أ. نبيل شبيب – كاتب وإعلامي سوري
تنطلق السطور الآتية من دراسةٍ سبق نشرها للكاتب تحت عنوان (مدخل لتقارب الرؤى حول الإعلام والإعلام الإسلامي)، ومما ورد فيها:
“من العسير الإدلاء بقول جازم بشأن ماهية الإعلام الإسلامي ناهيك عن طرح صيغة محكمة لتعريفه، وبالمقابل من العسير أيضًا أن تؤدي عملية تطويره المرجوَّة أهدافَها على أرض الواقع دون حدٍّ أدنى من التقارب على رؤية مشتركة لما يعنيه هذا التعبير المنتشر منذ زمن”، واستهدفت الدراسة استخلاص محدِّدات عامَّة تساعد على تقارب الرؤى بشأن ماهية الإعلام اصطلاحيًّا، ثم استخلاص منطلقات عملية لكيفية توصيفه بالإسلامي.
ومن الضروري تبعًا لذلك حلحلة عقدة التناقض بين القول بعدم وجود “إعلام إسلامي” بصفتِهِ اصطلاحًا يتجاوز حدود اجتهادات متعددة مختلفة مضمونًا ونتيجةً وبين القولِ بالحاجة إلى تطوير الإعلام الإسلامي، هذا التناقض ذاتهُ هو ما يستدعي التطوير، فمحورُه النظرُ فيما انتشرَ وصفُه بالإعلام الإسلامي على علاته.
إن واجب الإعلاميين اليوم يتمثل في العمل على شيئين أساسيين:
الأول: الارتقاء به “نوعيًّا” إلى مستوى “إعلام” بحيث يتميز مضمونًا وإخراجًا عما اختلط به من كتابات في الفكر والدعوة والحركة مثلًا.
الثاني: الارتقاء به من حيث توصيفه بالإسلامي على خلفية خالية من المعايير الموضوعية، واعتماد آليات المقاصد الإسلامية بدلًا من التأثُّر بكثرة استخدام مفردات وصور “إسلامية” في كتابات ومنتجات نعدُّها إعلامًا كالمقال والتحليل أو برنامج البث المسموع أو المرئي.
وينبغي أن نعلم أن الهدف من دراسة عملية التطوير من كافة جوانبها لا يتحقق عن طريق وضع مخطط شامل، بل يبقى المطلوب في نهاية المطاف صياغة خطوط عامة لعملية التطوير مع آلية تجديد متتابع لها بحيث يكون لها من المواصفات الذاتية كالموضوعية والمنهجية والوضوح، وهذا ما يجعلها تجد القبول عند تعميمها، فيمكن ترجيح الالتزام بها من جانب العاملين في الإعلام تحت عناوين إسلامية ومن منطلقات إسلامية، والانطلاق منها إلى عمليات تطوير متعددة قائمة بذاتها تتكامل نتائجها على أرض الواقع.
ولا يمكن في هذه المقالة الموجزة طرح “عملية التطوير” نفسها، وهذا مستحيل ابتداءً دون آليات كافية لذلك، إنما يراد طرح أمثلة على مواصفات مرجوة في صيغة أفكار مبدئية بمعنى “اجتهادات” يؤخذ منها ويترك، وتحتاج إلى الاستكمال وربما التصويب أيضًا:
١- عامل الزمن أو توقيت استشراف دواعي التطوير
منذ أواسط القرن العشرين كانت الحاجة إلى تطوير الإعلام الإسلامي ملحّة، يتكرر الحديث عنها وقليلا ما تحقق ذلك، لا سيما عند الاعتقاد أن التطوير يتحقق بمجرد استخدام وسائل تقنية مستجدة.
مثال: في الستينات والسبعينات من القرن العشرين بدأ المسؤولون عن وسيلة إعلام مكتوبة -كالمجلة- يفكرون باستخدام التسجيلات الصوتية، وذلك بعد فترة من انتشار استخدامِ تلك “العلبة” الصغيرةِ للتسجيل الصوتي وريثةً لأشرطة التسجيل الأضخم منها من قبل، وبدأ العمل لتأمين متطلبات هذا التطوير “التقني” من تمويل وكفاءات حرفية وغيرها، لكن سرعان ما وجد الساعون إلى التطوير أنفسَهم أمام انتشار أقراص التسجيل الصوتي الدائرية الصلبة وتقنيات التسجيل المرئي المتحرك قبل استكمال استعداداتهم لاستخدام العلبة الصغيرة المشار إليها على نطاق واسع، وتلتها سريعا أقراص صغيرة ثم الشرائح وغيرها، وشبيه ذلك كان في التعامل مع انتشار التلفزة ثم الشبكة العنكبوتية.
