أيَّام تركستان والرَّاية الحمراء نارٌ لم تخمُد
ديسمبر 2, 2019
فُقَهاءُ التمكين ومنهج بناءِ الدَّولة – دولةُ المرابطين أنموذجًا
ديسمبر 2, 2019

أثر الحرية والطاعة على قوة الدولة واستدامتها

د. عبد السلام البيطار

إن أي عمل جماعي مؤسسي كتشكيل حزب أو بناء تيار وطني أو إقامة دولة قوية لن يكتب له النجاح إلا بقيامِهِ على قِيَمٍ ومُثُلٍ عليا تتجسَّد في روح العمل وصميمه؛ ليظهر أثرها في منجزاته ومخرجاتِه، فالدولة عند بنائها ونشأتها بحاجة إلى ثلاثة عناصر: الإقليم والشعب والسلطة، فالسلطة وظيفتها تطبيق النظام الذي يحدد طريقة التعامل بين أفراد المجتمع ويضبط علاقاتهم، وإن تطبيقَ السلطة أو الحكومة قانونَ العدالة والتزامَها بالقيم الأخلاقية التي جاء بها القرآن الكريم هو ما يكفل دوامها وقوتها واستمرارها؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أسس الدولة أسَّسها على القيم التي دعا إليها القرآن الكريم، وَضَعَ قواعدها في مكة المكرمة، وأنشأها وبناها في المدينة المنورة عندما التزم المسلمون طاعةَ اللهِ وتحرَّرُوا من العبودية لغيره.

كانت المدينة المنورة المظلة والحاضنة للعمل السياسي وبناء الدولة، ولما تمَّ بناءُ المسجد كان نقطةً للانطلاق ومركزًا وتجمعًا تُعقد فيه الحوارات والمشاورات، وتطبق فيه العدالة بين الناس، وترسخ فيه القيم والمبادئ، وتوحّد فيه الجهود، ويبنى الاقتصاد من خلال تشريع متكامل وتوجيه مستمر دائم، وقد كان مجتمع المدينة يرتقى باطرادٍ سريع يومًا بعد يوم نتيجةَ عدة أخلاقيات سامية قامت عليها الدولة الإسلامية الناشئة، من أبرزها الطاعة والحرية والعدل والشورى، وموضوع بحثنا هذا الطاعة والحرية بصفتهما ركنين أساسين لذلك المجتمع المسلم ودولته المتصاعدة؛ فقد كانت الطاعة بمنزلة الرأس لأركان الدولة الإسلامية الناشئة؛ إذ قامت بضبط حركة الدولة، وكفلت التنفيذ الدقيق الكامل لأوامر القيادة العليا، وأما الحرية فقد مكنت أصحاب الهمم والمبادرات وأصحاب الرؤى والمقترحات من عرض ما لديهم والإسهام في الابتكار والتطوير وخدمة المجتمع المسلم.

الطاعة

بطاعة الله جل جلاله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع المسلمون تجاوز المحن وتخطي الصعاب والصعود إلى القمة وبناء أعظم دولة مؤمنة فتحت البلاد وأقامت العدالة بين العباد، كان مبدأ الطاعة عند المسلمين ثمرة تلك القيم والأخلاق الفاضلة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم على مدى سنوات في نفوس أصحابه، فأنبتت شجرة طيبة أصلها ثابت راسخ وفرعها في السماء.

إن الطاعة لولي الأمر هي من طاعة الله ورسوله، ولها أعظم الأثر في قوة الدولة واستدامتها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] يقول الرازي: (إنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بالعدل في الرعية أمر الرعية بطاعة الولاة فقال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله}؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقٌّ على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا)([1]) إن الله تعالى قد (بين لنا أصل الحكومة الإسلامية في آية الأمانات والعدل والطاعة، وبين لنا بعض الأحكام الحربية والسياسية، مبينا لنا الطريق الذي نسير عليه في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول المحكمة الحكيمة)([2]) من عدل وأمانة وطاعة.

