المحن والابتلاءات بين العدالة الإلهية والمسؤولية الإنسانية
سبتمبر 14, 2020
فقه الموازنة والأولويات في التشريع الإسلامي وبعض تطبيقاته المعاصرة
سبتمبر 14, 2020

لا تصنع أعداءك بنفسك “خَطَواتٌ آمنة نحو التَّغافُر”

تحميل المقالة كملف PDF

د. عماد كنعان

إن المرء بحاجةٍ لا ترتوي إلى أن يَضُخَّ دَمًا جديدًا في ترانيم روحِهِ المستبشرةِ خيرًا وقَلْبِهِ المتوجِّسِ فَزَعًا، وذلك حِفْظًا لِنَفْسِهِ من أن تَشِيْخَ فَتَضْعُفَ فَتُمْسِيَ حياته مرتعًا لضروبٍ من الأوجاع المضنية والهواجس المقلقة، فإن من لا يتقدَّم يَتَقَادَم، ومن يَتَقَادَمُ يستغنى عنه، وإن من لا يتجدد يتبدد، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، وأنفس من هذه الحكم نُصْحُ صاحب الشريعة الخاتمة صلى الله عليه وسلم للحسن البصري رضي الله عنه لما رآه في منامه فقال له: يا رسول الله عِظْنِي قال : ((من استوى يوماه فهو مَغْبُون، ومن كان غَدُهُ شَرًّا من يومه فهو مَلْعُون، ومن لم يتعاهد النُّقْصَانَ من نفسه فهو في نُقْصَان، ومن كان في نُقْصَانٍ فالموتُ خيرٌ له))([1]).

نُقطَةُ البداية:

إن سياسة (صفر مشاكل مع الآخرين) نظريةٌ غير منطقيةٍ محالٌ تطبيقها، أمَّا منهج: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: ٣]، فهو نهجٌ رشيدٌ حَيٌّ قابل للممارسة؛ إذ إنه طالما أسفرَ عن غِلَالٍ مثمرةٍ مُذهلةٍ من خلال تجديده للتآخي الهَرِمِ، أو بترويضه للذِّئابِ الضَّاريةِ حتى غدت بإذن ربها حارسةً للحرمات راعيةً للمعروف، أو أنها صارت في أقل تقديرٍ أليفةً وديعةً تتحاشى تَمَثُّلَ خَسِيسةِ الطعن في الظهر وتحرِّيَ سجيةِ التربُّصِ بالآخرين الدَّوائر.

إننا في ظلال منهج الوحيين على مشارف الولوج إلى رياض أَنْفَسِ تربيةٍ إنسانيَّةٍ عرفتها البشرية جمعاء، تلكم التي كان من قطافها الطيَّبَةِ المباركةِ ولادةُ أُمَّةٍ مَكِيْنَةٍ، أَنْبَتَتْ أبناءها على ثقافة التغافر، وأنشأتهم على قيمة {رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} [الفتح: 29]، ثُمَّ أفْضَوا إلى ما عملوا حاملين في جَنَبَاتهم الطاهرة –رضي الله عن سلفهم وخلفهم- قلبًا ينبِضُ بِحُبِّ الله وخَلْقِه كلما نَبَضَ، ويسكن على حُبِّ الله وخَلْقِهِ إذا ما سَكَن.

إنّ من أسرار السعادة أن يكتشف الإنسان نفسه، وأجمل شيء في هذه الحياة أن يعرف الإنسان قيمته ومكانته لكي يكنَفَه السقف الذي يعيش تحته، فعندما تكتشف نفسك وداخلك وما تشعر به فأنت قد حقَّقت نصف متطلبات النجاح في التعامل مع الناس، فالإنسان عندما يعرف قيمته بين الناس تنتج عن ذلك تصرّفات تطابق المكانة التي يعيش فيها من ناحية الأسلوب والتعامل والكلام الذي يتكلَّمهُ مع الناس.

