تجدد ظاهرة الوضع في الحديث وخطرُها على العقيدة والشريعة في العصر الحديث
سبتمبر 14, 2020
الرَّدُّ على الطاعِنِين في السُّنَّة (سنَدًا ومَتْنًا)
سبتمبر 14, 2020

السنة في عيون المحدثين

تحميل البحث كملف PDF

الدكتور عبد العزيز خلف – أستاذ الحديث الشريف في أكاديمية باشاك شهير

للمحدثين جهود كبيرة بذلوها في سبيل تنقية السنة من الدَّخَل والزيغ، وقد كانت هذه الجهود محل احترام كل منصف، وسنحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على جزء من هذه الجهود مقرونةً بالإجابة عن بعض الشبهات والأسئلة التي طالت تلكم الجهود.

أولًا: تعريف السنة عند المحدثين

تعريف السنة عند المحدثين من أشمل التعريفات فهي:  «كل ما أُثِرَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ خُلُقيةٍ أو خَلْقيةٍ أو سيرةٍ، سواءٌ أكان ذلك قبل البعثة كتحنثه في غار حراء أم بعدها»([1]).

وهذا الشمول في تعريف المحدثين مقصود، ذلك أنهم يبغون الاهتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في كل ما صدر عنه، لكونه مصدر هداية للناس جميعًا.

وقد كان صحابةُ النبي شديدي الاتباع له صلى الله عليه وسلم، فهذا ابن عمر تصفه السيدة عائشة قائلةً: (ما كان أحد أشد اتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن عمر) وهذا عمر رضي الله عنه يقبل الحجر الأسود ثم يقول: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُمضي بعث أسامة مع أن كبار الصحابة قد نصحوه بالعدول عن ذلك لأن العرب قد ارتدت وقتها، فما كان منه إلا أن بيَّن أنه لا يمكنه أن يحل لواءً عقدَه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد كان بعض الصحابة الكرام يحرص على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى في أفعاله البشرية الجبلية، فهذا أنس لم يكن يحب الدباء، فلما علم أنها تعجبه صلى الله عليه وسلم ما كان منه إلا أن أحبها أيضا وأكلها، وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يمشي في مكان فخفض رأسه دونما سبب يستدعي ذلك، فسئل عن سبب فعله فقال: (كان ههنا شجرة، فمر رسول الله، فخفض رأسه، فأنا أفعل كما فعل).

هذا التعريف الشامل للسنة قوبل بالرفض من جماعاتٍ رأت أنه غير دقيق، فكان أن قصروا تعريفها على السنة العملية المتواترة، فهي الحجة وهي السنة دون ما سواها عندهم، ومنهم من قصر السنة على الرِّساليّة دون النبوية، يقول أحدهم: (هناك أيضا تعليمات جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمقام النبوة وليست بمقام الرسالة بقوله: {يا أيها النبي}، وذلك لتبيان أنها تعليمات خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو تعليمات مرحلية جاءت لحقبة معينة مثل توزيع الغنائم، أو تعليمات عامة للمسلمين ولكنها ليست تشريعات)([2]).

ولا بد من البحث في نصوص القرآن الكريم لكي ندرك أيهما أكثر دقة: تعريف المحدثين أم تعريف أولئك القوم؛ فهذه آيات الكتاب الحكيم ترشدنا إلى أن كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة واجبة الاتباع، ولم تفرق في الأمر والنهي بين أمر يصدر عن نبي أو رسول، بل جاءت الآيات مطلقة آمرة بالامتثال والطاعة، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} هذه الآية نزلت في الغنائم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهي آية تدل على العموم، فقد استخدمت (ما) الدالة على عموم الامتثال لكل ما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعموم الانتهاء عن كل ما ينهى عنه، ويقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وصيغة { كَانَ لَكُمْ فِي..} تشمل كل مناحي حياته، فهو قدوة في كل شيء.

ووردت آيات أخرى تجمع بين وصفي الرسالة والنبوة لتدل على أن كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم يجب اتباعه، وأنه لا فرق بين صفته الرسالية والنبوية، بل هو تفريق نابع عن هوى لا عن علم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}  وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. وأخْلَت بعض الآيات الخطاب منهما في موضع آخر كما في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

ثانيًا: ركنا القبول عند المحدثين

لكي يتجلى لنا طرف من جهود المحدثين لا بد من تبيان الدعائم التي اشترطوها ليقبل حديث الراوي، وهذه الدعائم تتمثل بالعدالة والضبط.

