مقاولات إعادة الإعمار الفكري للمسلمين
ديسمبر 2, 2019
كيف نصلح ما أفسده الأسد؟
ديسمبر 2, 2019

سيكولوجية الجماعات والطاغية – من واقع الثورة السورية

 

د. محمد سليمان فارس – مدرس علم الاجتماع في جامعة ماردين

مقدمة

علم النفس هو العلم الذي يهتم بدراسة سلوك الإنسان ودوافعه، وفي هذا البحث سنحاول فهم العلاقة بين سلوك الناس ودوافعهم للتغيير في سورية واستجابة النظام؛ فأيُّ سلوك مجتمعي للجماعة تحكمه دوافع أو حاجات ملحة، وهذه الحاجات إن لم يتم إشباعها بالشكل الملائم فإن سلوك الجماعة يبقى في حالةٍ من التوتر والاضطراب، وهذا يوجب استبدال سلوكها الذي تتبعه بآخر حتى يتم إشباع حاجاتها ويزول التوتر فتهدأ.

يا ترى كيف كانت استجابة النظام في سورية لهذا التحركِ -السلوكِ الجماعيِّ-: هل حاول فهم حاجات المجتمع وسعى لتحقيقها ليعم الأمن هذه البلاد -وهذه وظيفة الحاكم- أم كان له أسلوب يعبر عن حالة اضطراب غير منطقي؟ هذا ما نحاول فهمه وتشخيصه في هذه الدراسة.

من المعروف علميًّا بين علماء النفس أن الإنسان ما إن يدخل في جماعة أو حشد أو جمهور حتى يتخلى عن صفاته الخاصة ومميزاته ويلبس لبوس الجماعة ويتخذ سمات أخرى ما كانت موجودة فيه سابقًا، وأنه أثناء وجوده ضمن الجماعة يستطيع أن يعبر عما في داخله بصراحة وجرأة ما كان يستطيع البوح بها لو كان بمفرده، أمَّا دراسة مثل هذه السلوكيات وتوجيهها فهو من اختصاص علم النفس الاجتماعي، صحيح أنه اختصاص حديث في منهجه ومفاهيمه إلا أن له أصولًا قديمة منذ عهد فلاسفة اليونان خاصة أرسطو وأفلاطون، ولا ننسى المؤرخ ابن خلدون المفكر المسلم الذي تناول بالبحث والدرس انحطاط الدولة الإسلامية في إسبانيا في القرن الرابع عشر الميلادي، وركز في دراسته التاريخية على الجانب النفسي والاقتصادي لمعرفة القوانين التي تتحكم بتقدم الدولة وانحطاطها.

خصائص الجماهير الثائرة في سورية

في حياة كل أمة موجات من الغضب العارم تصل إلى حد الجنون بسبب خروجها عن المألوف، وهذا ما حصل في سورية 18/ آذار/ 2011م عندما انفجرت ثورة مفاجئة كان شعلتها بضعة أطفال في مدينة درعا جنوب سورية يومَ كتبوا على جدران المدارس (جاءك الدور يا دكتور) وهم غير واعين تمامًا لمعناها الحقيقي لكونهم أطفالًا، لكنها في الوقت نفسه كانت دلالة على وجودها في اللاشعور في العقل الباطن بتكرار سماعها أو سماع ما يشبهها عبر الفضائيات إبَّانَ اشتعالِ الثورات التي تطالب بالحريات والتخلص من حكم الاستبداد في تونس ومصر وليبيا، فما هي خصائص الجمهور الثائر، وكيف تؤثر هذه الخصائص على سلوكياتهم؟

إن خصائص الجماهير الثائرة كثيرة عديدة لو أراد الإنسان إحصاءها، وسنكتفي هنا بذكر أهمها، فمن هذه الخصائص الأساسية:

أ- العدوَى:

صيحتهم عارمة، عاطفتهم حادَّة مشتركة، يهتفون لشيء واحد، أمَّا أساس تلك الظاهرة فهو الرغبةُ العامَّة في التنفيس عن توتر اجتماعي حاد، وانتشارُ هذه الظاهرة كالعدوى عبر المكان والزمان([1])، ومن الخصائص المهمة أيضًا:

ب- تشابه الاستجابات:

إن المتجمهرين في مظاهرةٍ ما يسلكون سلوكًا متشابهًا، فهم يصيحون معًا هاتفين بسقوط الحاكم الطاغية بشار، ويرددون عبارات قصيرة قوية عاطفية حماسية مثل: عاشت سورية ويسقط بشار الأسد، سورية حرَّة حرَّة بشار يطلع برّا، لكن قد يبدو بعض الاختلاف أحيانًا في سلوك الجماعة حينما يقوم بعضهم بقذف الحجارة على مباني الدولة ويكتفي آخَرون بالتهديد بيديه عبر إشارات نزقة أو بالهتاف بغضب، فهذا لا يعد اختلافًا حقيقيًّا؛ إذ كل فرد منهم بسلوكياته المختلفة يعبر عن الغضب والثورة، فتبقى استجاباتهم متشابهة رغم اختلافها الظاهري.

ج- وحدة الدافع والمثير:

من الخصائص المهمة أيضا في سلوك الجماهير أو الحشود وحدة الدافع والمثير، فتشابه الاستجابات يصدر عن دافع واحد مشترك يجعلهم يهدفون إلى غرض واحد، وقد يكون الهدف غامضًا -وإن كان معروفًا إجمالًا- حتى يظهر في صفوفهم من يرأسُ هذا التجمهر وينظم الصفوف ويحدد المطالب، وغالبًا ما يتصف هذا الدافع بالشدة، ويتضح هذا من خلال ظهور شخصيات ملهِمة في كل تجمع من تجمعات الشعب في ساحات المدن أو القرى، تنظِّم الاحتجاجات أو تطلق شعارات حماسية يرددها الجمهور من خلفهم بحماسة بالغة كما حدث في مظاهرات حماة يوم كان حاديها يردد: يسقط حكم البعثية، يَلَّا ارحل يا بشار.

د- العاطفة الجارفة:

كل سلوك يصدر عن الجمهرة يصطبغ بشحنة انفعالية قوية([2])، وكلنا يذكر كيف كانت الحماسة تأخذ المتظاهرين ويشتد غضبهم عندما يواجههم المؤيدون أو عناصر الأمن، علمًا أن حدة الانفعال التي تسيطر على الجماعة تكاد تشل قواها الإدراكية؛ فيتحرك الجمهور على ضخامته كشخص واحد، ويتحرك كل فرد كما تتحرك الجماعة، يصرخ عندما يصرخون، ويقذف بالحجارة كما يقذفون في حالة عجز تامة عن استخدام قواه الفكرية أو العقلية حتى ولو كان طبيبًا أو أستاذًا جامعيًّا، فتعاطفه مع الجماعة يجعله يقلد أو يحاكي سلوكَها ولا يخرج عنها.

