الكاتب: عماد الدين خيتي – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أولاً: مقدمات ضرورية:
موقفنا من تنظيم (الدولة):
يحلو للبعض أن يصور الخلاف مع تنظيم (الدولة) على أنه نابعٌ من عدم الرضا عن تصرفاته، أو أحكامه الجائرة، أو انفراده بإعلان “الخلافة”، ونحو ذلك.
ومع تأكيد كل ما سبق، إلا أنَّها جزئيات وفروع عن الأصل الذي هو: الخلاف مع التنظيم في المنهج والعقيدة، فالتنظيم قد انتحل عقيدة الخوارج المتمثلة في: الحكم على مخالفيه من كافة فصائل المجاهدين في العراق وسوريا بالكفر والرِّدة، واعتقاد أنَّ قتالهم واستهدافهم أولى وأوجب من قتال الرافضة والنصيريين؛ فاستباح بذلك دماءهم، وجعل قتالهم أهم أهدافه وأعظمها.
ثم بنى على هذه العقيدة الخارجية والفكر المنحرف بقية المعتقدات والأفكار، والتصرفات والأفعال. فلا إمكانية للقاء مع هذا الانحراف، أو السكوت عنه، أو الرضا به، أو التلاقي معه إلا بعد التوبة عن هذا المنهج والرجوع عنه. وإن موقفنا هذا نابعٌ من الوعي بالحكم الشرعي على هذه البدعة الخطيرة، وإدراك أثرها في الدين والواقع.. لا يغيره مزيد طاعة، أو مناداة بشعارات براقة؛ فقد حذرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم من الاغترار بعبادتهم وادعاءاتهم: (يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)، كما لا يُغير موقفنا منهم قتالهم للأعداء، أو (تحريرهم) بعض البلدان؛ فإنهم لا يقاتلون عن عقيدة صحيحة، ولا لسبب صحيح كما سيأتي بيانه.
– هل تنظيم (الدولة) يقاتل الأعداء؟
أشكل على بعض المتابعين والمؤيدين أنَّ التنظيم يقاتل بعض الأعداء في العراق وسوريا؛ لذا فإنَّ استدلالنا على انحراف التنظيم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الخوارج: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ) غير صحيح بزعمهم؛ لأنهم فهموا منها أنَّ من صفات الخوارج ترك قتال الكفار والمشركين بالكلية، وحصر قتالهم بالمسلمين. وهذا الفهم غير صحيح شرعًا، ولا واقعًا.
فأما شرعًا: فمعنى الحديث: أنَّه لما كان القتال يجب أن يتوجه إلى الكفار فقط (أهل الأوثان)، فإن صرف شيء منه إلى مَن لا يستحقه (أهل الإسلام) هو ترك لقتالهم في هذا الموضع، كما قال تعالى عن قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ} [الشعراء: 165-166]، ومعلوم أنهم لم يتركوا إتيان النساء بالكلية، ولكن لما أتوا الذكران لشهوتهم حين كان ينبغي عليهم أن يأتوا النساء، صاروا تاركين لإتيان النساء بهذا المعنى.
ولذلك لم يفهم العلماء من الحديث أنه يعني ترك قتال الكفار بالكلية، قال ابن تيمية في حديثه عن الجهمية: “…حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم المؤمنين، والاستيلاء على نفوسهم وأموالهم وبلادهم، وصاروا يقاتلون إخوانهم المؤمنين بنوع مما كانوا يقاتلون به المشركين، وربما رأوا قتال المسلمين آكد، وبهذا وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- الخوارج حيث قال: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ)”.
وأما واقعًا: فإنَّ الخوارج منذ ظهورهم كانوا يقاتلون المسلمين والكفّار، لكن قتالهم للمسلمين أكثر، وأشدُّ نكاية، وأعظم ضررًا، ونابعٌ من عقيدةٍ غاليةٍ تكفيرية، مع تسلُّطٍ عليهم بالغدر، دون تحرُّجٍ أو إعذار.