إذًا إنه أمر من الله تعالى بوجوب طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة، وأمر بطاعة أولي الأمر، وهم جماعة أهل الحل والعقد المسلمين من الأمراء والحكام والعلماء والرؤساء والزعماء الذي يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة، فإذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه لكنْ بشرط أن يكونوا أمناء على ما وُلُّوا من أمور الأمة، وألا يخالفوا أوامر الشرع الحنيف، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأن يكون ما يتفقون عليه من باب المصالح العامة، وهو ما لِأُولي الأمر سلطة فيه ووقوف عليه؛ وعلى هذا فإن كل من جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم ووَلِيَ الخلافة والحكم وجبت طاعته فيما لا معصية فيه، وهذا الربط بين طاعة الله ورسوله وطاعة وليِّ الأمر يدل على ترابط الطاعة واستمرارها؛ لما لها من أثر في تثبيت كيان الدولة والحكم، ولما في تركها من بلاء على المسلمين زيادةً على كونها معصيةً لله تستحق العقوبة العاجلة والآجلة.

وقد جعل ربُّنا سبحانه الرجوعَ إلى شرعه عند التنازع وطاعةَ الله ورسوله وأولي الأمرِ من الإيمان، قال سبحانه عقِب الأمر بذلك: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، لكن الله عزَّ وجلَّ لم يجعل لولي الأمر طاعة مستقلة بل جعلها مقيدة بما يرضي الله ورسوله، قال الشنقيطي في قوله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}: (كرر الفعل بالنسبة لله وللرسول ولم يكرره بالنسبة لأولي الأمر؛ لأن طاعتهم لا تكون استقلالًا بل تبعًا لطاعة الله وطاعة رسوله كما في الحديث: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))[3].

(وحتى ننجح في حياتنا فلا بد أن نأخذ الإسلام كله، وللأسف فإن كثيرًا من حكام البلاد المسلمة لا يأخذون من الإسلام إلا آخر قوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ويتركون {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وفي ذلك  الربط عصمة للمجتمع الإيماني من الحكام المتسلطين الذين يحاولون أن يستذلوا الناس بقول الله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ويدعوا أن طاعتهم واجبة، يقول الواحد منهم: ألست ولي أمر؟ فيرد العلماء: نعم أنت ولي أمر ولكنك معطوف على المطاع ولم يتكرر لك أمر الطاعة، فدلّ ذلك على أن طاعتك واجبة إن كانت من باطن الطاعتين، فإن لم تكن من باطن الطاعتين فلا طاعة لك، لأن القاعدة هي لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)([4]). يقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني))([5] )، وتكون الطاعة في المعروف، قال صلى الله عليه وسلم: ((السّمع والطّاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة))([6] ).

إن الطاعة إحدى أهم الأخلاقيات السامية التي دعا إليها الإسلام وجعلها من أوجب الواجبات، وعلى الأمة أن تلتزم بها؛ ففيها صلاحهم واستقرارهم واستقرار حكمهم، ولا يستتب أمر لدولة أو بناءٌ لمؤسسة أو تشكيلٌ لحزب أو تيار بدونها، فلا يمكن للإنسان العاقل أن يتخيل قيام دولة قوية متينة تتحقق في ظلها مبادئ العدالة والمساواة والعيش الكريم ولا طاعة لحاكمها من أبناء الشعب عن حب ورضا أو لا حرية كافية لأفرادها، حتمًا لا تقوم تلك الدولة ولن تستمر أو تستقر، فطاعة الحاكم وحرية المحكوم شرط لقيام تلك الدولة القوية بسماتها التي ذكرناها، ولرب سائل يسأل: كيف نرى دولاً لا تلتزم بشرع الله ودينه وتمارس العنف والإرهاب والظلم والجور والإذلال والإهانة والفساد والإفساد والمحسوبية والقمع وتكميم الأفواه ولم تزل قائمة صامدة؟