العوامل القادرة على التأثير في الجماعة

  • الشِّعارات: صور وكلمات وعبارات

إن قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، لكنَّ الكلمات التي يصعب تحديد معانيها بدقَّة هي التي تمتلك أحيانًا قدرة أكبر على التأثير والفعل([3])، فإذا ما أحسن القائد استخدام هذه الكلمات في الزمان والمكان المناسبين فستكون كالسحر، تحرِّك الجماهير بقوةٍ أشبهَ ما تكون بقوة السيل الهادر أو الإعصار الشديد.

وما أكثرَ الكلماتِ السحرية التي تولد ردة فعل كبيرة لدى الجماهير المعارضة أو المؤيدة دون أن يعرفوا معناها بدقَّة! ومن أشهرها (الحرية، المساواة، الديمقراطية، الإرهابيون، المخربون، الحثالة المارقون، الكافرون، المرتدون، الخونة)، فالغموض في معاني هذه الكلمات هو الذي يهبها القوة الفاعلة في نفوس مستمعيها رغم تنوع توجهاتهم لأن كلًّا منهم يفهمها على النحو الذي يريد، فتجد الجميع يتهلل وجهه لها ويُحني الرؤوس لأجلها حتى تمتلئ بمشاعر القوة والإصرار، فهذه الكلمات الغامضة كالزناد، إن ضغطت عليه أثار في نفوس الجموع والجماهير المحتشدة صور المعاني التي يرغبون في تحقيقها، لكن بعض المفاهيم تبلى وتتغير معانيها بمرور الزمن، وهذا ما لم يفهمه أقزام النظام السوري؛ فأعادت شعارات المتظاهرين إلى أذهانهم أحداث الثمانينيات إذ إنهم فهمومها على غير وجهها، فاستعدوا لمواجهة أبناء شعبهم على أنهم أعداء وخونة، لقد شحنتهم هذه الكلمات بشحنة انفعالية أوصلت صورا خاطئة لذاكرتهم جعلتهم يحتاطون بسياج من الخوف والعداء للآخر.

إنَّ كلمة مثل الحرية تعني للجماهير المنتفضة على الاستبداد والطغيان العسكري إتاحةَ الفرصة للتفكير الحر بصوت مسموع وانتقاد أخطاء الحاكم ورموز سلطته، أو القدرة على ممارسة الاعتقاد الذي يريدونه ويقتنعون به دون قيود أو شروط تفرضها الدولة أو من يحتمي بسلطتها.

وتعني كلمةُ الوطن لفريق السلطة الذي رضي بالعبودية للطاغيةِ شخصَ الحاكم نفسه، فهو الوطن على الحقيقة، وتقديسه والتضحية في سبيل بقائه تضحيةٌ من أجل الوطن وإن وصل به الأمر إلى تدمير الشعب وبيع الوطن والتحالف مع الأجنبي من أجل الحفاظ على مكانته لأنه رمز الوطن؛ فهؤلاء عبيد السلطة ينقادون للحاكم كما كان ينقاد الفلاح للإقطاعي، يحسبه الوطن ولقمة العيش؛ وفي الوقت ذاته تجد كلمة الوطن تعني لفريق آخر من الشعب ميراثَ الأجداد وشرف الأمة وموطن الذكريات الجميلة في عهد الطفولة والصِّبا، ومصدرًا للثقافة والمحبة، بينما يعني لفريق آخر السجن الكبير الذي كان يُحسب فيه كل شيء بدقة متناهية وفق إرادة السلطة، ولا يحقُّ لأحدٍ يعيش فيه الخروجُ عن تلك الحدود المرسومة له؛ وعلى هذا فالتأثير على الجماعة أو الشعب يكون أولًا بإدراك المعنى المخزون في عقولهم لهذه الكلمة وما تثيره من صور، فالكلمات تعيش كالأفكار وإن تبدل معناها من زمن إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى.

  • الأوهام:

الغاية من صناعة الرموز والأبطال إعطاء الأمل لبعض الناس الذين لا يمكنهم أن يعيشوا من دون أوهام، وما انتشار تماثيل الحاكم وأسلافه في بلد ما إلا نوع من إشاعة الوهم لتصويره بصورة الحقيقة التي لا تقبل الجدال {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وقد يأتي زمان تنقلب فيه الجماعة على هذه الأوهام لكن بعد أن تدفع ثمنًا باهظًا.

وتلعب الخطب ذات الكلمات العاطفية دورًا بالغًا في صناعة الأوهام وتضخيمها، فالعامل الكبير في تطور الشعوب ليس الحقيقة بل الخطأ([4])، فإذا كان النظام اليوم يشهد رواجًا بين بعض فئات المجتمع فإن ذلك لكونه يشكل الوهم الوحيد الذي نسجه لدى أتباعه، والمدافعون عنه غالبًا هم من الجهلة التي تسيطر عليهم قوة الخيال والعاطفة بدل العقل ولا ينفع معهم الحجاج المنطقي لإنقاذهم مما هم فيه؛ إذ لا شيء يؤثر فيهم أكثر من وهم أكبر مما هم فيه، فمن يستطيع إيهامهم أكثر يستطيع أن يقودهم وينصب نفسه سيدًا عليهم، ومن يحاول إقناعهم بالعقل يصبح ضحية لهم.

إن صناعة الوهم والتلاعب بالكلمات واعتماد النهج الخطابي هو أكثر الوسائل إقناعًا لدى الأنظمة الديكتاتورية والجماعات المتطرفة، وكان تنظيم داعش أصدقَ مثال على ذلك، فقد كان أمراؤها يتحدثون عن الخلافة وفتح روما والصين ونيويورك وهم لا يملكون أي أرضية شعبية تحمل أوهامهم، ولا يستطيعون التقدم في بضع قرى هنا أو هناك.

