سم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
فإن الله تعالى يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: ١٣]. يقرر القرآن الكريم في هذه الآية مبدأ التعاون الإنساني القائم على التعارف والتواصل والتكامل والتنوع، وبيّن القرآن أن العلاقات الدولية بين الدول والأمم والشعوب يجب أن تقوم على أساس العدل وعدم العدوان فقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: ١٩٠]، وأمرنا القرآن الكريم أن نقوم بالقسط ونقول بالعدل حتى مع المخالفين فقال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ [المائدة: 8] ، بل وأمر المؤمنين أن يرتقوا في معاملتهم غيرهم من مرتبة العدل إلى مرتبة البر والإحسان فقال: ﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: ٨].
وجاء الإسلام في كل توجيهاته وأحكامه ليحمي الدين والنفس والعرض والعقل والمال وهي ما اصطلح على تسميته (الضرورات الخمس) فكل أحكامه تدور في فلكها وتشكل سياجاً واقياً لحمايتها، والعدل الذي جاء به الإسلام يقوم على الحق والتمسك به وفق معايير واضحة ثابتة لا ازدواجية في حكمها أو تطبيقها والمسلمون لهم قيم وتعاليم يلتزمونها في حربهم قبل سلمهم بل وفي كل أحوالهم ، ونحن المسلمين نشرف بأن ديننا بنصوصه الشرعية كان أول من قرر أخلاقيات الحروب بعد أن كانت الحروب بلا أخلاق ولا حدود ، فكان من التوجيهات النبوية قوله عليه الصلاة والسلام: ((وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا طِفْلًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا، وَلَا تُغَوِّرُنَّ عَيْنًا، وَلَا تَعْقِرُنَّ شَجَرَةً إِلَّا شَجَرًا يَمْنَعُكُمْ قِتَالًا أَوْ يَحْجِزُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِآدَمِيٍّ وَلَا بَهِيمَةٍ، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَغُلُّوا)) (أخرجه البيهقي عن أبي موسى الأشعري)، وتكررت هذه الوصية على لسان الخلفاء الراشدين والقادة الفاتحين وكانوا يرددونها على مسامع جنودهم في الميدان قبل كل لقاء، وقد تحدث تجاوزات قليلة من بعض الأفراد لكن الإسلام لا يقرها وتكون تبعتها على مرتكبيها والإسلام منها بريء.
ونرى اليوم بعضاً ممن يزعمون الانتساب إلى هذا الدين يتبنون سلوك الغلو في حربهم وسلمهم وسلوكهم، ويحاولون أن يصوروا الإسلام بهذه الصورة النمطية المنفرة ويسوقون الأدلة على تصوراتهم باستدلالات غير صحيحة ليخدعوا بها عامة الناس، فتكون النتيجة تشويه مبادئ الإسلام في نظر المسلمين البسطاء، وكذلك يعطون ذريعة مجانية لكل من أراد أن يطعن في دين الإسلام لقصرٍ في عقله أو مرض خبيث في نفسه.
لذا حذر المجلس الإسلامي السوري في بيانات سابقة من الغلو التي تمثله (داعش) في جانبيه الفكري والسلوكي، فالغلو بالتكفير والحكم بالردة لأدنى شبهة والإسراف في قتل المسلمين قبل غيرهم، وكذلك السلوك الوحشي المتمثل بقطع الرؤوس وفصلها وصلب الأجسام وتعرية الأسرى والقتل الجماعي بلا تمييز ولا رحمة، كل ذلك مما لا يقره الشرع فضلاً عن أن ينسب إليه أو يظهر بمظهره، والتقط المتربصون بهذا الدين وأهله هذه الفرصة الذهبية السانحة فجعلوها مثلاً صارخاً للإرهاب الذي يكافحونه ويقيمون التحالفات لحربه، فكان لا بد للمجلس الإسلامي السوري من أن يبدي الملاحظات الآتية حيال هذا الأمر :
أولاً : إن علماء المسلمين ومنهم المجلس الإسلامي السوري قد أدانوا من قبل قتل جميع الأبرياء من المدنيين والصحفيين والأطباء والمسعفين وموظفي الإغاثة من مسلمين وغيرهم، ممن جاؤوا لمساعدة الشعب السوري ونقل معاناته وقضيته للعالم، ويدينون اليوم قتل الصحفيين الأمريكيين اللذين قتلا على يد (داعش) دون بيان تهمة لهما إلا أنهما يحملان هذه الجنسية.
