الجوانب الحضارية عند الشيخ محمد الغزالي رحمه الله
ديسمبر 2, 2019
التاريخ تقرره الأفكار لا الأسلحة
ديسمبر 2, 2019

الموضوعات والإسرائيليات في كتب المحدثين

د. عبد العزيز محمد الخلف – أستاذ الحديث النبوي بكلية الإلهيات – جامعة غازي عينتاب

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، أما بعد:

فإن أقلام المنكرين والمشككين بالسنة النبوية ما فتئت تطعن فيها محاولة النيل من مكانتها تارة، والتشكيك في حجيتها تارة أخرى، ومقللة من شأن علمائها وجهودهم تارة ثالثة، سالكة في سبيل ذلك كل ما يمكن أن يحقق لها هذه الغاية.

وقد كانت من بين المسائل التي لاكتها ألسنة الطاعنين أن السنة النبوية لم تصلنا صافية نقية كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، بل شابها الكثير من الزغل والتحريف، بل إن نقلة السنة حادوا عن الطريق، فجعلوا يتخذون من السنة وسيلة للوصول إلى غاياتهم، فملؤوا الصِّحاف بالكذب والزور ترويجًا لباطلهم وتحقيقًا لغاياتهم الشخصية، حتى غدت السنة مرتعًا لكل صاحب غاية باطلة، يمتطيها ليضفي على غايته الدنيئة مشروعية نبوية.

وأمام هذه الدعاوى العريضة كان لا بد من وِقفة علمية متأنية، نستعرض فيها هذه الدعاوى، ونعرضها على ميزان النقد العلمي القويم لنرى مدى صدقها أو بطلانها.

وقد جاء هذا البحث لبيان هذه الغاية في مبحثين:

الأول: الوضع في الحديث، وقد تم من خلال الحديث عنه في ثلاثة محاور، وهي:

  • قضية وضع الحديث بدوافع سياسية.
  • عدد الأحاديث الصحيحة بالنسبة للموضوعات.
  • شبهة تساهل المحدثين في رواية الحديث الموضوع والعمل به في فضائل الأعمال.

الثاني: الإسرائيليات والمسيحيات في الحديث، وقد تناولنا فيه مسألتين:

  • هل تسربت الإسرائيليات إلى السنة؟
  • موقف علماء الإسلام من الإسرائيليات.

كل ذلك وفق منهج استقرائي تحليلي يقارن بين منهج أهل الحديث وكلام دعاة العقلانية المعاصرة.

 

 

المبحث الأول: الوضع في الحديث

يصور العقلانيون مسألة الوضع في الحديث على أنها الأصل، أما الاستثناء فهو رواية الحديث كما سُمع، وهذا يجعل الثقة بما يُرْوَى من حديث محل شكٍ وترددٍ، فإنَّ (الإقرار بوجود حديث نبوي متكامل لفظًا ومعنىً مسألة تفتقد المصداقية التوثيقية التاريخية، أو على الأقل تستثير تحفظًا وشكًا شديدين)([1]).

ويختلف العقلانيون في تحديد بداية نشوء حركة الوضع، فمن قائل: إن الوضع بدأ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان المنافقون واليهود يكذبون عليه صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك قبل أن يطالب الصحابة بالسند، وهذا ما ساعد على قبولها([2])، واستدلوا بأن أحد المنافقين تقوَّل كذبًا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره بأن يَسْتَطْلِعَ أيَّ بيوت المسلمين شاء، فلما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ قال لأبي بكر وعمر: ((انطلقا إليه، فإن وجَدتُّماهُ حَيًّا فاقُتلاهُ ثُمَّ حَرِّقاهُ بالنارِ، وإن وجَدتُّماه قد كُفِيتُماهُ فحَرِّقاهُ، ولا أُراكُما إلا وقد كُفِيتُماه))، فأتياه، فوجداه قد خرج من الليل يبول، فلدغته أفعى، فمات، فحرقاه بالنار([3]).

ومنهم من ذهب إلى أن الوضع بدأ زمن الفتنة، يقول أبو رية: (وقد أجمع الباحثون والعلماء المحققون على أن نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان في أواخر عهد عثمان، وبعد الفتنة التي أودت بحياته، ثم اشتد الاختراع واستفاض بعد مبايعة علي رضي الله عنه)([4])، وهو ما يتفق مع قول علماء الإسلام، وقد جعل الدكتور السباعي سنة أربعين فاصلًا بين عصر صفاء السنة من الدخيل وبين عصر اختلاطها بغيرها([5]).