  • التجربة:

تجارب الأجيال السابقة ربَّما لا تُجدِي شيئًا عن الأجيال اللاحقة، وعندما يكابدُ جيلٌ ما وقائعَ عصره فإنه ينطلق من تجاربه الذاتية، وإن التجربة أعظم تأثيرًا على حركة الشعوب والجماعات من الشعارات أو الأوهام الكاذبة؛ فتأثير الوهم مؤقت وتأثير التجربة أثبت وأطول أمدًا، وهذا ما عاينه شعبنا السوري، فقد عاش الوهم زمنًا لكن التجربة أيقظته وعلمته دروسا لن ينساها ما بقي، وإن الواقع السوري اليوم يعدُّ مجالًا خصبًا للأبحاث والدراسات التاريخية؛ فقد شهد تجربة لا يمكن أن تتكرر كثيرًا في التاريخ البشري.

إن الجماهير السورية بمعتقداتها ومشاعرها هي التي صنعت تجربتنا الخاصة، كما أن الجماهير البشرية بما تملك من قوة الفكرة هي التي كانت تصنع التحولات الكبرى على مر التاريخ، يقول غوستاف لوبون: (المشاعر والمعتقدات تقود التاريخ)([5])، وقد أثبتت الثورة السورية -أعظم ثورة في هذا القرن- بطريق التجربة أنه لا يمكن بناء المجتمع من جديد وفقًا لتصوُّرات العقل المجرد، فقد كانت تكلفة ذلك كبيرة، كما برهنت تجربتنا السورية أيضًا على أن الرِّضى بالحكام المارقين الذين لا تحكمهم العقيدة الصحيحة والمبادئ الأخلاقية السامية يكلِّف شعوبهم التي تصفق لهم الموت والدمار ولو بعد حين.

محرِّكُ الجماهير

الشعوب هي التي تصنع الأحداث التاريخية العظيمة، وهي إنما تنتفض لهدفٍ واحد يجمعها ودافعٍ يحركها، ولا يكون لها في البداية أي قائد لكنه يظهر في مرحلة تالية، وهذا ما حصل لجماهيرنا المنتفضة على نظام بشار الأسد الذي استخدم عناصرُ أمنِه في درعا في شهر آذار من عام 2011 طرق تعذيب وحشية للأطفال لا يقبلها ضمير إنساني يقِظ، لقد احتجزوهم وقلعوا أظافرهم ليكونوا عبرة لمن يتفوه بكلمة خارجَ إرادة السلطة؛ فكانت هذه الحادثة الوحشية في معاملةِ من يخالف النظام الحاكم نقطةَ البداية التي أثارت مشاعر الجماهير السورية، وأدت إلى توحيد “الأنا الجمعي” كما يصفه علماء النفس، فمشاعر أغلب المواطنين الثائرين كانت متعاطفة مع أهل درعا، تقول قضية التعاطف -وفقًا لنظرية العلاج العقلي العاطفي لمؤسسها آلبرت آليس-: (الأحداث لا تؤثر على سلوك الناس واستجاباتهم لأن الأحداث محايدة، بل هي تثير الأفكار حول الحدث، والأفكار هي التي تولد مشاعر، والمشاعر تدفع الناس للقيام بسلوك أو استجابة تتناسب مع الفكر)([6]).

إن الأفكار التي كانت تدور حولها الجماهير الثائرة تقول: إن هذا نظامٌ لا يرعى حرمة، ولا عهد له ولا ذمة، إن كان يعاقب صغارًا -على كلمات كتبوها- بهذه الطريقة الإجرامية فأي بلاء سيصيب الناشطين والمفكرين الذين يطلبون حرية التعبير والنقد والعيش الإنساني الكريم؟ وقد سكت الذين من قبلنا على بغي النظام ودفعوا ثمن ذلك فهل سنسكت نحن أيضا وندفع الثمن؟

إن مظاهرات بداية الثورة في حمص وبانياس وحماة ودير الزور وغيرها كانت استجابة طبيعة تعاطفًا مع أهل درعا كما أسلفنا، وفي مرحلة لاحقة ظهر من بين الجمهور من يؤمن إيمانًا ملتهبًا بتلك الأفكار التي جمعت الناس، فقادهم دون أن يشعر، ولم يكن ذلك بتعيينٍ مِن أحد ولا بفرض القائد نفسه بل هو نتيجة لطبيعة الجماهير في الالتفاف حول الشخص الذي يؤمن بكل جوارحه بالفكرة التي يعتنقها الجميع، فتلتف حوله الجماهير وتسانده وتكون في عونه؛ فيقوى بهم ويتوحدون به، (والكثرة تصغي دائما للإنسان المزود بإرادة قوية، والأفراد المجتمعون في الجمهور يفقدون الإرادة فيتجهون نحو ذلك الشخص الذي يمتلكها)([7]).

إن الجماهير تستجيب لقادة يحركون مشاعرها ويشحنون انفعالها ويقودونها لتحقيق أهدافها، ولو انتهجنا نهج العالم الفرنسي غوستاف لوبون في تحليله لأحداث الثورة الفرنسية لوجدناه يقسِّم القادة قسمين، ولو طبقنا تحليله للوقائع الفرنسية على الثورة السورية بموضوعية ودون تحيز لوجدنا ثمة تشابها كبيرا في صفات الجماعات وفي أنواع القادة الذين ظهروا في صفوفهم؛ إذ إن سلوكيات الجماهير تظهر نتيجة قوانين نفسية اجتماعية شبه ثابتة، ولو قامت في مجتمعنا السوري دراسات علمية جادة تتعمق في تحليل وقائع الثورة لاستطاعت أن تعطي نسبا دقيقة عن مدى تشابه السلوكيات الثورية بين ما حدث في فرنسا قديمًا وما يحصل في سورية حديثًا، هذا رغم اختلاف الثورتين زمانيًّا وجغرافيًّا واجتماعيًّا، فإن الثورة الفرنسية بدأت عام 1789 واستمرت حتى عام 1799م([8]).

إن القادة الذين التفت حولهم جماهير الثائرين في سورية صنفان:

الأول: خطباء ماهرون حاولوا دغدغة مشاعر الجماهير، فكان نفوذهم مؤقتًا عابرًا، سواء كانوا مخلصين فيما يدعون إليه أم لم يكونوا، وعلى العموم فقد نسيهم الجمهور وعافهم مع الأيام.

الثاني: صنف القادة الحقيقيين الكبار، فهم الذين تستمر سيرتهم ويدوم ذكرهم حتى بعد استشهادهم لأنهم ما استطاعوا تحريك روح الجماعة والتأثير فيها إلا بعد أن سُحِروا هم أنفسُهم بما يؤمنون به.