إن ثقافة التغافر والتراحم والتسامح كانت إحدى سبل التربية الإسلامية المجيدة لحفظ الحياة الإنسانية من انتشار الجرائم وتوسع المشكلات؛ ومردُّ ذلك إلى أن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لتجذير فرص التعايش بين الخلق كافة عبر أحكام ضابطة لمنظومة الحقوق والواجبات، وأن شعار النبوة الرئيس لحامل الرسالة الخاتمة صلى الله عليه وسلم هو: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))([2])، وأن الإنسان جُبل على الولوج في دياجير الخطيئة على تباين أضرارها وتفاوت أدرانها.

هذا، وإن قلوب المؤمنين أُنُفٌ على سجية الفطرة، لا تحمل الحقد القديم ولا تمسك السخيمة، وقد كانت العرب في الجاهلية يأخذ بعضهم بعضًا بالأوتار والثأر، فلما جاء الإسلام حث على العفو والصفح، ووضع الدماء التي لم يدرك بها ثأر، وألف القلوب ونفى شح النفوس وغسل الأحقاد والذُّحُول، فصارت العداوة سِلمًا والبِغْضة حبًّا.

وسوف تعالج الأطياف النورانية القادمة الملامح الرئيسة التي توثق معايير تحلي أبناء الأمة المسلمة بأعلى درجات الدفع بالتي هي أحسن، ومبادئ تحقيقهم لأدق معايير الجودة التي وصفتها نظريات الأخلاق القديمة والمعاصرة عند حديثها عن مقومات المجتمعات الإنسانية المتآلفة المتعاضدة وأسسها.

الخَطوَةُ الأول: حكمة درء المفاسد

أحدث ما خلصت إليه التربية المعاصرة التي أُنفقت فداء مبادئها جهود جبارة ومبالغ طائلة، ونهضت بها مؤسسات دول متقدمة للغاية، وإنَّ شهْد نفعِها لَيُختصر بهذه العبارة: (توظيف مبادئ التربية في الإصلاح الاجتماعي)؛ وذلك أنَّ محور العملية التعليمية التعلُّمية المعاصرة هو المتعلم أي الإنسان، وإن تلكم الرؤية الثاقبة للتربية المعاصرة هي شهد بعض أحاديث التربية الإسلامية الرشيدة ونصائحها وتوجيهاتها؛ ولهذا ضُمِّنَتْ صفحات التراث الإسلامي العديد من نفائس اللطائف وآيات النفحات وغرائب المبادرات، فالسَّابر لأغوارها المستبصر في إبداعاتها يقع له من الخير كثير طيب يعود على قلبه وعقله وجسده بالطمأنينة والحكمة والعافية.

ونجتهد رأينا في أن نختار من كنوز رياض كتب التفسير على هدي ولوجنا في مطالعة موضوع: مرض فساد السرائر بإضمار شرور الضغائن؛ وقفات مع رأي أهل التفسير في تبيان نهي الله تعالى المؤمنين عن ذنب الَلَّمْز للغير: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} [الحجرات: ١١].

إن الآية نزلت في صَفِيَّةَ بنت حُيَيٍّ أم المؤمنين رضي الله عنها إذ أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يَقُلْنَ لي يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: ((هَلَّا قلت: إن أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي مُحَمَّد عليهم السلام))([3])، ويوضح البيضاوي فقه الآية قائلًا: ( {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}: أي ولا يغتب بعضكم بعضًا، فإن المؤمنين كنفْس واحدة، أو لا تفعلوا ما تُلمَزون به فإن من فعل ما يستحق به اللَّمْزَ فقد لَمَزَ نفسه)([4]) فالمرء في أثناء تتبعه عورات النَّاس يلتقطها هو من يدفعهم من حيث لا يدرك إلى أن يبذلوا قصارى جهدهم في تقصي أهم عيوبه لإشاعة خبرها بين النَّاس، قال رسول الله r: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين ولا عثراتهم؛ فإنه من يَتْبَع عثرات المسلمين يَتْبَعِ الله عثرته، ومن يَتْبَعِ الله عثرته يفضحه الله وإن كان في بيته))([5]) وهذا أبو الطيِّب الْمُتَنَبِّي يقول في هذا الصدد موضحًا أخطار معاداة النَّاس بسبب استعدادهم المستديم للردِّ على الإساءة بالمِثْلِ بل بأكثر:

والظُّلمُ مِنْ شِيَمِ النُّفوسِ فإن — تَجِدْ ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ

وأجمع أهل العلم على أن من تتبع في أَحَدٍ عيبًا وجده لأنه لا عصمة لأحد عن لَمَمِ الذنوب وصغائر العيوب، وإن مقتل المرء يكمن في تسليط السيوف الجائرات على جِيْدِهِ الأعزل، يقول الباهلي محذرًا من نَيْرِ مبادرة النَّاس بالعداء:

مَقالَةُ السوءِ إِلى أَهلِها — أَسرَعُ مِن مُنحَدَرٍ سائِلِ

وَمَن دَعا النَّاس إِلى ذَمِّهِ — ذَمُّوهُ بِالحَقِّ وَبِالباطِلِ

الخَطوَةُ الثانية: نحن مع الحاقدين بين خيارين!

في علم النفس المعاصر نظريات سلوكية تم رَوْزُ مبادئها وقياسُها بعناية فائقة أثبتت جدوى لا تغطي شمسها كل غرابيل الدنيا، تقول تلكم المدارس النفسية: (التعامل مع النفس البشرية يحتاج إلى أن نضع الخيار الثاني قبل الأول، وأن نخطط بالانتقال إلى الخيار الثاني قبل البدء بالأول، وذلك لأن هذا الخلق العجيب “الإنسان” يصبح فرِحًا ويمسي مكتئبًا، ويبدأ مستبشرًا ويختم نادمًا، إنها النفس البشرية التي قُدَّت من الطين باختصار شديد).

وفي هذا المقام لا بد من الحديث عن قوم يعيشون فيما بيننا، ويُطَوِّفون آمنين على ضفاف أفراح آمالنا، نحسبهم في أحايين كثيرة قِبْلَةً لنجاحاتنا وحَاْضِنَةً لطموحاتنا، قد نفشي لهم أدقَّ الأسرار، ونطلعهم على تفاصيل المشاريع كافة، غير أنهم اختاروا – ردَّهم الله الحليم إلى جادة الحق القويم – أن يحملوا في جنباتهم قلبًا قد غدا وَكْرًا لمختلف ظنون السوء ونيات الإضرار بالنَّاس الآمنين، نعم يحتمل أننا في يوم ما أخطأنا في حقِّهم عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ فَمَسَّهُم منَّا ظلمٌ مبينٌ؛ لذا نؤكد حقيقةً مفادها أنه “ومن ذا الذي تُرْضىَ سجاياه كُلُّهَا، ومن نال العصمة غير صاحب النُّبُوَّةِ الخاتمة! وما أحسن ما رواه ابن عباس عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((إن يَتْبَعِ اللَّهم يَتْبَعْ جَمَّا — وأيُّ عبدٍ لك لا أَلَمَّا)) ([6])

وهذا طبعًا احتمال أَوَّلُ نطرحه، وفيه يكمن موضع الشاهد فيما أسلفنا من تبيان رأي العلماء في آية اللَّمْز إذ إننا مجبولون على خصائص البشر قاطبة، فنحن نجوع فنأكل، ونعطش فنشرب، وننعس فننام، ونحبُّ فنعطي، ونكره فنعادي، فإن كان قد نزل بإخواننا ضرر نحن مصدره فإن قواربنا -بإذن ربها- قد آبت إلى شطآنها ورست عند أمر رُبَّانِهَا، فها نحن نعلن التوبة إلى الله تعالى بعدما علِمنا ببشارة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: ((إن الله عز وجل يَبْسُطُ يده باللَّيل ليتوب مُسِيءُ النَّهار، ويَبْسُطُ يده بالنَّهار ليتوب مُسِيءُ اللَّيل حتى تطلع الشمس من مغربها))([7]).

