الدكتور حسين عبد الهادي آل بكر
إن الأفكار هي التي تصوغ سلوك الإنسان في التعامل مع المادة، وتؤثر في النهاية على مسيرة الحضارة؛ لأن كل تفاعل بشري مع المادة ينتج أثرًا حضاريًّا، لكنه ليس سواءً، فهناك حضارة خيرة وأخرى شريرة, وثمة حضارة مبدعة، وحضارة محدودة الإبداع والإنتاج.
والتنوع الحضاري نتيجة حتمية للتنوع الثقافي، فالثقافة هي الْمُشَكِّلُ الأساس للحضارة، ومنها ينبثقُ الأداء الأخلاقي الحضاري، فكلما كان الأداء الأخلاقي إيجابيا منسجما مع كرامة الإنسان وأمنه, متسقًا مع العدل والسلام، كانت الحضارة آمنة مستقرة ومضطردة في الارتقاء.
في سياق حديثنا عن الحضارة يمكنُ القول بأنها تقوم على عاملين اثنين: أولهما عامل مادي، وثانيهما عامل أخلاقي سلوكي قِيْمِيّ، فالحضارة تعني مجموعَ مدنيّةِ كلِّ أمة وثقافتها، ونظرًا لاختلاف الثقافة من أمة إلى أخرى استنادًا إلى الواقع المشاهد فإن لكل أمة حضارة تحمل خصائصها, وعليه فهناك مجموعة حضارات لا حضارة واحدة كما يروِّجُ مفكرو الغرب، وهي الحضارة الغربية.
إن الأداء التكنولوجي يحتاج إلى أداء أخلاقي, وحينئذٍ يكون الناتج الحضاري إيجابيًّا آمنًا, أما إذا ضعف أو غاب الأداء الأخلاقي عن الأداء التكنولوجي, فالناتج الحضاري سيكون سلبيًّا وربما مدمرًا؛ بينما إذا غاب أو ضعف الأداء المادي عن الأداء الأخلاقي، فالناتج الحضاري سيكون أحلامًا وآمالًا, ورسومًا نظرية وهمية لا روح فيها ولا حياة.
هذه حقائق ينبغي لنا أن ندركها ونعيها حقًّا، ونتعامل معها بجدية وموضوعية؛ لأنها من نواميس حركة الكون وسنن مسيرة الحياة التي اقتضتها إرادة الخالق, فالقرآن الكريم والسنة المطهرة يؤكدان ذلك ويلحان عليه, والتاريخ يشهد على ذلك ويؤيده، فهو يحدثنا عن حضارات قامت وأبدعت وفق معطيات زمانها وظروفه بَيْدَ أنَّها اندثرت وبادت لخللٍ في أدائها أو خَواءٍ في قيمها, منها الحضارة البابلية والفرعونية والفارسية واليونانية والرومانية.
يحدثنا القرآن الكريم عن قوم عاد وثمود وغيرهم ممن أقاموا حضارات وأشادوا صروحا عمرانية فريدة، بيدَ أنهم ظلموا وطغوا، وأفسدوا في الأرض؛ فانهارت دولهم، وهوت صروحهم، ولم تبق لهم باقية، يقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59] ويقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9].
إن ما ذكره القرآن الكريم ونص عليه من هلاك الحضارات بسبب الظلم والفساد واختلال الأداء هو ما يكرره اليوم قادة الحضارة الغربية وعقلاؤها، وقد قدم لنا التاريخ المعاصر شهادات كثيرة من أفواه زعماء معروفين في الشرق والغرب، وكلها تؤكد لنا أن أخطر ما يهدد المسيرة البشرية هو اختلال الأداء الحضاري, واختلال العلاقة بين عملية الإبداع التكنولوجي والأداء القيمي والسلوكي، فها هو ميخائيل جورباتشوف رئيس الاتحاد السوفياتي المندثر يقول في آخر سنوات الاتحاد: رغمَ الانتصارات العلمية والتكنولوجية نجد نقصًا واضحًا في الكفاءة في استخدام المنجزات العلمية، والأسوأُ أن هذا ليس كل ما في الأمر، فقد بدأ التدهور التدريجي في قيم شعبنا الإيديولوجية والمعنوية, وبدأ الفساد يسري في الأخلاقيات العامة… وقال: مهمتنا اليوم أن نرفع روح الفرد, ونحترم عامله الداخلي, ونعطيه قوة معنوية ليكون مستقيمًا حَيَّ الضمير, وعندما يرى الفرد كل ذلك فإن في مقدوره أن يحقق الكثير.
