تَميم اليونُس – إجازة في الشريعة
إشكالية البحث:
لقد غدا عالمنا كقريةٍ صغيرة بفعل وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، كما غدا الإعلام اليوم سلطةً رابعة على المجتمع والحياة وقوةً ناعمة تتنافس في استثمارها وتطويرها أمم الأرض كلها لتحقيق مصالحها وفرض رؤيتها على الشعوب، وفي هذا المعترك الجديد تتبادر إلى الذهن أسئلة عن موقع الإعلام الإسلامي من هذه الخريطة وعن التحديات والعقبات التي تواجه هذا الإعلام وسبل التغلب عليها، وعن سبل التقدم والنهوض به وفق معطيات الواقع ومتطلبات العصر خصوصًا أن الإسلام دين عالمي يعتمد التبليغ والإعلام ركنًا أصيلًا في دعوته.
أهمية الإعلام وأثره:
لا يخفى على كل مطلع أثر الإعلام البالغ على الأفراد والجماعات بل على المؤسسات والدول، وفي عصرنا أمثلة كثيرة كان للإعلام فيها السلطة العليا واليد الطولى في صناعة الحدث والتاريخ، وكان من أبرز الأحداث التي لعب فيها الإعلام دورًا كبيرًا تجاوزَ قوة الجيوش والسلاح والاقتصاد ما جرى في البلدان العربية من ثورات عارمة، فقد استُخدِم الإعلام فيها -بوسائله التقليدية والحديثة- سلاحًا فتاكًا في مواجهة الطغاة وجيوشهم واستخباراتهم، ومثله ما جرى في الانقلاب الدموي الفاشل على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حينما أفشل خطط الانقلابيين بمكالمة هاتفية واحدة عبر تطبيق “الفيس تايم” على إحدى الفضائيات التركية.
إن الواقع لَيدل على أن نفوذ الإعلام أصبح قوة لا يستهان بها، فهي توجه الرأي العام وتتسلط على السياسة والاقتصاد، حتى إن خبرًا صغيرا في إحدى وسائل الإعلام يُبث في مكان وزمان مدروسين قد يؤدي إلى أزمة سياسية كبرى أو انهيار اقتصادي خطير، لقد أدركت الدول والجماعات والأمم ضرورةَ الإعلام وخطورته؛ فتنافست في انتحاله وتأسيس مؤسساته وتحصيل وسائله، وبذلت في سبيل إيجاد الهيئات الإعلامية الأموال الطائلة والأوقات الكثيرة والتضحيات الجسيمة لكي تحقق من خلاله مآربها وتنفذ سياساتها وتستعلم أخبار أعدائها وتسيطر على العقول([1]).
ومما يؤكد ذلك ما حدث في ألمانيا، فقد عَرَض فيلم بعنوان “ألمانيا- صناعة أمريكية” كيف أُنفِقت ملايين الدولارات على كلٍّ من النِّقابات العمالية والصناعية والنوادي الثقافية والفنية لاستبدال النموذج الأمريكي المتحضر بالموروث الثقافي الألماني النازي، وكذلك على الإعلام وخاصَّةً المجلاتِ العلمية التي من شأنها أن تحدث تغييرات جذرية يُمكنها أن تسهم في إعادة برمجة العقلية الألمانية، وقد نجحت خطط المخابرات الأمريكية حتى إنه في الـ60 من القرن الماضي -بعد 15 سنة من الحرب فقط- كان غالبية الألمان ينظرون إلى أمريكا وكأنها «الجنة»([2]).
يقرر الدكتور عمر عبيد حسنة في كتابه “مراجعات في الفكر والدعوة والحركة” أنه لا يعد من المغالاة أن نقرر أننا نعيش اليوم مرحلة الدولة الإعلامية الواحدة التي ألغت الحدود وأزالت السدود واختزلت المسافات والأزمان واخترقت التاريخ، وتكاد تلغي الجغرافيا حتى بات الإنسان يرى العالم ويسمعه من مقعده، ولم يقتصر ذلك على إلغاء الحدود السياسية والسدود الأمنية بل بدأ يتجاوز الحدود الثقافية ويتدخل في الخصائص النفسية وتشكيل القناعات العقدية، فيعيد بناءها وفق الخطط المرسومة لصاحب الخطاب الأكثر تأثيرًا والبيان الأكثر سحرًا والتحكم الأكثر تقنية، وبات بالإمكان القول: إن المعركة الحقيقية الفاصلة اليوم هي معركة الإعلام([3]).