العدالة: هي لزوم التقوى والبعد عن المفسقات وخوارم المروءة، وهذا يستلزم أن يكون الراوي مكلفًا، سالمًا من المفسقات، سالمًا من خوارم المروءة؛ ذلك أن التكليف هو المسؤولية، فإسلام الراوي وبلوغه وعقله شرط لازم لقبول خبره، فلا يقبل خبر الكافر ولا الصبي ولا المجنون، كما أن اشتراط السلامة عن المفسقات يضمن أن يكون الراوي صادقًا ديِّنًا، أما سلامته من خوارم المروءة فهو شرط يتحقق به قبول الراوي في مجتمعه، فالراوي الذي يرفضه المجتمع لا يستحق أن يؤخذ عنه الحديث النبوي.

الضبط: هو الحفظ بالحزم، وذلك يستلزم أن يكون الراوي متيقظا غير مغفل، وأن يكون حافظًا لحديثه ليستطيع أداءه كما تلقاه، سواء أكان يحفظه غيبًا أو بواسطة كتاب، ولا بد أن يكون صائنًا لكتابه حريصًا عليه ضنينًا به، غير باذلٍ له لكل غادٍ أو رائح، وإلا رد المحدثون حديثه لأنه متهاون في حفظ كتابه؛ لذلك كانت مهمة حفظ الكتاب من أعسر المهمات، فقد كان بعضم يستأجر من يحفظ له كتابه، وكان بعضهم يدسه في التراب ويخفي مكانه، وكان بعضهم يعجز عن حفظه فيعمد إلى إحراق كتبه خوفًا من أن تقع بيد من لا يحسن التعامل معها، ويشترطون أيضًا لإثبات ضبط الراوي إذا كان يروي بالمعنى أن يعرف معاني الألفاظ بحيث لا يحيل الحديث عن معناه الذي صدر عنه صلى الله عليه وسلم، وقد كان التزام المحدثين بذلك بيّنًا حتى عاب بعض الشيوخ على أحد طلابه أن روى حديثًا بالمعنى فأحال المعنى إلى ما لا يُرتضَى، فقال: (نهى صلى الله عليه وسلم عن التزعفر) بينما الحديث: ((نهى صلى الله عليه وسلم عن تزعفر الرجال))، فأحال المقيد مطلقًا.

هذا الشرطان -أعني العدالة والضبط وما يندرج تحتهما- كفيلان بوصول الحديث إلى الأمة كما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي شروط تجيب عن كثير من الشبهات التي يلقيها من لا خبرة له بعمل المحدثين، لأنها تحصن الحديث وتصونه من أخطاء الرواة وأوهامهم، فالمحدث الذي يستحق أن يؤخذ عنه هو الراوي اليقظ الحافظ الذي لا يستطيع أحد خداعه أو استغفاله أو أن يدس في حديثه ما ليس منه؛ لذلك رد المحدثون أحاديث كثير من الرواة الذين وصفوا بالغفلة وعدم التيقظ، بل ردوا أحاديث كثير ممن وصفوا بالصلاح والتُّقى لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، حتى سرى بينهم قول قائلهم: (لم تر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث) قال مسلم: (يقول: يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب)([3]).

ثالثا: جهود المحدثين في إثبات العدالة والضبط

لكي يتحقق الناقد من أن هذا الراوي قد تحقق بشرطي القبولِ: العدالةِ والضبط، فإن ذلك يستدعي منه جهدًا طويلًا ليثبت ذلك ويتحقق منه حتى قالوا: (كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث من رجل سألنا عن حاله حتى يقال: أتريدون أن تزوجوه؟) فقد كانوا يسألون عن الراوي في سوقه وبيته وحله وترحاله، ما استدعى تتبعًا طويلًا ومراقبة حثيثة للراوي بحثًا عن عدالته وحرصًا على مرويات السنة النبوية.

أما الضبط فإثباته أشق وأصعب فهو يستلزم مقارنة مرويات الشيوخ ومعرفة حالات الموافقة والمخالفة وأسباب ذلك ومصادره، ولعل ما سنورده عن الإمام يحيى بن معين يساعدنا على فهم طبيعة هذه الجهود، يقول أحمد بن سلمة: (كنا عند أبي نُعَيْم نسمع مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قال: فجاءنا يومًا يحيى ومعه ورقة قد كتب فيها أحاديث من أحاديث أبي نعيم، وأدخل في خلالها ما ليس من حديثه، وقال: أَعْطِهِ بحضرتنا حتى يَقْرَأَ. وكان أبو نُعيم إذا قعد في تِيكَ الأيام للتحديث كان أحمد على يمينه ويحيى على يساره، فلما خَفَّ المجلس ناولته الورقة، فنظر فيها كلها ثم تأملني، ونظر إليها ثم قال -وأشار إلى أحمد-: أما هذا فآدَبُ من أن يفعل مثل هذا، وأما أنت فلا تفعلن، وليس هذا إلا من عمل هذا، ثم رَفَسَ يحيى رَفْسَةً رماه إلى أسفل السرير، وقال: عَلَيَّ تعمل! فقام إليه يحيى وقَبَّلَه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيرًا، مِثْلُكَ مَنْ يُحَدِّثُ، إنما أردت أن أُجَرِّبَك»([4]).