إن القادة الحقيقيين في كل ميدان هم من ملكت الفكرة حياتهم كلها سواء كانت دينية أم سياسية أم اجتماعية، وهم القادرون دائمًا على إثارة نفوس الناس بطاقة هائلة تملأ قلوبهم وتدعى الإيمان ويعبر عنها لوبون بقوله: هي (القوة التي تجعل الإنسان عبدًا مطلقًا لحلمه)([9]).

وكلنا يعرف مدى تأثير الإيمان وفاعليته على أرض الواقع، فإنه يزحزح الجبال، فإذا تزود الإنسان بالإيمان تضاعفت قوته عشرات المرات، وبذلك انتصر المسلمون على الفرس والروم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكانت أعدادهم أقل من ربع المشركين والكفار([10])، إذًا يكمن دور القادة في بث الإيمان سواء كان دينيًّا أم سياسيًّا، وهؤلاء كانوا أعدادًا قليلة في الثورة، نذكر منهم من يُجمِع أغلب السوريين على عدِّه قائدًا مثل عبد القادر الصالح، وأبي عبد الله الحموي قائد أحرار الشام، والعقيد أبي فرات الجادر رحمهم الله، يقول لوبون: (غالبًا ما أُنجزت أحداث التاريخ من قبل مجهولين لا يمتلكون إلا إيمانهم الخاص، حتى الأديان التي حكمت العالم لم تؤسس من قبل الفلاسفة أو الأدباء أو المتشككين بالطبع)([11])، بل أسسها أناس يعتقدون كل الاعتقاد بفكرة تستحوذ على عقولهم حتى إنهم ينسون غريزة البقاء نهائيًّا لشدة اعتقادهم بفكرتهم وإن كانت الفكرة نفسها هي التي يعتقدها الجمهور، وهذا هو سبب تمسك الجماهير بالقائد بقوة، لكن أمثال هؤلاء القادة نادرون جدًّا؛ لذلك سعى النظام في سورية -ولا يزال- بالتحالف مع الدول الداعمة له إلى القضاء على القادة لعلمهم أن الجماهير تعود إلى طبيعتها الفردية والعشوائية في فترة غياب القائد المؤمن أو فقدانه.

وخلصت أحداث الثورة الفرنسية إلى قانون نفسي غريب يتعلق بهؤلاء القادة، مفاده أن (هؤلاء القادة يبدون ضِعافًا بعد أن يعودوا إلى طبيعتهم، فهم عاجزون عن التصرف الناجح في الظروف الأكثر بساطة بعد أن كانوا قد عرفوا كيف يقودون الآخرين)([12])، فالقادة الذين ظهروا وقت الضرورة حينما ينتهي الصراع وتعود الحياة إلى طبيعتها السلمية يعودون أفرادًا في المجتمع كما كانوا قبل الصراع، فإنهم وإن كانوا ذوي بصيرة في القيادة أثناء الصراع فإنهم يفتقدون ذلك في حياتهم الاجتماعية البسيطة.

السمات النفسية العامَّة للطاغية

إن الحديث عن سلوكيات الجماهير لا تتم الفائدة منه إلا بالاطلاع على ذهنية الطرف المقابل -وهو الطاغية المستبد-: كيف تكون سلوكياته وما هي دوافعه؟ ومن هنا كان الحديث عن الطاغية في مواجهة الشعب الباحث عن حقه في العيش العادل والكريم.

إن الطاغية لا يتصرف دائما بعبثية رتيبة أو ينافق ويكذب فقط في كل ما يفعل كما يظن بعض الناسِ بل ينطلق في بعض تصرفاته من طغيان محض أو كذب واضح، وينطلق في أكثرها من أمراض نفسية مرتكزة في أصل طبعه توجه فكره وتحكم سلوكياته؛ لهذا تجده يدافع عن جبروته وسفكه للدماء وتدمير الأوطان بقناعة شبه مطلقة، وقد يقدم على الموت في سبيل هذه القناعات الشاذة، وإننا إذا فهمنا هذه الأمراض وعرفناها فسنكون أكثر قدرة على توقع سلوكياته والتصرف بحسب ذلك.

  • البارانويا:

من أهم سمات الطاغية ما يعرف عند علماء النفس باسم “البارانويا”، ويقابلها بالعربية مرض العظمة الذي ترافقه كمية كبيرة من الشكوك والارتياب، وهو مرض نفسي عصبي يؤثر سلبا على المتصف به، فكل طاغية في هذا العالم يكون مصابًا حتمًا بمرض العظمة؛ فهو يختزل كل شيء في شخصيته ويرى العالم من خلالها فقط، وهو المركز، وكل ما يدور حوله ينطلق من وجوده، وهذا هو ما كانت تعبر عنه دائرة الأسد المؤيدة له حينما تقول: سورية الأسد.

جنون العظمة هذا يكون جزءًا من شخصيته “البارانوية” أو عرَضًا من أعراضها، والبارانويا هي أحد أشكال ما يُسمى باللغة العربية عقدة الاضطهاد والتآمر، ومن أعراضها الهذيان الثابت المنتظم، وإن كان المصاب يبدو بحسب الظاهر سليمًا من حيث القدرة العقلية والاستدلال غير أنه يبني استدلالاته على أوهام وحوادث غير واقعية، وتجدر الإشارة إلى أن أول من تكلم عن هذا المرض هو العالم الألماني ريشارد فون كرافيبينغ 1879م([13]).

بشكل عام يعيش الطغاة في عالمهم الخاصِّ متقوقعين في مجدهم الذاتي منفصلين تمامًا عن الواقع، فمثلًا في تصريح لنيقولاي تشاوشيسكو -الطاغية الروماني الشهير- ردًّا على سؤال لأحد الصحفيين عما إذا كانت المظاهرات التي عمت مدن رومانيا ستؤدي للتغيير، وهل يخشى أن تتطور الأمور للأسوأ؟ قال: لا يوجد شيء مما تقولونه، واستطرد بعنجهية مستهزئًا: لن يحدث تغيير في رومانيا إلا إذا تحولت أشجار البلوط إلى تين، وبعد هذا التصريح بأربعة أيام فقط قبض على الطاغية هاربًا مع زوجته، وأُعدِما رميًا بالرصاص، وقريبٌ من هذا ما كان يردده بشار الأسد وأركان حكمه، حتى إن وسائل إعلامه كانت تنفي وجود مظاهرات بمئات الآلاف في حماة، وتقول: الناس خرجوا ليحمدوا الله على نعمة المطر، وتختلف درجة الإصابة بمرض جنون العظمة من طاغية إلى آخر، منهم من يكون على الحد الفاصل بين الحالة المرضية والحالة الطبيعية، وبعضهم تشتد إصابته، فدمار آلاف البيوت وقتل مئات الآلاف من المدنيين لم يمنع الطاغية الأسد من القول بأنهم ثلة إرهابيين قضينا عليهم.