ويتحدث عن وضع المرأة السوفيتية فيقول: عجزنا عن إيلاء اهتمامنا لحقوق المرأة الخاصة, ولدورها أُمًّا وربَّةَ منزل، لم يعد للمرأة وقت للقيام بواجباتها اليومية في المنزل وتربية الأطفال وإضافة جو أُسْرِيٍّ طيب، لقد اكتشفنا الكثير من مشكلاتنا في سلوك الأطفال والشباب وفي معنوياتنا وثقافتنا، وهذه نتيجة متناقضة لرغبتنا سياسيًّا في مساواة المرأة بالرجل في كل شيء؛ لهذا نجري مناقشات حول عودة المرأة إلى رسالتها النسائية البحتة.
وقد عَرَض الرئيس الروسي أيضا للحديث عن الواقع المخيف للسلاح النووي في الحضارة الغربية، قال: إن الجانب الأكبر من الأسلحة النووية يتركز لدى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه فإن عشرة بالمائة بل واحدًا بالمائة من إمكانياتهما كافٍ لإنزال أضرار -لا يمكن إصلاحها- بكوكبنا وبكل الحضارة البشرية.
يا تُرَى هل نحتاج إلى تدمير الكرة الأرضية كذا مرة, وهل أصبح تدميرها هدفًا وغاية حضارية مشتركة اليوم؟ فلمصلحة من يأتي السباق النووي وغيره؟ أليس هذا من العبثية في الأداء الحضاري؟ فبدلًا من تسخير التكنولوجيا لصناعة الحياة والبناء والتنمية نجدهم يبالغون في إنتاج أسلحة الدمار الشامل على حساب لقمة الغذاء وحبة الدواء وقطعة الكساء, وعلى حساب مئات الملايين من الناس الذين يعيشون تحت خط الفقر والحرمان، إن العبث التكنولوجي هو الذي يسيطر على المسيرة الحضارية المادية اليوم، وهناك اضطراب كبير في العلاقة بين العلم والقيم.
ويحذر جورباتشوف الناس من الهلاك الذي يهددهم جميعًا، يقول: علينا ألا نسمح بغرق السفينة، فلن تكون هناك سفينة نوح ثانية([1]).
وإضافة إلى نداءات جورباتشوف نَعرِض مختارات من صرخات القارة الأمريكية، وأولها شهادة الرئيس ريتشارد نيكسون رئيس أمريكا سابقًا في كتابه “الفرصة التاريخية” حيث يقول: الجدارُ الذي يريد أن ينقضَّ إذا لم نتداركه قبل فوات الأوان فسنخسر تفوقنا الاقتصادي، وما دام عندنا أعلى معدل لارتكاب الجريمة في العالم فالحياة أصبحت في مدننا لا تطاق، إن أخطر مشكلاتنا الاجتماعية الجريمة والمخدرات, والحاجة لا تدعو إلى الدولارات بل إلى القيم([2]).
ويقول أيضا: في القرن الحادي والعشرين علينا أن نحاول تشكيل العالم سياسيًّا من خلال استراتيجية تستهدف تحقيق سلام حقيقي، وفي الوقت نفسه ينبغي ألا يغيب عنا تناول قضية البعد الروحي في الإنسان، ويقول أيضًا متهكما بالمادية المطلقة التي سار عليها الروس: ولا يسع قوة السيف في موسكو أن تهزم قوة الروح في الغرب. وذات يوم تساءل ستالين ساخرًا مزدريًا قوة الكنيسة في التأثير على أحداث العالم, قال: كم عدد الفِرَق تحت قيادة البابا؟ قال: نيكسون: إن هذا التعليق دليل على عجزه عن فهم العالم وما الذي يحركه، فالتاريخ في خاتمة المطاف تقرره الأفكار لا الأسلحة([3]).
وفي هذا السياق نُقِل عن الشاعر الهندي طاغور أنه قال لأحد مفكري الغرب وهو يحاوره: صحيح أنكم استطعتم أن تحلقوا في الهواء كالطير، وأن تغوصوا في البحر كالسمك, لكنكم لم تحسنوا أن تمشوا على الأرض كإنسان.