ويسوق العقلانيون جملة من الادعاءات التي يتخذونها سبيلًا للطعن في منهج المحدثين، وجعل هذه الطعون حجة لإنكار الثبوت التاريخي للسنة المطهرة، ومن هذه الادعاءات:

أولا: قضية وضع الحديث بدوافع سياسية

يقول محمد هيكل: (والواقع أن المنازعات السياسية التي حدثت بعد الصدر الأول من الإسلام أدت إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدًا لها)([6])، (ومن الحق أن المسلمين بلغ اختلافهم بعد وفاة النبي حدًّا دعا الدعاة إلى اختلاق الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات، فلما استتب الأمر لبني أمية جعل المحدثون المتصلون ببني أمية يضعفون ما يروى عن علي بن أبي طالب وفضائله، في حين جعل أنصار علي وأهل بيت النبي يزيدون في هذه الأحاديث ويحاولون إذاعتها بكل الوسائل، كما جعلوا يُعرِضون عما يروى عن عائشة أم المؤمنين)([7]). هكذا يصور هيكل أن الجو العام جو تنافرٍ وتباغضٍ دفع كل طرفٍ إلى أن ينشر الموضوعات ويسعى في ذلك، بينما يُعرض عن أحاديث الطرف الآخر ويضعف ما عنده من الروايات.

ويكفينا للرد على هذا الادعاء أن نفتح أي كتاب من الكتب الجوامع لنجد كم الأحاديث التي تروى عن عليٍّ وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، سواء تلك التي تنقل عنهم أحاديث يروونها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو تلك المخصصة للحديث عن فضائلهم رضي الله عنهم، فقد روى أصحاب الكتب الستة عن عليٍّ رضي الله عنه وحده أكثر من ثلاثمائة حديثٍ([8])، وروى له أحمد في مسنده أكثر من ثمانمائة حديثٍ([9])، كما أفرد البخاري بابًا خاصًّا في فضائل علي، سماه (باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه)، روى فيه سبعة أحاديث في فضائله رضي الله عنه، وكذلك فعل مسلم، فقد روى في فضائله ستة أحاديث.

ولا يخفى أن العصر الذي كتب فيه الأئمة الستة كتبهم هو عصر بني العباس، وكان الجفاء بين بني العباس وبني علي بن أبي طالب هو السائد، فلم كُتبت هذه الأحاديث إذا كان للسياسة يد طولى على المحدثين؟

ثانيا: عدد الأحاديث الصحيحة بالنسبة للأحاديث الموضوعة

يزعم قائلهم أن البخاري (ألفَى الأحاديث المتداولة تُربي على ستمائة ألف حديثٍ، لم يصح لديه منها أكثر من أربعة آلاف، وهذا معناه أنه لم يصح لديه من كل مئة وخمسين حديثًا إلا حديث واحدٌ)([10])، ويؤيدون استدلالهم بقول الإمام الدارقطني: (الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود)([11]).

ليت المخالف إذ احتج أنصف، ولكن المتحدث هنا قد اجتزأ من خطة تصنيف الإمام البخاري لصحيحه ما يفيده في فكرته، ثم فسر هذا النص المجتزأ بما يهواه، وكذلك ديدن تلامذتهم إلى اليوم، والحقيقة أن الإمام البخاري إذ قال: (صنَّفتُ كتابي الصَّحيح لستَّ عشرة سنة، خرَّجتُه من ستِّمائة ألف حديثٍ، وجعلتُه حجَّةً فيما بيني وبين الله تعالى)([12]) فقد قال أيضا: (لم أخرِّج في هذا الكتاب إلَّا صحيحًا، وما تركتُ من الصَّحيح أكثر)[13]، ومع أن ما نقلوه عن البخاري من أنه اختار أحاديث صحيحِهِ من هذا الكم الهائل من الروايات يدل على مدى الدقة والتحري لدى هذا الإمام الكبير فقط لا على حصر عدد الصحيح، إلا أن الحق أنهم فهموا هذا النص على غير وجهه حتى يوظفوه فيما يريدونه.

وإن المطلع على علم الحديث لَيعلم أن المقصود من هذه الألوف المؤلفة من الأحاديث إنما هو الطرق والأسانيد لا المتون، وهذا يعني أن الأحاديث الصحيحة فيها ليست أربعة آلاف حديثٍ فقط، بل هي أكثر من ذلك بكثير كما قال الإمام البخاري، فلا يمكن التسليم بنسبة الأحاديث الصحيحة إلى الأحاديث الموضوعة.

ويكفينا لبيان نسبة الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى الأحاديث الصحيحة أن ننقل قولًا آخر للبخاري، يقول رحمه الله تعالى: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح)([14]) أي أن الأحاديث غير الصحيحة -وهذا يشمل الموضوع والضعيف- ضِعْف الأحاديث الصحيحة في محفوظات الإمام البخاري.

