تحميل البحث كملف PDF
د.إبراهيم الديبو- أستاذ العقائد والأديان في كلية العلوم الإسلامية بجامعة آرتقلو/ماردين
ارتبطت بالمحن والابتلاءات أسئلة تتكرر مع كل محنة أو ابتلاء يصيب الأمة، فما وقع على المسلمين في فلسطين والعراق وسوريا والسودان واليمن ولبنان وغيرها من البلاد العربية والإسلامية، وما وقع على المسلمين وغيرهم قديمًا وحديثًا من أصناف الأمراض والابتلاءات التي آخرها جرثومة كورونا: يطرح أسئلة لها جذورها المتأصلة في مسائل الإيمان والفعل الإلهي وعلاقة ذلك بفعل الإنسان ومسؤوليته في مثل تلك الحالات.
وقد نشأت قديمًا مذاهب وفرق تعبر عن موقفها من الفعل الإلهي والفعل البشري، وموقفها من المحن والابتلاءات وارتباطها بالفعل الإلهي، إلى جنب ذلك سعى قديمًا وحديثًا بعض المنحرفين أو المشككين لإثارة أسئلة وشبهات للطعن في عقيدة المؤمن وتشكيكه بعدل الله تعالى وتعزيز ذلك بمظاهر المصائب والمحن التي تقع على الناس عامة أو على المؤمنين بالله تعالى ورسله خاصة.
وبسبب طبيعة هذه المسألة وارتباطها بالفعل الإنساني من جهة والفعل الإلهي من جهة أخرى؛ كانت موضع نقاش وجدل بين المسلمين وغيرهم، وبين المسلمين أنفسهم، فلا بدَّ أن نفرق ابتداء بين صنفين من الناس:
الأول: مؤمن، موقنٌ باللهِ تعالى، مصدّق بعدلهِ وحكمتهِ، ولكن يريد أن يجدَ طمأنينة من خلال معرفة الحكمة من تلك الابتلاءات والمحن وعلاقتها بعدل الله تعالى ورحمته، وقد حكى لنا القرآن الكريم عن إبراهيم عليه السلام كيف طلبَ من الله تعالى أن يطَّلع على كيفية إحياء الموتى لا استنكارًا وتكذيبًا ولكن طلبا لزيادة الطمأنينة ومعرفة وجوه الحكمة الإلهية، قال تعالى حكاية عن ذلك: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم} [البقرة:260]
الثاني: منكرٌ مكذِّب، يسعى جاهدًا من خلال عرض نماذج من الابتلاءات والمحن ليجعل منها مادة للتشكيك بعدالة الله تعالى، فيقف عند صور متنوعة وحالات مختلفة مثل الآلام والمحن والأزمات والابتلاءات والمصائب التي تصيب الأفراد أو الأمم، فلا يرى فيها –لعجزه عن معرفة سنن الله تعالى وحكمته– إلا شرًّا محضًا أو لونًا من ألوان الظلم، فتزداد حيرته وتعظم شكوكه من خلال النظر المريب في أصناف المحن والشدائد.
ومن وجوه التناقض والحيرة وسوء القصد عند هذا الصنف من المشكِّكين أنهم يسألون عن عدالةِ اللهِ تعالى في الشدائدِ والمحنِ ولا يسألون عن عدالتهِ في الرخاءِ والسِّلْم، ويُظهرون معالمَ الدهشةِ لمظهرِ فقرٍ وجوعٍ وألمٍ دونَ أي استغرابٍ أو تعجبٍ من مظاهر الغنى والسعةِ والصحة، فالنظر لجانب دون آخر يكشف سوء الغاية والقصد؛ لذلك كان لا بدَّ من دراسة تأصيلية توضح معاني العدل الإلهي وعلاقته بالابتلاءات والمحن والمصائب التي تقع على الأفراد والجماعات، وتبين مسؤولية الإنسان عن فعله وارتباط ذلك بالسنن الكونية التي جعلها الله تعالى ملازمة للحياة البشرية، وتفصل السنن الشرعية التي ترتبط بالتكليف والمسؤولية وما يتفرع عنهما من قبول ورضا أو سخط وعقوبة.
أولًا: العدالة الإلهية وعلاقتها بالفعل الإنساني
العدل ضدُّ الجور والظلم، ومعنى العدل إعطاء كلِّ شيء حقَّهُ من المكانةِ أو المنزلةِ أو الحُكم([1]).
واللهُ تعالى عدلٌ حكيم ليس بظلام للعبيد، وجاءت آيات وأحاديث كثيرة تؤكد تلك الصفة:
– قال تعالى نافيا عن نفسه الظلم: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [آل عمران:182] {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا))([2]) كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم فعل الله وفعل رسوله بالعدل، فجاء في حديث طويل أنَّ رجلا اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم للغنائم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((فَمَنْ يَعْدِل إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ))([3]).