والجواب أن دولة بهذه المواصفات هي دولة باطل، وقد وصف الله سبحانه الباطل فقال: { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، ولكن لا يظهر أهل الباطل في مكان إلا لضعف واختلاف أهل الحق وتفرقهم وابتعادهم عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وولي الأمر الصالح المصلح، وإنهم لو أطاعوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر منهم لكانت لهم السيادة والريادة، فعلو الباطل وظهوره في مكانٍ مَا إن هو إلا نتيجة ضعف أهل الحق وتفرقهم وقصورهم عن حمل الأمانة الواقعة على أعتاقهم، ثم إن كان للباطل جولة فللحق جولات ويعود أقوى مما كان، وما الباطل إلا جندي من جنود الحق لأن الباطل حين يعتو ويعربد في الناس يتساءل الناس متى يأتي الحق لينقذنا، وحين يستشري الباطل يذوق الناس مرارته ويكتوون بناره، فيعودون إلى الحق وإلى الصواب، ويطلبون فيه المخرج حين تعضُّهم الأحداث([7])، وحكم الباطل لا يدوم ولا يستقر بل يتلاشى ويضمحل، ويبقى في اضطراب وانقلاب حتى يتهاوى أمام الحق وبلجه.

في بيعة العقبة الثانية أكد النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الطاعة شرطًا أساسًا لقبوله القدوم إلى المدينة واستقراره فيها، سأله الأنصار: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى مَا نُبَايِعُكَ؟) فقال لهم: ((تُبَايعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِيَ إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ عَنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ))[8].

إن الطاعة حق من حقوق الحاكم وولي الأمر على الشعب حتى يستطيع إدارة أركان الدولة وتقويتها وهزيمة الأعداء، وقد ذكر لنا القرآن الكريم ما أصاب المسلمين يوم أحد عندما خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتركهم مواقعهم على الجبل ونزولهم إلى ساحة المعركة، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152] هذا حال من يحيدون عن طاعة الله ورسوله وطاعة ولي الأمر الذي يحكم بتوجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية، يدُب فيهم الجُبن والنزاع ولا ينتهي حتى يوقعهم في الهزيمة.

الحرية

كما أن الطاعة حق للحاكم فالحرية حق للرعية، وعليه فإن القيمة الملازمة للطاعة هي الحرية، وهي جوهر حقوق الإنسان بل لا يكون الإنسان إنسانًا كاملًا إلا بها، والحرية تعني أن يكون الإنسان متمتعًا بكامل إرادته في الاختيار بين وجوه متعددة بحسب قناعاته وأفكاره وأخلاقه، جاء في القرآن الكريم ما يؤكد قيمة الحرية وأهميتها في بناء الإنسان والبنيان، فضيق الإسلام على العبودية والرق وشجع على الحرية والعتق؛ لتبدأ مرحلة بناء الدولة بالتأكيد على ضرورة أن يتصدر مشهدَ الإصلاح والبناء أمةٌ من الناس تأخذ على عاتقها القيام بهذه المهمة، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، ففي هذه الآيات توجيه وخطاب من الله تعالى للمسلمين بضرورة وجود قوم يحملون همَّ الأمة وإدارتها من الدعوة إلى بناء الدولة، وذلك بالكلمة الحرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكلمة الحق، ولا يتم ذلك إلا إذا تمتع الإنسان بحرية الكلام التي وهبه الله إياها ليستخدمها تارة في الدعوة وتارة في النقد والتوجيه.

ولا يمكن أن ينتشر فكر أو تصلح دولةٌ حريةُ أفرادها مسلوبةٌ مصادرة، ولا بد من وجود أناس يحملون شرف الكلمة الحرة سلاحًا يقاتلون به كل طاغية ظالم ويدعون بها كل إنسان غافل نائم، (فالشريعة الإسلامية جعلت حرية القول حقا لكل إنسان، بل جعلت القول واجبًا على المسلم في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام العام، وإذا كان لكل إنسان أن يقول ما يعتقد أنه الحق ويدافع بلسانه وقلمه عما يعتقده، فإن حرية القول ليست مطلقة وإنما هي مقيدة بأن لا يكون ما يُكتب أو يقال خارجا على نصوص الشريعة وروحها)([9]).

