ضجت منهم بغداد، ثم اتُخِذَتْ مصيفًا للخلفاء العباسيين. وعبر تاريخ وجود هذين الضريحين كان السنة هم الذين يقومون على خدمة هذه الأضرحة، والكل يعلم أن ملكيتها تعود للأوقاف الإسلامية السنية في بغداد. فلِمَ لم يتعرض أحدٌ عبر التاريخ لهذين الضريحين؟ ولِمَ يفجَّر هذان الضريحان في زماننا؟ لأن هناك واقعًا جديدًا طرأ على المنطقة هو الاحتلال متعدد الجنسيات.
وما قلته هنا لست متفردًا به، بل وجدته عند أكثر من مرجع سياسي عند السنة والشيعة والمسيحيين على السواء، فعند الشيعة مثلًا سمعت السيد محمد حسين فضل الله يقول؛ سنة 1983 م في بيته في بئر العبد قبل أن يوضع له ذلك الانفجار المشؤوم: “هناك دول ثلاثة في المنطقة سوف تعطيها أمريكا دورًا مستقبليًا ضمن منظومة الشرق الأوسط الجديد: إيران، وتركيا، وإسرائيل”. وهذه دول قومية بامتياز، ودينية بامتياز.
وسمعت عند السنة معالي الوزير سمير الجسر، في غداء تكريمي للمكتب الدائم للحقوقيين العرب الذي انعقد عام 2011 في طرابلس يذكر ما ذكرته عن أن مشكلة المسيحيين في المنطقة سببها الاحتلال، بل وربما اقتبست من عباراته فيما أكتب، كما سمعته يعَلِّل بروز التطرف الديني في المنطقة بأنه لتسويغ التطرف اليهودي: أنه إذا كان الإسلام لا يقبل الوجود المسيحي فلن يقبل الوجود اليهودي، مما يسوغ لليهود جعل دولتهم يهودية وطرد المسلمين منها.
وهذا هو المغزى الأساس من لعبة الأقليات في منطقتنا، وهذا يعني أن هجرة المسيحيين مطلوبة يهوديًا لتسويغ يهودية دولتهم.
وسمعت الأمير حارث الشهابي – وهو من أفاضل الموارنة في لبنان – يتكلم بعمق وإسهاب عن تاريخ العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وأن التعاليم الإسلامية لم تكن يومًا سببًا لمشكلة بين المسلمين والمسيحيين، وإنما لو حلَّلْنا كل خلاف حصل تاريخيًا بينهم لوجدناه يرجع إلى عنصر خارجي.
هذا كله قيل وأكثر، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن مجموعات من المسلمين والمسيحيين على اختلاف مذاهبهم التقت مصالحها مع مصالح منظومة الـشرق الأوسط الجديد الذي يقوم على أساس عرقي ومذهبي، فاستغلوا العاطفة الدينية عند الرعاع، ودَعَمَهُم في هذا إعلام ديني وسياسي ضخم روَّج لأفكارهم ترويجًا سلبيًا، بمعنى ركّز على حالات العداء المفتعلة، وظل يبرزها ويطمس غيرها حتى ولَّد ذلك ردات فعل عند سائر المسيحيين وجدنا آثارها في مجزرة أوسلو الشهيرة عام 2011م([11]). ونجد آثارها كلما حصل خلاف بين السنة والشيعة مهما كان بسيطًا.
والواقع أن المسؤول عن هذا الشحن ليس السنة، بدليل ما يبدونه دائمًا من مرونة مع غيرهم في مختلف مناطق وجودهم، وإنما الذين قبلوا لعبة الأقليات وصدَّقوا أن الإسلام قد اضطهدهم منذ أن حكمهم، وهذا الكلام لا أقوله هباءً وإنما استنادًا إلى المعطيات على الأرض وتصريحاتهم هم.