لم يكتف ابن معين بما وصل إليه من أقوال تثبت ثقة أبي نعيم حتى اختبره ودسَّ في حديثه ما ليس منه ليرى أيفطن أم تمر عليه؟ فلما رآه يقظًا فطنًا أقر له بالحفظ والتثبت.

وإليك هذه القصة التي توضح طرفًا من جهود ابن معين في تمحيص أحاديث الرواة، وتأمَّلْ كم بذل من وقت وجهد حتى بلغ غايته:

قال ابن حبان:  (جاء يحيى بن معين إلى عفان ليسمع منه كتب حماد بن سلمة، فقال له:

سمعتها من أحد؟

قال: نعم، حدثني سبعة عشر نفسًا عن حماد بن سلمة.

فقال: والله لا حدثتك.

فقال: إنما هو درهم، وأَنحدرُ إلى البصرة وأسمع من التبوذكي.

فقال: شأنك.

فانحدر إلى البصرة وجاء إلى موسى بن إسماعيل، فقال له موسى: لم تسمع هذه الكتب من أحد؟!

قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر نفسًا وأنت الثامن عشر!

فقال: وماذا تصنع بهذا؟

فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميز خطأه من خطأ غيره، فإذا رأيتُ أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه، وإذا اجتمعوا على شيء عنه وقال واحد منهم بخلافه، علمت أن الخطأ منه لا من حماد، فأميز بين ما أخطأه هو بنفسه وبين ما أخطئ عليه)([5]).

رابعًا: مسوِّغات اشتراط العدالة والضبط

يطالعنا بعضهم بسؤال: أليس اقتصار المحدثين على البحث عن عدالة الرواة وضبطهم تضييعًا للوقت؟ ألم يكن الأحرى بهم أن يتجهوا إلى المتون فينقدوها وينظروا فيها ليعلموا أهي صحيحة أم سقيمة؟

والجواب: أن هذا في السؤال مغالطة، ذلك أن الأحاديث جاءت بجملة من الجائزات العقلية التي يجوِّز العقل وقوعها، فالعقل يجوِّز مثلًا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج بعشر نسوة أو أقل أو أكثر، كما أنه يجوِّز أن يكون قد اعتزل النساء جميعًا، والعقل يجوِّز أيضًا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب بثلاثة أنفاس كما يجوِّز أن يكون قد شرب بنفس واحد، ويجوِّز أن يكون شرب قائمًا أو جالسًا، فكيف نلجأ إلى العقل ليحكم في كل هذه الجائزات؟

إنما يمكن للعقل أن يحكم إذا تضمن الخبر مستحيلًا من المستحيلات العقلية، كما إذا روى راوٍ: (إن الله خلق الفرس فأجراها فعرقت، فخلق نفسه منها)، فهذا باطل لتضمنه مستحيلًا عقلًا، وههنا لا ينظر المحدثون إلى عدالة الرواة أو ضبطهم، وإنما يحكمون ببطلان الخبر.

يقول الإمام الشافعي: (ولا يُستدل على أكثرِ صدق الحديث وكذبه إلا بصدق اُلمخبِر وكذبه إلا في الخاصِّ القليل من الحديث، وذلك أن يُستدل على الصدق والكذب فيه بأن يُحَدِّث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أَثبتُ وأكثرُ دلالاتٍ بالصدق منه)([6]). فالمعمول عليه – في الغالب – إنما هو صدق النَّقَلَة أو كذبهم، وهو ما قامت عليه جهود المحدثين، ولا يُلجأ إلى إعمال العقل لرد الأخبار أو قبولها إلا في القليل الذي يأتي بمخالفة لصريح العقل أو محكم الشرع.