ومن الأصول التي يجمع عليها “شرعيو” تنظيم (الدولة): تقديم قتال أهل السنة في العراق وسوريا (بتهمة الردِّة) على قتال الرافضة والنصيريين، بزعم وجوب تقديم قتال المرتدين، ووجوب البدء بهم، ومن ثم كانت غالب عملياتهم ضد أهل السنة، فهم بذلك تاركون حقيقة لقتال الرافضة والنصيرية أثناء جهاد الدفع الذي تعيش فيه الأمة.
ثانياً: احتلال تنظيم (الدولة) للموصل وأثره على أهل السنة في العراق وسوريا:
كان احتلال التنظيم للموصل علامة فارقة في الجهاد العراقي والسوري، وترتبت عليه نتائج خطيرة ما زلنا نلمس آثارها لليوم.
فقد انطلق في مناطق السنة في العراق حراك شعبي عام، عمل على توحيد صفوفهم لأول مرة منذ سنوات، وأظهر مطالبهم ومظالمهم بصورة عادلة، ولأنه رفع شعار الاعتصام السلمي فلم تستطع قوات النظام العراقي اتخاذ وسيلة قتالية ضدهم، وبلغ من قوة وتماسك هذا الحراك أن بدأ بالزحف تجاه بغداد، وأصبح يهدد سلطة المالكي تهديدًا حقيقيًا، والتي عجزت كافة تحركاته عن إسقاط هذا الحراك أو اختراقه. وكان يقف وراء هذا الحراك بطريقة غير مباشرة الفصائل السنّية التي جاهدت المحتلين في السنوات الماضية، ولم يكن للتنظيم دور في هذا الحراك، بل إنَّه قد هاجمه لأنَّه يرفع شعار (السلمية)، واعتبرها خنوعًا للطواغيت!
وما إن بدأت تحركات الفصائل ومعها عامّة أهل السنة وعشائرهم تتخذ منحنىً تصعيديًا حتى ظهر تنظيم (الدولة) وسيطر على الموصل بشكل مفاجئ بعد أن كان محصوراً في بضع مناطق صحراوية، واختفى في غضون ذلك عشرات الآلاف من قوات النظام العراقي، وحرس الحدود مع سوريا. وسقط بيد التنظيم خلال ساعات كميات ضخمة من الأموال والأسلحة الأمريكية الحديثة، والتي لم يكن للحراك الثوري نصيب فيها، وكان من المدهش واللافت للنظر معرفة أفراد التنظيم بأماكن وجود هذه الأسلحة والأموال بدقّةٍ كبيرة، فاستولى عليها بيسر تام دون مقاومة!
وما لبث خلال ساعات حتى كانت هذه الأسلحة الثقيلة تنتقل عبر الطريق الدولي نحو سوريا بأرتالٍ طويلة كبيرة دون أن تمسها طائرات أو صواريخ، إلى أن وصلت إلى دير الزور، فكانت رأس حربة في حصارها، ونقل عدد آخر للرقّة، ومن ثم بدأ ضرب معاقل المجاهدين في ريف حلب. وكان تحرك هذه الأرتال والقوات من العراق يجري بطمأنينة كبيرة دون خشية أن تُضرب من قوات النظام العراقي من خلفها. ومع وقع الصدمة ومفاجأتها لم تشارك الجماعات الجهادية العراقية ولا العشائر في القتال بشكل كبير خشية من مؤامرةٍ ما، وتحسبًا من انتقام التنظيم كما تكرر منه سابقًا خلال سنوات الجهاد، وخاصة بعد تزوده بتلك القوة العسكرية الهائلة، ثم ما لبث كثيرٌ منها أن توارى عن الظهور العام لذات الأسباب. رافق ذلك نشر تنظيم (الدولة) عدة إصدارات إعلامية (منتجة بطريقةٍ احترافية تظهر التنظيم ودولته في قمة المثالية) يعزف فيها على وتر هدم حدود سايكس بيكو، ويستعرض بقواته التي ستحرر المسلمين وتفتح مشارق الأرض ومغاربها، فاغترّ بذلك آلاف من شباب المسلمين وانضمُّوا لدولة التنظيم؛ ليكونوا على موعد مع محرقة جديدة لأهل السنة.