فإن كان الخالق تباركت أسماؤه صاحب المِنَّة العظيم يغفر ما فَرَّطْنَا في جَنْبِه، فلماذا لا يَتَخَلَّقُ الحاقدون على إخوانهم بأخلاق رَبِّهِم ويتأسوا بشمائل نَبِيِّهِم، فيمنحونا فرصة سانحة لنجدد العهد معهم على ما يرضي الله ورسوله، مستفيدين من تجاربنا السابقة التي ندمنا عليها بصادق الأسف، وتحوَّلنا عنها براسخ العزيمة، فبانت مِنَّا بذلك بينونة كبرى، لا رَدَّها الله إلينا نَزْلَةً أخرى.

ونحن أيضًا في احتمال آخر راجحٍ غيرِ مَرجُوحٍ في الغالب يوضح ملامح علاقتنا مع أصحاب القلوب المتخمة بالشحناء على النَّاس، وهو أنه قد لا يكون في ذات يوم ما أصابهم مِنَّا أدنى أذى يُذْكَر، بل إن تاريخنا معهم نظيفٌ، وضمائرنا تجاههم بِيْضٌ نَاصِعَاتٌ، فالعيب ليس في الماء أي في روائع مبادراتنا لكسب وِدَادِهِم بل في الإناء الْمُثَلَّم أي في نفوسِهم المعتلة بداء البغضاء الفتَّاك.

إن الحاقد إنسانٌ مريضٌ بداءٍ عضالٍ يملي علينا أن نضعه تحت المراقبة المستمرة على مدار الأربع والعشرين ساعة، ومن المستحسن أن لا نطمئنَّ إلى سكونه بانصرافه الآنيِّ عن تعكير صفو أيامنا وتواريه الْمُقْلِقِ عن تقويض أُنْسِ ليالينا، لأنها قد تسبق ذلك الهدوء الافتراضي عواصف كَيْلِهِ علينا جَامَ ضررِه وسَوْمَ غيظِه.

الخَطوَةُ الثالثة: الخطة العلاجية الأَمْثَل

همس أحد خبراء علم النفس في أذن تلميذه المتدرب بعد أن استفزه أحد المراجعين من المعتلين نفسيًّا قائلًا: (الجراحة النفسية الدقيقة أخطر من الجراحة العضوية الدقيقة، فالمريض العضوي مخدَّر مستسلم، والمريض النفسي مستنفر مستَعِر).

إن الخطة العلاجية الأَمْثَل لإدارة أخطار معاملة هذه الفئة من النَّاس من ذوي الإنذار المرضيِّ السَّيء والسلوكيات ذات الدلالة السلبية تتمثل في مرحلتين رئيستين:

ينبغي أن نَشْرَعَ أولًا ببذل الإحسان إليهم، وذلك اجتهادًا منا في تطبيق أمر ربنا تبارك وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: ٣٤]، فإن وفِّقْنَا بفضل ربنا سبحانه وبكريم تحنانه علينا، فأخلصنا النية فيما عزمنا عليه من رَأْبِ الصَّدْعِ ولَمِّ الشَّمْلِ، وقدَّر الله لهم العُدُول عن خُبْثِ طواياهم إلى طُهْرِ خَبَاياهُم، فذلك فضل الله وَحْدَهُ يؤتيه من أَحَبَّه، وبهذا نكون قد تحللنا من رِبْقَةِ الإِمَّعِيَّةِ التي نهينا عن الولوغ في أَتُّونِ قِدْرِهَا الْمَشُوْبِ بالرُّعونة والسلبية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكونوا إِمَّعَةً، تقولون: إن أحسن النَّاس أحسنَّا، وإن ظلموا ظَلَمنا، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إنْ أحسن النَّاس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تَظلِمُوا))([8]).