في تلك الفترة كانت هذه الدورة -المتمثلة في إدراك ضرورة التطوير التقني، والإعداد له، وظهور أسباب مستجدة تتجاوز ما سبقها- دورةً زمنية تستغرق بضعة عشر عامًا، ثم مع ظهور مبتكرات تقنية تالية أصبحت في حدود بضعة أعوام، ثم تلاشت تماما معالم التمييز بين حلقة وأخرى من حلقات ظهور تطور تقني ومعالم السعي لاستخدامه نتيجةَ قصرِ الفترة الفاصلة بين كلّ ابتكار وآخر؛ لهذا لا يجرؤ من يدرس الوضع الآنيّ على تحديد وتيرة زمنية لعملية تطوير ما، فربما لا تصل كلماته إلى عيون القارئ أو آذان السامع إلا وقد عفا الزمن على ما يقول، لا سيما إذا كانت الكلمة المطبوعة وسيلته.
إن استشراف دواعي التطوير التقني وغيره يأتي في مقدمة شروط التطوير، على أن يكون استشرافًا منهجيًّا مبكرًا للقادم من المتغيرات مصحوبًا بالاستعداد للتلاؤم معها بتطوير ذاتي يناسبها قبل أن تنتشر انتشارًا واسعًا.
٢- استمرارية التطوير المتجدد
أصبحنا أمام تحديات أكبر من مجرد اللحاق زمنيا بمسلسل متسارع لظهور وسائل وأدوات جديدة، ناهيك عن تطوير إخراج مضامين إعلامية تناسبها، فالتسارع زمني والمستجدات نوعية، وجميع ذلك عبر حركة انسيابية متداخلة تضعنا أمام مهام جسيمة، من وجوهها تداخل تحدّيات التطوير المطلوب زمنيًّا ونوعيًّا، وقد تجاوزت البشرية منذ زمن بعيد صيغةَ مسارٍ تطويريٍّ “كان نمطيًّا” يمكن أن ندرسه ونمارسه ونوجهه تفاعلًا مع مَعلمٍ من معالم التقدم، وكان هذا المسار بعد ميلاد قفزات علمية تقنية نوعية مثل اختراع العجلة أو آلة الطباعة، إذ كان لكل منها قيمة ذاتية فعَّالة مذهلة، فكانت تُرسم معالم بداية تأريخية جديدة.
صحيح أن عناصر عملية التطوير بحد ذاتها لا تتغير -وهي تقويم الواقع الآني، وتحديد الهدف البعيد والمرحلي، والتخطيط لمراحل العمل، وتنفيذ مدروس، ومراقبة النتائج- لكن هذه النتائج تصنع واقعًا آنيًّا جديدًا يتطلب هو نفسه التقويمَ أي الخطوةَ الأولى من هذه الدورة، وهكذا دواليك.
إن معطيات عالمنا المعاصر تفرض الشروع بعملية تطوير جديدة قبل الفراغ من سابقتها، وذلك بحيث توازي المرحلة الأولى من عملية جديدة تنفيذ المرحلة الأخيرة من عملية سابقة، هذا مع مضاعفة سرعة كل خطوة ومضاعفة إتقانها في آن واحد، ويسري هذا على توالي عمليات التطوير إلى جانب تداخلها وتشابكها وتأثيرها المتبادل.
في عالمنا المعاصر نشهد في ميادين أخرى -علاوة على الإعلام وتقنياته- قفزات نوعية مذهلة أيضًا لكنها جميعا متقاربة متوازية متتابعة، فكأنها تشكل معا انفجارًا ضخمًا له أجزاء، ولكل منها ملامح مميّزة لكن “آثارها” لا تفترق عن بعضٍ بل تشمل بتشابكها وتكاملها معظم ميادين الحياة البشرية في وقت واحد، هذا بعض ما يَفرض أن تتداخل عمليات التطوير وتتكامل وأن تشمل أيضا تلك الميادينَ الحياتية المرتبط بعضُها ببعضٍ.