وكان من نتائج سقوط الموصل ونقل هذه الأسلحة :
1- ضرب الحراك السني في العراق وإنهاؤه بما لم يستطع النظام العراقي على مدى عام فعله.
2- ثم الطعن في خاصرة المجاهدين في سوريا، وإنهاء وجود الجماعات الجهادية في المنطقة الشرقية، مع خسارة خيرة قادتها ورجالها، وعودة النظام إلى تشغيل مطار دير الزور بعد أن حيَّده المجاهدون بضرباتهم وتقدمهم، واستأنفت منه طائرات الإجرام عملياتها.
3- فتح الباب لدخول القوات الإيرانية للمعركة علانية دون مواربة عبر الحدود التي أسقطها التنظيم! وبصمت وضوء عالميين بحجة محاربة إرهاب التنظيم!
وقد كشفت الأحداث اللاحقة وجود عدد من الإشارات الغريبة قبل اقتحام التنظيم للموصل، منها:
1- زيارة بعض المسؤولين الإيرانيين لبعض مناطق الموصل والحدود العراقية السورية قبل الأحداث بمدة يسيرة.
2- الانسحاب المتعمد لقيادات النظام العراقي وقطاعاته العسكرية، والتشديد في الأوامر بترك الأسلحة كافة.
3- تركز غالبية الخسائر والقتلى في صفوف القوات المنتسبة للسنة العاملة في صفوف الجيش العراقي في تلك المناطق على يد التنظيم.
ثالثاً: احتلال تنظيم (الدولة) لتدمر ومستقبل الجهاد في سوريا:
بعد شهور طويلة من هدوء جبهات القتال بين تنظيم (الدولة) والنظام السوري والتي تمتد نقاط تماسهما قرابة (100) كم من أقصى الشمال مروراً بريف حلب إلى مناطق البادية، تأتي مهاجمة مدينة تدمر الحصينة المنيعة واحتلالها في بضعة أيام؛ رافق هذا الاحتلال سرعة في انتهاء المعارك، وقلّة خسائر النظام السوري، وانسحاباته من عدة مناطق قريبة لتدمر لا تقتضيها الطبيعة الحربية، بل انسحابه من معبر التنف على الحدود مع العراق دون قتال.
فما أهمية الاستيلاء على تدمر؟
1- تعد منطقة تدمر امتداداً لصحراء الأنبار التي سقطت قبل أيام قلائل بيد التنظيم بطريقة مدهشة، وسقوط معبر التنف الحدودي، مما ينبئ بمخطط يراد للمنطقة جميعها قد يشابه ما حصل أيام سقوط الموصل.
2- كما تعد تدمر من المستودعات الضخمة للسلاح والذخيرة التي يعتمد عليها النظام السوري، والتي تركها دون تدمير كما يفعل عادة مع المناطق التي يقاتل فيها الفصائل الأخرى.
3- بالإضافة إلى أنها بحسب موقعها الاستراتيجي (كما يتّضح من الخريطة المرفقة) عقدة مواصلات تتيح لمن يتحكم فيها أن يتوجه إلى:
– الشرق حيث مناطق سيطرة التنظيم في دير الزور، ومعبر آلياته وجنوده من وإلى العراق، وفيها بقايا من فصائل مجاهدة، والكثير من العشائر الساخطة على التنظيم.
– الشمال حيث إدلب وريفها والتي تشهد انتصارات متتالية للفصائل المجاهدة.
– الشمال كذلك حيث عاصمته في الرقة.
– الغرب باتجاه حماة التي تحوي مخازن هائلة للسلاح والذخيرة، التي ما زالت عصية على التنظيم.
