إبراهيم حسون
ماجستير في الفكر الإسلامي – أمين سر المجلس الإسلامي السوري
إننا نعيش في زمن كثرت فيه الحروب وازداد فيه حجم الدمار، بل إن بعض المدن صارت تاريخًا يُحكَى للأجيال فيقال: كان هناك مدينة يقال لها كذا وكذا، وفي ظرفٍ كهذا نرى الدول وشركات الإعمار قد صدقَ فيها المثلُ المشهورُ في مدينةِ الرقة السورية (فرحة الكلب بالثلج)؛ ذلك أن من عادة رعاة الغنم أن يكون لهم كلبٌ للرعي، هذا الكلب لا يأكل اللحم إلا عند ذبح خروف أو نفوقه، فإن نزَل الثلج كثر الموت في الغنم مِن البرد؛ فيشبع الكلب من اللحم.
رغم هذه المقدمة والتعريضِ إلا أنني لن أتكلم هنا عن إعادة إعمار المباني والبنى التحتية في البلاد المدمرة، ولا عن إعادة إعمار سورية التي تراها هذه الشركات مغنمًا لا بد من المشاركة فيه بعد أن باعها الأسد وأباحها لكل من هبَّ ودبَّ؛ فنحن في هذه الأيام نواجه نوعًا جديدًا من الإعمار، هذا النوع قائم على الهدم أولًا، بل على الإمعان فيه حتى تُسَوَّى الأرض بحيث يستطيع المقاول أن يخطط ما يدور في خلده من جديد وكأنه يرسم على ورقة بيضاء.
هذا الضرب من إعادة الإعمار نوع فكري منهجي محض، وهنا أتكلم عن الإعمار بالمعنى اللغوي، أي أن تقوم فئة من الناس بهدم فكرة ومعنى قائم في النفس والقلب لتبني مكانها شيئًا آخر، فالمراقب للساحة الإعلامية والكتابات الصحفية والمؤتمرات الفكرية التي قامت إثر الثورات العربية على يد أنظمة الثورات المضادة وداعميها يلاحظ وجود خطة ممنهجة تشترك فيها دول مختلفة، تعمل على نسف التراث الثقافي والعلمي والفكري للمسلمين وبناءِ آخَر بصفته جزءًا من المخططات التي تحاك لتغيير خارطة العالم الإسلامي.
إن هذه الخطة تعمل على صناعة إسلام جديد يوافق القيم والمتطلبات الغربية، ويحقق للغرب مواصفات الشريك المسلم الذي يريدون معاملته في المستقبل، أو قل إن شئت: مواصفات الرقيق الذين سيستخدمونه فترةً طويلة من الزمن، كلُّ هذا يحدث تحت شعار الحرية والديمقراطية، والرأي والرأي الآخر، وحقوق الإنسان أو حق تقرير المصير، إن الغرب وأتباعه قد أخفقوا في استعباد الشعوب المسلمة بالاحتلال والحرب، فهم اليوم يبحثون عن طرق أقل تكلفة وأكثر ضمانة واستدامة.
التراث الإسلامي تراث عريق متماسك لا يمكن هدمه بتلك السهولة، لا سيما أنه مبني على كتاب تكفّل الله بحفظه إلى يوم يبعثون؛ لذلك لما عجز أعداء هذا التراث عن إسقاطه عبر التاريخ ذهبوا إلى إسقاط حملة هذا التراث ابتداءً من عهد الرفض والطعن بالصحابة إلى زماننا هذا الذي سأذكر بعض مظاهره، وهنا أجدني قد دخلت في سرد مظاهر مقاولات إعادة الإعمار الفكري:
المظهر الأول: يقوم هذا على نسف ثوابت الدين ومحكماته المجملة، ويتجلى في أمثلة كثيرةٍ منها أنَّ ثمَّة من يريد أن يحرر الأمة مما أسماه (حجاب مضر وربيعة) ويدَّعي أنَّ له على دعواه من القرآن دليلًا، وهناك من يزعم أن الإسلام أباح حرية الإلحاد أو الشذوذ الجنسي، وأن السنة نصٌّ بشري عرْضة للخطأ والنسيان.
