خطوةٌ نحوَ تطويرِ علومِنا اللّغوية
ديسمبر 1, 2019
المهديُّ بينَ الشِّيعة وأهلِ السُّنة
ديسمبر 1, 2019

التهجيرُ القسريُّ في سوريا، وأثره على أهل السنّة فيها

الباحث: فراس رياض السقال -ماجستير في الفقه وأصوله

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

فإن المؤمن مُمتحن مُبتلى، وإن الله U يمتحن أصفياءَهُ بامتحانات شتى، وتُعد الهجرة من أعظم أصناف الامتحان، حيث يصير العبد بعيدًا عن أهله ووطنه وذويه، ومن نشأ معهم وترعرع في أحضانهم، ولقد مضت سُنّة الله تعالى في أنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين أن معظمهم هاجروا من بلدانهم بحثًا عن موطن آمن يتعبدون ربهم فيه، ويدعون فيه إلى الله دون منغّصات أو ملاحقات وتبعات.

هذه هي الهجرة، فكيف إن كان الأمر أشدّ منها؟ كأن يُهجَّر المرء مجبرًا طريدًا، أو أن يُدعى لأمرٍ لا يناسبه، فإن فعله حاز الرضا من الـمُكْرِه، وإلا فلا بقاء له في وطنه، فجلّاده حاضر وسوطه مُسلّط، وكل ذلك يجري بسيف الساسة ودستور السياسة الجوفاء، دون أي اعتبار لحقوق الإنسان وإنسانيته.

وهذا التهجير نراه في عدد من الدول الإسلاميّة عمومًا، والسنّية على وجه الخصوص، وقد رأينا ذلك في العراق واليمن، وها هو يَفحل في سوريا، التي يُعدّ أهل السنّة فيها السوادَ الأعظم، حيث يُشكّل المكوِّن السنيّ فيها أكثر من 76،1% من السكان([1]).

إن ما يعانيه الشعب السوري من التهجير القسري المنظّم، يستحق منّا لفت الانتباه والتمحيص فيما يجري لإظهار حقائقه، وكشف مظاهر هذا التهجير وأهدافه، والأصابع الخفية القائمة في تحريك هذه الفتنة وتنميتها، والآثار الناشئة من هذا الفعل غير القانوني أو الإنسانيّ.

مما يستدعي منا السعي الدؤوب نحو تجلية هذا الأمر بشفافيّة ومهنيّة، راجين الله U أن يُهيّئ طريق الخلاص لجميع المضطهدين في العالم إنه سميع مجيب.

تحديد المشكلة:

  • لماذا يستهدف هذا التهجير أهل السنّة دون غيرهم؟
  • من هي الدول اللّاعبة في المنطقة لإنجاز هذا التغيير؟
  • ما هي أهداف ومصالح هذه الدول من إزاحة المسلمين السنّة عن بلادهم؟

إن البحث عن إجابات لهذه الأسئلة هو ما يدعونا للحديث عن ظاهرة التهجير الإجرامي؛ من خلال تسليط الضوء على الساحة السورية وما جرى فيها إثر ثورة شعبها المجيدة.

أهمية هذا الموضوع:

إن ما نراه في هذا العقد من تمالؤ القاصي والداني على أهل السنّة في سوريا، والعمل على إفراغ مناطقهم من أهلها، من خلال حملات التهجير الطائفي، وتعاون الشيعة مع قوى عظمى، جعل للبحث العلميّ حول هذه القضية أهميّة كبرى، لا يجوز التغافل عنها.

لقد بدأت هذه الفكرة تأخذ حيّزًا من تفكيري بعدما رأيت الذين يقمعون المظاهرات السورية -في أحياء دمشق تحديدًا- عبارة عن عناصر غريبة عن بلادنا، حيث كانوا ضِخام الأجسام، حليقي الشعور طويلي اللحى، يضعون النظارات السوداء، بعضهم يلبس القمصان (تيشرت) والبناطيل السوداء، وبعضهم البنطال المموه (مارنز)، ويركبون سيارات سوداء ليس عليها لوحات رقميّة، وكانت أسلحتهم غير الأسلحة الروسية التي نعرفها.

في البداية حسبتهم من عناصر الساحل السوري (الشبيحة) للشبَهِ الكبير بينهم، وعندما اقتربت منهم سمعتُهم يتخافتون بلهجةٍ لبنانيّةٍ، ويقول أحدهم لصاحبه: إياك والكلام، عندها عرفت أنهم من عناصر المجرم المدعو حسن نصر الله([2]).

اعتُقلت في بداية الثورة ولاحظت في المعتقل أنّ أكثر من يُعذَّب ويُقتَل في سجون المخابرات هم أهل السنة، وأن جلّادنا كان يتفنن في سبّ ربّنا وديننا ونبيّنا وشتمهم، وهو لشتمِ صحابة رسول الله r مكثرٌ، مبادرٌ إلى النيل من أبي بكر وابنتِهِ عائشةَ رضي الله عنهما.

وفيما تلا ذلك من سنيِّ الثورة تراكمت الجرائم بحقّ أهل السنّة في سوريا، وتفاقمت شيئًا فشيئًا، ووصلت هذه الانتهاكات إلى حدّ تهجير الأهالي من أوطانهم وبيوتهم، على يد قوّات نظام الأسد وحلفائه من ميليشيات إيران وحزب الله، ورغم ما بين النصيرية والشيعة من عداء تاريخي فإنك تجد القاسم المشترك في تحالفهم الغريب هو عداؤهم لأهل السنة والاتفاق على استئصالهم.

ومن خلال هذا البحث سأحاول كشف اللثام عن بعض الحقائق والنوايا العالمية أو الإقليمية في توثيق السعي المسعور لتهجير سكان سوريا الأصليين وإحداث خلل كبير في واقع المكون السني فيها.

وقد تم هذا البحث من خلال مقدمة ومبحثين، الأول: يتحدث عن مفهوم التهجير القسري وأشكاله وأهدافه والجهات القائمة عليه، والمبحث الثاني: يتحدث عن الآثار الاجتماعية والطائفية لسياسة التهجير القسري في سوريا، وختمت البحث بأهم النتائج والتوصيات.