– الغرب كذلك تجاه حمص، التي تشهد حصارًا خانقًا من النظام، ومناوشات بين الفصائل والتنظيم.
– الجنوب الغربي إلى القلمون التي تشهد حراكًا جهاديًا نشطًا ضد مرتزقة النظام وحزب الله، مع مدافعة غدر التنظيم.
– الجنوب باتجاه حوران التي تشهد انتصارات كبيرة للفصائل المجاهدة، وانحسارًا كليًا للنظام، مع مدافعة مستمرة لفصائل تبايع التنظيم.
ملامح الخطّة القادمة في الانسحاب من تدمر:
بالنظر إلى النجاح الكبير الذي حصده النظامان السوري والعراقي بعد سقوط الموصل، وظهور تناغم كبير بين تحركاتهما وتحركات التنظيم، وقيام التنظيم بما عجز عنه النظامان في كل من العراق وسوريا. وإلى ما يعانيه النظامان في سوريا من صعوبات في الثبات أمام ضربات المجاهدين، واستنزاف كبير لقواتهما واقتصادهما.
وإلى أهمية مدينة تدمر عسكريًا، واستراتيجيًا بحيث يستحيل على النظام تركها ولو اضطّر لوضع ثقله فيها كما يضعه في عدد من المناطق الأقل أهمية، والتي تستعصي على عدة كتائب الشهور والأسابيع. وإلى أن التنظيم لا يقوم بمعارك حقيقية مع النظام إلا إن كان فيها فائدة اقتصادية أو استراتيجية فحسب، كاستيلائه على آبار النفط، ومناطق الأنهار والبحيرات، وحقول الغاز، وصوامع الغلال، ونحوها، والتي تخلو منها بقية المناطق والمدن. وأنّه لم يسبق للتنظيم أن عمل في مناطق النصيريين أو الرافضة، واقتصار عمله على مناطق السنة في العراق وسوريا. (إلا بعض الأعمال في مناطق النصارى أو الأقليات كالأيزيديين؛ للاستفادة منها في ترويج تطبيقه للشريعة في الجزية والسبي ونحوها).
وإلى أنَّه يرى شرعًا وجوب تقديم قتال الفصائل التي يصفها بالردّة والعمالة، ووجوب إنهائها والقضاء عليها.
وإلى كميات الأسلحة التي استولى عليها التنظيم في تدمر، وما سيجرّه إلى نفسه من انتصارات لاستقطاب الأتباع والمؤيدين مما يزيد أعداد قواته.
فالمتوقع: أنه أريد لمنطقة تدمر أن تكون نقطة ارتكاز للتنظيم للانطلاق شمالاً وجنوبًا وغربًا لضرب التنظيمات الجهادية، وقطع الطرق عليها، مستخدمًا ما تحصل لديه من أسلحة وأفراد، ويمكنه من وصل مناطق نفوذه وطرقه بعضها ببعض، فيضغط على هذه الفصائل بقوة. كما أنَّه يمكن أن يقطع أي اتصال قد يحصل مستقبلاً بين جيش الفتح في ريف إدلب وبين جيش الفتح في القلمون، بل ويضرب الكتائب المتقدمة في إدلب، وحوران، وتضييق الخناق والحصار على الكتائب في ريف حمص، والغوطة، ودير الزور. بل إن ذلك سيؤدي إلى وقف زحف الفصائل المجاهدة إلى منطقة الساحل؛ حيث إن ظهرها سيكون مكشوفًا له بالكامل. كما سيؤدي إلى تقطيع أوصال المناطق المحررة بالكامل وفك الارتباط بينها.