الشخص البارانوي يكون بشكل عام طموحًا، يُسخِّر كلَّ شيءٍ في سبيل الوصول إلى غايته، ويعتقد أن الجميع يريد النيل منه عبر حياكة مؤامرات خفية ضده، ولديه شعور دائم بالتهديد من قبل الأعداء، فإن لم يكونوا موجودين في الواقع عملَ على إيجادهم في مخيلته؛ لذلك يكون حذِرًا جدًّا غير متسامح أبدًا، قلِقًا حسَّاسًا سريعَ الاتهام للآخرين بالكذب والتآمر عليه خصوصًا من يخالفه الرأي.

  • الرأي والرأي القاتل

طبائع المستبد لا يمكن أن تتسع لأي خلاف من أي نوع كان، فهو لا يستمع لغيره ويعتقد أنه دائما على حق وصواب، وأيُّ اختلاف معه في الرأي هو جزء من المؤامرة عليه، فهو يرى مخالفته في الرأي نوعًا من الخطر الذي يهدد سلطته ووجوده، وهو ما يستوجب التخلص من مصدره دون تردد، وغالبًا ما يكون الطاغية “سايكوباتيًّا” في لحظات الغضب والانفعال إذ يسقط قناع العقل والتهذيب الذي عادةً ما يحاول الشخص إظهار نفسه بهما([14])، إنَّ كلمة واحدة مخالفة لرأي حافظ الأسد كانت كافية لتودي بصاحبها إلى العزل السياسي وربما التصفية الجسدية حتى لو كان من أقرب المقربين ومن أكثر الموالين المخلصين، فالمستبد لا يعرف الرحمة أو الشفقة، وانتقال الشخص من حيّز الصداقة الصافية إلى حيّز العداوة الخطيرة يتم لأتفه الأسباب، وربما تكون أسبابًا وهمية لا أساس لها من الصحة؛ ونتيجة لهذا قام ستالين وهتلر وموسوليني وجمال عبد الناصر وحافظ الأسد وغيرهم من الطغاة بتصفية كل من يمكن أن يختلفَ معهم أو يروَا فيه تهديدًا محتملًا لسلطتهم.

الطاغية متكبر مغرور ينفرد برأيه ويستقل به ويعتقد أنه المصدر الوحيد للرأي الصحيح والفكر السليم، وأنّ قراراته دائمًا حكيمة، وأنه مهم جدًّا على الصعيد العالمي، وأن قراراته تشكل حجر الزاوية في السياسة العالمية، ويشعر أنه عرْضة لمؤامرة داخلية من أعدائه داخل الوطن كما هو عرضة لمؤامرة خارجية من أعداء الوطن الذي يمثله ويدافع عنه بحنكته ولا أحد غيره يقدر على تمثيله؛ لهذا يرى في نفسه العظيمة تمثيلًا للوطن الذي لا يستطيع حمايته سواه، فأية معارضة له هي محاولة لخيانة الوطن وتدميره.

  • القدسية

يذكر عبد الرحمن الكواكبي في “طبائع الاستبداد” أنه (ما من مستبد إلا ويتخذ صفة قدسية يشارك بها الله)، فالطاغية يعتقد أنه على تواصل مع قوى عُليا يستمد منها قدرات خارقة لحمايته وحماية أتباعه، فأمان الشعب والوطن تابعان لصفته القدسية التي يشعر بها في داخل نفسه، وهكذا فإنَّ عبارة (سورية الله حاميها) تعني ضمنيًّا أن الله يحمي سورية لا لشيء عند السوريين شعبًا وأمةً بل بفضل وجود القائد الملهم المبارك من قِبل الله، والقدرات الخارقة التي تنسب إلى الحاكمِ من قوة وشجاعة وحزم وذكاء خارق وحنكة سياسية ما هي إلا نتيجة القدسية القائمة في شخصه، وهذه الصفات العليا تجعل منه شخصية تاريخية على مستوى العالم والتاريخ، وفي هذا السياق كانت لقاءات وخطابات حافظ الأسد التاريخية الفريدة، فما استمدت امتيازها إلا من كونه القائد الخالد المقدس.

هذا الإحساس بالعظمة والتفرّد يقود الطاغية المستبد أحيانًا إلى تصرفات مستغربة أو إلى سلوك مضحك كما كان يفعل القذافي، كان يُقبل على تصرفات غريبة ويلبس ملابس مضحكة ظنًّا منه أنه المركز والقدوة في تصرفاته في هذا العالم؛ فلا حرج عليه إذ إنه يقدم ثقافة فريدة لبني البشر، وكذلك كان بشار الأسد في حبه شرح المفردات والتفلسف في إيصال المعلومات اليسيرة، ولا يَشعر بأن ذلك يظهره بمظهر الضائع المنفصل عن الواقع أو بشخصية الأبله، ناهيك عن أنه يُردِفُها بأشكال من الضحك الغريب.

  • الشخصية المميزة:

المستبد يُقدم نفسه على أنه شخصية مطلقة تجتمع فيها المتناقضات، فهو قوي جبار شجاع يضرب بيد من حديد بدون أي شفقة، وفي الوقت نفسِه لا يتردد عن ارتداء معطف الأب الحنون المحب العطوف الحكيم الذي لا يتوانى عن تقديم العطاءات والمكرمات لأتباعه، يمكننا أن نرى تعبيرًا صارخا لهذا التناقض في الألقاب التي اختارها الطغاة لأنفسهم أو دفعوا مَن حولهم لاختيارها، فرغم قسوة جوزيف ستالين ومسؤوليته المباشرة عن قتل ملايين الناس اختار لنفسه لقب “أبي الفقراء” أو “الأب الصغير للشعوب”، أمَّا معمر القذافي فلقب نفسه أو لُقب بملك ملوك أفريقيا وبالأخ القائد، وكذلك حافظ الأسد لقب بالأب المناضل وبالقائد الخالد.

