الحمدُ للهِ اللطيفِ الخبيرِ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ نبيِّ الرحمةِ ومعلِّمِ البشريَّةِ وعلى آلهِ وأصحابهِ الأطهارِ الأبرارِ، وبعدُ:
فإنَّ الإسلامَ العظيمَ أقرَ حقوقاً للإنسانِ على اختلافِ منزلتهِ الاجتماعيَّةِ ومكانتهِ الأسريَّةِ، وكلُّ هذهِ الحقوقِ قائمةٌ على أساسِ العدلِ، والحقوقِ والواجباتِ، ومن جُملةِ تلكَ الحقوقِ حقوقُ الأسرى والمسجونينَ، فالشريعةُ الإسلاميةُ جعلتْ لهم حقوقاً تحقيقاً لإنسانيةِ الإنسانِ، قالَ الله تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} وقرَّرَت الشريعةُ أنَّ الحبسَ وإنْ كانَ عقوبةً فالهدفُ منهُ الإصلاحُ وإعادةُ التأهيلِ، وليسَ التشفيَ والانتقامَ، وجعلتْ للسجينِ حقوقاً في المرافعةِ والدفاعِ وزيارةِ الأهلِ والتعلُّمِ والرعايةِ الطبيةِ الكاملةِ إلى جانبِ حقوقٍ أخرى تُعدّ من مزايا الشريعةِ الإسلاميةِ في رعايةِ الحقوقِ، ممَا جعلَ العقوبةَ محصورةً في الشخصِ المخطئِ، فلا تتجاوزُ إلى غيرهِ من أهلهِ وأقاربهِ.
ولا يخفى أنَّ نظامَ الأسدِ المجرمَ المُتنكِّرَ لكلِّ القيمِ الدينيةِ، والخارجَ على كلِّ الأعرافِ الإنسانيةِ، والمتمرِّدَ على كلِّ المواثيقِ الدوليةِ، لا يقيمُ أيَّ اعتبارٍ لحقوقِ المعتقلِ والسجينِ، فالاعتقالُ تعسفيٌ، والتُّهمُ ملفّقةٌ تُنتَزَعُ تحتَ التعذيبِ، ودوائرُ القرابةِ والصداقةِ كلُّها يمكنُ أنْ يُنالَ منها بسببِ شخصٍ مطلوبٍ، والقوانينُ جمِّدتْ بسببِ حالةِ الطوارئِ المفروضةِ على البلادِ منذُ عقودٍ، والمحاكمُ خاصَّةٌ واستثنائيةٌ، والمفقودونَ داخلَ سجونِ النظامِ ومعتقلاتهِ أكثرُ من المعلومينَ، وزادَ على ذلكَ التعسفُ في المعاملةِ والتجويعُ والتعذيبُ البدنيُّ والنفسيُّ، وتفشي بعضِ الأمراضِ فيما بينَهم، كالسلِّ والجربِ وفقرِ الدمِ والهزالِ الشديدِ، ممَّا أدَّى إلى ضعفِ مقاومةِ أجسامِهم، فجعلَهم فريسةً سهلةً لكلِّ الأمراضِ، وقدْ رأى العالمُ بأسرهِ الصورَ التي سرَّبَها الشهيرُ (بقيصر) لبقايا أجسامٍ بشريةٍ ماتتْ جوعاً وتعذيباً ومرضاً داخلَ السجونِ وأقبيةِ أجهزةِ المخابراتِ، وممَّا هوَ مسلَّمٌ بهِ أنَّ عددَ هؤلاءِ السجناءِ الذينَ لم يُسجَنوا لأسبابٍ جنائيةٍ يبلغونَ عشراتِ بل مئاتِ الآلاف.