بعيد مجزرة باب التبانة في طرابلس سنة 1986م التي ذهب ضحيتها أكثر من خمسمئة شخص، بين طفل وامرأة ورجل، على يد العلويين المحميين من النظام السوري، ما زلت أذكر أحد ضباط المخابرات السورية من العلويين الكبار في أعقاب نقاش حامٍ بيني وبينه قال لي: (أنتم حكمتمونا 1400 سنة، والآن جاء دورنا لنحكمكم 1400 سنة)، وبالتالي فإن الذين ارتضوا لعبة الأقليات يطالبون السُّنَّة اليوم بتسديد فواتير الدولة الإسلامية تجاههم على مدى أربعة عشر قرنًا.
ولو استرسلنا في الكلام لما انتهينا من ذكر الوقائع، ولكنها نماذج تضعنا أمام الأسباب الحقيقية للمشكلة، وبالتالي فمواجهتها تكون بإزالة أسباب الأزمات والرجوع بالمنطقة إلى زمن التآلف والتواد وحسن الجوار، يوم لم يكن هناك كيان صهيوني في فلسطين وسوريا ولبنان ولا احتلال أمريكي للعراق، ولا استغلال للدين من قبل تجار السياسة، كما لم يكن يومها ما يُعرَف بـ “الأقليات” التي باتت حجة كل تقسيم وسبب كل صراع.
نماذج من التسامح السني مع غير المسلمين
مع أنني لست بحاجة للتدليل على احتضاننا لغيرنا في دولتنا وتسامحنا معه، إلا أنني من باب التعريف لمن لا يعرف والتذكير لمن ينسى وإقامة الحجة على المعاند أسوق فصلًا من كتاب «من روائع حضارتنا» للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى يبين فيه مدى التسامح الذي نعم به المسيحيون في ظل الدولة المسلمة، لعل هذا الكلام يوقظ الضمير النائم، ويفتح الأعين العمياء عن الحقائق.
يقول رحمه الله تعالى:
(ومن مظاهر التسامح الديني أن كانت الوظائف تعطى للمستحق الكفء، بقطع النظر عن عقيدته ومذهبه، وبذلك كان الأطباء المسيحيون في العهدين الأموي والعباسي محل الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق زمنًا طويلًا، كان ابن أثال الطبيب النصراني طبيب معاوية الخاص، وكان (سرجون) كاتبه، وقد عين مروان (اتناسيوس) مع آخر اسمه إسحاق في بعض مناصب الحكومة في مصر، ثم بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الدولة.
ومن أشهر الأطباء الذين كانت لهم الحظوة عند الخلفاء جرجيس بن بختيشوع، وكان مقربًا من الخليفة المنصور واسع الحظوة عنده.
وكان سلمويه بن بنان النصراني طبيب المعتصم، ولما مات جزع عليه المعتصم جزعًا شديدًا، وأمر بأن يدفن بالبخور والشموع على طريقة ديانته!
وكان بختيشوع بن جبرائيل طبيب المتوكل وصاحب الحظوة لديه، حتى إنه كان يضاهي الخليفة في اللباس وحسن الحال، وكثرة المال وكمال المروءة.
وكذلك كانت الحظوة للشعراء والأدباء لدى الخلفاء والأمراء، بقطع النظر عن أديانهم ومذاهبهم. وكلنا يعلم مكانة الأخطل في العهد الأموي.
وكان الأفراد كالخلفاء يصادقون من تروق لهم مصادقتهم بقطع النظر عن دينهم. كان إبراهيم بن هلال (الصابي) أي من الصائبة – وهم قوم من المجوس لهم ديانة خاصة بهم – قد بلغ أرفع مناصب الدولة، وتقلد الأعمال الجليلة في تقدمه الشعراء، وكانت بينه وبين زعماء الأدب والعلم من المسلمين صلات حسنة وصداقات وشيجة، حتى إنه لما مات رثاه الشريف الرضي شيخ الهاشميين العلويين ونقيبهم بقصائد خالدة.
وكانت الحلقات العلمية في حضرة الخلفاء تجمع بين مختلف العلماء على اختلاف أديانهم ومذاهبهم. كانت للمأمون حلقة علمية يجتمع فيها علماء الديانات والمذاهب كلها، وكان يقول لهم: ابحثوا ما شئتم من العلم من غير أن يستدل كل واحد منكم بكتابه الديني، كيلا تثور بذلك مشاكل طائفية.
