رقم الفتوى: 03
السؤال: ما حكمُ إيواء الدواعش الذين يفرون من المعارك ومناطق سيطرتهم ويلجؤون إلى الأراضي المحررة، وكيف نتعامل معهم؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصّلاة والسّلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فلا يجوز إيواء أفراد تنظيمات الغلاة – كتنظيم (الدولة) ونحوهم-، ولا التعاون معهم، بل يُسلم من وجُد منهم إلى الجهات القضائية والشرعية الثورية للتعامل معهم وفق الهدي النبوي في معاملة الخوارج، وتوضيح ذلك فيما يلي:
أولاً: إنَّ انهيار تنظيمات الغلاة أمرٌ متوقّعٌ طالما حذّر منه العقلاء؛ لمعرفتهم بحقيقة هذه التّنظيمات، فهي ليست فئات باغية لها تأويلها السائغ، ولا جماعات منحرفة تتصف بصفات الخوارج وحسب، بل تجاوزت ذلك كلَّه حتى أصبحت كياناً مختلَقاً مخترَقاً يستخدمه أعداء الإسلام في ضرب أهل السنة، وتدمير جهادهم، واحتلال مناطقهم بتهمة محاربة الإرهاب.
أمّا التعامل مع أفراد هذه التنظيمات الفارين مِن مناطق القتال فلابدّ فيه مِن اليقظة والحذر، واعتبار ما يتناسب مع حقيقة تنظيمهم وفكرهم وخطرهم، وسابق تعاملهم مع الثوار؛ فإنَّ مماابتدعوه مما لم يكن في أسلافهم: الغدر، واستباحة الكذب، ونقض العهود والمواثيق.
ثانياً: بناء على ما سبق فلا تجوز إعانة هؤلاء ولا إيواؤهم ولا نصرتهم عندما يفرون مِن المعارك؛ لأنهم مِن الـمُحْدِثين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لعن الله مَن آوى محدثا) رواه مسلم وغيره.
قال الطِّيبي في”شرح المشكاة”: “ويدخل في ذلك الجاني على الإسلام بإحداث بدعة، إذا حماه عن التعرض له،والأخذ على يده لدفع عاديته”.
فهؤلاء جمعوا بين الإحداثَين: الإحداث في الجرائم مِن القتل والسّلب والنّهب للمسلمين والمجاهدين، وبين إحداث البدعة المغلظة، مع ثبوت اختراقهم من الأعداء، واستخدامهم لهم.
أما فرارهم من معارك مع الأعداء: فهو لا يؤثِّر في حقيقة إحداثهم؛ فهم معتدون على المسلمين قبل هذا القتال، وأثناءه، وبعده.
وقد ثبت الأمرُ النبوي بقتال الخوارج واستئصالهم في أحاديث كثيرة، منها: ما ورد في الصحيحين مِن حديث عليّرضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قَتلِهم أجراً لمن قَتَلهم عند الله يومَ القيامةِ).
وخوارج هذه التنظيمات شرٌّ مِن الخوارج الأولين، وإيواؤهم ومساعدتُهم مخالفٌ للهدي النبوي في التعامل معهم.
ثالثاً: غالب مَن يخرج مِن مناطق هؤلاء إنّما يخرج فرارًا مِن الموت، وعجزًا عن القتال، وبحثًا عن مكان آخر يبث فيه منهجه، أو بحثا عن فئة أخرى ينضمّ إلى صفوفها، لا رغبة في التوبة أو اقتناعًا بانحراف الفكر وبطلان المنهج، والأصلُ في أمثال هؤلاء أنَّ حكمهم لا يختلف عن حكم الأفراد المقاتلين المقيمين في مناطقهم، والفارَّ مِن الخوارج مِن أرض المعركة تجوز ملاحقته والإجهاز عليه ولو كان جريحًا أو أسيرًا.
قال الكاساني في”بدائع الصنائع” في تصرف الإمام مع البغاة: “الإمام إذا قاتل أهل البغي فهزمهم وولوا مدبرين، فإن كانت لهم فئة ينحازون إليها، فينبغي لأهل العدل أن يقتلوا مدبرَهم، ويُجهِزوا على جريحهم؛ لئلا يتحيّزوا إلى الفئة فيمتنعوا بها، فيكرّوا على أهل العدل، وأما أسيرهم فإن شاء الإمام قتله استئصالاً لشأفتهم، وإن شاء حبسه لاندفاع شره بالأسر والحبس”.
وهذا في حقّ البغاة، فالقول في أفراد هذه التنظيمات الذين تجاوزوا البغاة والخوارج بكثير أشدّ، لا سيما وقد ثبت مِن سيرتهم أنَّهم يُعطون الأمان، ويعلنون التوبة، ثم يعودون للقتال ويغدرون بالمجاهدين.