-قال تعالى داعيا إلى أداء الأمانات والحكم بين الناس بالعدلِ والإحسان: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ} [النساء:58] وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النحل:90] وفي حديث مسلم: ((اتقوا الظلمَ فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة)) ([4]).
فالأدلةُ واضحةٌ وصريحة في إثبات العدالة الإلهية، وأنَّ الله تعالى منزَّه عن الظلم ولو كان مثقال ذرة، وأنَّ الله تعالى أمرَ عباده بالعدلِ والإحسان، ونهى عن الظلم بكلِّ أنواعه ومظاهره، ولكن يبقى السؤال عن كيفية فهم العدالة الإلهية في ظل الظروف التي نرى فيها مظاهر القتلِ والتشريد والفقر والجوع والحروب والآلام والمصائب؟
يمكن لنا توضيح ذلك من خلال عدَّة نقاط ترتبط بسنن الله تعالى وبعقيدة المسلم وموقفه من الصفات الإلهية:
1- من أبرز مظاهر العدالة الإلهية أنَّ الله تعالى الله تعالى خلقَ الإنسانَ وزوَّدهُ بالإرادة الحرَّة التي هي مناط المسؤولية والمحاسبة، فحملُ الأمانة والتكليف لا فرق فيهما بين البشر، المؤمن وغيره في ذلك سواء، وهذا من أبرز مظاهر العدالة الإلهية، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب:72].
2- وضعَ الله تعالى الإنسان في ميدان الامتحان والاختبار وهو يملك أدواتِ الامتحان ويقدر على الكسب والعمل والسعي والتمييز، ولم يسلبهُ شيئا من أدوات الفعل أو موجبات الامتحان، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8-10].
3- قانونُ العدالةِ الإلهيةِ لا ينظرُ إلى الخَلقِ بل إلى الخُلُق، ولا ينظر إلى الجسد بل إلى القلب، ولا ينظر إلى مظاهر التكوين بل إلى السعي والعمل، ولا يحاسب على شيء لم يفعله الإنسان أو شيء لا يستطيعُ أن يفعله لنقص في الأدوات، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] أو لعجز في الوسع والإمكانيات، قال تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:233] أو لاضطرار في بعض الحالات، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173].
4-إنَّ مظاهرَ البلاء والحروب والآلام والمصائب سنة إلهية ملازمة لطبيعة الحياة الدنيا التي جعلها الله تعالى دارَ ابتلاءٍ وامتحان وليستْ دار قرارٍ، ودار تكليف وليست دار جزاء، فكل مظهر من مظاهر الآلام والمصائب مرتبط بالغاية الأساسية والحكمة الإلهية لهذه الدنيا وهي الابتلاء والتمحيص، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود:7] وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [المُلك:2]
5- ليست الحياة الدنيا وحدها بقصر مدتها هي المعبرة عن كمال العدالة الإلهية أو الجزاء والثواب؛ بل هناك امتداد لحياة أخرى تتجلى فيها العدالة الإلهية التي تجزي كل نفس بما كسبت أو اكتسبت، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} [ غافر:17] فالله تعالى يقيم القسط والعدل يوم القيامة ويعطي كل مصاب أو مبتلى ما يعوضه عن ذلك.
6 – إنَّ وجود الظالمين والمجرمين لا يتضمن إقرارًا بما فعلوه أو أنَّ العدالة الإلهية غافلة عن ذلك، بل سيجازَى كل ظالم بظلمه ويحاسب على كل ما فعله، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار} [إبراهيم:42] فمن الجهل بالله تعالى وصفاته أن ننظر إلى العدالة الإلهية من خلال مظاهر الآلام والابتلاءات والمظالم والمصائب دون النظر إلى ما يرتبط بها من حساب وجزاء وحكمة وسنن، فالنظر إلى العدالة من خلال زاوية واحدة أو لقطة واحدة أو مشهد واحد لا يوضح معنى العدالة الإلهية، بل لا بدَّ من النظر لذلك من خلال كون الحياة الدنيا دار امتحان واختبار يتنافس فيها الناس في فعل الخيرات والأعمال الحسنة، ويتدافع أهل الحق والباطل، ثم يكون هناك يوم حساب وجزاء يثيب الله فيه الطائعين الصالحين، ويحاسِب المجرمين والظالمين، ويعوِّض أصحاب المصائب والابتلاءات.