ثانياً : لكن بالوقت نفسه يدين المجلسُ المجتمعَ الدولي ممثلاً بحكوماته ومنظماته، فهم يرون بوسائل الإعلام المختلفة المذابح اليومية بكل أنواع الأسلحة حتى الممنوعة دولياً كالأسلحة الكيميائية ولا يحركون ساكناً لنصرة هذا الشعب المظلوم، ويترددون في إعلان أن هذا النظام بكل قادته مجرم وإرهابي ينبغي أن يساق قادته إلى المحاكم الدولية ليحاسبوا على جرائم الحرب والإبادة الجماعية، وتأتي تصريحات المسؤولين الأمميين لتساوي بين الجلاد والضحية، والممارسة الممنهجة والسلوك الفردي، ويبقى المجرم قرابة ثلاث سنوات ونصف مطلق اليدين يقتل وينكل كما يشاء دون رادع ولا محاسبة، ويتحرك العالم (الحر) اليوم فقط ويستيقظ ضميره لمقتل صحفي أو خطف آخر، هذا هو الكيل بمكيالين وتلكم العدالة الانتقائية وازدواجية المعايير.
ثالثاً : إن (داعش) التي يتداعى العالم اليوم لمحاربتها هي نتاج طرفين لم يعودا خافيين على كل ذي لب ونظر، فالطرف الأول النظام السوري المجرم الظالم الذي أمعن في القتل والإجرام واستباح الأموال والأعراض وغض الطرف عن (داعش) وهادنها، والطرف الثاني المجتمع الدولي الذي صمت على تلكم الجرائم وخذل شعباً بأكمله، هذا الشعب لم يكن مطلبه إلا الحماية أو إتاحة الفرصة له ليتسلح دفاعاً عن نفسه، لقد راوغ الغرب في ذلك طويلاً، واعتاد شعبنا على عبارات مخدرة كانت تنطلق على ألسنة السياسيين الغربيين كفقد الشرعية ، وأيامه باتت معدودة، والخطوط الحمراء، والإمداد بالأسلحة النوعية ….إلخ،
في مثل هذه الأجواء وجدت (داعش) التربة الخصبة والبيئة المناسبة التي صنعت لها، وكذلك لا يخفى بعض التسهيلات والتهويلات التي أسبغت على انتصاراتها، حتى وصلنا إلى المشهد المأساوي الذي تدق له طبول الحرب وتستدعى له قوى العالم اليوم، هذا السلوك سوف ينتج (داعش) وعشرات من أمثالها.
رابعاً : من الملاحظ أن (داعش) قد قتلت من أهل السنة (عامة الشعب السوري) أضعاف ما قتلت من النظام وعناصره، فأهل السنة هم أكبر ضحايا التطرف، وكذلك فإن الحرب تشن على أهل السنة بدعوى مكافحة الإرهاب ، فهم ضحايا الإرهاب وضحايا مكافحته، وللأسف المعركة ستدور على أرضهم وهم وقودها وأوارها، وستمول من أموالهم، على حين أنا وجدنا منظمات وعصابات وميليشيات شيعية لا تقل إجراماً عن (داعش) يتحالف معها الغرب، كما تحالف في العراق مع (عصابة بدر، وعصائب أهل الحق) وغيرهم لقتال أهل السنة بحجة مكافحة الإرهاب، وسكت الغرب عن (حالش) حزب اللات وجرائمه في سوريا، فالذي يلمسه المسلمون أن الغرب يحاول إلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين وحدهم دون سواهم من الشعوب وكذلك يخصون بذلك أهل السنة وحدهم، والكل يعرف أن (إيران) أكبر دولة ممولة للإرهاب في العالم ويتناسى العالم اليوم الرهائن الأمريكيين ومسلسل خطف الرهائن في لبنان وجرائم خطف الطائرات على يد هذه العصابات المجرمة، ويرى المسلمون أن الغرب يتحرك في العراق لحماية الأقليات مع تنديدنا بكل ظلم يقع على أي أحد منهم، ولم يتحرك للمذابح الممنهجة التي وقعت على أهل السنة في العراق وسوريا من العصابات الشيعية الطائفية.