كما أنه لا ينبغي تأمينهم على أنفسهم إلا بالرجوع إلى القضاء الشرعي لينظر في حالهم وصدق توبتهم، ومَن ثبت كذب ادعائه بالتوبة: فله أحكام أسرى الخوارج.
رابعاً: مَن هرب منهم مِن غير المقاتلين أو انحاز وكان مِن معتنقي فكرِ الخوارج ودعاتهم المدافعين عنهم، المصرّحين بتكفير المسلمين والمجاهدين، المحرّضين على قتالهم، سواء كان مِن الرجال أو النساء فإنه يتحتم على الهيئات القضائية والشرعية الثورية إزالةُ ضرره، وكفُّ باطله، ومنعُه مِن نشر فكره، فإن لم يمكن ذلك إلا بالقتل فقد أجازه عددٌ من أهل العلم، ما لم يترتَّب على ذلك مفسدةٌ أعظمُ منها.
جاء في “التّمهيد” لابن عبد البر: “رأى مالكٌ قتلَ الخوارجِ وأهلِ القدر مِن أجل الفساد الدّاخل في الدّين، وهو مِن باب الفساد في الأرض، وليس إفسادُهم بدون فسادِ قطّاع الطّريق، والمحاربين للمسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلُهم، إلا أنّه يرى استتبابتَهم لعلّهم يُراجعون الحقَّ، فإنْ تمادوا قُتلوا على إفسادِهم، لا على كفرٍ”.
وقال ابنُ عابدين في حاشيته “رد المحتار”: “فأمّا في بدعةٍ لا تُوجب الكفرَ فإنه يجب التّعزيرُ بأيِّ وجهٍ يمكن أنْ يمنعَ مِن ذلك، فإنْ لم يمكنْ بلا حبسٍ وضربٍ يجوز حبسُه وضربُه، وكذا لو لم يمكن المنعُ بلا سيفٍ إن كان رئيسَهم ومقتداهم جاز قتلُه سياسةً وامتناعًاً”.
خامساً: النساء والأطفال الفارون مِن هؤلاء: فالأصلُ فيهم أنَّهم ليسوا مِن أهل القتال والحرب، فلا يجوز قتلُهم، ولا الاعتداءُ عليهم، لكن إذا شاركت المرأةُ البالغةُ مع الخوارج في القتال والأعمال الحربية جاز قتالُها وقتلُها، وكذا إذا باشرت أو تسبّبت في قتل المسلمين، أو أسرهم.
قال الماوردي في “الحاوي الكبير”: “إذا قاتل مع أهل البغي نساؤهم وصبيانهم وعبيدهم كانوا في حكمهم”.
وأمّا مَن شاركت معهم في بعضِ إجرامهم مِن القبض على المسلمات أو تعذيبهنّ مِن غير أن يؤدّي ذلك إلى القتل، أو كانت مِن دعاتهم فإنها تُعاقب عقوبةً تتناسب مع جريمتها، ويقدّر ذلك القضاةُ وأهلُ العلم.
وأمَّا الأطفال: فمَن ارتكب منهم شيئًا مِن الجرائم الجنائية كالقتل، أو التّجسس، ثمّ قُبض عليه فإنّه لا يُقتل، بل يُعزل ويعلّم أمور الدِّين، ويقدَّم له ما يحتاج مِن توجيهٍ ورعايةٍ؛ لأنَّه ليس محلًا لإيقاع العقوبات الشّرعية، فإذا ظهرت عليه آثارُ الصّلاح والتّوبة مِن هذا الفكر المنحرف فيُخلّى سبيلُه، مع الاحتياط.
سادساً: من أعلن التوبة من فكر الخوارج قبل أن نقدر عليه، وقبل أن يقع عليه ما يضطره للخروج مِن أرضهم فيجوز استقباله والكف عنه، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33-34].
مع ضرورة أخذ الحيطة والحذر منهم؛ فلا يُشركون في قتالٍ، ولا يُولّون ولاياتٍ صغيرة ولا كبيرة، ولا يُمكّنون مِن الخروج مِن البلاد أو التنقُّل فيها، أو التواصل مع غيرهم مِن المشكوك في توبتهم؛ لما عُهد عنهم من الكذب والغدر بالمسلمين، وندرة مَن يصدُق منهم في توبتِه.
وتختص الجهات القضائية والشرعية الثورية بإصدار أحكام ذلك.
نسأله سبحانه وتعالى أن يلطف بنا، وأن يدفع عنا وعن إخواننا، والحمد لله رب العالمين.
مجلس الإفتاء
الاثنين 8 ذو القعدة 1438هــ الموافق 31 تموز 2017م