خامسًا: انتقادات لمنهج المحدثين في إثبات العدالة والضبط

أورد بعض منكري السنة من العلمانيين والعقلانيين والمستشرقين بعض الانتقادات التي طالت جهود المحدثين في التحقق من شرطي العدالة والضبط، ومن أهم هذه الانتقادات:

1- التعديل الشكلي:

يدعي العقلانيون أن منهج المحدثين يقوم على التعديل بالمظهر دون وصول إلى المخبر، أي أن المحدثين راعَوا في أحكامهم البحث عن صدق الرواة وأمانتهم وديانتهم، لكنهم أغفلوا النظر إلى عقولهم وأفكارهم. فهل كان المحدثون يغترون بظاهر الشخص، فمن رأوا له لحية جميلة وعمامة نظيفة وثوبًا أبيض وغُدُوًّا ورَواحًا إلى المسجد قاموا بتعديله؟

والجواب: هذا القول محض كذب وافتراء على المحدثين، وهي محاولة بائسة للتشويش على منهجهم، بل هو كلام من لا يفقه شيئًا من منهج المحدثين، وهو مناقض لصريح أقوالهم، يقول أبو الزناد: (أدركت بالمدينة مئة، كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله) فأين هو التعديل الشكلي من هذا وها هم يردون أحاديث أهل الصدق لأنهم ليسوا من العارفين بالحديث وطرقه وألفاظه؟

2- المحاباة في التعديل:

اتَّهَم بعضهم المحدثين بأنهم يعدلون أهل السنة ويجرحون مخالفيهم ممن يسمونهم أهل البدع. فهل هذا هو حال المحدثين مع الرواة؟

والجواب: هذا تجاهل أو جهل بعمل المحدثين، فكتبهم طافحة بأحاديث أهل البدع، إنك لتجد فيها حديث المعتزليِّ والرافضيِّ والقدريِّ والمرجئ بجانب حديث أهل السنة، المهم هو أن يكون جميع أولئك من أهل الصدق في الرواية وحسن الأداء، لكن المحدثين كانوا يتجنبون من حديث أهل البدع ما انفردوا به مما يؤيد بدعهم؛ لأن المرء قد يخطئ في نصرة بدعته دون أن يتعمد، لذلك لزم الإعراض عما انفردوا به مما يؤيد بدعهم.

وهذا موافق لدراسة أحد الباحثين الغربيين على طائفة من المختلفين فكريًّا، حيث أجراها على مجموعة من السود والبيض أيام احتدام الصراع بينهما، فقام بعرض جزء من صورة فيها طفل أبيض وأمامه رجل أسود يحمل شيئا، وطلب منهم تخمين ما يحمله الأسود، فأجاب أكثرهم بأنه يحمل سكينا يريد بها قتل الطفل الأبيض، وكانت المفاجأة عندما شاهدوا الصورة كاملة، فإذا بالرجل الزنجي يحمل في يده وردة. وإنما مالت عقولهم إلى ملء الفراغ في الصورة بناء على قناعاتهم الشخصية في الصراع بين البيض والسود.

ولقد بلغ التجرد والموضوعية عند المحدثين أنهم قاموا بتجريح آبائهم وأبنائهم، فجرَّح علي بن المديني أباه، وجرَّح أبو داود ابنه؛ كل ذلك لما حباهم الله تعالى من العدل والإنصاف وتقديم نصرة الدين على الانتصار للقوم أو العشيرة.

3- التأثر بالسلطة السياسية والانصياع لأهوائها:

يقول عز الدين نيازي: (صاحب السلطة هو الذي يمنح الثقة للسند والمحدثين، فلان ثقة فخذوا منه وعنه، وفلان ليس بأهل للثقة، أي: لا يؤخذ عنه ما يرويه من المرويات).

وجوابه أنَّ واقع المحدثين يخالف هذا كما أن ما روَوه من أحاديث بعيد كل البعد عن تصديق هذه الدعوى، وإليك هذه الأقوال لتعلم ذلك:

  • يقول صالح بن أحمد بن حنبل قلت لأبي: أيهما أصلح عندك وكيع أو يزيد بن هارون؟ قال: (ما فيهما بحمد الله إلا صالح، إلا أن وكيعًا لم يختلط بالسلطان)([7]).
  • سألت أبي عن خالد الطحان وهشيم، فقال: (خالدٌ أحب إلينا، خالدٌ لم يتلبس من السلطان بشيء)([8]).
  • قال أحمد عن حفص الفرخ: (لم أكتب عَنهُ، كَانَ يتتبع السُّلْطَان)([9]).
  • كان يحيى القطان لا يرضى إبراهيم بن سعد لأنه كان على بيت المال([10]).