إن مبدأ حرية النقد للحاكم والمسؤول يعد أساسًا لبناء دولة قوية، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم قول كلمة الحق أفضل أنواع الجهاد في سبيل الله، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الجهاد أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((كلمة حق عند إمام جائر))”([10])، فجعل نقد الحاكم الجائر والاهتمام بشؤون الأمة والسلطة وتقويمها من الدين بل أعظم أنواع الجهاد، وعندما دعا الإسلام إلى الحرية وحث عليها وقاتل لأجلها فهو إنما يريد من الإنسان أن يعود إلى أصل خلقته وفطرته التي فطره الله عليها حرا لا يعبد إلا الله، فلا عبودية ولا خضوع وانقياد إلا لله، (ولسنا نعني بالحرية هنا اتباع الشهوات وانطلاق الغرائز السفلى، فهذه بهيمية لا حرية، ولا نعني بها بلبلة الأفكار وإثارة الفتن، فهذه فوضى لا حرية، إنما نعني بحرية المواطن أو الإنسان خلاصه من كل سيطرة تتحكم في تفكيره أو وجدانه أو حركته، سواء كانت سيطرة حاكم مستبد أم كاهن متسلط أم إقطاعي ورأسمالي متجبر)([11])، قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ]الكهف:29[.

من قيم الحرية ما أكد عليه ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد بقوله: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)([12])، فهذا هو العمل والهدف الأسمى لمفهوم الخلافة والحكم، بل إنه لمن أولويات الحاكم أن يحرر الإنسان من عبودية غير الله ويطلق له العنان ليقوم بواجبه في عمارة الأرض والإنسان ونشر الدعوة والدين، يقول سيد قطب([13]): (ومن جعل للعرب وجودًا وقوة وقيادة غير التحرر من عبودية غير الله، وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة، حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم، وما العرب بغير الإسلام؟ وما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة؟ إن كل أمة قادت البشرية في فترة ما كانت تمثل فكرة، والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلا، والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية، وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة، فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة ولم يعد لهم في التاريخ دور).

بغير الحرية لا يمكن للإنسان أن ينتج أو أن يبدع أو أن يتطور ويطور ما حوله وينهض بالأمة ويرقى، بل يظل أسيرًا حبيسًا مسلوب القوة والإرادة والعزيمة إضافةً إلى الذل والهوان والخوف والاضطراب والتشتت والضياع وما إلى ذلك من الأمراض التي تصاحب الكبت من عزلة وفراغ ينتج عنهما فساد وتدمير وإحباط، (وقد كان يُستدلُّ على عراقة الأمة في الاستعباد أو الحرية باستنطاق لغتها: هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلاً أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية، وكتلك اللغة التي ليس فيها بين المتخاطبين أنا وأنت بل سيدي وعبدكم؟)([14]). وقد أصل رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الأمر عند فتح مكة، قال مخاطبًا قريشًا: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاء))([15])، فأعطاهم حريتهم الكاملة في الفكر والحركة، تلك الحرية التي بنى دولة الإسلام عليها، فكانت النتجية بعد أن تحرروا من كل تأثير وخوف أن دخلوا في دين الله عن قناعة ورضا وتسليم.

إن المنطلق للحرية كما بينا هو حرية الكلمة التي من خلالها نعبر ونوضح ونحاور ونقرر، وحرية نقد السلطة التي من خلالها نوجه ونقترح ونشارك ونتابع ونحاسب ونبني؛ إذ هما حجرَا الأساس لجميع حريات الفرد، (والإسلام أعلن حرية الأفراد في أروع مظاهرها، فأعلن حرية التفكير وحرية الاعتقاد وحرية القول وحرية العلم وحرية التملك، فهي حريات تؤدي إلى نمو الإخاء والاحترام بين الأفراد والهيئات، وتجمع الكلمة على الحق، وتجعل الجماعة في حالة تعاون دائم، وتقضي على النعرات الشخصية والطائفية)([16])، فكانت تلك الحرياتُ مجتمعةً النواةَ الصلبةَ لبناء دولة القانون والقيم، فنجد الإسلام قد حرر العقول من الأوهام والخرافات والتقاليد داعيًا إلى نبذ كل ما لا يقبله العقل، فالقرآن الكريم يعتمد في إثبات وجود الله على إقناع الناس بالإسلام وعلى استثارة تفكيرهم وإيقاظ عقولهم تارة أخرى، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] إذًا هي دعوة إلى التفكر والتأمل والتدبر والاستفادة من الماضي للعبرة والعظة وإطلاق الحرية للفكر والتطوير ومواكبة ما يمكن من كل جديد، فإن الله تعالى قد أنزل القرآن الكريم وفيه كل ما هو جديد مفيد صالح لكل زمان ومكان، فلا يمكن أن تبنى دولة حديثة تقوم وتزدهر وهي تعتمد على قوانين قديمة وطرائق غبر عليها الزمان، بل كيف تلبي تغيرات العالم وتطور الإنسان وإبداعه، فكان لا بد لحرية الفكر أن تطلق، وإذا انطلق الفكر وتحرر وازدهر استطاع الإنسان البناء والتقدم والرقي.