ومثل ذلك كانت الحلقات العلمية الشعبية. قال خلف بن المثنى: لقد شهدنا عشَرَةً في البصرة يجتمعون في مجلس لا يُعرف مثلهم في الدنيا علمًا ونباهة، وهم: الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني)، والحِمْيَري الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي)، وسفيان بن مجامع (وهو خارجي صفري)، وبشّار بن بُرد (وهو شعوبي خليع ماجن)، وحمّاد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي)، وابن نظير المتكلم (وهو نصراني)، وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي)، وابن سنان الحرّاني الشاعر (وهو صابئي)، كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في ديانتهم ومذاهبهم!
ومن مظاهر التسامح الديني في حضارتنا الاشتراك بالأعياد الدينية بمباهجها وزينتها. فمنذ العهد الأموي كان للنصارى احتفالاتهم العامة في الشوارع تتقدمها الصُلبان ورجال الدين بألبستهم الكهنوتية. وقد دخل البطريرك ميخائيل مدينة الإسكندرية في احتفال رائع وبين يديه الشموع والصُلبان والأناجيل، والكهنة يصيحون: قد أرسل الرب إلينا الراعي المأمون الذي هو مرقس الجديد. وكان ذلك في عهد هشام بن عبد الملك.
وجرت العادة أيام الرشيد بأن يخرج النصارى في موكب كبير وبين أيديهم الصليب وكان ذلك في يوم عيد الفصح.
ومن الغريب أن مثل هذه المظاهر من الود ظلت حتى في الحروب الصليبية حيث كان الغرب يشن أقسى الحملات التاريخية على بلاد الإسلام باسم الصليب، وهذا هو الرحالة ابن جُبير يقول لنا في رحلته: (ومن أعجب ما يحدث أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان منهم ويقع المصاف بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض. واختلاف القوافل عن مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الأمنة على غاية، وتجار النصارى يؤدون في بلاد المسلمين ضريبة على سلعهم، والاتفاق بينهم الاعتدال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية والدنيا لمن غلب) انتهى من «رحلة ابن جبير».
وبعد، فإن التسامح الديني في حضارتنا مما لا يعهد له مثيل في تاريخ العصور الماضية، وقد أجمع المؤرخون الغربيون ممن يحترمون الحق على هذا التسامح وأشادوا به.
يقول المستر “درابر” الأمريكي المشهور: (إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيرًا من الأعمال الجسام ورقوهم إلى مناصب الدولة، حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا بن ماسويه، ولم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم، ولا إلى الدين الذي ولد فيه، بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة.
ويقول المؤرخ الشهير المعاصر “ولز” في صدر بحثه عن تعاليم الإسلام: (إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة، ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يَقِلُّ ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي عما في أية جماعة أخرى سبقتها..) إلى أن يقول عن الإسلام: (إنه مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة).
ويقول “رينو” في تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط: (إن المسلمين في مدن الأندلس كانوا يعاملون النصارى بالحسنى، كما أن النصارى كانوا يراعون شعور المسلمين فيختنون أولادهم ولا يأكلون لحم الخنزير). انتهى من كتاب «من روائع حضارتنا».
إن فيما وصلت إليه في هذا البحث كفاية لكل متبصر، وأسأل الله تعالى أن يجنب بلاد المسلمين عاديات الفتن، وأن يلهم قادة العقول الإنصاف في القول والعلم، وأن يمن علينا بالأمن والأمان ورغد العيش، نحن وسائر من يساكننا في أوطاننا إنه سميع قريب مجيب.. وآخر دعوانا أن الحمد لله تعالى رب العالمين.