 

 

المبحث الأول

مفهوم التهجير القسريّ وأشكاله وأهدافه

مفهوم التهجير القسريّ:

  • التهجير لغة: التهجير لغة: من (الهَجْر) ضد الوصل، وبابه نصر و(هِجْرَانًا) أيضًا، والاسم (الهِجْرَةُ). و(الـمُهَاجَرَة) من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية. و(التَّهَاجُرُ) التقاطع. و(الهَجْرُ) بالفتح أيضًا الهذيان… و(الهَجْرُ) بالفتح و(الهَاجِرَة) و(الهَجِيْرُ) نصف النهار عند اشتداد الحر، و(التَّهْجِير) و(التَّهَجُّر) السير في الهاجرة. و(تَهَجَّرَ) فلان تشبه بالمهاجرين. وفي الحديث:«(هَاجِرُوا) ولا تَهَجَّرُوا». و(هَجَرٌ) بفتحتين اسم بلد مذكر مصروف. وفي المثل: كمبضع تمر إلى هَجَرٍ([3]). والهَجْر: الترك، والمهاجرون: هم من هجروا أوطانهم([4]). وتَهْجير (مفرد): مصدر هجَّرَ، هجَّرَ إلى([5]).

إذًا فمن معاني كلمة تهجير: الترك، والتشبّه بالمهاجرين، ومفارقة الأوطان، والتقاطع.

  • والتهجير اصطلاحًا هو: انتقال قسريٌّ بسبب صراعات داخليّة، تدفع الأُسر والأفراد إلى مغادرة أماكن إقامتهم الأصلية، والتوجه إلى أماكن توفر لهم قدرًا أكبر من الأمن وشروط الاستقرار([6]).
  • التهجير بالمعنى السياسي: سياسةُ إكراهٍ وتشريدٍ، وإرغامٌ على مغادرة مسكنٍ أو بلدٍ، من جرَّاء حربٍ أو نزاعٍ مُسلَّح أو فتنة سياسيَّة “مخطّطات تهجيريَّة وتطهير عرقي”([7]).

بداية هذه السياسة في العصور الحديثة:

بدأت سياسة التهجير تنتشر مع قيام إسرائيل باستقدام يهود العالم، وتوطينهم في فلسطين بعد إجلاء أهلها وتهجيرهم في بقاع الأرض، فالصهيونية كانت وما زالت حركة توطينيّة استيطانية، ويعدّ تدفُّق القوّة البشريّة القتاليّة اليهوديّة إلى فلسطين مسألة أساسيّة وحيويّة بالنسبة لها، حتى تستمرّ في الاضطلاع بوظيفتها القتالية، فنجد الحركة الصهيونيّة كثيرًا ما تلجأ إلى عملية تهجير قسريّة لبعض يهود العالم.

  • مفهوم التهجير القسريّ في القانون الدوليّ: (ممارسة تنفّذها حكومات أو قوى شبه عسكريّة، أو مجموعاتٌ متعصّبةٌ اتجاه مجموعات عرقيّة أو دينيّة أو مذهبيّة، بهدف إخلاء أراضٍ معيّنة، وإحلال مجاميع سكانيّة أخرى بدلًا عنها)([8]).

ويُعرِّف القانون الدوليّ الإنسانيّ التهجير القسريّ بأنّه: (الإخلاء القسريُّ وغير القانونيّ، لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها) وهو ممارسة مرتبطة بالتطهير، وإجراء تقوم به الحكومات، أو المجموعات المتعصبة تجاه مجموعة عرقيّة أو دينيّة معيّنة، وأحيانًا ضد مجموعات عديدة بهدف إخلاء أراضٍ معينة لنخبة بديلة أو فئة معينة، وتعدُّ الموادُّ (6) و(7) و(8) من نظام روما الأساسيّ التهجيرَ القسريّ جريمة حرب([9]).

    إجراءات مجلس الأمن إزاء التهجير القسريّ: من قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالتهجير القرار رقم “1674” لعام 2006 حماية المدنيين في الصراعات المسلحة (الفقرة 12): يشير إلى حظر التهجير القسريّ للمدنيّين في حالات الصراع المسلح، في ظل ظروف تشكل انتهاكًا لالتزامات الأطراف بموجب القانون الإنسانيّ الدوليّ([10]).

  • الفرق بين الهجرة والتهجير: من خلال تناولنا لمعنى كلمة تَهجير يتضح معنا الفرق بين كلمتي الهجرة والتهجير.

فالهجرة: من الممكن أن تكون اختياريّة برغبة المهاجر، دون تَدخّلٍ من جهة خارجيّة أخرى، ويُمكن أن تكون على سبيل الفرار من أيّ خطر يهدّد حياة الإنسان أو دينه أو عرضه وماله ونسله.

أما التّهجير: فمبناها يدل على معناها، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى (هَجَرَ، هَجَّرَ)، فالـمُهَجَّر هو من أُرغم على الهجرة دون اختيار منه، وتأتي بمعنى الطّرد.

أشكال التهجير القسريّ:

إن الحاكم المستبد إن وجد رأسًا قد رُفع قام بزجه أو إبعاده بأيّ طريقةٍ كانت، وإن رأى المعارضين له قد زاد جمعهم بحيث يصعب قتلهم جميعًا لجأ إلى نفيهم من أوطانهم وتهجيرهم لعله يصفو له استبداده ولا يجد من يلومه على ظلمه أو يقول له كفى، وهذا ما فعله نظام الطاغية في سوريا، حيث اتّبع أساليب وطرقًا مختلفة لتهجير معارضيه… من هذه الطرق:

  • الاعتقالاتُ التعسفيّة دون أيّ استثناءاتٍ أو حدودٍ، فقد بلغ عدد المعتقلين في السجون السورية 118829 شخصًا حتى آذار 2018.([11])
  • التجنيد الإجباريّ واعتقال الشباب على الحواجز، وقد وثّقت هيئات حقوق الإنسان حالات اعتقال الكثيرين من الشبّان السوريّين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 25-35 سنة، في غالب المحافظات السورية لسوقِهم إلى التجنيد الإجباريّ ([12]).
  • إعادة التنظيم العمرانيّ وإطلاق مشاريع كبرى: كما في حمص (مشروع حلم حمص) ويقضي بهدم حمص القديمة، وأيضًا ما جرى في كفر سوسة، وبساتين المزة، والقدم، وداريا وغيرها([13]).
  • إجبار السكان على بيع البيوت بأثمانٍ زهيدةٍ، وخاصّة في دمشق القديمة، لتفريغها والاستيلاء عليها، خاصة البيوت المملوكة للسنّة([14]).
  • القصف الوحشيّ وبكافة أنواع الأسلحة المحرّمة أو غيرها، مما يستدعي فرار الأهالي بحياتهم، وقد وثّقت المنظمات الحقوقيّة الكثير من هذه الانتهاكات ومنها الهجمات بالأسلحة الكيماويّة([15]).
  • التغيير الديموغرافيّ الذي ينتهجه نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيّون في جميع مناطق السنّة، كما حدث في داريّا، ومعضميّة الشام، ووادي بردى، وغيرها من المناطق المحررة التي كانت تحت سيطرة الثوّار([16])، إضافة إلى الجنوب الدمشقيّ، والقلمون، والزبداني، وحمص، والغوطة الشرقيّة.
  • الحصار الخانق المفروض على المناطق المحرّرة، وقطع جميع ضروريّات الحياة عن سكانها، من الكهرباء والغذاء والأدوية والوقود والغاز، وحليب الأطفال، والإنترنت وغير ذلك.
  • منع المرضى الخارجين من مناطق الحصار للعلاج من العودة إلى مناطقهم([17]) كما حدث في مضايا.