المرحلة الثانية في عملية الاستشفاء التي ينبغي أن يخضع لها المصابون بداء الحقد البغيض: تقديم النصح لهم ضمن ضوابط اختيار الزمن المناسب والمكان الملائم والأسلوب الصحيح، قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: ٣] هذا مع دعم مبادراتنا تلكم بالإحسان إليهم بهدية منتخبة بعناية أو دعوة طعام أغدق عليها الداعي وأحسن فيها الطاهي:

أَحْسنْ إلى النَّاس تَسْتَعبدْ قلوبَهُمُ — فلطالما اسْتعْبَدَ الإنسانَ إحسانُ

وإن من أحسن النصح أن نُذَكِّرُ إخواننا بعظيم أثر القلوب الزكية في دنيا الإنسان وآخرته، مؤكدين لهم (أن الخصومة إذا نَمَتْ وغارت جذورها، وتفرَّعت أشواكها، شَلَّتْ زهرات الإيمان الغضِّ، وأَذْوَتْ ما يُوحِي به من حنان وسلام، وعندئذ لا يكون في أداء العبادات المفروضة خير، ولا تستفيد النَّفس منها عصمة، بل كثيرًا ما تطيش الخصومة بألباب ذويها، فتتدلَّى بهم إلى اقتراف الصغائر المسقطة للمروءة والكبائر الموجبة لِلَّعْنَةِ، وعين السُّخْطِ تنظر من زاوية داكنة، فهي تَعْمَى عن الفضائل وتُضَخِّمُ الرذائل، وقد يذهب بها الحقد إلى التخيل وافتراض الأكاذيب، وذلك كله مما يَسْخَطُهُ الإسلام ويُحَاذِرُ وقوعه، ويرى منعه أفضل القربات)([9])، وعن عبد الله بن عمرو، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي النَّاس أفضل؟) قال: ((كل مَخْمُومِ القلب، صدوق اللِّسان))، قالوا: (صدوق اللسان نعرفه، فما مَخْمُوم القلب؟) قال: ((هو التقيُّ النقيُّ، لا إثْمَ فيه ولا بَغْي، ولا غِلَّ ولا حَسَدَ))([10]).

وما أجمل أن نقصَّ عليهم على سبيل المثال قصصًا رائعةً من فيض الوحيين، وذلك نظير قصة الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أنس بن مالك قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يطلع الآن رجل من أهل الجَنَّة)) فطلع رجل من الأنصار تَنْطِفُ لحيته ماء من وضوئه، مُتَعَلِّقٌ نَعْلَيْهِ في يده الشمال، فَلَمَّا كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجَنَّة)) فطلع ذلك الرجل على مثال مرتبة الأولى، فَلَمَّا كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجَنَّة)) فطلع ذلك الرجل على مثل مرتبة الأولى، فَلَمَّا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم اتَّبعه -اتَّبَعَ الصحابيَّ سعدَ بن أبي وقاص الْمُبَشَّرَ بالجَنَّة في هذه القصة- عبدُ الله بن عمرو بن العاص فقال: إني غاضبت أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليال، فإن رأيت أن تؤيني إليك حتى يَحِلَّ يميني فعلت، قال: نعم، قال أنس: فكان عبد الله بن عمرو يحدِّث أنه بات معه ليلة أو ثلاث ليالٍ، فلم يره قام من الليل ساعة، غير أنه إذا انقلب إلى فراشه ذكر الله عز وجل وكَبَّرَ حتى يقوم لصلاة الفجر، فَيُسْبِغُ الوضوء، قال عبد الله: غير أني لا أسمعه يقول إلا خيرًا، فَلَمَّا مضت ثلاث ليالٍ كدت أَحْقِرُ عمله، قلت: يا عبد الله، إنه لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات في ثلاث مجالس: ((يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجَنَّة))، فطلعت أنت تلك الثلاث مرات؛ فأردت آوي إليك، فأنظر عملك، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فانصرفت عنه، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي غِلًّا لأحد من المسلمين، ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله بن عمرو: وهذه التي بَلَغَتْ بك، وهي التي لا يُطَيْقُ مُطِيْقٌ»([11]).

الخَطوَةُ الرابعة: مصدر المعاملة الأَخَوِيَّة المَنْهَجُ

كَتب على لوح جداري خشبي يركنه في غرفة أبنائه: (الأزهار التي تتبع الشمس تفعل ذلك حتى في اليوم الغائم) فعلينا في ضوء توجيهات مدارس التربية وعلم النفس المختلفة أن لا نفقد البوصلة في الأزمنة التي تكثر فيها الكثبان الرملية.