([1]) – معاهدة برلين: لما قبلت روسيا عرض معاهدة سان استفانوس على مؤتمر دولي يعقد في برلين كتب البرنس بسمارك تلغرافا إلى الدول كافة يدعوهم فيه لإرسال مندوبيهم للاجتماع في يوم (12) حزيران ـ يونيه سنة (1878)م، فاجتمع المندوبون، وتناقشوا أيامًا، وكان ينوب عن الدولة محمد علي باشا وقره تيودري باشا وسعد اللّه بك. وأهم ما جاء في المعاهدة: تقسيم بلغاريا إلى القسمين: القسم الشمالي يعطى امتيازًا عاديًا، والقسم الجنوبي يمنح نوعًا من الامتيازات. وأن تستقل رومانيا استقلالًا سياسيًا ويضاف إلى بلادها مقاطعة دوبريجة، في مقابل استيلاء الروس على بسارابيا. وأن يضم إلى الصرب إقليم نيش، وأن يعطى الجبل الأسود ميناء انتيفاري وثلث الأراضي التي أعطيت له بموجب معاهدة سان استفانوس، وأن تستولي روسيا على بسارابيا التي كانت انتزعت منها سنة (1851)م، وأن يضم إلى أملاكها بآسيا قارص وأردهان وباطوم. وقرر المؤتمر أيضا أن تستولي إيران على إقليم قطور، والنمسا على فرضة أسبيزا، وأن تحتل جنودها البوسنة والهرسك إلى أجل غير مسمى. وتعهد الباب العالي أن يقبل، بلا تمييز بين دين ودين، شهادة رعاياه أمام المحاكم، وأن ينفذ النظام الذي سن لجزيرة كريت سنة (1868)م، وأن تدخل نظامات مشابهة لها في جميع القسم التركي الأوروبي بعد تحويرها إلى ما يوافق حاجة تلك البلاد. وأن يهتم الباب العالي بتنظيم بلاد الأرمن، وأن يحميهم من تعديات الجركس والأكراد، وأن يبلغ الدول من حين لآخر ما أحدثه من تلك الإصلاحات.
([2]) – دلالة مصطلح الأقليات في القانون الدولي والمعاهدات/ الحلقة الثانية http://www.gilgamish.org/2008/11/26/14224.html
([3]) – Francesco Capotorti, Study on the Rights of Persons belonging to Ethnic, Religious and Linguistic Minorities, (United Nations: New York, 1991), فلقد نشرت الأمم المتحدة عام 1991م دراسة للمقرر الخاص فرانسيسكو كاباتوري حيث تتبع تطور مفهوم الأقلية منذ عام 1930م حتى تاريخ صدور التقرير.
([5]) – لحديث ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) ويروى ((أخرجوا اليهود)) وكأنها رواية بالمعنى، ولهذا الحديث تفسيرات متعددة، والمقصود – والله أعلم – ألا يكون للمشركين كيان سياسي مستقل على غرار ما كان لليهود قبل إخراجهم من جزيرة العرب، وهو من مفهوم حديث: ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)) بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون من سلطة إلا للإسلام، لأنا وجدنا أوزاعا من يهود وغيرهم كانوا في أرجاء من الجزيرة العربية زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم إلا أنهم كانوا أجراء ومستخدمين لا مجتمعات لها استقلاليتها، إلا إذا قلنا بقول الإمام أحمد إن جزيرة العرب المقصودة في الحديث هي المدينة المنورة وما حولها، والله أعلم.
([6]) – تاج العروس من جواهر القاموس: مادة ( جلو ): 37 / 368
([7]) – مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. محمد حميد الله الحيدر آبادي. ص 176
([8]) – فتوح البلدان للبُلاذري ص 163 وكتاب الأموال لابن سلام ص 220
([9]) – مجموع الفتاوى ج28 ص618
([10]) – ينظر كتاب (الجاليات الأوروبية في بلاد الشام) للدكتورة ليلى الصباغ، 1 / 13
([11]) – أقصد بذلك المجزرة التي ارتكبها اليميني المتطرف ” اندرس بهرينج ” في شهر تموز من عام 2011م في أوسلو، والتي ذهب ضحيتها (91) شابا وشابة كانوا في مخيم أقامه القطاع الشبابي في حزب العمال الحاكم والذي ضم مجموعة من العرب والمسلمين، وقد أشارت التحقيقات إلى أن المجرم كان مدفوعا بعدائه للإسلام.