إنَّ المعتقلينَ في السجونِ السوريةِ يعانونَ من بيئاتٍ صحيةٍ معتلَّةٍ، فمنْ ذلكَ حشرُ العددِ الكبيرِ منهُم في أماكنَ ضيَّقةٍ ممَّا يُضطرَّهم إلى التناوبِ بينَ القيامِ والقعودِ والنومِ، وهذا لا يجهلُه أحدٌ من منظماتِ حقوقِ الإنسانِ في العالمِ، وتمَّ توثيقُ ذلكَ بشهادةِ المئاتِ من المعتقلينَ السابقينَ الذينَ أُفرجَ عنهم، إضافةً إلى تكتُّمِ النظامِ عن الاعتقالِ ومكانِ وجودِ المعتقلِ، وحجبِ معرفةِ ذلكَ عن ذوي المعتقلِ، فلا علمَ لهم بحياتهِ أو موتهِ، فضلاً عن السماحِ بزيارتهِ، ممَّا يسببُ عقوبةً نفسيةً ومعنويةً على ذوي المعتقلِ من أبوينِ وزوجةٍ وأبناءَ وأقاربَ وأصدقاءَ، ويترتَّبُ على ذلكَ تعطُّلُ كثيرٍ من الأحكامِ وضياعُ كثيرٍ من الحقوقِ.
قد اجتاحَ وباءُ (كورونا) منطقتَنا، ولا شكَّ أنّهُ وصلَ إلى سوريا، وإنْ كانَ النظامُ يتكتَّمُ على ذلكَ، وفي مثلِ هذهِ الأحوالِ والظروفِ يكونُ هؤلاءِ السجناءُ أكثرَ عُرضةً للإصابةِ بهذا الوباءِ إذا انتقلَ إلى أحدِهم خطأً أو عمداً، ونقلتْ بعضُ وكالاتِ الأنباءِ خبرَ وصولِ هذا الوباءِ إلى المعتقلاتِ وحصولِ بعضِ الوفيِّاتِ، وحيالَ هذا الهاجسِ المشروعِ لأبناءِ شعبِنا يبيِّنُ المجلسُ ما يلي:
أولاً: يناشدُ المجلسُ المجتمعَ الدوليَ وكلَّ المنظماتِ الدوليةِ والحقوقيةِ المعنيَّةِ بالتدخُّلِ والضَّغطِ على النظامِ السوريِّ لأجلِ الإطلاقِ الفوريِّ لسراحِ السجناءِ، ومعرفةِ أعدادِهم وأسمائِهم وتُهمِهم وأحكامِهم، والمراقبةِ المستمرَّةِ للسُّجونِ وتحسينِ ظروفِ الاعتقالِ، ومراعاةِ ما ضمِنتُه الشرائعُ الدينيَّةُ والمواثيقُ الدوليَّةُ لهؤلاءِ، ومعاقبةِ المنتهكينَ لحقوقِهم وإدراجِهم ضمنَ قائمةِ المطلوبينَ بتُهَمِ الجرائمِ ضدَّ الإنسانيةِ.
ثانياً: يُهيبُ المجلسُ بكلِّ السجناءِ السابقينَ أنْ يفضحوا النظامَ المجرمَ، ويوثِّقوا جرائمَه بشهاداتٍ حيّةٍ بوسائلِ الإعلامِ المختلفةِ، وفي المحاكمِ الدوليةِ، وأنْ يرفعوا دعاوى قضائيةً على كلِّ من ثبتتْ مشاركتُه في التعذيبِ وانتهاكِ حقوقِ المعتقلينَ.
وفي الختامِ إنَّ هذا النظامَ المجرمَ هو الوباءُ الحقيقيُ على شعبِنا، فهوَ الذي قتلَ مئاتِ الآلافِ، وسجنَ وشرَّدَ الملايينَ، فلا خلاصَ لشعبِنا إلا بإسقاطهِ ومحاكمةِ مجرميهِ، ومنْ نجا منهم من محاكمةِ الدُّنيا فلنْ ينجوَ من محاكمةِ الآخرةِ في يومٍ قال عنه تعالى شأنهُ {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} نسألُ اللهَ الرحيمَ الكريمَ أنْ يكونَ لإخوانِنا المعتقلينَ حافظاً ومعيناً وأنْ يفكَّ أسرَهم ليعودوا إلى أهلِهم سالمينَ غانمينَ مأجورينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
المجلسُ الإسلاميُّ السوريُّ
27 رجب 1441 هــ الموافق 22 آذار 2020م