وهكذا نرى أنّ النظام السوريّ وحلفاءه روسيا وإيران وحزب الله، يمارسون أسوأ الطرق وأبشعها، في سبيل إعجاز هذا الشعب الأعزل، ودفعهم لكراهية العيش في بلدهم، بهدف النزول تحت طاعته وإجرامه، فإما القتل والاعتقال، أو التهجير القسريّ([18]).

أهداف التهجير القسريّ في سوريا:

يختلف الهدف من تهجير الشعوب باختلاف البقعة الجغرافية التي يحدث فيها، واختلاف الناس الذين يقع عليهم، ولهذا فإن للتهجير في سوريا أسبابًا كثيرة سأذكر أهمّها:

  • أهداف التهجير السياسيّة: يسعى النظام للظهور بمظهر القويّ والمنتصر في معاركِهِ ضدّ أبناء شعبِهِ، وذلك لتحقيق مكاسب سياسيّة يعرض فيها عضلاته أمام المجتمع الدوليّ، وما نراه يتجلّى في بقائِهِ على كرسيّ الحكم، ولو بقيَ في البلد وحدَهُ، فمعيارُهُ الحفاظُ على العاصمة، ولو هُجّر وشُرّد جميعُ أبناءِ بلدِهِ.

وينظرُ حلفاءُ النظام السوريّ بنفس النظرة والعقليّةِ، فبقاءُ حكمِ الأسدِ بقاءٌ لتحالفاتهم ومصالحهم، التي لن يحلموا أن يحصلوا عليها لو تغيّر رأسُ الحكم في سوريا، طبعًا من أهم تلك المصالح دوام أمن إسرائيل… ومن هؤلاء الحلفاء: 

  • روسيا: حلمها الحضور الدائم في المياه الدافئة (البحر المتوسط) فقد خسر الاتحاد السوفيتيّ كثيرا من مراكزه وعلاقاته الدولية من مصر إلى عدن، فليبيا والعراق، ولم يبق له حاليًّا سوى سوريا، ولروسيا هدف آخر ألا وهو الخلاص من المجاهدين المنتشرين في بلادها، إضافة إلى أهداف اقتصاديّة منها إعادة تلميع صورة السلاح الروسيّ وتسويقه([19]).
  • إيران: لها مكاسب سياسيّة واستراتيجيّة وعسكريّة لا تخفى على أحد، وتحاول جاهدة إخفاء وجودها العسكريّ، ولكن الظاهر عيانًا أنّ لها ثقلًا ووجودًا عسكريًّا لا يُستهان به([20]).
  • حزب الله اللبنانيّ: إنّ سياسة حزب الله في سوريا مرتبطةٌ بسياسة طهران، فقد أكّد المدعو حسن نصر الله ذلك في الكثير من خطاباته المتلفزة([21])، وذكر معهد واشنطن: (صرح مسؤولون من الولايات المتحدة والشرق الأوسط بأنّ إيران وحزب الله يجريان استعدادات عسكريّة لمواجهة الفوضى الطائفيّة التي يُحتمل أن تبتلع سوريا ما بعد الأسد، ويقول خبير مكافحة الإرهاب ماثيو ليفيت: إنّ حزب الله ألزم نفسه بشكل وثيق مع (قوة القدس) الإيرانيّة، وسوف يقوم بأعمال في هذه الأيام تصبّ في مصلحة إيران، حتى لو كانت هذه الأعمال تتعارض مع مصالح لبنان، ومصلحة الحزب)([22]).

وهكذا يتبيّن لنا أنّ كلا من روسيا وإيران وحزب الله، يسعى لإتمام مكاسب سياسيّة في سوريا، على حساب أرواح بريئة، تُزهَقُ كلَّ ساعةٍ، في سبيل إتمامِ هذه الصفقاتِ المشبوهةِ.

  • أهداف التهجير الاستعماريّة:

إنّ الدول الاستعماريّة لا تحتاجُ أيَّ تبريرٍ لعدوانها، فكلا القطبين الاستعماريَّين الأمريكيّ والروسيّ، يسعى لتوسيع مستعمراته المباشرة وغير المباشرة في الشرق الأوسط.

فروسيا تحلُمُ في كسر عظم أمريكا في سوريا، بعد أن أبدَتْ الدولُ العربيّة رغبتَها في عودة الاستعمار بصورة جديدة، وبطرق غير مباشرة إلى الوطن العربيّ([23]).

إنّ بداية الاستعمار دائمًا تأخذ شكل المنقذ أو المخلِّص، وبعد توسُّعِهِ تظهرُ أنيابُهُ، ثمّ يلتهِمُ من استغاثَ به، فيبدأ الاستعمار بالتعويم الاقتصاديّ، ثم بإنشاء القواعد، وبعدها الهيمنة على مقدّرات البلد بكامله، وهذا ما فعلته روسيا في سوريا، فالأسلحة السورية من الرصاصة حتى الطائرة صناعة روسيّة، ومنتجات روسيا الكاسدة تُعوّم في سوريا، إضافة إلى الزحف العسكريّ المتمثل بحاملات الطائرات الروسيّة، وإنشاء قاعدة حميميم وغيرها، واستقدام الجند والخبراء، إضافة لعدم سيطرة النظام السوريّ على أي قرار سياديّ([24]).

حتى المفاوضات بين المعارضة والنظام، لا يتمّ الاتفاق على أيّ بندٍ منها دون موافقة الدولة المستعمِرَة (روسيا)([25])، فإنه منذ بداية النصف الثاني من عام 2017 وإلى يومنا هذا كان كل ما يسمى بـ”المصالحات” يقوم عليه الروس بشكل مباشر، كما حدث في الغوطة الشرقيّة والجنوب الدمشقيّ والقلمون.

وأما المستعمر الإيرانيّ فقد عمل الطاغية حافظ الأسد ومن بعده ابنُهُ الطاغية بشار، منذ نحو خمسٍ وأربعينَ سنةً على التمهيد لتكونَ دمشقُ الشقَّ الثاني لعاصمته طهران، وذلك عبر المعاهدات الثنائيّةِ بين النظامين، وبالأخصِّ المعاهدات الدفاعيّة المشتركة، فدعمت دمشق إيران في حربها مع العراق، ودعمت حزب الله في حربه مع باقي المكونات اللبنانية أو إسرائيل، وقال الكاتب سالم الكتبيّ: (تحويل موازين القوى ديموغرافيًّا والتلاعب بالهندسة الديموغرافيّة للدول العربيّة، خطّة تآمريّة ٌنفذتها إيران في العراق، وها هي تمضي على قدم وساق في سوريا)([26]).

