الكاتب: الدكتور محمد العبدة – عضو الجمعية العمومية في المجلس الإسلامي السوري
بين الحين والآخر يعود للظهور في الإعلام المكتوب والمرئي، وفي المقابلات مع شخصيات إسلامية موضوع ما يسمى (المواطنة) ويعنون بذلك أن لا فرق بين مواطن وآخر من ناحية الدين أو العرق أو اللغة، أي لا فرق بين مسلم وأي إنسان آخر من أصحاب الملل الأخرى في الحقوق والواجبات في الدولة الحديثة.
ومن منطلق الدفاع وردّ الفعل يتكلم بعض الكتاب أو بعض البارزين في العمل الإسلامي حول هذا الموضوع مؤكدين أن لا فرق أبداً بين المواطنين وأن أي إنسان مهما كانت عقيدته يستطيع الوصول إلى أعلى المناصب كالرئاسة الأولى وما دونها، ثم يفتي هذا المتكلم بأن المصطلحات السابقة قد انتهت وأننا أخوة في وطن واحد ومن يتحدث بغير هذا فهو ممن يريد زرع الفتنة، ويطيل هذا الداعية الكلام في هذا الموضوع حتى يظن الظان وكأنه مجاملة باردة .
ونقول لهؤلاء: على رسلكم، لا تتعبوا أنفسكم كثيراً في الإفتاء والتنظير في مثل هذه الموضوعات، فالقضية ليس كما تتصورون، وليست بهذه السهولة التي تتوهمون، ليست القضية قضية مسلمين أو نصارى أوغيرها من الطوائف، ولا القضية قضية جزية أو خدمة عسكرية، فكل هذا طرح مفتعل، القضية بشكل مختصر هي إبعاد الإسلام عقيدة وشريعة بحجة أن الأقلية غير المسلمة لا تريد هذه الشريعة ولا ترضى بها وأن فرضها هو غبن وظلم لها، ويتذرعون بالوحدة الوطنية مع أن من أهم شروط المواطنة الالتزام بالدستور ودستور المسلمين مصدره الشريعة. والغريب أن الذين يدندنون حول هذه المواطنة هم من يرفع شعار الديمقراطية والتعددية، فأين الديمقراطية إذا كانت الأقلية تتحكم بالأكثرية، وهل هناك ظلم أفدح من أن تخضع أكثرية 85% أو95% في بعض البلدان لرأي الأقلية لأنه لا يعجبها ولا يرضيها أن يطبق الإسلام؟
جاء في تعليقات الأمير شكيب أرسلان على تاريخ ابن خلدون : “ويقال إن السلطان سليم أراد حمل النصارى الذين في المملكة على الإسلام جميعاً أو يخرجوا من البلاد، فعارضه المفتي ( زنبيلي علي أفندي ) وقال له لا يحل لك ذلك، وليس لنا إلا أن نأخذ الجزية والطاعة “. يقول أرسلان : فيكون قد ثبت أن الشريعة الإسلامية بعدالتها وأمانتها هي التي حفظت المسيحيين في السلطنة أيام كان السلطان يقدر أن ينفذ جميع ما يريده بهم، ومن العجب أننا نرى الأوربيين يعملون بكل قوتهم لمحو الشريعة الإسلامية التي في ظلها وسببها لا غير بقي النصارى في جميع الممالك الإسلامية متمتعين بجميع الحقوق، هذا وكان نصارى البلاد العثمانية بضعة عشر مليون نسمة، ومن العجب أننا نراهم مع ذلك يفضلون أن تكون الحكومات ملحدة ولو كانت تخرج جميع النصارى من بلادها، وهذا أقصى ما يتصوره العقل من التحامل على الإسلام، يكرهونه ولوحفظهم ويحبون زواله ولو كان في ذلك زوالهم “(1)