وإذا ما تتبعنا ما تعاني منه الكثير من الجماعات الإسلامية في زماننا هذا -سواء من كانوا ينتمون إلى تيارات أو مجموعات أو أحزاب أو روابط ونواد- نجد معظم مشكلاتهم تنبع من تشبثهم بالقديم وتقديسهم له وعدم القدرة على التفكير خارجه خوفًا من المغامرة في التغيير أو لعدم الرغبة في التحرر، وأيًّا كان السبب فقد كان له دور سلبي أدى لإخفاقهم وتراجعهم أمام التطور الكبير السريع والتغيير والتقلب، وأدى إلى ضعف مخرجاتهم وتأثيرهم وصراعهم المستمر مع الأطراف والمكونات الأخرى، هذا رغم وجود مرونة وليونة في القرآن الكريم والسنة النبوية وما تناولته السياسة الشرعية من مفاهيم، تضع بين أيديهم حلولا لما يواجهونه من عقبات، لكن الأمر بحاجة إلى إطلاق لحرية الفكر والرأي وتقبل الرأي الآخر واستيعاب جميع الأطراف في ذلك.

ومن أبرز الآيات التي تضمنت ودلت في معناها على أهمية الحرية قوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون] وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] ففي الآيات توجيه واضح نحو حرية الاعتقاد، وهي أول حقوق الإنسان، فالذي يسلب إنسانًا حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته، والإسلام الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين هو الذي يبين لأصحابه أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين؛ فالدولة التي تقوم على مبدأ حرية الاعتقاد وما دونها هي الأولى والأقدر على إدارة أمور الناس وإشراكهم في بناء الدولة وعمارتها؛ لما في ذلك من أثر إيجابي على قوة الدولة وثباتها.

ومن أصناف الحرية التي سبق إليها الإسلام ونظمها حرية التملك، فيحق لرعايا الدولة الإسلامية على اختلاف مللهم ونحلهم أن يتملكوا ما شاؤوا من العقارات والأراضي والمنافع على اختلاف أشكالها وأنواعها، فينتفع أحدهم منها بقدر حاجته في غير سرف ولا تقتير، على أن يؤدي ما يوجبه الإسلام في المال من حقوق، وحرية التملك هذه يجهلها كثيرون ممن يتكلمون في الإسلام بغير علم، إن حرية التملك تُسْهم في تقوية الدولة فلا تكون شبيهة بمزرعة مالكها واحد، بل ملكيات متعددة وشراكات مختلفة ومتنوعة واستثمارات من شأنها تقوية الدولة، وإن الدولة حينما تحجر على الإنسان وتمنعه من استخدام حريته في التملك وتقاتله وتصادر أمواله وممتلكاته تكون قد أسهمت في ظهور أسباب اضطرابها ودمارها.