وليس من المستبعد أن يتم إفساح المجال للتنظيم للتسلط على بعض الأقليات؛ منتقمًا منها بسبب عدم مشاركته إجرامه ضد الثورة، وليستفيد منها النظام في الترويج لنفسه حاميًا للأقليات في وجه الإرهابيين. وبذلك يكون النظام السوري قد أراح نفسه وجنوده من مهمة قتال هذه الكتائب، وأوكل هذه المهمة لمن يقوم بذلك نيابة عنه قربةً ودينًا إلى الله تعالى! مع تزويده بما يحتاجه من أسلحة ومناطق استراتيجية لتحركه.كما أنَّ هناك هدفًا معنويًا آخر يتمثل في وجود سجن تدمر سيء الصيت، وتدميره على يد التنظيم فيه مكسب إعلامي كبير، فضًلا عن ثبوت إطلاق بعض الأسرى والمساجين منه، فإن ذلك سيوفر له حاضنة اجتماعية كبيرة، مع أنَّ الأخبار تتحدث عن نقل النظام للسجناء، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا قبل فترة طويلة تدل على استعداد لسقوط المدينة!
رابعا: هل تنظيم (الدولة) عميل؟
من السذاجة الفكرية ما يعتقده العديدون أنَّ العمالة لها نوع واحد ينحصر في صيغة السيّد الآمر والعبد المطيع، فهذا قليل في عالم العلاقات السياسية وإن كان موجودًا. لكن هناك أنواع أخرى من العمالة بدرجات متفاوتة، منها: التحكم بالظروف المحيطة المناسبة، والتوظيف والاستخدام عن طريق التسهيلات، وزرع العملاء، وصولاً إلى التفاهم غير المعلن. وقد أثبتت أحداث السنوات الماضية للجهاد في العراق أنَّ المحتل الأمريكي ثم الحكومات الطائفية قد أجادوا توظيف تنظيم (الدولة) طوال سنوات في ضرب أهل السنة، وحراكهم، عبر إدراكهم لطريقة تفكيره وعمله وتسخيرها لصالحهم، وقد قام بالدور المطلوب منه شر قيام. ولا يبعد أن تزرع تلك الأنظمة عملاء في التنظيم يكون لهم دور في التوجيه والتنسيق، وهو أمرٌ في غاية السهولة، وخاصة في تنظيمات تعتمد على السرية المطلقة في الأسماء والشخصيات التي قد تخفى حقيقتها على أقرب المقربين.
تنسيق وتفاهم:
كما تكشف الحقائق انتقال تنظيم (الدولة) في تطوره الفكري والإجرامي من مرحلة التوظيف إلى مرحلة التفاهم مع هذه الأنظمة؛ فهو يريد وضع يده وبسط سلطته على مناطق السنّة والقضاء على الحراك فيها لصالح سلطانه وفكره المنحرف، وهو ذات الهدف الذي تسعى إليه هذه الأنظمة الطائفية، فلا بأس –والحالة هذه- في نوع من التعاون أو غض النظر عن الآخر، بل الاشتراك في أعمال قتالية ضد هذه الفصائل، كالاشتراك في حصار وقصف دير الزور، والقلمون، وريف حمص، وغيرها، واستهداف قادة الثوار والفصائل بالقتل والاعتقال. وقد كشفت العديد من المصادر الثورية وغيرها في هذا المجال عن تنسيق التنظيم لعمليات بيع النفط والقطع الأثرية للنظام ولعصابات التهريب العالمية، واستجلاب خبراء لصيانة مصافي النفط التي يسيطر عليها، مع تخصيص شخصيات معينة للتوجيه والتنسيق.