خامساً : وكذلك فإن القوى العالمية تحاول عمداً تمييع مفهوم الإرهاب وعدم ضبط مصطلحه ليبقى مطاطاً، يُشهر في الوقت المناسب ويستخدم في المكان المحدد وتخلط الأوراق، ومن جملة ذلك الخلط بين المقاومة المشروعة والإرهاب المذموم، فنرى الغرب اليوم يعتبر المقاومة المشرفة في غزة إرهاباً ويعتبر المقاومين إرهابيين ، على حين أنه يرى الدولة الغاصبة المعتدية (إسرائيل) التي دمرت آلاف البيوت والأبراج السكنية على رؤوس ساكنيها عملاً مشروعاً ومكافحة للإرهاب، ويسكت النظام الدولي اليوم عن (إرهاب الدولة) الذي تمارسه كثير من الأنظمة بقتل شعوبها دون قيد أو شرط ودون سبب أو حكم عادل.
وفي النتيجة التي وصلنا إليها نعتقد أن الغرب يحاول توظيف قضية محاربة الإرهاب لأهداف خاصة بعيدة عن مصالح الشعوب وتحقيق السلام العالمي، والشواهد على ذلك كثيرة، وإلا فإن كثيراً من الإرهابيين يسرحون ويمرحون ويجوبون بلادهم وتفرش لهم البسط الحمراء، وكثير من أفراد (داعش) جاؤوا من بلادهم وسهل لهم الخروج والوصول، ولكل هذه الاعتبارات فقد هذا الحشد الدولي مصداقيته، مع إدانتنا لهؤلاء المغفلين الجهلة من أمثال (داعش) الذين أعطوا هؤلاء الطامعين الذريعة المباشرة لهذا التشويه ومن ثم التدخل.
والمجلس الإسلامي السوري يقرر أنه ضد أي تدخل مباشر في الشأن السوري سواء أكان من روسيا وإيران وأذرعتها ومخالبها في المنطقة أو الغرب وحلفائه، ونذكّر هؤلاء جميعاً بالحقيقة الماثلة في حس الشعب السوري والتي ترسخت عبر الشهور الأربعين السابقة أن مصاب الشعب السوري لا يعنيهم شيئاً، وأن شلال الدم السوري مجرد أرقام في بازار السياسة الدولية، ومن أراد مساعدة الجيش السوري فبإمكانه دعم جيشه الحر والكتائب المقاومة على الأرض ، وهناك طرق كثيرة للمساعدة والعون وفي الوقت نفسه نأمل من الدول الإسلامية الشقيقة أن تقف الموقف المناسب حيال هذه الأحلاف التي ظاهرها الرحمة (مكافحة الإرهاب) وباطنها من قبله العذاب (المشاريع الاستعمارية).
وفي الختام نسأل الله السداد في الرأي والصدق في حمل الأمانة والإخلاص في أداء الرسالة وأن يهيئ لشعبنا الكريم تدبيراً من عنده وفرجاً قريباً ونصراً مؤزراً ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المجلس الإسلامي السوري
10 / ذوالقعدة / 1435 هـ
5 / أيلول / 2014 م