الحمد لله خالق الأرض والسماء والصلاة والسلام على المبعوث بالشريعة السمحاء وعلى آله وصحبه القدوة لكل من مارس القضاء، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الفصل والقضاء، أما بعد:
فإن سقوط النظام في كثير من المحافظات والبلدات والقرى السورية أوجد فراغاً في كل شئ، وخاصّة في قضية الحكم بين الناس فشكِّلت من أجل ذلك الهيئات الشرعية من المشايخ وطلبة العلم مدعومة من الألوية والكتائب المسلحة فبدأت في فصل القضايا بين الناس في الأحوال الشخصية والمدنية والجنائية.
وقد اهتدى بعض القضاة والقانونيين إلى قانون مبوب ومقسم على مواد شرعية قانونية ألا وهو “القانون العربي الموحد” الذي أنتجته”جامعة الدولة العربية”من خلال وزراء العدل العرب الذين استدعوا لذلك لجاناً شرعية قانونية لوضع هذا القانون. وقد قام المكتب العلمي في”هيئة الشام الإسلامية”بدراسة مفصّلة عن القانون العربي الموحد ثم قام بعد ذلك مركز”شامنا للدراسات والأبحاث الشرعية”بدراسة نقدية للقانون، ويمكن أن نخلص من هاتين الدراستين بما يلي:
أولا : وصف القانون العربي الموحد
ينقسم القانون العربي الموحد من حيث كتبه ومواده إلى قسمين:
1- الكتب الموضوعية:
وهي:الكتب التي تضم مواد شرعية قانونية تحدد العلاقات والحقوق بين الناس، والعلاقة التبادلية بين الفرد والدولة، بالإضافة إلى العقوبات لأولئك الذين لا يلتزمون بالقواعد المؤسسة للقانون.
2-الكتب الإجرائية:
وهي: الكتب التي تضم مجموعة القواعد التي تنظم سير الدعوى من لحظة ابتدائها إلى انتهائها وحتى يصدر حكم باتٍّ وكيفية تنفيذ هذا الحكم. ولما كانت المواد القانونية فيها نوع إغلاق في معاني بعضها جعل لهذا المواد مذكرات توضيحية شارحة لها فكانت كالشرح للمتون الفقهية عند الفقهاء فوضعوا:
– مذكرة توضيحية للقانون الجنائي.
– مذكرة توضيحية للقانون المدني.
– مجموعة المصطلحات القانونية والقضائية المستخرجة من القوانين العربية , والمعتمدة بقرارات من قبل مجلس وزراء العدل العرب تحت إشراف المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية.فقاموا بتعريف المصطلحات الفقهية والقانونية التي وردت في مواد القانون فكانت كالمعجم الفقهي القانوني للقانون العربي الموحد.
ثانيا : مميزات القانون العربي الموحد
لقد تميز القانون بعدة مميزات منها:
1-الاعتماد على أحكام الشريعة الإسلامية وحدها فهي المصدر الرئيسي والوحيد كما نصوا على ذلك في خطتهم لوضع هذا القانون وذلك عندما قالوا:” اعتماد القرآن الكريم والسُّنّة النبوية وما يؤول إليهما من إجماع أو قياس أو مصالح مرسلة دون التقيّد بمذهب معيّن من مذاهب الفقه، وكذا مبادئ العدالة التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، مصادر للتقنين الموحدة”.
ولا أدل على ذلك في المواد التي نصت على الحدود الشرعية كما جاءت في الكتاب والسنة, كحدود القصاص من قتل النفس وما دون النفس, وحد المرتد والسارق والزاني وشارب الخمر وغير ذلك, من غير مراعاة لما يسمى في الغرب حقوق الإنسان المخالفة لشرع الله.
2- عدم الاعتماد على مذهب فقهي واحد ، كما هو الشأن في كثير من البلدان، فإنه لما صدرت مجلة الأحكام العدلية في أواخر الدولة العثمانية فقد اعتمدت على المذهب الحنفي وهو المذهب المقضي به في الدولة، ومثل ذلك في البلاد السعودية فإن المذهب المعمول به في القضاء هو المذهب الحنبلي.
وتجد أن واضعي هذا القانون في كثير من الأحيان في المذكرات التوضيحية يذكرون الأقوال الفقهية ويرجحون ويوازنون بينها بما يرونه الراجح ويحقق المصلحة.