وزيادة على ما سبق فإن انتشار الوضع والكذب لا يدل على أن هذه الموضوعات قد تسربت إلى كتب المحدثين، فقد كانوا لها بالمرصاد، وبذلوا الغالي قبل الرخيص في سبيل تنقية سنة المصطفى مما قد يعلق بها، وكان هذا الحرص على تنقية السنة أمرًا مستقرًا في الأذهان حاضرا في الواقع، فها هو أحد الزنادقة يُذهب به لتضرب عنقه فيقول: (لم تضرب عنقي يا أمير المؤمنين؟ قال: أريح الناس منك، قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيها حرف نطق به؟ فيبادره الخليفة بقوله: فأين أنت يا عدوّ الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلًا، فيخرجانها حرفًا حرفًا)([15])، وعندما تحدث أحدهم عن انتشار الموضوعات قال ابن المبارك: (تعيش لها الجهابذة)([16]).

ثالثا: شبهة تساهل المحدثين في رواية الحديث الموضوع والعمل به في فضائل الأعمال

ينسب بعض العقلانيين للمحدثين أنهم وصلوا من التساهل في رواية الموضوعات أن قالوا بالعمل بها في فضائل الأعمال، (فاعتبروا الحديث الموضوع صنفًا من أصناف الحديث الضعيف التي لا يعمل بها إلا في الفضائل)([17]).

وهذا القول ينطوي على حقيقة ومغالطة؛ أما الحقيقة فهي أن المصنفين في علوم الحديث عدوا الموضوع نوعًا من أنواع الحديث الضعيف، ولكنهم نصوا على أنه شر الأحاديث الضعيفة، وقد اعترض بعض المحدثين على عد الموضوع قسمًا من أقسام الضعيف، يقول الزركشي: (أما أن الموضوع من أقسام الضعيف فغير مُسَلَّمٍ؛ لأن الموضوع ليس بحديث أصلًا بل لا ينبغي أن يعد البتة)([18])، ويقول ابن حجر تعقيبًا على قولهم شر الأحاديث الضعيفة: (اسْتُنْكِرَت، لأن الموضوع ليس من الحديث النبوي)([19])، ثم أجاب عن ذلك فقال: (أراد بالحديث القدر المشترك، وهو ما يُحدَّث به)([20]). أي أن الحديث هنا هو إطلاق لغوي، وليس إطلاقًا مصطلحيًّا.

أما المغالطة فهي ادعاؤه أن المحدثين كانوا يقولون بالعمل بالحديث الموضوع، فهذا ما لم يكن البتة، بل أقوالهم تنهى عن مجرد رواية الموضوع من دون بيان حاله، فكيف بالعمل به! يقول ابن الصلاح: (ولا تحل روايته لأحدٍ علم حاله في أي معنىً كان إلا مقرونًا ببيان وضعه، بخلاف غيره من الأحاديث الضعيفة التي يحتمل صدقها في الباطن، حيث جاز روايتها في الترغيب والترهيب)([21]).

فالعمل بالموضوع لا قائل به، وإنما قال جمهور المحدثين بالعمل بالضعيف في فضائل الأعمال، واشترطوا لذلك شروطًا ثلاثة:

الأول: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه.

الثاني: أن يكون مندرجًا تحت أصلٍ عامٍ، فيخرج ما يُخترع بحيث لا يكون له أصل أصلًا.

الثالث: ألا يعتقد عند العمل به ثبوته، لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله([22]).

وبهذا يظهر أن نسبة التساهل إلى المحدثين غير صحيحة أصلًا، بل منهج المحدثين قائم على وضع الأمر موضعه اللائق به بدون تشدد أو تساهل.

 

 

المبحث الثاني: الإسرائيليات والمسيحيات في الحديث

الإسرائيليات: جمع إسرائيلية، نسبة إلى بني إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وبنو إسرائيل هم أبناء يعقوب ومن تناسلوا منهم فيما بعد إلى عهد موسى ومن جاء بعده من الأنبياء حتى عهد عيسى عليه السلام، أما من آمنوا بعيسى فقد أصبح يطلق عليهم اسم النصارى([23]).

وأشهر كتب اليهود هي التوراة، وقد ذكرها الله في بدايات سورة آل عمران، قال تعالى: ﴿الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَان﴾ [آل عمران: 1]، ومن كتبهم أيضًا الزبور -وهو كتاب داود عليه السلام- وأسفار الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى عليه وعليهم السلام.

وتسمى التوراة وما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها (العهد القديم)، وكان لليهود بجانب التوراة المكتوبة التلمود، وهي التوراة الشفهية، وهو مجموعة قواعد ووصايا وشرائع دينية وأدبية ومدنية، وشروح وتفاسير وتعاليم وروايات كانت تتناقل وتدرس شفهيًا من حينٍ إلى آخر([24]).