إننا في خضم غمار تجارب التواصل مع الناس نمرُّ بعوزٍ لا ينكره إلا جاحد زنيم أو مُضلَّل مسكين، فعلينا أن نفقه أسرار المعاملة الأخوية في المنهج الإسلامي المكين، وإن تلكم المعاملة الأَخَويَّةَ بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين قد تلقَّفها الرعيل الأول في مدرسة النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم من مصدرين مكينين مُحْكَمَين:

أحدهما عمل النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم الذي كان قرآنًا يمشي على الأرض، فانظر في هذا الموضع أخلاق النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم عامة، وقارن بها أخلاق أصحابه خاصة، لتجد أن هذا النهر من ذلك النبع، وأن العبق الفوَّاح الذي أبهر العقلاء مصدره حدائق الأزهار النَّبَوِيَّةُ العطرة، وكيف لا يستقيم هذا الاستنتاج وأنت تقرأ مبادرات أبي بكر، ومقابلات عمر وربيعة في ظلال هذا الحديث النبوي الشريف: ((اللهم إنما مُحَمَّد بشر، يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدًا لن تُخْلِفَنِيهِ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارةً، وقُربةً تقرِّبُهُ بها إليك يوم القيامة))([12]).

والآخر قد انبثق من خلال بناء فكري رصين تعهَّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم به أصحابه، فقد دأب يرعى بذرة الخير فيهم، وما كان يبرح أن يسقيها من كنوز معرفته، ويهذِّبها بلطائف رحمته، ومن قبيل ذلك ما كان يقصُّهُ عليهم من أخبار الأولين، ففي روائع القصص النَّبَوِيَّةِ التاريخيَّةِ دروسٌ نافعةٌ وعِبَرٌ مُحْكَمَةٌ، تحكي لنا عن جمهرة الأخيار من النَّاس المترفِّعين عن اللُّهاث وراء عرض الحياة الدنيا في سبيل المحافظة على محبة إخوانهم، وتشتمل تلكم القصص على وصفاتٍ صحيةٍ تُمَثِّلُ ضامنًا نوعيًّا لعدم وقوع الحقد بين الإخوان على بعضهم، من ذلك أن التسامح في البيع والشراء – وهكذا ما شاكله من ضروب المعاملات بين النَّاس – يأتي بمنزلة حصنٍ منيعٍ يقطع رأس مَفْسَدَةِ الضغناء التي طالما سَخَّرتْ شهوةَ التملك الْمُنتنةِ سبيلًا لتقويض حلقات التآخي ووشائج القربى بغية تبديد أواصر التراحم والتعاطف والتعاضد بين المؤمنين، روى أبو هريرة عن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم قوله: ((اشترى رجلٌ من رجلٍ عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد ؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدَّقا))([13]).

وإذا ما عادَتْ بِخُفَّي حُنَيْن كلُّ جهود مبادراتنا المخلصة لإصلاح ذات البين فيما بيننا وبين من حمل لنا في قلبه كرهًا مستعصيًا على النسيان، وأسفرت محاولاتنا الشاقة من أجل تعريفه بخطر الحقد الدفين في صدره على نفسه أولًا وعلى إخوانه ثانيًا، فإننا -والله أعلم- في حِلٍّ من تواصلنا الخاصِّ جدًّا معه، ذلك الذي فرضته علينا حَمِيْمِيَّةُ القربى أو جُغْرَافِيَّةُ الجوار أو مَوَاطِنُ كسب الرِّزق أو أسباب اجتماعية وإنسانية أخرى دافعة، وذلك مع واجب المحافظة على حقوق أُخُوَّةِ الإسلام معه التي من جملة أخلاقياتها المفروضة ما يبينه قول أُسوتنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم ست)) قيل: (ما هُنَّ يا رسول الله؟)، قال: ((إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاكَ فأجبه، وإذا استنصحكَ فانْصَحْ له، وإذا عطس فحمِدَ الله فَشَمِّتْهُ، وإذا مرض فَعُدْهُ، وإذا مات فَاتَّبِعْهُ))([14]).