7-الجزاء يوم القيامة له ميزان حقٍّ وعدل وفق قانون التفاضل بالعمل والسعي والبذل والصبر والعمل الحرّ، فكما أنه ليس من العدالة أن يترك الإنسانُ بلا محاسبة أو جزاء فكذلك ليس من العدالة أن يكافأ المجرم والمفسد والظالم، بل العدل أن يعطى المرءُ على حسب عمله وكسبه، ويعوَّض على قدر مصيبته وصبره، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8].
ثانيًا: سنة الابتلاء وارتباطها بالحبّ أو العقوبة الإلهية
هل هناك ارتباط بين الابتلاء والعقوبة الإلهية، وهل العطاء والرزق دليل على الحب من الله تعالى، والمنع والفقر دليل غضب الله تعالى وسخطه؟ وهل هناك علاقة بين الإيمان والابتلاء أو بين الطاعة والمحن بحيث يبتلى الإنسان بسبب دينه وسلوكه فقط؟ أسئلة تحتاج لإجابة من خلال بيان سنن الله تعالى وسَوق المقادير الإلهية والحكم المرتبطة بكل ما يتعلق بالابتلاءات والمحن، وقد حاولت بيان ذلك في عدَّة نقاط:
1- الابتلاء سنة إلهية عامة:
اللهُ تعالى خلقَ الناسَ مختلفين في القدراتِ والبيئاتِ وبالعلم والجاه والقوة والضعف والجمال والقبح، وهي سنة إلهية عامة ليست خاصة بفرد أو جماعة أو بيئة أو زمان، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165]، وكذلك الحال في كل أنواع الابتلاءات والامتحانات فهي عامة، كما سنوضح ذلك من خلال إبراز الحقائق التي ترتبط بتلك السنة الإلهية:
أ- الابتلاء والامتحان من الله تعالى للإنسان لا يرتبط بشخص أو جماعة أو مجتمع دون غيره، فكل إنسان طالما أنه في دار التكليف -وهي الدار الدنيا بكل ما فيها من سنن وتكليفات ومسؤوليات- تجري عليه أنواع مختلفة من الاختبارات والابتلاءات، وقد أشار القرآن لتلك الامتحانات والابتلاءات في آيات كثيرة، نشير إلى بعضها:
ب- قد يختلف إنسانٌ عن آخر في نوع تلك الاختبارات وزمنها، ولكن الكل يختبر ويمتحن، والامتحان هو امتحان بأي سؤال أو كيفية أو أي وقت أو صفة، فلا يَظن من امتحن بالفقر أنَّ صاحب المال والغنى لا يمتحن بألوان أخرى من الامتحانات، ولا يظن من امتحنَ بالقبح الظاهر أو بعض العجز في بدنه أنَّ غيره لم يمتحن بجماله الظاهر وبدنه الصحيح، ولا يظن من امتحن بالجوع والحاجة أنَّ غيره ممن عنده الطعام والشراب وملذات الدنيا لم يمتحن في جسده وصحته، فحقيقة الامتحان تصيبُ الجميع وإن اختلفت مظاهرها وأنواعها إلا أنَّ من ابتلي بشيء شغله ذلك عن معرفة حقيقة ما يقع على غيره، كما أن هناك مظاهر عديدة من النعيم والزينة والغنى والسعادة تخفي خلفها أصنافًا من الامتحانات والاختبارات.
ج-إنَّ هذه السنةَ الإلهية في الابتلاء ليست خاصة بالمؤمن حتى يظن بعض الناس أن المؤمن فقط مبتلى، وأن إسلامه سبب من أسباب الامتحان، وإيمانه موجب لامتحانه بل لتعرضه لأصناف من الآلام والمصائب، وأنه لو ترك الدِّين لبرئ من الامتحان، فالكل يعلم أنَّ الموت والجوع والفقر والألم والخوف والقلق والأمراض وغيرها كلها قدر كوني ملازم لطبيعة الحياة وسننها، فلا يعفى منها إنسان عادي أو نبي مقرب أو ولي صالح أو فاجر وفاسق وكافر وملحد، قال تعالى عن ابتلاء الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب} [البقرة:214]، وقال تعالى مواسيًا المؤمنين مبينًا أنَّ الابتلاء ليس خاصًّا بهم بل يقع على غيرهم كما يقع عليهم: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:104] فالفرق بين المؤمن وغيره أن المؤمن مدرك لسنة الله تعالى ويتعامل معها بصبر على البلاء وشكر على العطاء ورضى بالقدر وتسليم لرب البشر، ويؤمِّل رضوانًا من الله تعالى وعظيمَ الأجر في دار الخلود التي لا يلابسها شيء من الابتلاء أو المحن.