في تراثنا الإسلامي يقصد بالإسرائيليات تلك الروايات التي تنسب لعلماء بني إسرائيل، وهي عبارة عن قصص تتحدث عما كان قبل الإسلام أو ما ستؤول إليه الخليقة، وفيها الحق والباطل، أما المسيحيات فهي تلك الروايات المنسوبة للنصارى أتباع المسيح عيسى عليه السلام([25]).

وقد رأى العقلانيون أن كثيرًا من الإسرائيليات والمسيحيات قد تسربت إلى الحديث النبوي، فنسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما نقل الصحابة علومهم الحديثية كانت الإسرائيليات متداخلة مع الحديث النبوي، فلم يتم التمييز بين ما مصدره الرسول صلى الله عليه وسلم وما مصدره كعب الأحبار أو عبد الله بن سلام أو وهب بن منبه أو غيرهم من مُسلمة أهل الكتاب([26]).

وبحسب هؤلاء فقد ساعد على تسرب الإسرائيليات والمسيحيات عاملان:

الأول: مكر اليهود ودهاؤهم، فقد استطاعوا أن يتغلغلوا في الصف الإسلامي بوصفهم مسلمين، وقد عملوا على تمثيل دور الأتقياء الورعين، الأمر الذي مكنهم من كسب ثقة الصحابة الذين كانوا يمتازون بالفطرة العربية التي لا تعرف المكر والخديعة، ثم تمكنوا من بث سمومهم الرامية إلى نقض الإسلام من داخله، تارة على أنها معلومات مستقاة من الكتاب المقدس، وتارة على أنها أحاديث سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابته الكرام، ومن أشهر من قام بهذا الدورِ عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه.

الثاني: أن السنة لم تكن محدودة المعالم أو محفوظة الأصول بسبب تأخر التدوين([27]).

وهكذا دخلت الإسرائيليات وأصبحت جزءًا من السنة، (ولا يعجب القارئ من أن يدخل في الإسلام مسيحيَّات بعد أن دخل فيه إسرائيليات، فإنه قد شِيب من كل دينٍ ومن كل نحلةٍ)([28]).

ويرى العقلانيون أن مجرد رواية الإسرائيليات خطأ كبير وقع فيه المحدثون، إذ كيف استساغوا رواية الإسرائيليات وكتابُ الله ينبههم إلى أن التحريف قد طال كلًّا من التوراة والإنجيل؟ يقول أحدهم: (ويقدم المحدثون لتبرير الإسرائيليات أقاويل هي مزيج من السذاجة والتحايل، مع وجود الآيات الصريحة في القرآن عن تحريف الرهبان والأحبار للكتب المقدسة، الأمر الذي يستتبع البعد عنها لأن الترخص في هذا يمكن أن يدخل على الإسلام هذه التحريفات)([29]).

ولا بد لبيان صوابية ما ذهبوا إليه من خطئه من مناقشة نقطتين:

الأولى: هل تسربت الإسرائيليات إلى السنة، والثانية: موقف علماء الإسلام منها.

أولا: هل تسربت الإسرائيليات إلى السنة؟

إن من يقرأ كلام العقلانيين يخيل إليه أن الإسرائيليات قد غالبت السنة النبوية فغلبتها، بحيث أصبحت الكثرة الكاثرة مما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات مصدر يهودي أو مسيحي، ولكن هذا التخيل يزول لو علمنا نسبة الأحاديث التي يرويها مسلمة أهل الكتاب بالنسبة لما رواه غيرهم، فلو عدنا إلى الكتب الستة وبحثنا عن عدد مرويات عبد الله بن سلام مثلًا، لوجدنا أنه لم يرو أكثر من (17) سبعة عشر حديثًا([30])، وروى أصحاب الكتب الستة لكعب الأحبار سبعة أحاديث([31])، وروى أبو هريرة ثلاثة أحاديث عن كعب من قوله، ولم يروِ عبد الله بن عمرو أي حديث عن كعب الأحبار، فهؤلاء هم أشهر الرواة من مسلمة أهل الكتاب، وأبو هريرة وابن عمرو بن العاص أشهر الرواة عنهم من الصحابة، ولم يتجاوز مجموع مروياتهم جميعًا الثلاثين حديثًا، وهذا يثبت أن محاولة الإيهام بكثرة الرواية عن علماء بني إسرائيل محاولة غير موفقة.

ومما يؤكد أن هذه الإسرائيليات لم تتسرب إلى السنة موقفُ أبي هريرة من أحاديث كعب الأحبار، ويتجلى ذلك في هذه المواقف الثلاثة([32]):

الموقف الأول: أن أبا هريرة كان يميز بين ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وما سمعه من كعب الأحبار، فقد روى مسلم بسنده إلى بسر بن سعيد قال: (اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)([33])، فهو يميز بينهما، ولا يخلطهما ببعضهما، وكذلك حال الثقات من تلامذته، وإنما خلّط بينهما من لم يكن من الحفاظ عنه.