يقول الأديب الأمريكي جون ستاينبيك: إن مشكلة أمريكا هي ثراؤها، وأن لديها أشياء كثيرة، لكن ليس لديها رسالة روحية كافية، إننا بحاجة إلى ضربة تجعلنا نُفيق من ثرائنا، لقد انتصرنا على الطبيعة، ولكننا لم ننتصر على أنفسنا.
ويقول جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي في عهد الرئيس الأميركي أيزنهاور صاحب كتاب “حرب أم سلام” -تحت عنوان حاجتنا الروحية-: إنَّ الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي، فبدونه يكون كل ما لدينا قليلاً، وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها([4]).
وللأسف لقد غدا وضعنا الحضاري والإنساني اليوم على عكس ما أراده العقلاء والمفكرون في الشرق والغرب, فها نحن نستقبل القرن الحادي والعشرين بحرب عالمية مفتوحة الأجل والهدف, فهي تغزو وتدمر تحت مسوِّغاتٍ وشعارات وهمية.
وهكذا نجد أن شواهد التاريخ والحاضر تؤكد أن دوام قوة الأمم واستمرارية تفوقها وارتقائها الحضاري مرهون بالتكامل بين ارتقائها المادي والتكنولوجي ورقيها الأخلاقي والسلوكي، ولنا أن نقرأ مشهد الاتحاد السوفيتي الذي أبعد الدين وتوجيهاته عن نهجه السياسي والاجتماعي، وعدَّه خرافة، وأطلق عليه لقب أفيون الشعوب، فقد نجح -رغم ذلك كله- في صناعة تفوقٍ تكنولوجيٍّ وعسكري, لكنه فشل في إقامة نظام إنساني سويّ حيث عانت شعوبه القهر والجوع والإذلال والفراغ، فهوى واندثرت صروحه، وعلل قادته وحكماؤه هذا الانهيار المفاجئ بتخلفه القيمي والأخلاقي, وإهماله البعدَ الروحي والوجداني للفرد.
وأما أمريكا فقد عزلت مسيرتها عن الدين ومؤثراته الأخلاقية والروحية، وعدَّتْ ذلك شأنًا شخصيًّا لا علاقة له بمبادئ العلم والتفوق التكنولوجي، فتحولت إلى حضارة فارغة متوحشة معًا، وبدأ حكماؤها ينصحون بإعادة التوازن بين جانبي الحضارة المادي والروحي حتى تدوم وتستمر، وإلا فالنتيجة الحتمية هي ما أصاب أختها وصنوها في التنافس التكنولوجي الاتحاد السوفيتي.
وقد أشار سيد قطب رحمه الله إلى سقوط المعسكرين الواحد تلو الآخر في القرن العشرين، وحقًّا هذا ما حصل لأحدهما، وثانيهما على الطريق.
إن من أخطر التحديات التي تصيب الكيان الحضاري -سواء على مستوى الفرد أو الجماعة- أن يتحرك المجتمع في نشاطه الحضاري بعيدًا عن رصيده الروحي والقيمي، مكتفيًا بما أفرزته الحضارة من وسائل تقنية وإسهامات مادية، فهذا المنحى يؤذن بفساد الحضارة؛ لأن سيادة المبدأ الروحي والقيمي أمر جوهري لاستمرارية الكيان الحضاري عبر تقويمه ومنعه من الانحراف.
وعلينا في مشكلاتنا المعاصرة أن نعي أن التدهور الذي يصيب الحضارة لا يمكن أن تحدده التحديات التي تجابه الحضارة إبَّان مسيرتها مهما كانت نوعية ذلك التحدي، ولكن هذا التدهور مبعثه الداخل الإنساني الممزق الذي يتخلى عن الالتزام بفطرته الإنسانية وما جبل عليها من أخلاق وقيم روحية، ويكتفى بقشور النتاج الحضاري من تقنية وماديات، طارحًا أرضًا تلك المبادئَ والأسس الإيمانية أو الإنسانية التي أبرزت وصاغت ذلك الكيان الحضاري.