وليس مكمن الخطورة في الإعلام اليوم فيما يقدم فحسب بل في الهدف وأسلوب التقديم، إن هذا الثالوث الخطير ١_ الهدف ٢_ المعلومة ٣_ أسلوب العرض: هو الذي يجب أن نركز عليه عندما نحلل الإعلام وعناصره وأسسه، وكذا البرامج العلمية والأدبية وبرامج الأطفال والإعلانات وجميع ما يقدم مهما كان تصنيفه إعلاميًّا يخضع لهذا الثالوث الخطير.
والهدف من الإعلام بصفة عامة هو محاولة التأثير على الجماهير لتكوين رأي عام موحد -إن أمكن- في قضية معينة عن طريق نقل الخبر أو النبأ والتعليق والتحليل وغير ذلك، ثم أضيف إليه أهداف أخرى مثل أهداف دعائية وأهداف عقدية وأهداف تثقيفية، لكنها جميعًا تخدم الهدف الأصلي، وهو تغيير سلوك الجماهير لتتوافق مع هدف مخططي السياسة الإعلامية([4]).
نشأة الإعلام:
حاجة البشر إلى الإعلام بصفته وسيلةً للتأثير على الجماهير موجودة بوجود البشر، وقد كان لهذا الهدف في العصور القديمة وسائل مختلفة تفي بالغرض لدى كل من العرب والفرس والروم واليونان وغيرهم، وكان من أشهرها الخطب والأشعار والكتب والرسائل والمؤتمرات والمهرجانات الأدبية أو الثقافية أو الاقتصادية أيضًا، وكان سوق عكاظ عند العرب في الجاهلية منبرًا إعلاميًّا ساميًّا يقصده فحول الشعراء والخطباء والدعاة إضافة إلى كونه سوقًا ومهرجانًا، فمن خلاله يوصلون رسائلهم وأفكارهم إلى باقي العرب، كما كان اجتماع الناس للحج في الإسلام فرصة لتحميل الناس الكثير من مفاهيمه وعلومه والاستفادة من فرصة وجودهم لتبليغه إلى أصقاع الدنيا على مختلف أقطارها وشعوبها، وكان لدى باقي الأمم والشعوب وسائل مشابهة لما يستخدمه العرب، وقد تطور الإعلام في زماننا وغدت له وسائل خاصة منها التلفاز والمذياع والصحف، وأضيف إليها مؤخرا شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
دوافع نشأة نظريات الإعلام الإسلامي:
الإعلام وسيلة تعبر من خلالها كل جهة عن أفكارها وثقافتها وتوجهاتها، ومن هنا تنوعت توجهات الإعلام؛ فكان منها ما يختص أو يميل إلى الرياضة أو الاقتصاد أو السياسة أو القضايا الاجتماعية أو الدينية، وبعض وسائل الإعلام حملت أفكار تيارات بشريَّة كبرى حققت انتشارًا واسعًا بين البشر كالشيوعية والرأسمالية، وفي هذا الوسط أخذ المسلمون مكانهم بصفتهم شعوبًا أو حملةَ دين وأصحابَ حضارة عريقة لها خصائصها السياسية والثقافية والاقتصادية والعلمية، وتبعًا لهذا التنوع ظهرت التصنيفات والتسميات في عالم الإعلام، ومن هذه التسميات “الإعلام الإسلامي”.
ومهما اختلف الناس اليوم في مصطلح الإعلام الإسلامي من جهة التأصيل والتوصيف والحدِّ والتعريف فإنه يبقى معروفًا مقررًا في الذهن على العموم بما فيه من تداخلات قد لا يقبلها بعض المختصين.
إن الإسلام دين عالمي يحارب الفساد والطغيان والانحراف أينما وجد، ويدعو إلى الفضيلة وعبادة الله الواحد أينما حل أتباعه، وكما أن لكل دعوةِ حقٍّ أعداءَها فإن للإسلام مثلَ ذلك، وقد استخدم أعداؤه الإعلام وسيلةً من وسائل الحرب عليه، لكنها مع الأسف حرب تجاوزت كل المعايير الإنسانية، إذ تم اتخاذ الكذب والافتراء والتزوير والخداع أُسسًا للحرب على الإسلام ورسالته في تجاوز سافر لأخلاقيات الإعلام ومهنيته ومعاييره التي يقررها أساطينه اليوم، يقول الدكتور عبد الله الوشلي: (انحرفُ هذا العلم -يعني الإعلام- بتحكم الأهواء والرغبات وحب السيطرة والاستبداد إلى غير موضوعِه واستخدمُه في غير ميدانه حوَّله عن مجراه الصحيح، فلم يُلتزم بمبادئه الحقة ولا بأهدافه السامية التي أنيط بها، كما أن وسائله المعاصرة هي الأخرى -رغم خطورتها- لم يحسن استخدامها لتحقيق الصلاح والإصلاح وتحقيق البناء والإعمار، بل انعكس الحال بسبق أهل الفسق والضلال إليها وسيطرة أعداء الإسلام عليها واستنكاف أهل الخير منها، فكانت وسائل هدم وتخريب في كثير من مجالات الحياة، انحرفت بها الشعوب عن الصراط المستقيم وابتعدت بواسطتها الأخلاق عن النهج القويم، ونشرت الإباحية عن طريقها بمختلف صورها وأشكالها، فأدرك المسلمون خطورة ذلك بعد زمن طويل)([5]).
