إضاءات حول جهود العلماء في تصنيف التصرفات النبوية
سبتمبر 14, 2020
مقاربات – العدد الثامن كاملاً PDF
سبتمبر 14, 2020

صدق النية وحده لا يكفي

تحميل المقالة كملف PDF

د. عبد العزيز محمد الخلف _ رئيس التحرير

من أكبر المغالطات التي يغالط بها المبطِلون أنفسهم قبل غيرهم أن يظنوا أن صدق النيات وحده كافٍ في النجاة يوم القيامة، فيحسبون أن صدق نياتهم في تلمس طريق الحق والصواب شافعٌ لهم يوم القيامة ولو كانت النتائج التي توصلوا إليها مخالفة لما عليه أهل الإسلام وأكابر العلماء جيلًا بعد جيل.

وإن هذا الظن يعود إلى سوء تقديرهم للأمور، فكل علماء الأمة متفقون على أن أيَّ عملٍ أو قولٍ مردودٌ إلا بأمرين:

الأول: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة، وهذا الذي تضمنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ترويه السيدة عائشة رضي الله عنها: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد))([1]).

والثاني: أن تكون النية صالحة بأن يقصد به وجه الله عز وجل، وذلك ما أكده حديث عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))([2]) وفي ذلك يقول الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى -بعد أن تلا قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]-: (إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا، والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة)([3])، ودلَّ على هذا الذي قاله الفضيل قول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

ولعلنا إذا قرأنا التاريخ وجدنا في طوائف المنتسبين إلى الإسلام من كان يتورع عن التقاط تمرةٍ يراها وسط الطريق ولا يتورع عن دماء بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ركونًا منهم إلى صدق نياتهم وإخلاصهم في بحثهم عن الحق بزعمهم، حتى إن قدوتهم الأول لم تعجبه قسمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله اعدل)، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل! قد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل))، فلما همَّ عمر بقتله قال صلى الله عليه وسلم: ((دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية))([4]).

إنهم قومٌ عقولهم صغيرةٌ لكن نياتهم صادقة، فكانوا صٌوَّامَ نهارٍ رهبانَ ليلٍ وقُوَّامَه، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن صلاة الصحابة وصيامهم قليلة أمام صلاة أولئك وصيامهم لكنهم أُتُوا من سوء الفهم.

والغريب أن سوء الفهم هذا لم يعد قاصرًا على الجهلة بل تعداهم ليصل إلى من ينسبون أنفسهم إلى العلم وأهله، فتجد أحدهم يُقدِّم كل بحث له يَعرِفُ أن نتائجه تخالف العلماء المحققين بأنه ينطلق من نية صادقة ولا يبغي من وراء عمله دنيا يصيبها أو شهرة يحصلها، إنما هي الغيرة على الدين، ثم إذا ما دققت في عمله وجدته بعيدًا عن المنهج العلمي الرصين، فلا هو امتلك أدوات البحث ووسائله، ولا هو تجرد عن الأحكام المسبقة التي استبطنها قبل أن يشرع ببحثه، ولا هو انفك عن انطباعاته وذوقياته، ولا حجة لهم في ميدان العلم سوى ما يذكرونه من صدق نياتهم فيما يصلون إليه بمناهج فاسدة وأدوات قاصرة.

وقد وُجد من أولئك القوم في زماننا من جعلوا الحديث عن السنة وانتقاد جهود المحدثين والعَيْب على مناهج المتقدمين ديدنًا لهم حتى يكاد

يُخيَّل لمن يقرأ كلامهم أن علماء الحديث الأوائل كانوا بلا عقول فرَوَوا لنا الغث والسمين، وأن كل تلك الجهود العظيمة التي بذلوها والأموال التي أنفقوها والأوقات التي أهدروها كانت في غير ما يجب أن تنفَق فيه، فالمحدثون -بزعم هؤلاء المجترئين- قومٌ أفنوا أعمارهم في البحث الذي لا ينتج معرفة.

والواقع أن كثيرًا من المنتقدين لا يحسنون تخريج مسألة أو فهم قولٍ لأولئك العلماء الأوائل، مكتفين فيما يخوضون فيه من العلم بصدق نياتهم في الدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيتها من الدخيل والمصنوع والمكذوب والإسرائيلي بزعمهم.

إن هؤلاء أحوج ما يكونون إلى أن يعودوا إلى أنفسهم فيصلحوها؛ ليدركوا -إن أخلصوا- أنهم أخطؤوا الطريق.

 

([1]) البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، حديث رقم (2697)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم (1718).

([2]) البخاري، كتاب بدء الوحي، حديث رقم (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنية»، حديث رقم (1907).

([3]) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1422: 1/72.

([4]) البخاري، في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3414)، ومسلم، في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم رقم (1064).