واليوم لا يوجد مكان في سوريا (في مناطق سيطرة النظام) إلا ولإيران فيه قواعد عسكريّة، بما في ذلك العاصمة دمشق، ولعلنا ندرك حجم القوة الإيرانية في سوريا من خلال حجم القواعد العسكرية التي تتمركز فيها قواتها وعدد مقاتليها على الأرض، فقد نشرت صحيفة سبق السعودية مقالا قالت فيه: (أمّا القواعد الإيرانيّة في سوريا فتشملُ القاعدة الإيرانيّة في مطار دمشق الدوليّ، وهي المقرّ الرئيسيّ للحرس الثوريّ الإيرانيّ، وبسيطرتها على المطار الدوليّ تمكّنت من السيطرة على الإمدادات التي تصلُها من إيران، وإمداد مختلف المناطق السورية بالمقاتلين الشيعة..)([27])، كما نشر الموقع تقريرًا عن صحيفة أسبانيّة على لسان شاهين غوبادي العضو في المجلس الوطنيّ للمقاومة الإيرانيّة قال: (لولا دعم إيران لما بقي الأسد في منصبه)، ونقلت الصحيفة قوله: (إنّ التدخل الإيراني في سوريا أكبر بكثير مما نتوقّعه، فللحرس الثوريّ حوالي ستة آلاف عنصر من القوات النظاميّة الإيرانيّة، والقوات التي تخضع لأوامر الإيرانيين تفوق عدد قوات نظام الأسد، ووفقًا للمجلس الوطنيّ للمقاومة الإيرانيّة؛ فإن إيران قسّمت سوريا إلى خمس مناطق عسكرية إحداها مركزيّة، والبقيّة فرعيّة، حيث تخضع كل منها إلى مركز قيادة مختلف([28]).

  • أهداف التهجير الدينيّة:

ساعدت سيطرة الأسد الأب على الحكم عام 1970 على التلاعب في مكونات سوريا، مع العلم أنّ عموم انتماءات الشعب السوري إلى الإسلام السنيّ، أما بقية الطوائف فكانت أقليّات تتعايش مع أهل السنة بكل ودّ ودون أيّ منغصّات.

إن حافظ الأسد -كما هو معلوم- ينتمي إلى طائفة أقلّية لها إرث تاريخي من الحقد على الإسلام والمسلمين والخوض في دمائهم، ولكن لم يكن لهذه الطائفة شوكةٌ ولا صوتٌ حتى جاء الأسد إلى السلطة، فاختار خصومَ أهل السنّة (وهم الشيعة) ليكونوا له حلفاء وداعمين.

وقد مهّد حافظ الأسد الطريق للشيعة للتوسُّع دينيًّا في سوريا، فقد سهّل لهم بناء الحسينيات والمراكز الثقافيّة في جميع أنحاء البلاد، حتى صارت حملات التشييع في عهد ابنه بشار تدقُّ أبوابَ السنّة في جميع المحافظات السورية، وقد نشطت حركة التبشير الشيعية في سوريا بعد حرب تموز بين حزب الله وإسرائيل بشكل لافت للنظر.

أمّا عصر التشيّع الذهبيّ فقد كان في بداية الثورة السورية، فبتدخّل حزب الله في الوقوف إلى جانب الأسد في قمع المتظاهرين، بدأ الزحف الشيعيّ بكامل قواه إلى سوريا، وعلى وجه الخصوص إلى مركز دمشق، ولم يكتف جنود إيران ونصر الله في الدعوة إلى التشيّع، بل قاموا بشراء البيوت المحيطة بالجامع الأمويّ داخل سور القلعة، وحول مسجد السيّدة رقيّة في حي العمارة والشاغور وباب توما وبأسعار زهيدة، فقاموا بإجبار السكان وبشتى الطرق -بدعم من أجهزة الأمن- على البيع([29]).

وهكذا نجد أنّ من يلبّي استغاثة النظام السوريّ ونجدته؛ ليس إلا وحشًا جائعًا يريد نهش خيرات بلد بات لقمة سائغة بين أنياب مجموعة من المستعمرين، ما جاؤوا رغبةً في إنقاذ شعب أو محاربة إرهاب أو إفشاء سلام، بل لمصالح شخصيّة وأهداف لا أخلاقيّة، سعيًا وراء مكاسبَ سياسيَّةٍ، ومستعمراتٍ -يزعمونها مناهضةً لأمريكا- وسمومٍ طائفيّة يحلمون بنشرها في هذا البلد.

الجهات القائمة على التهجير القسريّ في سوريا:

  • النظام السوريّ: هو المستفيد الأول من عملية التهجير، فقد قال الطاغية بشار الأسد: (إنّ الوطن ليس لمن يسكن فيه أو يحمل جنسيّته وجواز سفره، بل لمن يدافع عنه ويحميه)، مشيدًا بدعم إيران وحزب الله بالقول: (إخوتنا الأوفياء بالمقاومة اللبنانية امتزجت دماؤهم بدماء إخوانهم في الجيش، وكان لهم دورهم المهم وأداؤهم الفعال والنوعي)([30]).
  • الأمم المتحدة: فقد لعبت دورًا سلبيًّا في حملات التهجير القسريّ منذ 2013م مما يجعلها شريكا في هذه الجريمة البشعة، فقد نشرت صحيفة الغارديان تحقيقًا يكشف عما يمكن اعتباره تواطؤًا من الأمم المتحدة في دعم نظام الأسد، إضافة إلى تقديمها مساعدات بملايين الدولارات لنظامه من خلال برامج المساعدات الإنسانية لمتضرري الحرب([31])، ومؤخرًا وفي ظل الحملة العسكرية العنيفة على الغوطة الشرقيّة التي بدأت في شباط 2018 قامت منظمة الصليب الأحمر بحماية ومرافقة بشار الأسد في دخوله إلى الغوطة في 18/3/2018م.
  • الولايات المتحدة الأمريكيّة: شجعت سياستها في سوريا وبطريقة غير مباشرةٍ في جريمة التهجير القسريّ والتطهير العرقيّ، من خلال تأجيج الطائفيّة والعرقيّة، فواشنطن تدخّلت بشكل مباشرٍ وجيّشت العالم من أجل مدينةِ عينِ العرب كوباني في حين لم تحرك ساكنًا وهي تشهدُ تدميرًا شاملًا لقرىً ومدنٍ سورية تسكنُهُا غالبيّةٌ عربيّةٌ سنيّةٌ، وفي تقرير بعنوان (لم يكن لنا مكانٌ آخر نذهب إليه) لمنظمة العفو الدوليّة صدر 2015م، كشف عن عمليات تهجير قسريّ وتدمير منازل نفذتها قوّات حزب الاتحاد الديمقراطيّ الذي سيطر على مناطق شرق سوريا بدعم أمريكيٍّ، مما يمكن أن يوصف بأنه جريمة حرب حسب منظمة العفو([32]).
  • روسيا: كان دورها في جريمة التهجير القسريّ في سوريا واضحًا، بدأ بالتحريض الطائفيّ -والذي يشكّل بذرة السوء للتهجير القسريّ- حيث صرح لافروف في 2012م بأنّ روسيا لن تسمح بقيام حكم سنيّ في سوريا، ثم جاء التدخّل العسكريّ الروسيّ السافر والعنيف في 2015م، والذي استخدُمت فيه أنواع شتّى من الأسلحة الفتّاكة والمحرّمة دوليًّا لتخيّر المحاصرين السوريين بين الإفناء أو التهجير([33]).
  • إيران: يبدو دور إيران جليًّا من خلال ممارساتها في تهجير السنة وتوطين الشيعة، كما حدث في المناطق المتاخمة للشريط الحدودي اللبناني.