3- الهدف السامي من هذا القانون وهو توحيد الدول العربية الذي سيكون سلماً للوحدة الإسلامية الكبرى “ذلك أن وحدة التشريع هدف عربي ومنطلق أساسي لتحقيق الوحدة العربية الشاملة. وللوصول إلى هذا الهدف عقدت عدة مؤتمرات وحلقات في إطار المنظمة العربية للدفاع الاجتماعي أجمعت على وجوب تقنين أحكام الشريعة الإسلامية بشكل عام،وتوحيد القوانين الجنائية العربية على أساس أحكام الشريعة الإسلامية باعتبارها أسلم الطرق وأجداها للوصول إلى الهدف المنشود، والرباط المقدس الذي يجمع سائر الدول العربية والإسلامية، والقانون الصالح لكل زمان ومكان بفضل ما اشتملت عليه هذه الشريعة من مبادئ سامية تنظم حياة الإنسان وتحفظ حقوقه وكرامتها”.
ثالثا :نقد القانون
وكأي عمل بشري لابد أن يكون هناك ملاحظات على القانون ، ويمكن تقسيم الملاحظات على القانون إلى قسمين: كلية وتفصيلية.
وهذه الملاحظات لا تنقص من قدر هذا القانون كقيمة علمية شرعية يستفيد منها كل قارئ مسلم يريد التعرف على الأحكام الشرعية وكيفية صياغتها في مواد مقننة،وهذه الاستفادة هي أعظم للمختصين من القضاة والمحامين وغيرهم.
ولا شك أن قطرنا السوري يمر بمرحلة حرجة وعصيبة، فهناك مناطق مازالت تحت سيطرة النظام، ومناطق تحت سيطرة المجاهدين ولكنها لما تستقر بعد ،وإن كان فيها نوع استقرار الذي جعل للهيئات الشرعية متنفساً تقضي بين الناس بحكم الله على قدر الطاقة والاستطاعة.ولا يمكن أن تستقر الحالة القضائية إلا بسقوط النظام المجرم بكل أركانه وأعوانه.
والسوريون غالبهم مسلمون يريدون أن تقوم دولة الحق العدل،ولن يكون ذلك إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية وحدها المستمدة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.والوصول إلى ذلك يحتاج إلى زمان وعملية متواصلة من البناء العلمي والعملي على كافة الأصعدة، وخاصة في مجال القضاء حيث نحتاج إلى حكام في القضاء يجمعون بين العلم الشرعي التفصيلي والفقه بالواقع العملي ،وبحيث يملكوا الملكة لتحقيق هذين الأمرين إن وجد عندهم قصور في العلم والعمل.
ومحاكمنا الآن هي محاكم طوارئ ،فليس عندنا المؤهلين للقضاء بالصورة الكافية، وشرط القاضي أن يكون مجتهدا ،وقد سقط هذا الشرط بحكم الواقع منذ عقود إلا بعض الآحاد المتفرقين في بلاد الإسلام. فلذلك تجد القضاة يحكمون بالقوانين المقننة الوضعية،وأحسنهم حالا من يحكم بالمذهب الفقهي السائد في البلد.وقد تدارسنا أمر هذا القانون مع كثير من المهتمين بالواقع السوري عامة والقضائي منه خاصة، من القضاة والقانونيين وكلهم كان يوصي بهذا القانون نظرا للحالة الخاصة التي يمر بها الواقع السوري.
وبناء على ماتقدم فإننا نرى ما يلي:
1- اعتماد القانون العربي أساسا للقضاء في المحاكم الشرعية في سوريا ولا يحاد عنه إلا إذا خالف النصوص الصريحة من الكتاب والسنة والإجماع، وإذا خولف يكون بقرار من مجلس قضائي يمثل الهيئات الشرعية في سوريا .
2- لاينبغي أن يكون هذا القانون -قبولاً ورفضاً- سببا للافتراق بين القضاة، فإن كثيرا من العلماء المعاصرين يرون التقنين للأحكام الشرعية على مواد يلتزم بها القاضي كما تقدم معنا في بحث التقنين. وقد وضع أصحاب القانون العربي على مواد معتمدين على الشريعة الإسلامية وعلى مادُوِّن في المذاهب الفقهية الأربعة. فلا يجوز لمن لم ير التقنين أن يبدع ويضلل من أخذ بذلك فضلا أن يكفره ويخرجه من الملة، فإن هذا من الظلم والعدوان.
نسأل الله أن يؤلف بين قلوب قضاتنا،وأن يجعلهم من العلماء العاملين،الحاكمين بالحق والعدل المستمد من كتاب رب العالمين وسنة سيد المرسلين،وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.