لقد بلغت وتيرة تسارع التطورات الجارية درجة السيل المتدفق بحركة شبه عشوائية على منحدر شديد، وبلغ تنوعها خلال العقود القليلة القريبةِ أضعافَ ما كانت عليه من قبلُ من حيث اختصار الفترة الزمنية بين حلقة تطور وأخرى، ومن حيث اتساع رقعة التأثير وازدياد عمقه مرة بعد مرة، ولدى المقارنة لا ينبغي التردد في أنَّ عملية تطوير الإعلام الإسلامي وفق ما رصدناه حتى الآن أشبهُ بحبوِ الأطفال في حلبة سباق للسيارات.
إن استمرارية التطوير السريع المتجدد المتشابك المتكامل للإعلام الإسلامي واجب ملحٌّ، ومواصفات التطوير المذكورة هنا أهم من كلمة تطوير نفسها، وهذا ما يستدعي جهودًا متصلة بحلقات متوازية متكاملة متتابعة دون انتقاص من حجم العمل الأمِّ المطلوب أي ممارسة الإعلام ومقتضياتها.
٣- عقلانية التطوير
بات معروفًا أو مقررًا في عالم الفكر والإعلام والنشر أنَّه ليس كل كتاب كبير بحجم مجلد ولا نص صغير بحجم مقال يصلح أن يكون إخراجه واحدًا، سواء في ذلك اختيار الطباعة لإنتاجه ونشره أو اختيار التسجيل السماعي له.
إن الكتب الروائية أو القصائد الشعرية يمكن أن نجد من يستمتع بها ويستفيد منها سواء وصلت إليه بوسيلة الطباعة أو التسجيل، لكن ذلك لا يسري على كتاب تخصصي أو محاضرة في موضوع من عالم تطوير الكفاءات في قطاع إدارة الأزمات مثلًا، ففي هذه الحالة يقلّص التسجيل الصوتي كثيرًا حجم الاستفادة الممكنة مقارنة بالطباعة بينما يمكن للتسجيل المرئي أن يحقق فائدة أكبر، هذا شريطة إدراج ميزات معينة لأدوات إخراج المرئيات من تصوير وتخطيط ثابت ومتحرك ومبوّب ومجسّم، فتتحقق فوائد أكثر مما يعطيه الإخراج الطباعي أو الصوتي، لكن رصدنا في العقود الماضية أننا لا نحقق الهدف المرجوّ في تطوير الإعلام الإسلامي بمجرد نقل الأسلوب المتبع في حقبة زمنية ماضية للعطاء من ندوات ومحاضرات وخطب في قاعات مغلقة إلى الشاشات الصغيرة، فميزات هذا النقل مشروطة بالاستفادة المدروسة من إمكانيات وسيلةٍ تقنية جديدة ومدى ملاءمتها للمادة الإعلامية والمستهدَف بها ومن عوامل عديدة أخرى، وهذا ما يمكن وصفه بالتطوير العقلاني.
إن عقلانية عملية التطوير مبدأ أساسٌ في التطوير الإعلامي، وعمادها أن ينبثق أسلوب الإخراج عن مراعاة نوعية المادة الإعلامية، وأن يناسب فعالية الوسيلة وخصائصها والفئات المستهدفة من العطاء الإعلامي.
٤- عوامل تقتل جدوى التطوير
التطور الجاري عالميًّا في الإعلام وتموضعه في شبكة العلاقات البشرية والدولية تطورٌ حافلٌ أيضا بنتائج سلبية ترمز إليها كلمات الانبهار والتضليل وكذا ما يسمَّى “الأخبار” المزيّفة، وأصبح ما يتوفر من وسائل لممارسة ذلك كله بالغ التأثير سلبًا على أداء المهمة الإعلامية إخبارًا ورأيًا، هذا علاوة على أن طغيان تأثير العامل المادي تمويلًا واحتكارًا غدَا أكبر مما مضى في توجيه الإعلام ومن يعمل فيه، فأصبح توظيفه في اتجاهين:
الاتجاه الأول: ترسيخ هذا التأثير وتغوّله عبر مستويات غير مسبوقة في إخراج يستهوي الأنظار، وعبر ازدياد الهيمنة على الوسائل مقارنة بمن لا يملك القدرة على ذلك.
الاتجاه الثاني: تحقيق أهداف أساسية تخضع لأغراض مادية وثقافية وَفق توجهات الحاضنة الحضارية والاجتماعية المتعلقة بالتأثير المادي المذكور.
ولا يعني ذلك غياب تنامي التأثير المضاد عالميًّا غيابًا مطبقًا، فكثير من المبادئ والمثل التي سبق ظهور تأثيرها حضاريًّا وتاريخيًّا بدأ يتجدد مفعولها في عملها على مقاومة التأثير السلبي للهيمنة أو الحدّ من تغوّلها على الأقلّ، ومن ذلك ما يتعلق بقطاع الإعلام.