والطاغية معصوم من الخطأ، فإذا حصل خلل ما وانتشرت الجريمة والفساد والرشوة فهذه مسؤولية الآخرين الذين لم يطبقوا جيدًا نصائحه وتوجيهاته، وهذا ما تلخصه مقولةُ بعض أتباع الأسد في بلادنا: “هو إنسان جيد لكنه محاط بأناس فاسدين”، وكذا أقوالُه المتكررة بوصف الشعب بأنه “قليل التربية، فاسد، لا يقدر على العيش في أجواء الحرية”.

يشعر الطاغية أن المكان المميز الذي يشغله لا يمكن أن يشغله أحد غيره لما له من شخصية مميزة لا يملكها أحد، فمنصبه لا يمكن أن يُصبح شاغرًا إلا بموته، وعلى الأغلب سينتقل إلى أحد أبنائه، فالشخصية المميزة الفريدة المباركة يتم توريثها لا اكتسابها، وإضافة إلى ما سبق يتمتع الطاغية بنزعة تدميرية مخزونة لديه في اللاشعور، ولا تنتقل هذه النزعة إلى الحيّز الشعوري والعملي إلاّ حين يشعر بتهديد، فيكون مبدؤه على غرار ما فعله شمشون في الأسطورة عندما هدم القصر وقال: “عليّ وعلى أعدائي”، وقد كان سلوك الأسد في سورية وفق هذه القناعة النفسية المريضة عندما شعر بتهديد محتمل لكرسيه، فقام بتدمير البلد الذي كان يتغنى به، ولم يترك نوعًا من أنواع السلاح الفتاك المدمر إلا استخدمه من أجل منع الآخر من الكلام أو التطاول على شخصيته الفذة وحكمه الفريد، ومن هذا المنطلق شاعت بين شبيحة الأسد عبارة (الأسد أو نحرق البلد)، وقد فعلوا.

إن الطاغية يضع نفسه في صورة كائن لا حدود لإمكانياته ولا لإرادته، ولا يسمح لأحد بأن يقف في طريق ممارسته السلطة المطلقة، وهو يُفضل الموت على ترك كرسي الحكم لا لأنه شجاع كما يحاول أن يصفه أتباعه بل لأنه لا يتصور وجوده وحياته بدون كرسي السلطة الذي يعتقد أنه خلق لأجله.

الوسائل الرمزية أو غير المباشرة للاستبداد

وسائل الطاغية في الاستبداد كثيرة تشمل كل جوانب الحياة العسكرية والمدنية أو السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعضها أسبق في الترتيب والأولوية من بعضٍ، أمَّا الوسيلة الأولى المباشرة للاستبداد في الأنظمة الشمولية فهي الجيش، وغالبًا ما تتم السيطرة عليه بشكل مباشر من قِبل الطاغية وعائلته، فيغدو مُسخَّرًا لخدمته وخدمة هذه العائلة كما في كوريا الشمالية أو ليبيا سابقًا وسورية اليوم وبالأمس، وهناك أيضًا المنظومة البوليسية أو قوى الأمن التي تعمل ليلَ نهار لا لراحة الناس بل لمراقبة المواطنين وزرع الخوف والرعب في قلوبهم، ففي نظام الاستبداد الشمولي كل مواطن عرضة للاتهام بالخيانة والتآمر على الوطن وإضعاف الشعور الوطني والقومي.

ومن الوسائل التي يعتمدها الحاكم الطاغية في الأنظمة الشمولية السيطرة على كل مفاصل الدولة والحياة الاجتماعية، فلا يسمح إلا لحزب واحد وإعلام واحد أي إعلام السلطة، ويعتمد في ترسيخ ذلك على العقيدة والبروباغندا والصورة على النحو الآتي:

  • العقيدة

كل نظام شمولي يستمد شرعيته من عقيدة قومية أو أممية أو دينية، وهي وسيلة للسيطرة على جميع الفئات العمرية في المجتمع([15]) كطلائع البعث وشبيبة الثورة وغيرها من الفئات، وتُعدُّ هذه العقيدة المصدر الشرعي للسلطة، ولكن غالبا ما يتم تفريغها من محتواها واختزالها بشخصية الطاغية “الأسد”، فهو الوحيد القادر على فهمها بشكل صحيح وتطبيقها وحمايتها من الانحراف وتصحيح مسارها في حالة ابتعادها عن أهدافها كما فعل في الحركة التصحيحية.

إن حالة الانفصام النفسي والبارانويا التي يعيشها الطاغية تنعكس على العقيدة نفسها، فنجد فرقا شاسعا بين الأفكار التي تنادي بها هذه العقيدة وسلوك من يتحدث باسمها بداية من الطاغية وحتى أصغر أتباعه، ففي الأنظمة الشمولية يسعى الطاغية دومًا عبر وسائل إعلامه لأن يكون رمزًا للعقيدة من جهة وللوطن من جهة أخرى، فلا يمكن الفصل بين الوطن والقائد والعقيدة، وأي هجوم على شخص القائد هو انتقاص من قيمة الوطن وعقيدة جنوده، وعلى ذلك فكلما ذُكِر الوطن ذُكر القائد وكلما ذُكر القائد ذُكر الوطن، وهكذا دواليكَ على مدى سنوات حتى يغدو ثَمَّة خلط واضح بين الاثنين في أذهان مؤيديه، فأيَّةُ ثورة أو تمرد على النظام الشمولي وقائده هي خيانة للوطن!

  • الصورة

للصورة الشخصية “بورتريه” مكانة مركزية خاصة في حياة الطاغية وحكمه، فهي تنتشر في كل مكان وزاوية من زوايا الوطن، ولها وظيفتان:

الأولى: وظيفة رمزية

وجود صورة الطاغية يُعبر عن قبول الطاعة والولاء له؛ لذلك يجب أن تكون في الأماكن العامة والخاصة جميعها، تعمُّ الحارات والمؤسسات ومداخل المدن والقرى والأسواق والحدائق والشركات العامة والخاصة والجامعات والمدارس والمستشفيات والمساجد والأماكن الأثرية والوزارات…، ولا مانع من المبالغة في ذلك؛ فصورة القائد البطل المغوار منقذ الأمة معلقة في أكبر الشوارع كما في أصغرها وفي البيوت وعلى السيارات الحكومية والخاصة وعلى الكتب والدفاتر المدرسية وحتى في المحفظات الشخصية.

يجب أن يكون للطاغية حضور دائم، فأنَّى وليت وجهك تجد أمامك نَصْبًا كبيرًا له، أو جدارية عالية لرمز يرتبط به، أو صورًا وملصقاتٍ عشوائيةً تغطي الجدران ويظهر فيها بمناسبة أو بدون مناسبة.