وأما الأمة الإسلامية التي ربطت بين حياتها بدينها ومقومات إيمانها ومؤثراته الأخلاقية والسلوكية وبين الأخذ بأسباب العلم والبحث العلمي والتطور من أجل إقامة الحياة وصون كرامة الإنسان وسلامة البيئة؛ فقد استطاعت بكل جدارة إشادة صروح شامخة من التقدم العلمي مقرونةً بسيرة حميدة من الأداء الحضاري والسلوك الأخلاقي والنهج الإنساني العادل، ويوم أن انحسرت عن ميادين الماديات والمهارات والوسائل لخللٍ أصابها في الفكر والثقافة والأخلاق تقهقرت وتراجعت، ثم ضعفت وانحسرت في تلك الميادين.
إنه رغم التخلف الذي حلَّ بأمتنا فإنها بقيت -بفضل الله ثم بفضل تمسكها بقيمها ونهجها الأخلاقي- متماسكةً حيةً، تقاوم وتدافع عن نفسها، وتصر على الحياة والاستمرار، وها هي اليوم بصحوتها المباركة تحاول الانبعاث والتغيير من جديد، وقد بدأ الوعي بحقيقة أزمتها وأسباب تخلفها، وبدأت تعالج الخلل الطارئ على مفهوم العلاقة بين العبادات الروحية والشعائر التعاملية وبين رسالتها في الحياة وحق النداء الرباني {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] هذا النداء الذي يؤكد أن رسالة الإسلام هي إقامة الحياة حيث يقول سبحانه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، إن الأمة اليوم تدرك من جديد أن عمارة الأرض تكليف رباني، وأن القيام به واجب تعبدي، وعلى أساس هذا الفهم اكتُشِفَتْ أسباب تخلف الأمة.
إن أي خلل يصيب التكامل والتلازم بين العبادات الروحية والعبادات العمرانية في دين الله إنما هو خلل في التعامل مع دين الله، وخروج عن النهج الصحيح لرسالة الإسلام، فهو سببٌ جذري لانتكاسة خيرية أمة الاسلام، وعلةٌ أساسٌ لانحسار أُنموذجها الحضاري الوسطي بين الأمم، وتعطيلٌ لمهمتها في الشهود الحضاري على الناس؛ لأن عدم التكامل والتلازم هو مصدرٌ أساسٌ لتشكُّلِ حالةِ الغُثائية المؤلمة التي تعاني منها أمتنا اليوم.
وهناك أمر آخر مؤسف، ألا وهو تعطيل الكفاءات والمهارات والمواهب في ميادين الحياة، وهو إفراز طبَعَيٌّ لحالة الغفلة عن واجبات العبادة العمرانية، والسبب في ذلك هوس ونزعة غريبة لاتهام الذات أو الآخر لتسويغِ حالة التخلف التي نعاني منها: بدءًا باتهام الذات بالبعد عن الله، وصولًا إلى هوس التفسير التآمري لما تمر به الأمة اليوم.
لا بد أن نتحرر من الهوس والإسراف في جلد الذات واتهام الأمة بإيمانها، فهذا شرط أساسٌ للنهضة والتفكير الحضاري، أما المؤامرة فلا أحسب عاقلًا خبيرًا بواقع الصراع المحموم بين الأمم ينكر وجود المؤامرة وفعلها السلبي في حياة المجتمعات ومصالحها، وإنما الأمر المستنكر المرفوض هو الهوس والغلو في ظاهرة التفسير التآمري، الذي يلجأ إليه بعضهم بغية إراحة أنفسهم من آلام الأمة وتحرير ذواتهم من المسؤولية.
إن منهج الاستخلاف في الأرض قوامُه العلم والعمل، فإذا قام التوازن الدقيق بينهما قام المنهاج الصحيح لعمارة الأرض، وقامت الحضارة الآمنة العادلة.
([1]) باختصار من كتاب البيريسترويكا: الرئيس الروسي ميخائيل جورباتشوف، ص: 9 – 18، 29، 138 – 272.
([2]) الفرصة التاريخية: الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، ص 259، 168 – 267.
([3]) نصر بلا حرب: الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ص 325، 331، وانظر أيضا: الإسلام والنظام العالمي الجديد للدكتور حامد الرفاعي.
([4]) انظر بحث “حاجة البشرية إلى الرسالة الحضارية لأمتنا الإسلامية، هل حققت الحضارة الغربية السعادة؟” للدكتور يوسف القرضاوي.