إنّ توسّعات إيران وحزب الله والميليشيات العراقيّة الشيعيَّة في حمص واحتلالها الزبداني وداريا والغوطة والجنوب الدمشقيّ، ومن ثمَّ تحكُّمها بقلب دمشق القديمة ومنطقة المزّة، كلّ ذلك يدلّ على أنّ إيران لها مصالحُ وأهداف بعيدة الأمد تتجاوز حتى عمليَّة التهجير القسريّ في سوريا.

وهكذا تتضح لدينا الجهات الساعية بكلّ طاقاتها لرفع نسب التهجير من سوريا، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، وبشتى الوسائل المتاحة، ففي كلّ يوم تظهر جهةٌ جديدةٌ تزيدُ في نكبة شعبنا الذي يُضحّي بكلّ ما يملك ليحصلَ على حرِّيته وكرامته.

 

 

المبحث الثاني

آثار التهجير القسريِّ على الشعب السوريّ

الآثار النفسيّة:

كما أنّ البعرةَ تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فإنّ آلام المهجّرين وأمراضهم تدلّ على سببها ألا وهو التهجير، وقد تذهب الكثير من الآلام فتذوب وتختفي بفعل الزمن، ولكن الآثار العميقة للتهجير والإبعاد والطرد من الأوطان ترافق المهجَّر المسكين حتى آخر يوم في حياته، ومن هذه الآثار آثار مرضيّة نفسيّة، يقول الدكتور فيكرام باتل: (يبتعد آلاف الأشخاص عن بيوتهم، هربًا من الحرب أو الاضطهاد أو المجاعة، وهؤلاء نسميهم اللاجئين أو النازحين أو المهجرين، أي الأشخاص الذين أُجبروا على ترك منازلهم في محاولة لإنقاذ حياتهم)([34]).

ومن الأسباب التي دعت إلى ترك الديار والأوطان والأهل الحرب والإرهاب والشغب والاضطراب الأهلي، كلها حالات مفجعة واقعية في عدة مناطق في العالم، وإن أكثر الضحايا هم المدنيون لاسيما الأطفال والنساء، ويبقى اللاجئون الأوفر حظًّا من الذين يبقون في منازلهم، فهم معرضون للرعب الناتج من الحرب وللمعاملة اللاإنسانية التي ينالونها من المعتدين([35]).

وهكذا يعاني المهجّر من الأمراض النفسية، جَراء بُعده عن أهله ووطنه ودياره، إضافة إلى عبء البحث عن السلامة والحاجات الأساسيّة لحياته وحياة من يعول، إذ هي من مهمّات الصحة النفسية للاجئين.

ومن أهمّ المشكلات النفسيّة التي يعاني منها اللاجئون، كما يقول الدكتور فيكرام باتل:

  • الحزن والحداد: فخسارة الممتلكات هي مفاجأة رهيبةٌ للأشخاص لاسيما الفقراء منهم، فضلًا عن خسارة الأهل والأقارب والأصدقاء.
  • التعرّض للعنف المرعب: فعدد كبير من اللاجئين قد تعرّض وشهد أحداثًا مروِّعة.
  • الإصابات أو الأمراض الجسديّة: فهذه الأمراض قد يكون لها أثرٌ كبيرٌ على الصحة النفسيّة.
  • العيش في بيئةٍ خاليةٍ من شبكات الدعم الاجتماعيّ: فغالبًا ما تكونُ مخيّماتُ اللاجئين أمكنةً حزينةً، والمنشآتُ الصحّيَّةُ فيها مكتظّةً وفقيرةً، وقد يتواجد في المسكن نفسه أشخاص من مجتمعات مختلفة.

ويتابع الدكتور فيكرام: (أمّا أكثر الأمراض شيوعًا بين المهجَّرين فهي الاكتئاب والضغط الناتج عن صدمة، وقد يشكو الشخص عادة من صعوبة النوم، والكوابيس والشعور بالخوف والتعب، وفقدان الاهتمام بالنشاطات اليوميّة، والشعور بالرغبة في الانتحار، ومن الأعراض الواردة والأقلّ شيوعًا أن يصبح بعض الأشخاص كثير الاضطراب ويتصرف بطريقة غريبة)([36]).

أما بالنسبة للأطفال الذين هُجّروا بعد تعرضهم للعنف فيقول فيكرام: (يصبح الطفل منعزلًا ويشكو من الكوابيس وأوجاع الرأس، والآلام في أجزاء أخرى من جسده، ويتصرف كما لو كان أصغر سنًّا بكثير)([37]).

الآثار الاجتماعيّة:

إنّ حياة الإنسان تتمثّل بمجتمعه الذي ترعرع فيه بين أهلِهِ وعشيرتِهِ وأحبّائه، وفقدانُ هذه الثروة يزعزع كيان ذلك المجتمع، فلا يبقى مجتمعٌ ولا تبقى حياةٌ جماعيّةٌ تفاعليّةٌ، فالناس شُرّدوا، ومات واعتقل وجرح مئات الآلاف، واغتُصبت الدور وبُدّلت الأرض، وهكذا تفككت الأسر واغتيلت الجماعة، وبدأ الأفراد بإنشاء حياة جديدة معجونة بالأسى خالية من الروح، لا يوجد بينها وبين جديدها أي تناغم أو عوامل مشتركة تجمعهم.