الموقف الثاني: أن أبا هريرة لم يكن يقبل ما يرويه كعبٌ مخالفًا لما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو هريرة قال: (أتيت الطور، فوجدت ثَمَّ كعبًا، فمكثت أنا وهو يومًا، أحدِّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثني عن التوراة، فقلت له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة، ما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مُصيخة حتى تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا ابن آدم، وفيه ساعة لا يصادفها مؤمن وهو في الصلاة يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه)) فقال كعب: ذلك يوم في كل سنة؟ قلت: بل هي في كل يوم جمعة، فقرأ كعب [أي التوراة]، قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في كل جمعة)([34]). فانظر إلى تشبث أبي هريرة رضي الله عنه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ورده على كعب لما خالفه، ثم انظر إلى رجوع كعبٍ إلى الحق، لتعلم أن الكل يبحث عن الحق.

الموقف الثالث: الأصل فيما يرويه أبو هريرة أن يكون مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما يحكيه عن أهل الكتاب فينص عليه، فعندما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((فُقدت أمة من بني إسرائيل، لا يدرَى ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته؟))، قال أبو هريرة: فحدثت هذا الحديث كعبًا، فقال: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، قال ذلك مرارًا، قلت: أأقرأ التوراة؟)([35]). قال النووي: (وهو استفهام إنكار، ومعناه: ما أعلم، ولا عندي شيء إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أنقل عن التوراة ولا غيرها من كتب الأوائل شيئًا، بخلاف كعب الأحبار وغيره ممن له علم بعلم أهل الكتاب)([36]).

يثبت من هذا أن شبهة تسرب الإسرائيليات إلى السنة النبوية لا تعدو كونها ادعاءً لا دليل عليه، اللهم إلا أن يكون مجردُ الرفض العقلي لحديثٍ ما  -بالنسبة لهم- دليلًا على كونه من الإسرائيليات، أو أن يكون مجرد التشابه بين ما يحكيه الحديث وما يتضمنه الكتاب المقدس دليلًا على ذلك، وواضحٌ لكل ذي بصيرة أن كلًّا من الأمرين لا يمكن أن يكون دليلًا على هذه الدعوى العريضة، ولأُوضِّحْ هذا الأمر بمثالٍ على كل دعوى:

المثال الأول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلًا عابدًا، فاتخذ صومعةً فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا ربِّ، أمي وصلاتي، فأقبَلَ على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا ربِّ، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي ربِّ، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأةٌ بغيٌّ يُتمثَّلُ بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتنَّنَه لكم، قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جُريج، فأتوه، فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغيِّ، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلَّى، فلما انصرف أتى الصبيَّ، فطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا.

وبَيْنا صبيٌّ يرضع من أمه، فمرَّ رجلٌ راكب على دابةٍ فارهةٍ، وشارةٍ حسنةٍ، فقالت أمُّه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه، فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها.

قال: ((ومَرُّوا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعَا الحديث، فقالت: حَلْقَى مَرَّ رجل حسن الهيئة فقلتُ: اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله، ومَرُّوا بهذه الأَمَة وهم يضربونها ويقولون زنيت، سرقت، فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذاك الرجل كان جبارًا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن، وسرقت ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها))([37]). وقد علّق أحد العقلانيين على هذا الحديث قائلًا: (هذه الخرافة غير مقبولةٍ، حتى لو كتبت في كتاب للأساطير الشعبية؛ لأنها من الخرافات الإسرائيلية التي نهى الله سبحانه المؤمنين أن يستمعوا لمثلها)([38]). ولم يُبْدِ أيَّ دليلٍ يدعم قوله.

ولعله إنما استشكل هذا الحديث فنسبه إلى الإسرائيليات لأن فيه إثباتًا لحديث الرضيع، وهو مخالف للسنة الكونية؛ إذ المعتاد أن لا يتكلم الرضيع إلا بعد بلوغه سنًا معينةً، لكن هذا الذي استنكره الكاتب غير ممتنعٍ شرعًا، وهو واقعٌ فعلًا، فقد تكلم عيسى ابن مريم وهو في المهد، قال تعالى: ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم: 29]، وامتنَّ الله على عيسى أن جعله ينطق وهو صبي في المهد: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ [المائدة: 110] وما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامةً لولي، ونحن إذا ما استرسلنا في إنكار كل ما يخرق المألوفات فإنا سننكر كثيرًا من آيِ الكتاب الحكيم من مثل قوله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69]، وقوله: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: 107]، والذي يعنينا في هذا المقام أن الكاتب زعم أن هذا الحديث من الإسرائيليات دونما دليل يؤيده، اللهم إلا مجرد عدم قناعته العقلية بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقوله.