2-العلاقة بين الابتلاء والحب أو العقوبة
بقي سؤال عن علاقة تلك الاختلافات وأنواع الابتلاء بالتكليف وبالقضاء والقدر، وهل الابتلاء هو نوع من الحبِّ الإلهي أو هو انتقام وعقوبة من الله تعالى؟
من خلال توضيح سنة الله تعالى العامة في الابتلاء يظهر لنا أن الله تعالى جعل الابتلاء ملازمًا للإنسان ومرافقًا له في حياته الدنيا إلا أنَّ الابتلاء وحده لا يحدد مصير الإنسان، وليس عنوانًا مجردا على الحب الإلهي أو العقوبة الربانية، فالسنن الكونية تجري على الناس جميعًا، لا تبديل لسنة الله تعالى، بل تحديد ذلك من خلال موقف الإنسان من الابتلاءات والمحن، فالمؤمن يطمئن قلبه ويشعر بالثقة والسعادة لمعرفته هذه السنَّة، وغير المسلم أو الفاسق يتقلب ولا يصبر، ويضطرب فيزداد عذابه النفسي في الدنيا قبل الآخرة.
وثمة تصوران خاطئان عن علاقة الابتلاء بالعقوبة أو الحب:
الأول: أنَّ المنع عقوبة والعطاء إكرام من الله تعالى، وقد صور لنا القرآن صورة الانحراف في هذا الفهم بقوله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن} [الفجر:15-16]
الثاني: أنَّ الابتلاء نوعٌ من أنواع الحبِّ الإلهي دون مراعاة حال الإنسان وموقفه من تلك الابتلاءات، وهو موقف منحرف، ولا ينظر إلى الابتلاءات إلا على أنها هدايا إلهية ومنح ربانية وعلامات على قرب الإنسان من ربه وحب الإله له.
ويكفي في الرد على ذلك أن ننظر إلى الأنبياء عليهم السلام، فهم لم ينالوا تلك المنزلة السامية والرفعة من خلال ابتلائهم فقط، بل بسبب صبرهم على الابتلاء وضربهم المثل الأعلى في الإيثار وتحمل أصناف الابتلاء، جاء في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بلاَءً؟) قَالَ: ((الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ))([5]) وفي حديث الترمذي: ((إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)) ([6]).
فعظيم الأجر مع عظيم الصبر، وحب الله تعالى يرتبط بمن رضي وصبر وابتغى بذلك وجه الله تعالى، وإنما كان أكثر الناس بلاء الأنبياء ليكونوا قدوة لغيرهم في صبرهم ولكثرة مسؤولياتهم، وليظهر فضلهم للناس وصبرهم([7])، فالرضا من الله تعالى والجزاء يقترن بالصبر على الابتلاء، والمؤمن يقابل المحن والابتلاءات بالصبر والاحتساب لذلك يحبه الله تعالى، أما الجاحد والمنكر فيصيبه البلاء فلا يصبر ولا يحتسب ولا يكون له بذلك كرامة أو فضل.
والابتلاءات في حقيقتها تنبيه للفطرة البشرية وتذكير لها، وفيها اختبار وتمحيص للنفوس؛ لذلك جمعت الآيات القرآنية بين ذكر أصناف من الابتلاءات التي تصيب الإنسان وبين الحِكَم المرتبطة بها، وسنذكر تلك الحكم مع الآيات القرآنية التي أبرَزَتْها. فمن الحِكَم:
-أن يعلم الله تعالى من كان صادقا في عمله ومجاهدًا في سبيله ومؤثرًا لطاعة ربه على كلّ شيء، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16].
– أن يُظهرَ الله تعالى فضلَ المؤمنين وبرهانَ صدقِهم، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون} [العنكبوت:2].
– أن يصيب الابتلاء الناس ليتضرعوا إلى ربهم ويقروا بعبوديتهم وطاعتهم له، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون} [الأنعام:42].
– ليميز الله الخبيث من الطيب ويظهر فضل المؤمنين: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [آل عمران:179] وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين} [العنكبوت:3] ، وقال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين} [آل عمران:140].
خاتمة:
خلص البحث إلى التأكيد على عدة قضايا متصلة بالعدالة الإلهية والتكليف البشري، وهي:
([1]) راجع: د. عبد الكريم زيدان: السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، مؤسسة الرسالة، بيروت ط1، 1993م، ص 114- 115.
([2]) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى 4/1994.
([3]) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى 4/1994.
([4]) أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب ، باب تحريم الظلم 4/1996.
([5]) أخرجه الترمذي: كتاب أبواب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء 4/601، وأخرجه ابن حبان في صحيحه 7/161.
([6]) أخرجه الترمذي: كتاب أبواب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء 4/601.
([7]) راجع: د.عبد الكريم زيدان: السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، مؤسسة الرسالة، بيروت ط1، 1993م، ص 89.