وممّا قرأتُهُ من مخلّفات التهجير القسريّ ونتائجه، الآثار الاجتماعيّة ومنها ما كتبه الدكتور فيكرام باتل، حيث ذكر منها:

  • العزلة الاجتماعيّة والشعور بالغربة.
  • الإقامة ضمن شروط معيشيّة غير ملائمة.
  • فقدان موارد الرزق.
  • انتشار البطالة وتفشّي اللصوصيّة والاحتيال.
  • تدهور خدمات التعليم والصحّة([38]).

أضيف لما سبق من الآثار الاجتماعية:

  • اختلاف الثقافة واللغة والعادات.
  • تباين المجتمعات الأخرى (المضيفة أو الـمُساعِدَة) في نظرتها للمُهَجّر واحترام إنسانيّته.
  • تفكك الأسر وتناثر الأفراد.
  • ذوبان بعض الشخصيّات والأخلاقيّات في المجتمعات الغربيّة.
  • ضعف الوازع الإيمانيّ لدى بعض المهجرين والذي يؤدّي بهم أحيانًا إلى ترك دينهم.
  • التهجير عامل أساسيّ في بناء مجتمعات جديدة محتلّة على أنقاض مجتمعات المهجّرين أصحاب الحقّ.
  • ومن آثاره أنّه يولّد لدى المهجّرين دافعًا قويًّا للانتقام والثأر ممّن طردوهم واغتصبوا أرضَهُم، مما يجعل العداوة بين المجتمعات قائمة لا زوال لها، إلا بإفشاء العدالة.

وهكذا يتبين لنا أنّ التهجير القسريّ له آثار اجتماعيّة وخيمة على المجتمعات والأفراد، فهو يؤدّي إلى تدمير أمّة بأسرها وضياعها، ونشوء مجتمعات ظالمة على أنقاض المجتمعات صاحبة الحقّ، حيث لا عدالة ولا سلام ولا أمان في عالمٍ ينشُدُ السلام لجماعاتٍ دون جماعات أخرى، في ازدواجيّة مؤلمة للمعايير الإنسانية تلاحق المهجَّرين فتنتزعهم من دورهم وأرضهم، وتفرضهم على مجتمعات جديدة.

الآثار الطائفيّة:

إنّ مشكلة الطائفيّة في سوريا ليست جديدة بسبب الثورة كما يروِّج البعض، بل هي قديمة بدأت تظهر بوضوح منذ سيطرة حزب البعث على مقاليد الحكم في سوريا والتمهيد لسيطرة الطائفة العلوية على نظام الحكم فيها، ومنذ انقلاب حافظ الأسد على الحكومة عام 1970م بدأ بخطة تسويد العلوية واستبعاد السنة، حيث اقتصرت المراكز والقيادات في الجيش والأمن والمراكز السلطويّة على أبناء الطائفة النصيريّة، وأخذت خطته تمتد وتنتشر مع سكوت أبناء السنّة أو كبتهم وقمعهم، أو تحالف بعضهم مع النظام.

ومع تحجيم الوجود السني في أجهزة الجيش والمخابرات وقيادة الدولة وفتح المجال لأبناء الطائفة النصيرية ازداد زحف أبناء الطائفة من الساحل إلى دمشق، وصارت لهم في دمشق تجمعات سكّانيَّة خاصة بهم في المزة 86، وعش الورور والديماس والسومرية، وحول المراكز العسكرية والنقاط الأمنية، بل وانتشرت (المساكن الراقية) لضباط الأمن الكبار في المزة أوتوستراد ويعفور، وهكذا بدأت الطائفية تكبر يومًا بعد يوم([39]).

وأراد الأسد الأب أن يتوّج طائفيّته بسياسة خارجيّة داعمة له، فكان التقارب الشيعيّ الإيراني، فنشأت صلة قويّة بين الطائفتين، وزادت الروابط متانة بعد المعاهدات المشتركة، وتسهيلات دينية واقتصادية وسياسية، حيث برزت المنشآت الشيعية في السيدة زينب، وجرمانا، وحول المراقد الشيعيّة (المزعومة)، وأخذت الحسينيّات تتوسّع، وحملات التشييع تزداد دون أيّ رقيب([40]).

توضّحت العلاقات الطائفيّة بين الفريقين بالتحالفات العسكريّة حين وقف الأسد مع إيران ضدّ العراق، ودعم وتسليح شيعة لبنان وعلى رأسهم حزب الله وحركة أمل في محاولاتهم للتسلط على الحكم في لبنان والاعتداء على الوجود السني فيها.

ومع بداية الثورة جاء دور الشيعة لردِّ جميلِ صنيعِ الأسد، فدخلت جنود حزب الله إلى سوريا وشاركوا النظام المجرم في الاعتداء على المدنيين وإراقة دمائهم، ولم تكن وقتها في بلادنا أي مظاهر لعسكرة أو تسليح الثورة فقد كانت سلميّةً بحتةً.

وإن ما نراه من تمدّد شيعيّ كبير في كل المدن التي يحكمها نظام الأسد، ليشير بوضوح إلى الأهداف الإيرانية الشريرة التي تبيتها للوجود السني في المنطقة، من خلال نشر التشيع والعمل على إعادة الإمبراطورية الفارسية.

إن المراقب للوضع في سوريا يلحظ تنوع الممارسات الطائفية للنظام النصيري وحلفائه الشيعة ضد أبناء السنة وحقوقهم، وتظهر هذه الطائفية في أساليب شتى منها([41]):

  • شراء الأراضي وهدم المباني، وهذا ما رأيناه حول السفارة الإيرانية في المزة خلف مشفى الرازي، فقد هُجر 125 ألف نسمة، إضافة إلى شراء بيوت في أحياء دمشقيّة عريقة، كالعمارة والشاغور والصالحيّة، وجعلها مقرّات لميليشيات أبي الفضل العبّاس.
  • حرق السجلات والنفوس: وذلك لطمس أصول حقوق أهل السنّة، واستبدالها بملكيات للشيعة والنصيريين([42]).
  • توطين الشيعة الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين في دمشق، وتجنيسهم الجنسيّة السورية.
  • احتلال الجامع الأمويّ في قلب دمشق، وعقد حلقات اللطم والعويل وسبّ الصحابة الكرام في باحات المسجد([43]).

صورة رقم (1)

صورة رقم (2)

  • تنظيم مسيرات فاطميّة وحسينيّة لأطفال سوريين يشيِّعونهم، ثم يُحمّلونهم أعلام حزب الله، ورايات طائفية، يجولون بهم أحياء وأسواق دمشق القديمة([44]).