فكان لا بد من قيام إعلام ينشر الحق ويبينه للناس ويظهر جماله لعيونهم بالوسائل المتاحة، ويفضح الزيف والشبه المثارة حول الإسلام، فقام بذلك بعض الإعلاميين المسلمين، وكان لهم جهد متواضع مشكور كمناظرات الشيخ أحمد ديدات الشهيرة مع القس سواجارت، وبعض البرامج التي ظهرت إثر ظهور الفضائيات العربية والإسلامية كبرامج الدكتور مصطفى محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي والبرامج الحوارية عن طريق البث المباشر عبر الفضائيات كبرنامج الشريعة والحياة، واستخدم الكتاب الإسلامي وسيلةَ إعلام أيضًا، فشغل رفوف المكتبات ومعارض الكتب بتصانيفها ومواضيعها الكثيرة المتنوعة، وظهرت الكثير من الدوريات والمجلات الشهرية وبعض الروايات ذات المحتوى الإسلامي المؤثر كروايات نجيب الكيلاني وبعض الأدباء المسلمين الذين أسهموا بكتاباتهم وأشعارهم في القيام بواجب الدعوة بإعلام إسلاميِّ المضمون بالوسائل المتاحة في ذلك الوقت وإن كان ذلك لا يخلو من قصور وتعثر في بعض الأحيان.
وفي محاولة لتأكيد الوجود والتعبير الصادق عن قضايا الأمة الإسلامية وفق منهج إعلامي متماسك القوام محددٍ واضحِ الملامح؛ اجتهد عدد من الإعلاميين المسلمين وعملوا من أجل تحديد أسس للإعلام الإسلامي مستمدة مما يزخر به التراث الإسلامي القوي الغني من مفاهيم ومبادئ غالية حميدة، فكانت الدعوة إلى ما يسمى بالنظرية الخامسة في الإعلام وهي نظرية “الإعلام الإسلامي”، وكانت النظريات الإعلامية المطروحة والسائدة على الساحة أربع نظريات، وأول من دعا إلى تبني هذه النظرية الإعلامي المصري الأستاذ الدكتور إبراهيم إمام المحاضر حاليا بقسم الإعلام الإسلامي بجامعة أم القرى، وذلك عبر عدة مؤلفات قدمها للمكتبة العربية الإسلامية لتأطير وتأكيد معالم ومنهاج الإعلام الإسلامي([6]).
تعد تسمية “الإعلام الإسلامي” من المصطلحات حديثة النشأة بين عدة مصطلحات نشأت في الربع الأخير من القرن الماضي في مشاريع وأدبيات الصحوة الإسلامية مثل الأدب الإسلامي والفن الإسلامي والاقتصاد الإسلامي وغيرها، وهي في مجملها تعبر عن الرغبة في العودة إلى الإسلام وجعله المرجعية الأساسية والخلفية الفكرية لكثير من العلوم الإنسانية والنشاطات الفكرية والثقافية، ونتيجة لحداثة المصطلح اختلفت الآراء وتشعبت حوله، فاقتضى مزيدًا من التأصيل والتنظير للوصول إلى تحديد دقيق لهذا المصطلح([7]).
يقول حردان هادي الجنابي بعد سرد التعريفات والرؤى حول الإعلام الإسلامي: (نخلص مما سبق إلى أن التيارات التي تبنت صياغة رؤى وتعريفات محددة للإعلام الإسلامي لم تتفق فيما بينها لتخرج بصياغة مناسبة تحظى بالقبول لدى الجميع، وهذا الاختلاف والتغاير يعود في أصله إلى كون المنظرين والكتاب الذين ينتمون إلى هذه التيارات لم يتوصلوا من خلال أبحاثهم ودراساتهم للإعلام الإسلامي إلى صيغة نهائية تتمكن من حسم النزاع الدائر حول الموضوع([8]).