الثانية: وظيفة نفسية

المستبد يعشق ذاته وتصل نرجسيته حد الهوس، فكلما كانت الصورة كبيرة ضخمة شعر بوجوده وقوته والرضى الذاتي عن الأنا المتضخمة في داخله، هذه الأنا المتضخمة في نفس الطاغية إلى حد التوّرم تنعكس على تماثيله التي تتوسط تقريبًا جميع المدن والبلدات، فالطاغية يسعى لتخليد شخصه من خلال الانتشار الهائل لصوره وتماثيله، إنها تمنحه الثقة بالنفس والشعور بالعظمة؛ لذلك لا يتردد بأمر أتباعه بالقيام بتنظيم مهرجانات أو نشاطات خاصة للاحتفال بالصورة، هذا ما كان يحدث في بلادنا، تنطلق احتفالات ومسيرات لها أول وليس لها آخر تحتفل بصور القائد الخالد وتحج نحو أضخم تمثال له في المدينة، وتختلف صورة الطاغية من مناسبة إلى أخرى بحسب المراد منها، فتارة يكون رجلَ علم مثقفا يحمل في يده كتابًا، وتارة يكون قائدًا عسكريًّا ومحاربًا فذًّا يحمل السلاح وتملأ صدرَه الأوسمة، وقد يرتدي مرة لباس الفلاحين أو العمال، فهو ينتمي إلى كل الطبقات.

هذه النرجسية المتضخمة يختبئ خلفها إحساس بضآلة وخوف يحاول الطاغيةُ كَبْتَهما دائمًا، وكلما اشتد الكبت والإحساس بالكذب والنفاق أمر أعوانه بتنظيم الفعاليات التي تمجده وتؤكد له أنه عظيم بحق وأن وساوسه أوهام لا حقيقة لها، يقرر فرويد في كتابه “قلق في الحضارة” أنه كلما زاد الخوف عند الطاغية من فنائه ازدادت دوافعه التدميرية ظهورًا، وزادت معها التدابير والإجراءات الوقائية للحيلولة دونها([16]).

  • البروباغندا واللغة

بشكل عام ليس في سورية شيء اسمه إعلام، وإنما هناكَ نوع من الدعاية الإعلامية الموجهة “بروباغندا”، فجميع وسائل الإعلام والتواصل الجماهيري من صحف ومذياع وتلفاز تخضع بشكل مباشر مُحكم للطاغية أو أحد أفراد عائلته ودائرته المقربة، وتُعد البروباغندا الحامل اللغوي للعقيدة، ونجدها تستخدم لثلاث وظائف:

الأولى: تمجيد مصدر إلهام الشعب

تعمل هذه الدعاية الإعلامية الموجهة في زمن السلم والاستقرار على تأكيد وجود الطاغية في الأذهان والحياة، فتركز الدعاية الإعلامية على تمجيد الطاغية والتغنّي بمنجزاته العظيمة في مجال بناء الوطن والاقتصاد، وغالبًا ما يحاول الطغاة ربط أسمائهم بالحداثة والتحديث للتأكيد على أن الأوطان قبل وصولهم المبارك للسلطة كانت في عهد الظلمات، فتظهر مصطلحات مثل: باني سورية الحديثة، قائد مسيرة التحديث والتطوير، وتكون المهمة الأساسية لوسائل الإعلام هي صناعة صورة استثنائية للطاغية ولنظامه بغية وضعه فوق مواقع الآخرين من حيث القدرات الفكرية وتميّز الأداء، كما تعمل آلته الإعلامية على ابتكار بطولات خرافية تتحدث عن بعض الخوارق التي ترتبط ببعض سلوكيات القائد إلى درجة اعتباره مصدر إلهام الشعب في العلوم والآداب والفنون! فالطاغية هو الراعي الأول للعلم والعلماء، وهو المعلم الأول لأن “المعلمين هم بناة الأجيال”، وهو الطبيب الأول والمهندس الأول والفنان الأول والجندي الأول والفدائي الأول والفلاح الأول…

في جميع وسائل الدعاية من صحافة وتلفاز وراديو يتم التركيز على الوحدة الوطنية والتلاحم بين القيادة والقاعدة الشعبية والصمود والتصدي، وقد ترفدها مفاهيم تتقدم أو تتراجع حسب السياق التاريخي كالاشتراكية والتقدمية والازدهار الاقتصادي والعلمي الذي تعيشه البلاد بفضل حكمة وذكاء القائد.

طبعًا لا يخفَى على أحد أن الإعلام في الأنظمة الشمولية لن يكون سوى إعلامٍ منفصلٍ عن الواقع على شاكلة الطاغية، فغالبًا ما تكون الحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطن مزريةً بعيدةً كلَّ البعدِ عما تصوره بروباغندا النظام.

الثانية: تسويق الاستقرار مقابل الحرية

إذا كانت الوظيفة الأولى لإعلام الطاغية تمجيد شخصه وقتَ السِّلم فإن مهمته في فترة قوة المعارضة أو ظهور الثورة الحديث عن الأمن والاستقرار الذي أحضره لشعبه، وابتزاز الشعب بهذا الاستقرار للتخلي عن مطالبه في رفع الظلم أو العيش الكريم.

في زمن الاضطرابات السياسية والثورات تختفي منذ أول هزة سياسية عبارات الوحدة الوطنية والكبرياء الوطني وعظمة الشعب الحضاري العريق الذي يرأسه القائد العظيم، وتحل مكانها عبارات تجسد حالة الانقسام والفتنة والطائفية، وتتحول البروباغندا إلى نوع من التجييش والتخويف من المستقبل والتهديد، والمقايضة بين القبول بواقع الاستبداد والعبودية أو الفوضى والخراب، ذلك أنّ ابتزاز الشعب بالأمن مقابل تخليه عن مطلب الحرية ورفع الظلم هو المحرك الأساسي لإعلام الأنظمة المستبدة حين تبدأ الشعوب بالانتقاد أو الثورة.