 

الصورة رقم (3)

  • انتشار صور لحسن نصر الله، وخامنئي، وصور مزعومة لأئمّة الشيعة، إضافة إلى الهتافات الشيعيّة في أسواق دمشق.
  • إنشاء الحسينيات داخل سور القلعة في دمشق([45]).
  • انتشار اللجان الأمنية ونقاط التفتيش الشيعيّة في العاصمة، وممارساتهم السيّئة على الحواجز مع أبناء دمشق من أهل السنة([46]).

 

الصورة رقم (4)

  • استغلال حالة فقر سكان دمشق وضيوفهم (المهجّرين) وتشييعهم وتجنيدهم في ميليشياتهم مقابل مبالغ زهيدة.
  • تفريغ مناطق بأكملها من أهلها، وسيطرة الشيعة عليها، كالقصير وحمص والزبداني وداريا والمعضميّة وحلب والغوطة الشرقيّة والقلمون ويلدا وببيلا جنوب دمشق.
  • المجازر الواسعة التي طالت مناطق السنة حصرًا، وفي كافة المدن السورية.

أهداف كلا الطائفتين (النصيريّة والصفويّة):

إن الطائفيّة الشيعيّة الصفويّة التي اجتاحت بلادًا إسلامية وعربيّة متعددة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين هدفها:

  • نشر التشيّع في هذه البلاد.
  • تحقيق حلمها في بناء الإمبراطوريّة الصفويّة.
  • قتل أهل السنّة وإبادتهم، أو تهجيرهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.
  • إنهاء الوجود العربي، بدافع قومي فارسي يفوق دافعهم الديني لذلك.

أمّا الطائفة النصيريّة التي احتلت سوريا منذ خمسين سنة ونكّلت بأهل السنّة أشدّ التنكيل، فإن هدفها من ذلك إضعاف الوجود السني وتقوية طائفتها الضعيفة بشتى الوسائل، ولا وسيلة أقرب إلى تحقيق هذا الهدف من توحيد مصالحها مع شيعة المنطقة وإيران، فاتفقوا على اجتثاث أهل السنّة وزيادة الروابط بين أبناء الطائفتين الشيعية والنصيرية؛ رغم ما كان بينهم من عداء ديني مستحكم على مدى التاريخ، إذ يعتقد الشيعة كفر النصيرية، وهذا ما يرجح عودة الحرب بينهم فور انتهاء مصلحة أحد الطرفين عند حليفه الآخر.

وهكذا يبدو لنا من المشهد السوريّ، ما يخطط ويعمل عليه النصيرية والشيعة من محاولة لإزالة الأثر الإسلاميّ السنيّ في سوريا، بل وفي كل العالم الإسلامي، فلم يوفّروا جهدًا أو طريقة إلا استخدموها لاحتلال المدن السنية ونهب خيراتها وبناء مستعمراتهم الإجرامية على أنقاض المدن السورية المدمرة.

ملخص البحث:

بعد هذا السرد لواقع التهجير في سوريا، وبعد هذه الدراسة التفصيليّة، لا بد لنا من تدوين بعض النقاط التي توصلنا إليها:

  • التهجير الذي يتعرّض له شعبٌ بأكمله ليس تهجيرًا عبثيًّا، بل هو مطردٌ مدبّرٌ ومدروسٌ.
  • التهجيرُ القسريُّ قد أدانته جميع الأنظمة الدوليّة، والمنظمات الحقوقيّة، والقوانين الوضعيّة.
  • تنوّعت طرق الإجرام في سوريا، حتى أُجبِرَ أهلُها على ترك كّل شيءٍ، والنجاة بأنفسهم ودينهم وأعراضهم وكرامتهم.
  • للتهجير أهداف متنوعة منها أهداف استعماريّةٌ لاحتلال البلد ونهب خيراته، وأهدافٌ سياسيّةٌ لإنشاء مناطق نفوذ وتحالفات جديدة، وأهداف دينيّة طائفيّة تتمثل برغبةٍ إيرانيّةٍ في إنشاءِ دولتها الصفويّةِ الفارسيّةِ، والهيمنةِ على الشرقِ الأوسطِ.
  • إن اللاعبين البارزين في سوريا والذين لهم دورٌ مهمٌّ في التهجير بشكل مباشر أو غير مباشر، تنكشفُ هويّتهم كلّ يوم، وتظهرُ عورتُهُم من خلال اعتدائهم أو خذلانهم للشعب المظلوم، وركونهم لمصالحهم الفاشيّة، ومن هؤلاء: الأمم المتحدة والنظام السوريّ، وإيران وحزب الله، وأمريكا وروسيا.
  • للتهجير آثار كثيرة على أبنائنا وأمّتنا، منها آثارٌ نفسيّةٌ جعلت الكثيرين من المهجرين بحاجةٍ لعلاجٍ نفسيّ وإعادةِ تأهيلٍ، وآثارٌ اجتماعيّةٌ جعلت الجماعاتِ أفرادًا، فشرّدت الأسرَ وأفسدَتِ الناسَ وغيّرتْ ثقافتَهُم وأخلاقهم، وآثارٌ طائفيّةٌ حيث تفشّى المرضُ الصفويُّ بين أبناء الشعب السوريِّ.
  • الفرقُ بين المحتلِّ الصهيونيِّ والمحتلِّ النصيريِّ أنّ اليهودَ هجّروا أبناءَ فلسطين (أصحاب الأرض)، لجمع أبناء ملتهم وتخليصهم من الشتات، بينما نجد النظام النصيريّ يهجر أبناء وطنِهِ (أصحاب الديار) ويشتّتهم في كلّ بقاع العالم ليوطن في مدنهم شيعة مرتزقة يساعدونه في الحفاظ على سلطته.
  • علينا ألا نترك العمل على المستوى الدولي من خلال الضغط على جميع المحاكِمِ والمنظّمات والهيئات الدوليّة والقضائيّة والقانونيّة، لتُسلّطَ الضوء على قضيّتنا السورية، وتقوم بواجبها الإنساني في الوقوف في وجه ظالمٍ تقفُ معه كبرى الدول لمآرب ومصالح ومكاسب سياسيّة هزيلةٍ وهشّةٍ بالنسبة لقضيّةِ الإنسانيّة والعدالة والحريّة والكرامة.

وأخيراً ..

هذا ما سعى له النظام السوريّ، بتحالفٍ سيءِ الصيت ضدّ أهلِهِ وشعبهِ، فلم يكتفِ بظلم شعبِهِ وقتله، بل أخرَجَ كلَّ أساليبِ الإجرام والحقد، فأفرغه على شعبٍ طيّبٍ مسالم أراد يومًا أن يكون حرًّا كريمًا؛ فهجّره من وطنه واستلب أملاكه وصادر حقوقه، وجاء بالعدو الإيراني الحاقد الذي صب حقده الدفين على أهل السنّة طمعًا في إنشاء إمبراطوريّته المزعومة، وقد شاركه في حلمه المشؤوم الروس، الذين احتلّوا البلاد وقراراتها، وجعلوا عاليها سافلها، طمعًا بخيراتها الوفيرة.