الإعلام الإسلامي جزء من الإعلام المعاصر الموجِّه للمجتمعات العربية والإسلامية، ويقع على عاتقه مهمة استثمار منظومة القيم الكامنة في مصادر الإسلام الحنيف وتعزيز مركزية موقع الأمة الإسلامية الحضاري والاستراتيجي من أجل القيام بأدواره الإعلامية المنشودة، خاصَّةً في ظل ما يعرِضُ للفرد المسلم اليوم من رسائل ومضامين إعلامية متعددة الفلسفات متناقضة القيم والمبادئ تؤثر في تكوين الفرد الفكري والاجتماعي، وتؤثر في زعزعة هوية المجتمعات المسلمة في ظل التحديات الإعلامية في الواقع المعاصر([9]).
ويقتضي وصف الإعلام بالإسلامي انضباط الإعلام بالإسلام وتعاليمه في جميع عناصره؛ وبناء على ذلك يعرَّف بأنه: تزويد المستقبِل بالأخبار الصحيحة والمعلومات السليمة والحقائق الثابتة وأنماط السلوك المتعلقة بالفرد والمؤسسات والمجتمعات بهدف تكوين رأي صائب في واقعة من الوقائع أو مشكلة من المشكلات، وذلك بحيث يعبِّر هذا الرأي تعبيرًا موضوعيًّا عن عقلية الجمهور واتجاهه وميوله([10]).
تحديات الإعلام الإسلامي وإشكاليَّاته
يعاني الإعلام الإسلامي اليوم في جانبيه النظري والعملي من إشكالات تشوب بعض عناصره تؤدي إلى انحرافه في بعض الأحيان عن القيام بدوره الحقيقي المنشود خاصةً في ظلِّ ما تعيشه المجتمعات اليوم من تحديات، فالموجود من إعلام يتحدث باسم الإسلام أو يحاول أن يلتزم بقيم الإسلام ويقوم بالوظيفة الإعلامية الإسلامية هو في حقيقة الأمر إعلامٌ يحتاج إلى إصلاح في مؤسساته وترشيد في رسالته وتأهيل لهيئاته من خلال إعداد الإعلاميين القادرين على القيام بدورهم الإعلامي، ويتطلب ذلك إعدادهم فكريًّا ولغويًّا وثقافيًّا وتخصصيًّا وفنيًّا وخلقيًّا([11]).
إنَّ التحديات التي تواجه الإعلام الإسلامي تحديات جسيمة؛ فهو ابتداء ليس الوحيد في الساحة الإعلامية بل هناك إعلام منافس وهناك أيضًا الإعلام المعادي، كما أن الإعلام الإسلامي منوطة به رسالة شاملةٌ شمولَ الإسلام الذي يمثله، فهو ليس إعلامًا وعظيًّا فقط، بل يضاف إلى ذلك كافة الجوانب التي تمس حياة المتلقي، وكل ما تحتاجه الأسرة والمجتمع المسلم كباره وصغاره رجاله ونسائه على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم، إنه إعلام يقوم على ثلاثة محاور رئيسة: 1- تشكيل الوعي 2- التنشئة الاجتماعية 3- التبليغ والاتصال الإنساني.
ومن أهم التحديات التي تواجه الإعلام الإسلامي أن وعي الإسلاميين المعاصرين بأهمية الإعلام ودوره جاء متأخرًا إلى حدٍّ ما، ولم يواكب التطور التقني والمهني للطوفان الإعلامي المعاصر، بل إن بدايات الإعلام الإسلامي لم تواكبها دراسات نظرية تأصيلية ولا برامج تدريبية عملية، وغلب عليها الاجتهادات الفردية والرؤى الشخصية، فواجه صعوبات عدة على مستوى نقص الهيئات الإعلامية والخطة الشاملة التي تستوعب كل متطلبات المجتمع الإعلامية، واقتصرت البدايات الأولى على الإعلام الوعظي والتربوي، فكان أشبه ما يكون بخطب الجمعة ودروس المساجد مع الفارق في وسيلة الاتصال الجماهيري كالفضائيات والإنترنت، أما الإعلام الهادف الشامل الذي ينضبط بضوابط الشرع ومهنية الإعلام وحدوده فما زال يسير بخطوات متعثرة خاصة في المجال الترفيهي والفني.