ثم انظر إلى رواية المحدِّثين للأحاديث التي تدعو إلى الوقوف بوجه السلطة الجائرة لتزداد يقينًا:

  • ((أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّعِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ))([11]).
  • ((سيكون بعدي أمراءُ، فمن دخل عليهم فصدَّقهم بكذبِهم وأعانهم على ظُلمهم فليس مني ولستُ منه وليس بواردٍ عليَّ الحوضَ، ومن لم يدخلْ عليهم ولم يعنْهم على ظلمِهم ولم يصدِّقْهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو واردٌ عليَّ الحوضَ»([12]).
  • ((إنَّ أناسًا من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرؤون القرآن ويقولون: نأتي الأمراء، فنصيب من دنياهم، ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يُجْتَنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتبى من قربهم إلا الخطايا))([13]).
  • وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الأحاديث جاريةٌ على عمومها، قال الثوري: ((إذا دعوك لتقرأ عليهم {قل هو الله أحد} فلا تأتهم))([14]).

إن مخالفة واقع الأحاديث لحال الحكام لهو دليل كافٍ على أن المحدثين كانوا يودِعون في كتبهم ما تلقوه عن شيوخهم بسندهم المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دون التفات إلى رضى السلطان أو سخطه.

سادسًا: الرحلة في طلب الحديث

ألَّف الخطيب البغدادي كتابه (الرحلة في طلب الحديث) ليحدثنا عمن رحل من أجل سماع حديثٍ واحدٍ، وقطع في سبيل سماعه الفيافي والقفار، وجاءنا بأمثلة من عهد الصحابة فالتابعين فمن بعدهم، ومما ذكره:

عن جابر بن عبد الله قال: بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثٌ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه قال: (فابتعت بعيرًا فشددت عليه رحلي فسرت إليه شهرا حتى أتيت الشام، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري، قال: فأرسلت إليه أن جابرًا على الباب، قال: فرجع إلي الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، قال: فرجع الرسول إليه، فخرج إلي فاعتنقني واعتنقته، قال قلت: حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحشر الله العباد أو قال يحشر الله الناس، قال وأومأ بيده إلى الشام عُراة غُرْلًا بُهْمًا)) -قلت: ما بُهْما؟ قال: ليس معهم شيء- قال: ((فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة))، قال: (قلنا كيف هو وإنما نأتي الله تعالى عراة غرلا بُهمًا) قال: ((بالحسنات والسيئات))([15]).

وقال سعيد بن المسيب: (إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد)([16])؛ فظهر جليًّا أن جهود المحدثين التي بذلوها أدت إلى حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وصيانتها من انتحال المبطلين وتزييف المغرضين. والله نسأل أن يجزيهم عن أمة الإسلام خير الجزاء وأن يلحقنا بهم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

 

 

([1]) محمد عجاج الخطيب: الوجيز في علوم الحديث، المطبعة الجديدة، دمشق، 1981: 18. نور الدين عتر: منهج النقد في علوم الحديث، دار الفكر، دمشق، ط3، 1418هـ، 1997م: 28.

([2]) محمد شحرور: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، د. ط، د.ت: 526.

([3]) مسلم بن الحجاج: مقدمة صحيح مسلم، دار الجيل، بيروت/ دار الأفاق الجديدة، بيروت، د.ط، د.ت: 17.

([4]) محمد بن حبان: كتاب المجروحين، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1412، 1992: 1/33.

([5]) الذهبي: سير أعلام النبلاء، (7/456).

([6]) محمد بن إدريس الشافعي: الرسالة، مكتبه الحلبي، مصر، ط1، 1358هـ/1940م: 398.

([7]) عبد الرحمن بن محمد بن أبي حاتم: الجرح والتعديل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1372هـ، 1953م: 9/38.

([8]) أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال، المكتب الإسلامي، بيروت/ دار الخاني، الرياض، ط1، 1408 هـ، 1988م: 1/434.

([9]) المصدر السابق: 38.

([10]) المصدر نفسه: 93.

([11]) أبو داود: الملاحم، باب الأمر والنهي، حديث رقم (4344)، والترمذي: الفتن، باب ما جاء في أفضل الجهاد، حديث رقم (2174) وحسنه، وابن ماجه: الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث رقم (4011).

([12]) الترمذي: الفتن، حديث رقم (2259)، والنسائي: البيعة، باب الوعيد لمن أعان أميرًا على الظلم، حديث رقم (2207).

([13]) ابن ماجه: في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، حديث رقم (255).

([14]) أحمد بن عبد الله أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، دار السعادة، 1394هـ – 1974م: 6/387.

([15]) علي بن أحمد الخطيب البغدادي: الرحلة في طلب الحديث، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1395: 109.

([16]) المصدر السابق: 127.