المثال الثاني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب))، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: ((هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون)) فقام عكاشة فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((أنت منهم))، قال: فقام رجل فقال: يا نبي الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((سبقك بها عكاشة))([39]). جعل أحد العقلانيين هذا الحديث من الإسرائيليات لأنَّ الدين الإسلامي لا يجعل وسيطًا بين العبد وربِّه، بخلاف دين أهل الكتاب الذي يَحْرِم العبد من إجراء اتصالٍ مباشَرٍ مع ربه، ويسوق دليلًا على أن هذا الحديث من الإسرائيليات قصةً منسوبةً لإسحاق بن إبراهيم: عندما طلب من ابنه البكر عيسو أن يأتي بقربان حتى يدعو له ويباركه، علمت بذلك زوجته التي تحب ابنه الأصغر يعقوب أكثر من ابنه الأكبر، فجعلته يخدع أباه الضرير، فيأتي بقربانٍ، فيدعو له الأبُّ ظنًّا منه أنه عيسو، وعندما عاد عيسو وقدَّمَ القربان لأبيه أدركَ الأب أنه وقع في مكيدةٍ، فطلب منه عيسو أن يدعو له، فقال: (لا أستطيع أن أدعو لك وأباركك؛ لأني سبق أن دعوت لأخيك يعقوب قبلك)، ثم يعلق قائلًا: (هذا منطق التوراة وليس منطق القرآن، وهذا الأسلوب غير موجود في الإسلام أبدًا، إذًا مصدر الحديث وصاحبه من أهل الكتاب)([40]).

ويلاحظ من هذا الاستدلال أن الكاتب جعل قصة عُكَّاشَة مختَلَقَةً مصدرُها الإسرائيليات؛ لأن التوراة تضمنت قصةً مشابهةً امتنع فيها النبي إسحاق عن الدعاء لابنه عيسو لأنَّ أخاه يعقوب قد سبقه بطلب الدعاء، فهل مجرد التشابه بين الحادثتين في جزئية ما كافٍ لادعاء أن إحداهما أصل للأخرى؟

والحق أن دعوى إسرائيلية هذا الحديث قائمة على دعامتين:

الأولى: ادعاء أن الحديث يُثبت واسطةً بين العبد وربه، وهذا ليس من الإسلام. والواقع أن هذا الادعاء بُنِيَ على فهمٍ خاطئٍ، فليس في الحديث ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان واسطةً لعُكَّاشة لدخول الجنة، بل غاية ما في الحديث أنْ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عكاشة من أهل الجنة الذين يدخلونها بغير حسابٍ، وهذا من إطْلاع الله له بما سيكون، وهو متوافقٌ مع قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26 – 27].

الثانية: أن ثمَّة تشابهًا بين الحادثتين، وهو غير مسلّم به، فالحادثتان مختلفتان، فالرسول صلى الله عليه وسلم امتنع عن أن يدعو للصحابي الثاني أن يكون ممن يدخل الجنة بغير حساب، ولعل ذلك لأن الله أطلعه على أن هذا الصحابي لن يدخل الجنة بدون حساب، أو لغير ذلك، بينما تتضمن حادثة إسحاق وأبنائه تعميدًا وتبريكًا ليسا في الإسلام أصلًا، وحتى لو تشابهت الحادثتان في تلك الجزئية، فإن ذلك لا يدل على أن مصدرهما واحدٌ، بل قد يدل التشابه على أن كلا النصين وحيٌ من الله تعالى، فينقلب التشابه دليلًا على أن السنة وحي كما التوراة والإنجيل([41]).

ثانيا: موقف علماء الإسلام من الإسرائيليات

تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى أقسام ثلاثة، هي:

أ. ما يُعلم صحته: بأن نُقِل عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلًا صحيحًا، وذلك كتعيين اسم صاحب موسى عليه السلام بأنه الخضر، فقد جاء هذا الاسم صريحًا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري، أو كان له شاهد من الشرع يؤيده، وهذا القسم صحيحٌ مقبولٌ.

ب. ما يُعلم كذبه: بأن يناقض ما عرفناه من شرعنا، أو كان لا يتفق مع العقل، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.

ج. ما هو مسكوتٌ عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثاني، وهذا القسم نتوقف فيه، فلا نؤمن به ولا نُكذِّبه، وتجوز حكايته؛ لاحتمال أن يكون صدقًا أو كذبًا، ولكن لما لم يكن ثمة دليل قاطع على أحدهما جازت روايته من دون إعطائه وصفًا([42]).

وهذا المنهج مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا ﴿آمنا بالله وما أنزل﴾))([43])، وقوله: ((ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوه، وإن كان حقا لم تكذبوه))([44]).