عملا بهذه المدخَلات لا يستهان بالخطأ الفادح الكامن في غلبة الاهتمام بالمظهر والشكليات على حساب الاهتمام بالهدف والمضامين في تصوراتنا وفي مجرى المساعي التطبيقية لتطوير الإعلام الإسلامي وغيره، ولا يكفي تعليل ذلك بأهمية الإخراج في عالم الإعلام، بل لا بد من ضبط ذلك بالنص وبالتأكيد على كونه يحقق التلاؤم مع المضمون ويضمن سلامة أهداف العمل الإعلامي المعنيّ، وإنما يمكن تعليل غلبة المظاهر -لا تسويغها- بعوامل عدَّة، منها طغيان تأثير سرعة التطور التقني نفسانيًّا كما في الشبكيِّ على تأثير جوانب موضوعية مثل إتقان توثيق التحرير وتقنين حماية حقوقه فكرًا وتخطيطًا وتنفيذًا.
٥- دراسة الوضع الآنيِّ
لا يبدو في الإمكان البناء على المعطيات الحالية للقيام بخطوات تطويرية ورؤية نتائج مرئية ناهيك عن طرحها وتنفيذها، وفي هذه الحال من الضروري الشروع في التأسيس لشروط تأمين المعطيات الضرورية المفقودة حاليًّا لعمل تطويريٍّ مثمر، وبتعبير آخر: البناء يبدأ من الأساس على مبدأ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
سبقت الإشارة إلى أننا نفتقد ما يمكن الاعتماد عليه للإحاطة بما يوجَد من معطيات فعلية تسمح بتعريف اصطلاحي للإعلام الإسلامي وتقدير واقعي لحجمه وانتشاره وفعاليته وما يعاني منه لتطويره؛ لهذا نحتاج إلى سلسلة دراسات من نوعية “الرصد والمسح والإحصاء” لما يوصف بالإعلام الإسلامي، تبدأ بحصر ما سبق وضعه ونشره من دراسات لهذا الغرض وتصنيفها، ومتابعة ما أنجزته للإحاطة بواقع الإعلام الإسلامي جغرافيًّا ونوعيًّا، وبما طرأ ويطرأ على ذلك من متغيرات، وكذا ظروف العمل الذاتية والخارجية وتأثيرها عليه، لا سيما النواحي السياسية والتمويلية والتوجيهية، فضلا عن درجة استقلالية الوسيلة الإعلامية والتزام القائمين عليها بمحددات عمل إعلامي حِرْفي، وكذلك من يُعتمد عليهم من هيئات تحرير وإخراج وإدارة، ومثل ذلك ما يُلتزم به أو يقال به من سياسات إعلامية وما يمارس من إنتاج وتوزيع، وهكذا ما يوجد تحت عنوان الإعلام الإسلامي من علاقات بينية وخارجية، وغير ذلك مما يوضع في صيغة مرنة قابلة للتعديل من أجل سلسلة الدراسات وتأمين شبكة تربطها بمركز أو أكثر للبحوث والدراسات.
٦- آلية عامة للإعداد للتطوير
لا يمكن تحقيق الفائدة المثلى في أية عملية تطوير دون استحداث آليات تدرس وتخطط وتقوِّم وتنفِّذ وتتواصل فيما بينها اعتمادًا على قواسم مشتركة في رؤية الإعلام الإسلامي واحتياجاته ومهامه وكيفية تطويره، وما دام ذلك غير متوفر يمكن الشروع في تواصل هادف لهذا الغرض من خلال سلسلة ندوات تتبناها جهة معتبرة منفتحة على مختلف الجهات ذات العلاقة بحيث تجمع الندوات تخطيطًا وإعدادًا وتنفيذًا أصنافًا من المختصين هم:
(١) من يمارس العطاء الإعلامي من جيل الشباب.
(٢) المتخصصون من مستوى النخبة في الإعلام.
(٣) أصحاب التوجه الإسلامي من العاملين في الإعلام.
(٤) المتخصصون في المقاصد الإسلامية، لا سيما من هو على اتصال بالإعلام والنشر عمومًا.
هذا على أن يوجه الندوات جهاز إداري كفء يملك آلية عمل تضمن تنفيذها وتقويمها تقويمًا متواصلًا، وتطوير مضمونها تطويرًا متجددًا، إضافة إلى آلية تفعيل نتائجها وتعميمها.
والحمد لله رب العالمين.