وهُنَا نُقطةُ النهايةِ:

إن ثقافة الدفع بالَّتي هي أحسن تقف وراءَ تبنِّيها قلوبٌ عامرةٌ بالإيمان حَيَّةٌ بمحبة الخَلْقِ، فهي تمثِّلُ الدواء الطبيعي الآمن في الدارين لمواجهة سموم القوم الحاقدين، ونحن نجدها تتجلى في أبهى صورها إشراقًا في سيرة السلف الصالح([15])، فإننا نلحظ أصحاب القلوب الكبيرة اليقظة لأخطار إشاعة العداوة والبغضاء بين المؤمنين يتسابقون في مشاهد آسرة يحصد المرء من وراء تدارسها راحة البال وسكون القلب وطمأنينة النفس، وذلك في امتثال رائع من هؤلاء الذين هداهم الله لندائه تباركت أسماؤه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: ١٢٨]، وفي استجابة كريمة منهم أيضًا لقول صاحب الرسالة نبيهم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام))([16])، وهؤلاء السَّادة الصُّلحاء -طَيَّبَ الله ثراهم- لا يبرحون تُتَمْتِمُ شفاههم الذاكرة دومًا بدعاء خالدٍ في قلوبهم متجذِّرً في سلوكهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: ١٠].

وإنَّ من وقع على دواءٍ شافٍ لآلامه المزمنة ولم يَأْبَهْ لعلاجه مدعيًا الصحة متعاليًا على الأنين لهو شخص محتار أو محتال أو مختال لم يضع السلَّم على الجدار الصحيح، فهو يطارد الذباب بِنَهَمٍ بدل أن يجفف المستنقع؛ فدعك من أوهامه وتَتَبَّع شمس الحق حتى في الأيام الغائمة جدًّا كما تفعل تلك الأزهار التي تفعل ذلك اليقين أثناء عشقها للشمس.

 

 

 

([1]) الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، حديث ‏(11401‏). وانظر «اقتضاء العلم العمل» للخطيب البغدادي، باب اغتنام الشبيبة والصحة والفراغ، حديث (‏193‏). المنامات لابن أبي الدنيا، من وصايا الرسول r، حديث (‏245‏).

 ([2]) البخاري: الأدب المفرد (273)، ابن سعد (1)، والحاكم (2)، وأحمد (2)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (45).

([3]) جمال الدين بن محمد الزيلعي: تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري، (3 / 341).

([4]) البيضاوي: تفسير البيضاوي، (5/136).

([5]) ابن أبي الدنيا: ذم الغيبة والنميمة، باب الغيبة وذمِّها، حديث (‏29)‏.

([6]) الحاكم: المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير، تفسير سورة النجم، حديث:(‏3685‏).

([7]) مسلم: كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، حديث (‏5061).

([8]) الترمذي: الجامع الصحيح، أبواب البر والصلة عن رسول الله r، باب ما جاء في الإحسان والعفو، حديث: (‏1979‏).

([9]) محمد الغزالي: أخلاق المسلم، (33).

([10]) ابن ماجه: كتاب الزهد، باب الورع والتقوى، حديث: (‏4214‏).

([11]) ابن السني: عمل اليوم والليلة، نوع آخر، حديث (‏752)‏.

([12]) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النَبِيُّ r، حديث (‏4814‏).

([13]) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، حديث (‏3303)‏.

([14]) مسلم: كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، حديث (‏4118‏).

([15]) ما أجمل أن نُكَلِّلَ باقة نصائح علماء الإسلام لطلبة العلم والمعلمين بأن يتعهدوا سير الأولين الكرام بالتفكُّر والتدبُّر بتوجيهٍ رائعٍ لأحد أكابر فرسان الأدب الإسلامي، وهو الأديب الأريب مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تبارك وتعالى، يقول: «الكلام عن الصالحين قُرْبٌ من خصائصهم، وسُمُوٌّ إلى معانيهم، وليس من القول باب له موقع في النَّفس كموقع القصة عن هؤلاء الذين خلقهم الله في البشرية».

([16]) البخاري: كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، حديث (‏5725).