ومن العقبات والتحديات التي تواجه الإعلام الإسلامي قيود السلطات الرسمية في بعض الأقطار الإسلامية، ومنها عقبات التمويل واقتصاره غالبًا على المؤسسات الخيرية، وغياب الخطط والاستراتيجيات المتكاملة التي تتبناها مجموعات مهنية متعددة المهام تطرح هي نفسها الجهود الفردية والرؤى الأحادية، ويواجه الإعلام الإسلامي أيضا ندرة في البحوث والدراسات المتعلقة بحيثياته، ومشكلة في التنسيق بين العلماء والدعاة وبين رجال التربية والمثقفين ليأتي مشروع الإعلام الإسلامي متكاملا في موضوعه يلبي احتياجات ورغبات كل الشرائح المستهدفة دينيًّا وتربويًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وهكذا الأمر في برامج الترفيه، وأن تُصاغ الرسائل الإعلامية في قوالب فنية متنوعة مشوقة جذابة بدلًا من أن تصب في أنماط جامدة مكررة تفتقر إلى الجاذبية والتشويق، هذا مع ضرورة مراعاة الضوابط الشرعية والاجتماعية العامة وعدم تجاوزها.
يقول الأستاذ مالك الأحمد: (في الجانب الإداري عانى الإعلام الإسلامي من التشرذم والتنافس، وكانت غالب المؤسسات صغيرة ضعيفة لا تقوى على الصمود طويلًا، في نفس الوقت كانت الحِرْفية في التسويق منخفضة والنكسات متوالية، أما في جانب الرؤية والخطاب الإعلامي فكان الأمر في الغالب اجتهادات فردية وأحادية في الرأي مع ضعف في تقبل الرأي المخالف، وشاب الكثير من الأعمال الإعلامية عدمُ استيعاب التقنيات الحديثة في فنون الاتصال، واقتصار الخطاب على فئة المتدينين دون جماهير الناس، وأيضا غلب الخطاب العاطفي والوعظي على العقلي التحليلي، وغلب الخطاب المباشر على الرسائل الإيحائية([12]).
ومن أبرز التحديات التي تواجه الإعلام الإسلامي أيضا إشكالية التصنيف والانطباعات الأوَّليَّة، وهي إشكالية يكون غالبها قريب الصلة من التعامل مع المصطلح، فيقف الانطباع السابق حول الصحيفة أو القناة أو الموقع وتصنيفه في الدائرة الإسلامية عقبةً أمام تلقي المحتوى وتوقعات الجمهور منه؛ وهذا أسهم في انصراف قطاع كبير من الجمهور بسبب تلك الانطباعات والتصنيفات السابقة.
ومن ذلك أيضًا إشكال التخصص، وهو إشكال ارتبط بنشأة كثير من المؤسسات الصحفية والإعلامية الإسلامية، إذ نشأت بعيدًا عن المتخصصين في المجال المهني الاحترافي، وربما كان هذا في البداية لقلة أو ندرة المحترفين للعمل الإعلامي من بين المنضبطين بالرؤية الإسلامية إلا أن المشكلة ظلت مستمرة إلى مدى أوسع، إذ غلب في كثير من الحالات وعلى كثير من التجارب الاستعانة بغير المختص في ممارسة العمل المهني.
ولعل إشكالات التمويل التي أشرنا إليها في بداية ذكرنا للتحديات والمشكلات التي تواجه الإعلام الإسلامي تعد من الإشكاليات الكبيرة، فتكون المؤسسات الإعلامية الإسلامية بين خيارين:
الأول: يتمثل في الحصول على التمويل من مصادر مالية مليئة مثل الدول والهيئات الكبرى والقوى العالمية، وهو خيار يضمن الاستقرار المالي والفني والتقني للمؤسسة، لكنه يجعل المحتوى مرهونًا بتصورات وتوجهات المموِّل؛ فيحرفه قليلًا أو كثيرًا عن الأهداف التي يمكن أن يرسمها القائمون على الوسيلة الإعلامية، وهذا يؤثر بصورة كبيرة على استقلالية المؤسسة.
الثاني: الاستقلالية والاعتماد على التمويل الذاتي من جيوب المؤمنين بالفكرة والمقتنعين بالرسالة، وهو خيار وإن نجح في تحقيق الاستقلالية بجدارة إلا أنه يضع كلًّا من المحتوى والمؤسسة في حرج مهني بالغ، فتعجز عن الوفاء بالالتزامات المالية للتطوير ومواكبة التنافسية في عالم لا يرحم الضعفاء والصغار.