المظهر الثاني: يتجلى هذا بإسقاط الرموز والمرجعيات الشرعية عند المسلمين، وهذا أخطر ما فيه أنه بدأ بالكلام في الصحابة ثم المصنفين الذين حفظوا لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتراثنا الإسلامي، ثم وصل إلى الرموز المعاصرة، وبغض النظر عن مدارس هذه الرموز فهي ما دامت متعلقة بهذا التراث فلن تسلم من هذا الهجوم إلا أن تسقط هذا الموروث وتلتحق بركب ما يدعونه الحداثة، ومن أمثلة هذا المظهر ظهور مقالات تتكلم عن شبكات علمائية أو عن مكونات المجلس الإسلامي السوري وكأنها تتكلم عن عصابات أو شبكات مافيا، وأخرى تتهم ثقة من أئمة الحديث بالتدليس في نقوله، أو تنسب آخر من أعلام الإسلام إلى التكفير والغلو، وآخر إلى موالاة السلاطين وترسيخ الفساد والاستبداد؛ كذبًا وزورًا على هؤلاء جميعًا، ودسًّا للسم في العسل بذريعة حماية الشريعة والعقيدة وصفاء الإسلام.
المظهر الثالث: يكون هذا من خلال التضخيم حتى السقوط، لجؤوا إلى هذا الأسلوب بالترويج لبعض الأشخاص والتجمعات على أنها النموذج الحقيقي لما كان عليه مجتمع المدينة الأول، وأنّ الله أوكل إليها حمل راية الجهاد والدفاع عن الأمة في زمن الهزيمة والخذلان حتى يظنّ الظان أنه لا في الساحة أصدق منها، وأنها الممثل الحقيقي للإسلام الصحيح، وأنها الأمل الوحيد للجيل الصاعد في إحياء أمته، وهكذا دواليك حتى تعجز قواعد بناء هذا الفكر عن حمله، فينهار من تلقاء نفسه وتنهار معه أحلام أتباعه أو من أحسن الظن به، فيتغلغل اليأس في نفوسهم وقد يلحدون.
المظهر الأخير: يكون هذا من خلال تضخيم بعض الرموز الحقيقية فعلًا على أنها حاملة لواء الحق حتى إنَّ المستبدين لَيُرعبون من حجمها، فيكون مصيرها سراديبهم وسجونهم حتى لا ترى الضوء ولا يراها، فيذهب هذا الرمز هو واللواء الذي كان يحمله.
كل هذه المظاهر وغيرها نجد مؤسسات إعلامية ضخمة سخّرت نفسها لترويجها رغم ما تحمله من تناقض أحيانًا، فتجد المؤسسة التي تلمِّع الغلاة ودعاة التكفير هي نفسها مَن تحارب رمزًا أو تيارًا على أنه يروِّج للتكفير، وقد تكون جزءًا من الجهة التي ترعى الغلو وتموِّله، كما تروج في الوقت ذاته فكر من يعدُّ الخلافات العقدية بين المسلمين عبر التاريخ خلافًا سياسيًا حتى لو كان فيه قذف في عرض النبي صلى الله عليه وسلم وتكفير لصحابته، وترى هذه الجهات تروج في الوقت ذاته أن تراثنا أثقله التطرف، فيجب أن يتخفف من أعباء هذا الثقل.
وأعجب من ذلك أن ترى الجهة التي ادّعت زمنًا أنها ترعى التراث وتحميه من التحريف والهدم تدعم من يريد نسفه وتحويله إلى تراث تاريخي يَحسنُ الاطلاع عليه على أنه جزء من جهد بشري في التاريخ لم يعد صالحًا لغير زمانه، وتزعم أنَّا إذا أردنا اللحاق بركب الحضارة فعلينا أن نعامله هذه المعاملة، أمَّا المحافظة عليه بصفته نظامَ حياة فسوف تبقينا في ذيل الأمم.