ألم يعش اليهود تحت سلطة المسلمين في الأندلس هرباً من بطش الإسبان ثم هاجروا إلى ولايات الدولة العثمانية وعاشوا فيها بأمان واطمئنان ثم كانوا أول من حرض وشارك في هدم هذه الدولة. والآشوريون في العراق هم ليسوا في الأصل من سكان العراق بل لأنهم وقفوا أثناء الحرب إلى جانب الإنكليز فقد ترك لهم الإنكليز بعد الحرب سلاحهم وأسكنوهم العراق، وصادقت عصبة الأمم في قرارها الصادر في 14 / 12 /1932 على ما فعلت بريطانيا، التي تبرعت بأرض لا تملكها للآشوريين كما فعلت في فلسطين، وبعد عام واحد طالب هؤلاء الآشوريون باستقلال ذاتي؟ وطبعاً لم يتم لهم ذلك وعاشوا مع الشعب العراق(2)
ويقول الأستاذ محب الدين الخطيب في مقال له في مجلة الفتح: ” ولما طُرد الأرمن من كيليكيا وولايات الأناضول فتحت لهم السلطة الفرنسية أبواب الوطن السوري فأنزلتهم في حلب ودمشق وبيروت وفيما بين ذلك، وعطفت عليهم واحتضنتهم كما تحتضن الأم أبناءها، وحملوا البندقية في صف الفرنسيين يوم الثورة ( ثورة الشعب السوري على فرنسا ) ومع هذا الحنو من فرنسا فإن جمعية الأمم تحلم بهم في منامها، ووصل إلى ديار الشام المسيو (أوغست) مندوب جمعية الأمم لينظر في شؤون الأرمن ويشرف على راحتهم. إذن جمعية الأمم موجودة في الدنيا والدليل على وجودها هذه القرى التي تبنى للأرمن في شمال سورية على أحدث طرز، أما عند إخراج الايطاليين سكان الجبل الأخضر في ليبيا من منازلهم وتجريدهم من أراضيهم وطردهم من وطنهم سيراً على الأقدام إلى صحراء مقفرة، ومن أعياه السير منهم تأتيه الراحة من رصاصة الجندي الايطالي فيقع مجندلاً على الأرض، فإن جمعية الأمم لا تحب أن ترى هذه المشاهد ، ولذلك يجب أن نفترض أن جمعية الأمم غير موجودة إذا جاء ذكر الطرابلسيين(3)
هذه أمثلة واضحة وضوح الشمس ومع ذلك فإن المسلمين ينسون هذه الإساءات لطيبة قلوبهم، فأهل البوسنة نسوا فظائع الصرب عام 1944 أثناء الحرب العالمية الثانية، وعاشوا معهم بعد ذلك وكأن شيئاً لم يكن، وعندما وقعت المجازر الأخيرة استغرب أهل البوسنة هذه الوحشية من جيرانهم وأصدقائهم قبل أشهر وقبل أسابيع.
رجال الاستعمار يقولون عن المسلمين إنهم متعصبون لأن الإسلام يملأ قلب المسلم كرامة فلا يطامن من عزة إيمانه ولايرضخ لتسلطهم وأحكامهم، فإن كان التمسك بالحق يسمى تعصباً فلا شك أنه فضيلة ” ولو أن المسلمين كانوا متعصبين لعروتهم الوثقى لما استذلتهم أمة ولما خسروا وطناً من أوطانهم، والتعصب فضيلة بشرط أن يكون واقعاً بين طرفي التمسك بالحق والعفة عن العدوان، نحن أمة مسكينة فقيرة حتى في التعصب، فالمتعلمون منا بلغت بهم البساطة إلى حد أنهم لا يشعرون بالمؤامرة المبيتة عليهم، والطبقة المتوسطة وضع الإسلام في قلوب أهلها الرحمة وحسن الجوار فهي أودع الملل بلا استثناء “(4)
نحن فقراء فعلاً في التعصب المحمود أوالايجابي كما قال محب الدين الخطيب رحمه الله، إذن نحن المظلومون، نحن الأكثرية وليس غيرنا.
الهوامش والمراجع:
1-تعليقات على تاريخ ابن خلدون / 177 ط 1936
2-اوجين يونغ : الإسلام يدافع عن نفسه ( اليقظة العربية الإسلامية ) ت إحسان حقي
3- مجلة الفتح عدد253 .17 محرم / 1350 هجرية
4- المصدر السابق