ومن الإشكاليات أيضًا عدم تحديد طبيعة الجمهور المستهدف، فالمؤسسات الإعلامية الإسلامية تعاني من خلل ينطلق في غالبه من المفهوم والرؤية حول طبيعة الجمهور: أهو ذلك الجمهور الذي يؤمن بالفكرة الإسلامية أم هو عموم الجمهور في الأمة بمختلف تنوعاته، فإن كانت الأخرى فهل تمتلك المؤسسة من القدرات والإمكانات ما يؤهلها لمنافسة غيرها في عقر داره، وهل بإمكانها تقديم المحتوى المناسب للجمهور بكافة شرائحه؟
وتظل مشكلة الرغبة في الوصول إلى الجمهور المنوع مقرونة بمدى قدرة المؤسسة على المواءمة في صياغة رسالة متوازنة تجمع بين الالتزام بقيمها ومبادئها وبين تلبية احتياجات الجمهور ومتطلباته التي تعمل عليها بالفعل مجمل المؤسسات الإعلامية الموجودة في سوق الإعلام.
وقد تصنع هذه الإشكالية خطابًا مزدوجًا داخل المؤسسة يُظهر غالبًا تناقضاتٍ على صفحاتها وعبر شاشاتها، فلا هي بالتي حافظت على جمهورها الذي التزم بالفكرة ولا هي وصلت إلى عموم الجمهور، فباتت كمن راوح مكانه عند منتصف الطريق فلم يبلغ ولم يتوقف([13]).
ومن أبرز الإشكاليات ما ذكره منصور عثمان محمد زين بقوله: (أظهرت الدراسة أن أهم قضايا وهموم العالم الإسلامي تتمثل في التكنولوجيا وثورة المعلومات والبث المباشر والغزو الثقافي وانعدام التوازن في تدفق المعلومات والحرب النفسية الموجهة ضد المسلمين وغيرها من هموم وقضايا يواجهها الإعلام الإسلامي)([14]).
إن عرضنا لسلبيات الإعلام الإسلامي وإشكالياته لا يعني إخفاقه في أداء المهمة الموكلة إليه، فقد أثبت وجوده في الساحة الإعلامية بقوة لكنه يعاني من عثرات كبيرة، وهو في النهاية جهد بشري فيه خير كثير، ووجود الخلل في مؤسساته لا يعني أنه مستسلم لها، فهو في سعي دائم نحو التخلص منها وتطوير أدائه، ولا ننسى أن الوقت عامل مهم في ذلك.
سبل النهوض بالإعلام الإسلامي
في سياق البحث عن تطوير الإعلام الإسلامي لا بد أن نعمل على إيجاده وجودًا فعليًّا وفاعلًا معًا، فالإعلام الإسلامي اليوم -للأسف- منفعل لا فاعل، ولا يتصدى لما يحاك للأمة من قبل أعدائها بالقدر الكافي الوافي، يقول الدكتور عبد الرزاق الدليمي: (إن من الأدبيات المتفق عليها أن المسلمين اليوم -وفي هذه الانعطافة من تاريخهم- يواجهون غزوًا واحتلالًا ثقافيًّا وفكريًّا وحضاريًّا واقتصاديًّا بشِعًا شمل كل جوانب حياتهم؛ لذا فإن مهمة الإعلام الإسلامي تتجاوز التثقيف والتوعية وفتح القنوات المعرفية أمام أجيال المسلمين إلى التحفز ووضع الخطط المناسبة في التصدي للغزو الفكري والثقافي والأخلاقي الذي يداهم الأمة الإسلامية، وسط شيوع وسائل الإعلام العابرة للقارات التي تؤثر في المجتمعات وتنقل أفكار وفلسفات وأخلاقيات شعوب العالم إلى كل مكان)([15]).
إن الفكرة السليمة والأسلوب المناسب والوسيلة الجديدة عوامل ثلاثة أجمع خبراء الإعلام على أنها تمثل أركان المعادلة الصحيحة لصناعة إعلام هادف قادر على اجتذاب الناس وتغيير الوعي.
وفي إطار الحديث عن الإعلام الإسلامي وسبل النهوض به قالوا: إن غياب أركان تلك المعادلة بنسب مختلفة هو ما أسهم في تأخر الإعلام الإسلامي عن النهوض بدوره المأمول، وأكد الخبراء على أن هذه العناصر الثلاثة ينبغي التعامل معها بصفتها كلًّا لا مجموعة أجزاء، فالفكرة لا تنفصل عن الأسلوب، والوسيلة لا بد لها أن تتماشى مع الفكرة، فالغاية لا تبرر الوسيلة([16]).