وهنا أقول: إنَّ ديننا مبنيٌّ على التجديد لا على التغيير والتحريف، وقد كان التجديد همًّا لكل دعاة النهضة الإسلامية عبر التاريخ، لكن علينا أن نفرق بين مبدأ التجديد وبين ما يراد بنا من سحق لتراثنا، وإن ما يسمى اليوم تجديدًا ما هو إلا بلاء ظاهرُهُ البناء الحضاري وباطنُهُ هدم الحضارة وتدمير الهوية.
لم يمنع الإسلامُ أسلافَنا يومًا من تطوير أنظمة الحكم لديهم، ولم يكن عائقًا في وجه الإبداع الفردي أو الجماعي، بل كان على مر التاريخ دافعًا وجدانيًّا للعمل على نهضة الأمة على مستوى الفرد والجماعة، وقد حارب الإسلام كل ما يقف في وجه الحضارة والتقدم، فأسقط التعصب القومي والقبلي ورفض التمييز بالعرق أو الجنس، وحث على النظافة والجمال والأخلاق الحسنة، وكرم المرأة ورفع من شأنها، ولا يُعرف في التاريخ البشري أن المرأة حُفِظت حقوقها كما حفظت في ظل شريعة الإسلام.
إن المرأة التي كرمها الإسلام ورفع من شأنها لم تَعْدُ في واقع مقاولي إعادة الإعمار الفكري كونَها سلعة رخيصة لترويج البضائع أو وسيلة من وسائل الدعاية، وقد سلبوا منها حقها في رعاية الرجل لها وطلبوا منها أن تحمي نفسها بنفسها وتؤمن متطلباتها بنفسها بغض النظر عن تركيبتها الجسدية والنفسية، والمرأة جزء بسيط من مشروع إعادة الإعمار عند هؤلاء المقاولين، ذكرتها تمثيلًا لا حصرًا لأنهم يذكرون أن كل النصوص الشرعية التي تتكلم عن ولايتها وحقها في الميراث جزء من التراث الذي يجب هدمه وتسويته بالأرض.
وأختم قائلًا: إن المستبدين حاولوا إطالة أمد استبدادهم طويلًا في عالمنا الإسلامي من خلال تبني القومية والاشتراكية ودعوى مقاومة الإمبريالية العالمية، لكنهم لما رأوا أن هذه الخدع لم تعد تنطلي على الأمة، وأن شهادة وفاة هذا الاستبداد ستكتب على يد الإسلام الصافي الرائق الذي يستطيع أن يصل إلى قلوب الناس جميعًا؛ قرروا طرح مشاريع إعادة الإعمار الفكري وتوزيعها على شركات مقاولات فكرية وإعلامية تعمل على هدم هذا الدين بغية إعادة بنائه من جديد وفق مفاهيم خطيرة مستوردة من أعداء الإسلام والإنسانية مطابقة لنهج إبليس وجنوده.
والحقيقة أن هذا الأمر ليس بجديد على تاريخنا لكنه اليوم يشكل خطرًا غير مسبوق، والسبب أن أمثال هذا المشروع كان يتحطم عادة على يد جبال العلم أمثال أحمد بن حنبل وأبي حامد الغزالي والعز بن عبد السلام وابن تيمية، وقد غدا السائرون على طريقهم نوادر في زماننا، بل نكاد نفقدهم مطلقًا، أولئك أئمةٌ شخصوا المرض بدقَّة، فعرفوا أنه إذا هوجم الدين جملةً وجب الدفاع عنه جملةً، وآمنوا أنهم للأمة كلِّها وليسوا رؤوسًا لجماعات وأحزاب صغيرة كل همها الحفاظ على كيانها وتمكنها في الساحة، أولئك أئمةٌ عرفوا الفرق بين الإمامة للأمة وبين رئاسة الحزب والجماعة؛ فعرفوا بدقةٍ ما هو واجب الإمام تجاه أمته من النصيحة لها ومجابهة الباطل والصدع بالحق.