أمّا المهجّرين العزّل فقد ساحوا في بلاد الله الواسعة، ليس لهم إلا الله، حاملين همومًا ثقيلة لا تطيقها قلوبهم الضعيفة، وورثوا آثارًا فتّت في نفوسهم وأفكارهم وثقافتهم وحضارتهم، فتغيّر كلّ شيء لديهم، إلا شيئًا واحدًا ألا وهو أملُهُم بنصرِ الله، ورغبتهم في نيلِ حرّيتهم، والله غالب على أمره… والحمد لله رب العالمين.

([1]) انظر المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية (scpss) وموقع الجزيرة بعنوان (التركيبة السكانية في سوريا) 19/4/2011.

([2])في ذلك الوقت كنت فذاهباً إلى جامع الحسن في حي الميدان في يوم الجمعة.

([3]) انظر: مختار الصحاح للرازي، (ج1/ص324)، ط5/1999، المكتبة العصرية بيروت.

([4]) انظر: القاموس الفقهي لسدي أبو جيب، (ج1/ص365)، ط2/1988، دار الفكر.

([5]) انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، د.أحمد مختار عبد الحميد عمر، (ج3/ص2325)، عالم الكتب/ط1.

([6]) انظر: كتاب الصحة النفسية للجميع، الدكتور فيكرام باتل، (ص205)، ط 1 العربية معدلة، الناشر ورشة الموارد العربية، بيروت.

([7]) انظر: المرجع السابق (ج3/2325).

([8]) انظر: مقالة “مفهوم التهجير القسري في القانون الدولي” لعادل عامر، موقع ديوان العرب، نوفمبر 2014.

([9]) انظر: مركز الشرق العربي (التهجير القسري والتغيير الديموغرافي في سوريا تحت غطاء الأمم المتحدة) الائتلاف الوطني السوري 6/9/2016.

([10]) انظر: الأمم المتحدة ، مجلس الأمن ، القرار 1674/عام 2006 في جلسته 5430، من شهر نيسان.

([11]) انظر: المرجع السابق.

([12]) انظر: المرجع السابق 22/ديسمبر/2015م.

([13]) انظر: “التهجير القسري في سوريا السياسات الأدوات والتبعات”، د. ياسر سعد الدين، مركز أمية للبحوث 20/1/2017م، موقع الراصد.

([14]) انظر: مقالة “التغيير الديمغرافي والطريق إلى سوريا المفيدة” غازي دحمان، موقع معهد العالم للدراسات، 31/اكتوبر/2016م.

([15]) انظر: موقع الجزيرة نقلا عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

([16]) انظر: المرجع السابق.

([17]) انظر: تقرير “طريقة جديدة للتهجير القسري مرضى مضايا المخرجون ممنوعون من العودة”، المركز الصحفي السوري spc، 9/اكتوبر/2016م.

([18]) انظر: مجلة الاتحاد، الإمارات، د. رياض نعسان أغا، “التهجير القسري في سوريا” 2/سبتمبر/2016م .

([19]) انظر: مقالة “روسيا في سوريا الأهداف والقدرات والنتائج” لهشام جابر، موقع الجزيرة ، 10/10/2015م.

([20]) انظر: مقالة “الدور الإيراني في سوريا الأهداف والدوافع (تقرير مترجم)” أحمد الشيمي، موقع الألوكة، 31/12/2012م.

([21])انظر: مقالة “مهمة حزب الله في سوريا” ماري كوسترز (لوموند ديبلو ماتيك) ترجمة “عبد الرحمن الحسيني”، جريدة الغد، 16/4/2016م.

([22]) انظر: مقالة “علاقات حزب الله في سوريا وإيران” لـ ماثيو ليفت ، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، شباط 2013م.

([23]) انظر: مقالة “دعوة الاستعمار للعودة والمفاضلة بين المستعمرين”، لبيب القمحاوي، جريدة الشروق 9/فبراير/2017م.

([24]) انظر: مقالة “روسيا في سوريا الأهداف والقدرات والنتائج” لهشام جابر، موقع الجزيرة ، 10/10/2015م.

([25]) انظر: مقال “سوريا والمفارقة الروسية الإيرانية” إياد الجعفري، جريدة المدن / بيروت 1/1/2017م.

([26]) انظر: مقال “كوارث إيران في سوريا” سالم الكتبي، صحيفة العرب ، 3/1/2017م، العدد 10501، (ص8).

([27]) انظر: تقرير “أريع دول تحتفظ بقوات وقواعد عسكرية في سوريا” صحيفة سبق السعودية، 24/اكتوبر/2016م.

([28]) انظر: تقرير “صحيفة إسبانية تكشف القواعد الإيرانية السرية بسوريا” موقع عربي21 ، 2/اكتوبر/2016م.

([29]) انظر: مركز الشرق العربي، “التهجير القسري والتغيير الديموغرافي في سوريا تحت غطاء الأمم المتحدة” الائتلاف السوري 6/9/2016م.

([30]) انظر: “التهجير القسري في سوريا السياسات الأدوات والتبعات”، د. ياسر سعد الدين، مركز أمية للبحوث20/1/2017، موقع الراصد.

([31]) انظر: المرجع السابق.

([32]) انظر: المرجع السابق.

([33]) انظر: المرجع السابق.

([34]) انظر: “كتاب الصحة النفسية للجميع” تأليف الدكتور فيكرام باتل، (ص204) ط 1 العربية معدلة، الناشر ورشة الموارد العربية، بيروت.

([35]) انظر: المرجع السابق.

([36]) انظر: المرجع السابق.

([37]) انظر: المرجع السابق (ص 205).

([38]) انظر: المرجع السابق.

([39]) انظر: التغيير الديموغرافي في سوريا (التهجير القسري) في ظل الثورة السورية، د عبد المنعم زين الدين، مؤسسة جسور للدراسات، 2016م.

([40]) انظر: المرجع السابق.

([41]) انظر: المرجع السابق.

([42]) انظر: “التهجير القسري في سوريا السياسات الأدوات والتبعات” د. ياسر سعد الدين مركز أمية للبحوث 20/1/2017م، موقع الراصد 28/يناير/2017م.

([43]) انظر: الصورة رقم (1) وصورة رقم (2).

([44]) انظر: الصورة رقم (3).

([45]) انظر: تقرير السورية نت (عبد الله نظام أبرز أذرع إيران في دمشق يشتري عقارات لصالح إيران) 15/أيلول/2015

([46]) انظر: الصورة رقم (4).