وأجمع علماء الإعلام أن الإعلام ينطلق من مبادئ أربعة تتعاضد كل أجهزته وتقنياته ووسائله وأساليبه للمحافظة عليها بعينها، وخلاصتها:
١_ الحقائق المدعمة بالأرقام والإحصائيات.
٢_ التجرد من الذاتية والتحلي بالموضوعية في عرض الحقائق.
٣_ الصدق والأمانة في جمع البيانات من مصادرها الأصلية.
٤_ التعبير الصادق عن الجمهور الذي يوجه إليه الإعلام.
فأي إعلام لا ينطلق من هذه المبادئ فإنه يفقد اسم الإعلام الذي يخدم الحق وينشد الحقيقة([17])، وأحقُّ من يجب عليه التحلي بهذه المبادئ المهنية هو الإعلام الإسلامي؛ وذلك لسمو رسالته وعالميتها وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، يقول الدكتور محمد عمارة بعد أن ذكر الإشكالات التي يعاني منها الإعلام الإسلامي: (لذا نرى أنه يجب أن يأخذ القائمون على الإعلام الإسلامي التوصيات التالية في الاعتبار:
ومن ذلك أيضا ضرورة إعداد كوادر أي “إطارات” بشرية بصفة مستمرة، وهذا بطبيعة الحال من أوليات العمل الإعلامي على النطاق الدولي، ولا شك أن العالم الإسلامي يمتلك من الخبرات والقدرات ما يكفي لذلك إذا أحسن الاختيار ووضعت الشروط الموضوعية له، ولكن لا بد أن يكون إعداد الكوادر أو “الإطارات” بصفة مستمرة، ويرتبط بإعداد الكوادر أو “الإطارات” البشرية إنشاء بنوك المعلومات ومراكز البحوث والدراسات وما شابه ذلك من معطيات الحضارة الحديثة حتى يستطيع الإعلام الإسلامي أن يواجه التحدي ويواكب العصر)([19]).
يقول منصور عثمان محمد بعد أذكر أبرز القضايا والهموم التي يعاني منها الإعلام: (من خلال هذه الدراسة جاءت بعض المقترحات، أهمها:
ومن ذلك أيضا تطوير صناعة عربية إسلامية في مجال الإنتاج الفني التلفازي والسينمائي الموجه للأطفال، واعتبار هذا المجال من مجالات البناء المستقبلي والاستراتيجي للأمة، وتخصيص ما يلزم من الموارد المالية لذلك، ورسم سياسة واضحة في مجال استيراد وانتقاء البرامج الأجنبية، وتحديد معايير ثقافية وخلقية وقيمة واضحة تقوم عليها تلك السياسة([21]).
وقد أصدر المؤتمر العالمي الثاني للإعلام الإسلامي الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع وزارة الشؤون الدينية الإندونيسية توصيات مهمة بعنوان “بلاغ جاكرتا” أهاب فيه بحكومات الدول الإسلامية ومؤسسات الإعلام فيها والإعلاميين المسلمين ومؤسسات الدعوة والعمل الإسلامي أن تتعاون ضمن آليات عمل مشتركة للنهوض بالإعلام الإسلامي ودعمه بما يحقق أهدافه، ويحافظ على شرف مواثيقه، وينجز أهدافه الإسلامية والإنسانية، وأوصى بدعوة وسائل الإعلام في الأمة الإسلامية لمساندة جهود الحوار مع مختلف الثقافات وأتباع الديانات والحضارات ومد جسور التواصل معها وإيجاد البرامج التي تؤدي تلك المهمات، واستلهام المنهاج الإسلامي في التواصل والحوار مع غير المسلمين، ودعوة وسائل الإعلام في البلدان الإسلامية خاصة وفي دول العالم كافة إلى استثمار الطاقات الإعلامية السلمية المعروفة حديثًا بتعبير “القوة الناعمة” في التواصل مع الثقافات الأخرى، وتوظيفها وتنميتها للتفاهم في مجال السياسة الدولية وحل النزاعات بين الأمم والشعوب بالطرق السلمية.
وناشد المؤتمر دول العالم كافة للتصدي لكل ما من شأنه المساس بالرسالات الإلهية والرسل عليهم الصلاة والسلام، وضبط حرية التعبير المؤدية إلى الانزلاق والتفسخ وإفساد أخلاق النشء، ودعا إلى إيجاد وسائل تحقق التنسيق بين المؤسسات الإعلامية في العالم الإسلامي والاستفادة البينية بين دوله في تبادل الخبرات واستثمار ما تملكه بعض الدول الإسلامية من تكنولوجيا متقدمة في مجال الاتصال والمعلومات، وطالب بالتركيز على توعية الشباب بما يحقق أفضل استفادة من هذه الوسائل بحسن استخدامها وتحصينهم من سلبياتها([22]).