وهنا يمكن أن نسترجع قصة سقوط المطارات الثلاثة في الرقة بيد التنظيم بطريقة مريبة، فمع كثرة ادّعاء أنصار التنظيم قتل أعداد كبيرة من جنود النظام النصيريين، إلا أنّه لم يستطع أحد تقديم دليل على ذلك، بل ظهرت الشهادات العديدة على توفير التنظيم لممرات آمنة لانسحاب الجنود وكبار الضباط النصيريين، واقتصر الذبح والصلب على صغار المجندين السنّة! كما كان النظام يقوم بقصف أي فصائل جهادية تقاتل التنظيم، ويمنعها من التقدم في مناطقه أو ملاحقة فلوله، وكثيرًا ما كان أفراد التنظيم يلجؤون إلى مناطق النظام عند ملاحقة الفصائل لهم، واقتصار القصف في غالب الأحيان على مناطق سيطرة الفصائل. بالإضافة إلى غض النظام النظر عن تحركات التنظيم بين دير الزور وحلب والرقة قبل خروجه منها بالكامل، وعدم اعتراض طرق إمداده.
ومن الأدلة على هذا التنسيق:
أنه بعد كل هذه المعارك التي يخوضها التنظيم لم يدخل فيها لمناطق الرافضة في العراق أو النصيريين في سوريا، بل اقتصر عمله على مناطق السنة، ولم يفِ بشيء من وعوده بالتوجه لبغداد، أو دمشق، أو فك الحصار عن مخيم اليرموك، وغيرها. ومن المدهش أنَّ مواقف التنظيم تكاد تتطابق مع مواقف وتصريحات النظام الإيراني ضد دول الخليج والسعودية خصوصًا، والتي كان آخرها كلمة البغدادي التي انتقد فيها بشدة عاصفة الحزم الموجّهة ضد الحوثيين! والتي ذكر فيها السعودية ووجّه لها التهديد عشرات المرات، ولم يذكر إيران مرة واحدة، مع ادّعاء التنظيم أنَّ إيران هي رأس الشر وأساسه. كما تزامنت تهديداته لها وبعض هجماته مع تهديدات إيران وهجوم الحوثيين! واستيلاؤه المريح على جزء كبير من صحراء الأنبار الملاصقة للسعودية بعد انسحاب قوات النظام العراقية المدعومة إيرانيًا منها!.
وعلى الرغم من تخوين التنظيم لتنظيم (القاعدة) بسبب موقفها المهادن من إيران، لم يصدر من التنظيم أي تحريض أو عمل ضدّها، على الرغم من تحدّي إيران علناً لاقتراب التنظيم من حدوها لمسافة عشرات الكيلو مترات. ولا يشوش على ما سبق ما يفقده النظامان من عدد من أبناء طائفتهما في بعض المعارك، أو بعض الأسلحة، أو الأموال، وغير ذلك، فتقديم بعض القرابين والأثمان لا تساوي شيئًا مقابل ما سيحصلون عليه من مكاسب عظيمة ضد أهل السنة.
خامساً: حرب التحالف مع التنظيم:
للمرة الأولى في التاريخ يعلن عن إنشاء حلف يتكون من (40) دولة، وبميزانية مقدارها مليارات الدولارات للقضاء على تنظيم لا يتمتع بأي مقومٍ من مقومات البقاء، فضلاً عن بناء دولة، ومع مرور شهور طويلة على بدء الحملة فإن نتائجها هزيلة للغاية، بل يتضح فيها ما يلي:
– تصريح العديد من قادة دول التحالف أنَّ ضرباتهم لا تسعى إلى إسقاط التنظيم، بل إلى تحجيمه والتحكم فيه وبتوجهاته وتحركاته.
– غض التحالف للنظر عن المسافات الطويلة التي تقطعها أرتال تنظيم (الدولة) وهي تتنقل بين العراق وسوريا، وتنقل آلاف المسلحين، والآليات الضخمة، دون أن تتعرّض لها، مع تعرض استهداف التحالف لمقرات سريّة لجبهة النصرة ليست بتلك الأهمية.
– بقيت الغارات على مناطق سيطرة التنظيم محصورة في مساحات جغرافية قليلة، بينما بقيت غالب مناطقه تتمتع بأمان نسبي في مقابل مناطق سيطرة الفصائل الأخرى.