وموقف علماء الإسلام هذا نابعٌ من إيمانهم بأن هذه الكتب أصلُها صحفٌ منزلةٌ من عند الله تعالى، ولكن دخَلَها كثيرٌ من التحريف والتزوير، فكان موقف علماء الإسلام موقفًا معتدلًا متزنًا، قام على رفض ما ثبت تحريفه لمخالفته القرآن أو السنة الصحيحة، وقبول ما وافقهما، أما ما لم يكن له مؤيد إيجابي أو سلبي فقد سُمح بروايته لاحتمالية صدقه، ونُهي عن الإيمان بما فيه لاحتمالية تزويره، وهذه قمة العقلانية([45]).

الخاتمة:

ولا بد في الختام من التأكيد على ما يأتي:

  • يرى العقلانيون أن الأصل في كتب السنة أنها تروي الموضوعات، أما الأحاديث الصحيحة فهي نادرة في كتبهم.
  • ويرى هؤلاء أيضًا أن الدافع إلى رواية الموضوعات إنما هو السياسة.
  • الواقع أن نظرة واحدة إلى كتب السنة تبطل دعوى دعاة العقلانية، فهي مليئة بأحاديث تقوض عروش السلاطين، وتقلب استقرارهم إلى قلق دائم.
  • يرى العقلانيون أن نسبة الحديث الصحيح في الموضوع كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود.
  • إن ادعاء العقلانيين ندرة الحديث الصحيح جهل منهم بحقيقة الأسانيد، فليس معنى أن عند المحدث آلاف الأحاديث أنها جميعًا بمتون مختلفةٍ، بل يعبر المحدثون عن كل طريق من طرق الحديث بأنه حديث مستقل، فقد يكون للمتن الواحد المئات من الطرق، بعضها مطعون فيه، وبعضها الآخر صحيح.
  • انتشار الموضوعات -لو صدق زعمهم- ليس دليلًا على أنها دخلت في كتب المحدثين، فهذا زعم لا دليل عليه، بل واقع أحوال المحدثين في التحري والتنقيب والرحلة في طلب الحديث يخالف ما زعموه.
  • إن زعم بعضهم أن المحدثين كانوا يتساهلون في رواية الموضوعات بل يعملون بها في فضائل الأعمال هو قول من لم يقرأ كتب المحدثين أو يعرف مناهجهم؛ فالمحدثون يحذرون من الكذب على رسول الله أيما تحذير، بل ويعدون توبة التائب من الكذب في حديث النبي صلى الله عليه وسلم غير مقبولة، فكيف يروون الموضوعات؟
  • يرى العقلانيون أن الإسرائيليات قد تسربت بشكل كبير إلى السنة النبوية من خلال مسلمة أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار والنقلة عنهم من الصحابة كأبي هريرة وابن عمرو بن العاص.
  • واقع الأمر يكذب ذلك، فلم تروِ الكتب الستة عن مسلمة أهل الكتاب إلا بضعة عشر حديثًا، ولم يروِ كبار الآخذين عنهم إلا قريبًا من ذلك.
  • وموقف المحدثين من الإسرائيليات يعزز هذه النظرة، فقد وقفوا موقفًا متوسطًا، فلا هم صدقوهم في كل ما حدثوا به، ولا هم كذبوهم في كل ذلك، بل أرجعوا الأمر لما في الكتاب وصحيح السنة، فإن وافقه فهو المقبول، وإن خالفه فهو المردود، وإن كان مسكوتًا عنه يسمعْ من غير أن تعتقد صحة ما جاء به.

وفي الختام: اسأل الله العلي القدير أن أكون قد وُفقت إلى عرض هذه المسألة المهمة وإيفائها حقها، فما كان من صواب فهو محض توفيق من الله تعالى، وما كان غير ذلك فهو مني ومن الشيطان، وأستغفر الله منه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

([1]) النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة: طيب تيزيني، دار الينابيع، دمشق، 1997: (75).

([2]) نحو فقه جديد: جمال البنا، دار الفكر الإسلامي، د. ط، د. ت: 2/161، فجر الإسلام: أحمد أمين، مؤسسة هنداوي، القاهرة، (231).

([3]) أخرجه الطبراني في الأوسط، دار الحرمين – القاهرة، 1415هـ، (2/318)، وقد اختلف العلماء في حكم هذا الحديث، فجعله بعضهم موضوعًا، وعده بعضهم ضعيفًا، وقال آخرون بأنه يرتقي إلى رتبة الحسن لغيره بطرقه وشواهده. ينظر: السنة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي- دار الوراق، بيروت، ط1، 2000 م: (267-269)، والمنهج الإسلامي في الجرح والتعديل، د. فاروق حمادة، دار طيبة، الرياض، ط3، 1418 هـ، 1997م، (324-326).