ولعلي أختم بما كتبه الأستاذ علي عبد الفتاح كنعان، وهو ما يعد توصيفًا لحال الإعلام الإسلامي وتطلعًا لما ينبغي أن يكون عليه، يقول:
(إنَّ من الممكن أن نقول من خلال متابعتنا للمسيرة الإعلامية للإعلام الإسلامي بأنَّه يتطور يومًا بعد يوم ويكتسب الخبرات، ولنتحدث على مستوى الفضائيات والإذاعات والصحف، فقبل ثلاثة عقود من الزمان كانت المجلات الإسلاميَّة تعد على الأصابع وكذا الإذاعات الإسلاميَّة، وأمًّا الفضائيات فلم يكن هنالك إعلام فضائي إسلامي ملتزم ومحافظ!
ومع هذا كله فإنَّ مسيرة الإعلام الإسلامي محفوفة بالمخاطر وأمامها عقبة كؤود، فالإعلام الإسلامي يمشي في طريق مؤلم وشاق مع تعرضه للمخاطر، لكن بجهود الصالحين وعمل المخلصين من أبناء الأمَّة وملازمة الرقي والإبداع وصناعة الأفكار الجميلة والرائعة يتحسن الحال ويصلح الوضع، وترتقي المنظومات الإعلاميَّة الإسلامية بكينونتها الفكريَّة)([23]).
([1]) عبد الله قاسم الوشلي: الإعلام الإسلامي في مواجهة الإعلام المعاصر، ص (٤).
([2]) عمر عاصي: سياسة بوست، “كيف نهضت ألمانيا بعد الحرب”، https://www.sasapost.com/renaissance-germany/
([3]) أحمد مبارك سالم: الإعلام الإسلامي والمرحلة الراهنة، https://www.alukah.net/culture/0/6290/
([4]) سمير بن جميل راضي: الإعلام الإسلامي رسالة وهدف، ص(٢١).
([5]) الإعلام الإسلامي في مواجهة الإعلام المعاصر، ص(5).
([6]) سمير بن جميل راضي: الإعلام الإسلامي رسالة وهدف، ص (٧ و٨).
([7]) حردان هادي الجنابي: الإعلام الإسلامي الإلكتروني، ص (١٠).
([9]) هيفاء فوارس: الوظيفة التربوية للإعلام الإسلامي وواقعها المعاصر رؤية تحليلية نقدية، ص (٧٦).
([10]) المرجع السابق، ص (١٠١).
([11]) إسلامية المعرفة: السنة الحادية والعشرون، العدد ٨١، ص (٩٩ _ ١٠٠).
([12]) خالد سعد النجار: الإعلام الإسلامي بين الواقع والمأمول، http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=204601
([13]) عادل الأنصاري: الإعلام الإسلامي إشكاليات الواقع والمصطلح، https://mugtama.com/hot-files/item/64836-2017-12-09-07-31-32.html
([14]) منصور عثمان محمد زين: قضايا وهموم الإعلام الإسلامي، ص(١٩٩ / ٢٠٠).
([15]) خالد سعد النجار: الإعلام الإسلامي بين الواقع والمأمول، http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=204601
([16]) إسلام فرحات: التشريعات والمال أهم أزمات العالم الإسلامي https://islamonline.net/17152
([17]) فايزة الصاعدي: أهداف التربية الإسلامية، ص (٣٣).
([18]) محمد فتحي عمارة: الإعلام الإسلامي والتحديات المستقبلية، ص (١١٥_١١٨) بتصرف يسير.
([19]) مفيد أحمد السالم: الإعلام الإسلامي، ص (١٣٨).
([20]) منصور عثمان محمد زين: قضايا وهموم الإعلام الإسلامي، ص (٢٠٠).
([21]) محمد اليتيم: الإعلام الإسلامي ودوره في بناء ثقافة الطفل، صحيفة التجديد المغربية https://www.maghress.com/attajdid/13841
([22]) صدر في جاكرتا: 20 / 1 / 1433هـ الموافق 15/ 12/2011م. وائل اللهيبي: جريدة الرياض http://www.alriyadh.com/692267
([23]) علي عبد الفتاح كنعان: إدارة المؤسسات الإعلامية، رقم 24، تحت عنوان “الإعلام الإسلامي مشكلات في خط المواجهة”.