ومن الحريات التي أقرها الإسلام الحرية السياسية لكونها مطلبًا مهما وحاجة ملحة ما زالت في ازدياد مستمر بتوسع العالم وتقدم العلم وكثرة خلافاته وإشكالاته، وتلك الحرية لو أطلقت لشكلت عاملًا مهما في تجاوز الكثير من الصعوبات والإشكالات ولردمت كثيرًا من الفجوات، (فالحرية تلك تكون في حق الإنسان باختيار سلطة الحكم وانتخابها ومراقبة أدائها ومحاسبتها ونقدها وعزلها إذا انحرفت عن منهج الله وشرعه، وحولت ظهرها عن جادة الحق والصلاح، كما أنها تحفظ له المشاركة بأعباء السلطة ووظائفها الكثيرة؛ لأن السلطة حق مشترك بين رعايا الدولة وليست حكرًا على أحد أو وقفًا على فئة دون أخرى، واختيار الإنسان للسلطة قد يتم بنفسه أو من ينوب عنه من أهل الحل والعقد، وهم أهل الشورى الذين ينوبون عن الأمة كلها في كثير من الأمور، فيوجهون الحاكم إلى التصرفات ذات الصفة العامة أو الدولية كإعلان الحرب أو الهدنة أو إبرام معاهدة أو تجميد علاقات أو وضع ميزانية أو تخصيص نفقات لجهة معينة أو غير ذلك من التصرفات العامة التي لا يقطع فيها برأي الواحد”([17]).

هذه الحرية -التي دعا إليها الإسلام وجعل لها ضوابط وقواعد تعم أشكالها وأنواعها كلها- قيمةٌ عليا، فيها العزة والقوة والتمكين، لا يعاديها إلا الظلمة والجبارون، يقول الكواكبي: (وإنَّ أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون والشرقيون أن يعرف الناس حقيقةً أنَّ الحرية أفضل من الحياة)([18])، وأنهم بالحرية يحققون أمانيهم ويعيشون بكرامة ويبنون دولة الحق والعدل والمساواة.

خاتمة:

بقيمتي الطاعة والحرية -الأولى بوصفها حقا للحاكم والثانية حقا للمحكوم- تبنى أسس دولة عادلة مستدامة، وهذا لا يعني أن الدول تقوم بهاتين القيمتين فقط بل هناك قيم أخرى لا بد من وجودها معهما، منها العدل والشورى، وقد عُنيَ هذا البحث بمبدأي الطاعة والحرية لما لهما من مركزية في جانب الحاكم والمحكوم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

[1])) الرازي: مفاتيح الغيب التفسير الكبير، (10/112).

[2])) رضا: تفسير القرآن الحكيم، تفسير المنار، (5/203).

([3]) أضواء البيان للشنقيطي، ( 8/ 203).

[4])) الشعراوي: تفسير الشعراوي “الخواطر”، (7/3876) و (4/2360).

[5])) البخاري: صحيح البخاري، رقم 7137، دار طوق النجاة 1422ه، (9/61). صحيح مسلم، رقم 1835، دار إحياء التراث العربي-بيروت، (3/1466)، متفق عليه.

[6])) محمد بن عيسى الترمذي: سنن الترمذي، ت: إبراهيم عطوة عوض، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، ط 1975م، (4/209).

[7])) الشعراوي: تفسير الشعراوي “الخواطر”، (7/3876).

([8]) أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله، رقم 14456، والحاكم عن جابر أيضا وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير: هذا إسناد جيد على شرط مسلم.

[9])) عبد القادر عودة: الإسلام وأوضاعنا السياسية، ص (269).

[10])) الحديث صحيح ورد في مسند أحمد، مؤسسة الرسالة، (31/124)، رقم (18828).

[11])) القرضاوي: الحل الإسلامي فريضة وضرورة، ص (77).

[12])) ابن كثير: البداية والنهاية، (9/622).

[13])) سيد قطب: في ظلال القرآن، (6/3981).

[14])) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: الكواكبي، المطبعة العصرية، حلب، ص (53).

[15])) رواه البيهقي في السنن الكبرى، رقم: 18276، دار الكتب العلمية، 2003م.

[16])) الإسلام وأوضاعنا السياسية: عبد القادر عودة، ص (266).

[17])) الشحود، مفهوم الحرية بين الإسلام والجاهلية، ط2011 ص (48).

[18])) الكَوَاكِبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص (54).