– كان التحالف جاداً في حالة واحدة وهي اتّجاه التنظيم إلى مناطق الأكراد في العراق وسوريا، فتم ضربه بقوة، وجرى تقليم أظافره بعنف في معارك خسر فيها العديد من قادته وقواته وأسلحته، فارتدّ إلى مناطق السنة يعمل فيها قتلاً وتشريدًا دون أن ينبس ببنت شفة عن تلك الأحداث.
وهو ما يوضح أن التحالف حريص على بقاء التنظيم مع حصره في مناطق السنة ليقوم بدوره أفضل قيام.
– لم يدعم التحالف الدولي أيًا من مناوئي التنظيم سوى الأكراد، مما ينبّئ بملامح الدور الذي يراد لهذه المناطق القيام بها، وربّما ملامح التقسيم القادم.
– لم يقم الحلف بعمل جاد لمنع آلاف المهاجرين من دوله، بما فيهم خبرات علمية دقيقة، تسهم في دعم التنظيم وتقويته.
مما يعني أن الحلف الدولي ليس جاداً في إنهاء التنظيم، بل يريد له أن يبقى عامل جذب للشباب المتحمس، فيتم حرقهم في أتون هذا التنظيم ومعاركه العبثية الإجرامية، إلى أن ينتهي دوره المطلوب منه، ولا ندري إلى أي مدى سيستمر ذلك!
سادساً: هل نفرح باحتلال التنظيم لمناطق من النظام؟
من المؤسف أنَّ ذاكرة بعض أهل السنة قصيرة، وأنَّه تتحكم بهم العواطف، ولا ينظرون للأمور نظرة عقلية فاحصة، فجرائم تنظيم (الدولة) في حق المجاهدين قادةً وجنوداً ومدنيين لم تجف، وما تزال مفخخاتها وانتحاريوها تضرب في أعماق المجاهدين بأشدِّ أنواع الغدر والخيانة، وما زالت فتاواهم ومواقفهم تصدح بها إصداراتهم في وعيد المجاهدين وتكفيرهم، وما زالت يد الإجرام تعمل في المناطق التي استولوا عليها، ومازالت انتصاراتهم المشبوهة تتوالى..ومع ذلك؛ يأتي من يفرح بسقوط بعض المناطق في يد التنظيم، ولعلّه غاب عنه أن هذا السقوط خطوة متقدمة لجولة جديدة ضد المجاهدين وأهل السنة.. فبم الفرح؟! هل نسي هؤلاء ما كانوا يكتبونه ويقولونه قبل أيام عن هذه العصابة المجرمة؟ وما موقفهم من الجرائم التي حصلت بعد سقوط تدمر، وآخرها العملية الانتحارية في مجاهدي القلمون؟
إننا نفرح بخروج تلك المناطق من يد النظام إذا كان ذلك على يد المجاهدين الصادقين، أما خروجها من يد النظام المجرم إلى يد الخوارج المارقين، فهو استبدال مجرم بمجرم.
سابعاً: وأخيرًا:
مع كل هذا المكر الكُبّار، فإنَّ ثقتنا بنصر الله تعالى أكيدة، وثقتنا بأنه تعالى لن يمكّن لهؤلاء الظلمة الفاجرين، وأنه قد تكفّل بالشام وأهلها، وأنه لن يضيعنا بإذنه تعالى. لكن؛ لا يجوز لنا أن نتواكل على هذا الوعد دون بذل الواجب من الأسباب، فإن الله قد تكفل بالنصر لمن نصره: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ}، ومن النصرة الواجبة علينا: وحدة الكلمة والصف، ومعرفة حكم الله تعالى في التعامل مع هذه الفئة، التي لم تعد طائفة خارجية مارقة فحسب، بل أصبحت تنظيماً وظيفياً يراد له أن يكون أداة لحرق شباب أهل السنة واستنزافهم، وصولاً إلى القضاء على الثورتين السورية والعراقية، وإعادة رسم خريطة المنطقة. فهل نعي ذلك قبل فوات الأوان؟ والحمد لله رب العالمين.