([4]) أضواء على السنة المحمدية: محمود أبو رية، دار المعارف-القاهرة، ط6، (91). انظر: حياة محمد، محمد حسين هيكل، دار المعارف، القاهرة، ط14، د.ت: (66)، والنص القرآني: (66).

([5]) السنة ومكانتها في التشريع (92).

([6]) حياة محمد (66).

([7]) حياة محمد (67-68).

([8]) تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: المزي، المكتب الإسلامي، بيروت، (7/26).

([9]) مسند الإمام أحمد، من الحديث رقم (562) إلى الحديث رقم (1380). مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1420هـ.

([10]) حياة محمد: (66). وانظر: النص القرآني، طيب تيزيني: (67).

([11]) لم أجد قول الدارقطني هذا، ولا أدري من أين جاء به هيكل.

([12]) هدي الساري (1/489).

([13]) المصدر السابق (1/7).

([14]) الإرشاد في معرفة علماء الحديث: الخليلي، مكتبة الرشد – الرياض، ط1، 1409هـ: 3/962، تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (2/340).

([15]) إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء): ياقوت الحموي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1414 هـ – 1993 م، 1/95. تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، ابن عراق الكناني، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1399 (1/16).

([16]) الموضوعات: ابن الجوزي، د.د، ط1، 1386هـ، 1966م، (1/46).

([17]) نحو فقه جديد: جمال البنا، (2/109).

([18]) النكت على ابن الصلاح: الزركشي، أضواء السلف – الرياض، ط1، 1419هـ – 1998م: (1/395).

([19]) النكت على ابن الصلاح: ابن حجر، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط1، 1984م، (2/838).

([20]) المصدر السابق، الموضع نفسه.

([21]) علوم الحديث: ابن الصلاح، دار الفكر، دمشق، ط3، 2000م: (98-99). نزهة النظر: ابن حجر، مطبعة الصباح، دمشق، ط2، 1993م، (91).

([22]) منهج النقد في علوم الحديث: د. نور الدين عتر، دار الفكر، دمشق، ط3، 1418هـ، 1997م، (293).

([23]) الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير: محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، مصر، ط4، (12).

([24]) المرجع السابق (12-13).

([25]) المرجع السابق (13).

([26]) الحداثة وموقفها من السنة: د. الحارث فخري عيسى عبد الله، دار السلام، القاهرة، ط1، 2013: (171).

([27]) أضواء على السنة المحمدية (118-119).

([28]) أضواء على السنة المحمدية (155).

([29]) الأصلان العظيمان الكتاب والسنة، رؤية جديدة: جمال البنا، مطبعة حسان، القاهرة، (292).

([30]) تحفة الأشراف، المزي: (4/352-357) من الترجمة رقم (5328) حتى الترجمة رقم (5345).

([31]) تحفة الأشراف (13/343-344) من الترجمة رقم (19238) حتى الترجمة رقم (19244).

([32]) الاتجاه العقلي وعلوم الحديث: د. خالد أبا الخيل، الجمعية العلمية الفكرية السعودية، الرياض، ط1، 1435، (369-371).

([33]) التمييز: الإمام مسلم، دار الكوثر، السعودية، ط3، 1410هـ، 1990م، (175).

([34]) أبو داود، أبواب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة وليلتها، حديث رقم (1046)، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ط، د. ت، ومالك في الموطأ، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، 1406 هـ – 1985 م، (1/108)، والنسائي في الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ، 1991م، (2/293).

([35]) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم، حديث رقم (3129)، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، ط3، 1407، 1987، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الفأر وأنه مسخ، حديث رقم (2997)، دار الجيل، بيروت- دار الآفاق الجديدة، بيروت، د.ط، د.ت.

([36]) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط2، 1392، (18/124).

([37]) البخاري، كتاب الأنبياء، باب {واذكر في الكتاب مريم}، حديث رقم (3253)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة، حديث رقم (2550).

([38]) الحديث والقرآن: ابن قرناس، دار الجمل، ألمانيا، ط1، 2008، (80).

([39]) البخاري، كتاب الطب، باب من لم يَرْق، حديث رقم (5420)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، حديث رقم (216).

([40]) دين السلطان: عز الدين النيازي، الأهالي للطباعة، دمشق، ط2، 1997، (166).

([41]) الاتجاه العقلي وعلوم الحديث (368).

([42]) التفسير والمفسرون: حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، د. ط، د. ت، (1/130).

([43]) البخاري: كتاب الشهادات، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة، تعليقًا.

([44]) أبو داود: كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب، حديث رقم (3644).

([45]) الاتجاه العقلاني وعلوم الحديث (357-358).