وتحاول بروباغندا الأنظمة الشمولية تصوير شعوبها على أنها قاصرة متخلفة همجية غير قادرة على قيادة نفسها بنفسها؛ فهي شعوب لا تعرف ما هي الحرية ولا تستحقها، وهي بحاجة دائمًا لحكم الطاغية القوي لضبطها ووضعها على الطريق الصحيح، أي تحتاج إلى التغنّي بسلطة الحذاء العسكري والخوف من الضياع إن تخلَّى عن الشدة والطغيان، وهكذا تنتشر قصص العصابات المسلحة والخطف والاغتصاب والخبز المسموم لا من أجل إثارة البلبلة وتضييع الحقيقة فحسب بل من أجل تأجيج المخاوف من المجهول، ولاستنفار الهويات العرقية أو الطائفية المضمرة؛ فالخوف والهلع يحرك غريزة البقاء، ويستنفر الشعور الجمعي القطيعي للدفاع عن «نحن» ضد «هم»، ومَن أجدر من ذاك النظام الذي نعرفه بالدفاع عن هذه الـ “نحن” المهددة بالإبادة إنْ رحل.

الثالثة: تسويق فكرة المؤامرة

في زمن الاستقرار أو الاضطرابات السياسية هناك ثلاثة مصطلحات مستخدمة يوميًّا في وسائل إعلام النظام هي: عدو ومؤامرة وخيانة، فمن خصائص هذا النظام افتعال الأزمات وخلق أجواء متوترة ملائمة لإثارة الحروب مع أعداء خارجيين بغية تخويف الشعب وإشغاله وتوحيده من خلفه؛ فلا شيء يجمع الشعوب كالخوف، ولكل نظام شمولي عدوه الخارجي الحقيقي أو المصطنع، ومهمته الأولى هي مقاومة هذا العدو، فأية مطالبة بحقوق الإنسان والعدالة وتحسين الأوضاع المعيشية هي مؤامرة وخيانة مرتبطة بذلك العدو؛ فليس المقصود منها سوى تفريق الصفوف وإضاعة الوقت والجهد.

في مثل هذه الأجواء يجد الطاغية مجالًا مناسبًا لممارسة العنف والقتل دون حسيب أو رقيب بما يسمى “ميولا سايكوباتية”، وإن تاريخ الطغاة من جنكيز خان وهولاكو ونيرون حتى هتلر وموسيلني وماوتسي تونغ وستالين وصولا إلى جمال عبد الناصر والقذافي والأسد يشهد بحقيقة هذه الحالة الحربية الدائمة التي يضع فيها الطاغية شعبه.

بروباغندا الأنظمة الشمولية لا يتم فرضها دائما بالقوة، فاللغة الحاملة للعقيدة ومصطلحاتها تدخل في الاستعمال الشعبي والجماهيري حتى لو لم تتبنَّ هذه الجماهير عقيدة النظام، فتجد المواطن الذي يشقى من أجل الحفاظ على نفسه وتحسين حالته يتبنى عفويًّا لغةَ النظام ويستخدمها من أجل نجاحه وحماية وجوده.

التشويه الأخلاقي للشعوب

ما عرضناه في هذا الملف من تحليلٍ لشخصية الطاغية من خلال السمات النفسية ووسائل الاستبداد الرمزية هي محاولة أولية لفهم شخصية الأسد وآلية عمل نظام الاستبداد، وإن الخطورة الأكبر لهذا النظام وأشباهه لا تكمن في وسائل استبدادها أو في ظلم شعوبها ومنعها من التمتع بحق الحياة العادلة الكريمة فحسب، وإنما يكمن خطرها الحقيقي في كونها تُسهِم في صياغة شعوب مشوهة بنيويًّا وتفتقد لصفتها الإنسانية التي تتمتع بها الشعوب السوية؛ فالمجتمعات التي عاشت فترة طويلة تحت نَيْر الاستبدادِ والقهر غالبًا ما تنتمي إلى منظومة من أنماط السلوك الغريزي الذي يعتمد أساسًا على خصائص الانتهازية والانتقام والوصولية، فالتزلف والتذلل وانسداد الأفق والانتماءات الضيقة وجلد الذات والأنانية والفردية تصبح المعيار الأساسَ للوصول إلى النجاح في هذه الأنظمة، وباستمرار الاستبداد يغدو إسقاط آثار حكم الطاغية أصعبَ بكثير من إسقاط الطاغية نفسه.

خاتمة

من خلال منهج المعايشة -المستند إلى الملاحظة والمشاركة- والمنهج التحليلي الوصفي الذي تم اعتماده يمكن القول باختصار:

إن المجتمع السوري قد اتبع مجموعة من أنماط السلوك المتوقعة في علم النفس الاجتماعي للتعبير عن حاجاته وإشباعها، وقد كانت البداية بالتعبير السلمي والحضاري عن مطالبه وحاجاته، لكن حينما أصمَّ نظام الطاغية أذنيه ورفض قبول مطالبه المحقة واستهزأ بها انتهجت الجماعات سلوكًا مختلفًا يغلب عليه طابع الاحتجاج الغاضب، وحين قوبل الشعب بالاعتداء عليه وسفك الدماء تحول إلى الدفاع عن نفسه بواسطة السلاح، وهذا شيء طبيعي جدًّا؛ فإن عددًا كبيرًا من علماء النفس يقررون: أن الموقف المحيط بالإنسان هو الذي يدفعه للسلوك لا الحاجات الداخلية فقط([17]).

وبدا جليًّا من تحليل سلوكِ الطاغية أنَّ تصرفاته تنبع من أمراض وعقد نفسية مستعصية، فقد استجلب عدة قوى دولية وتشكيلات وعصابات ومرتزقة وسلطها على شعبه الذي كان يفتخر به زمانًا، وأطلق يدها في حرق الوطن الذي كان يتغنى به يومًا؛ كلُّ ذلك من أجلِ حمايةِ كرسيِّ حكمه الذي يظنه ميراثًا حلالا له، وهذه التصرفات ليست سوى نتيجة انفصام يعيشه الطاغية في صحته العقلية والنفسية، فكل تصرفات الأسد خلال الثورة تؤكد معاييرَ الصحة النفسية التي تشير إلى أن كل طاغية غير صحيح نفسيًّا بل لديه عقد نفسية تدفعه لإخفائها بأنماط من السلوك المضطرب.

وهذا لا يعني أن الطاغية في سورية غير مسؤول عن تصرفاته؛ فهذه الحالة هي من النوع العصابي الذي يعي فيه الإنسان واقعه وحقيقة سلوكه ويملك فيه القدرة على الاختيار، فهو المسؤول عن عمليات التعذيب والقتل والتهجير القسري، وهو السبب في تشكل الجماعات المتطرفة مثل داعش على تراب وطننا، وهو الخائن الذي تعامل مع المحتل وباعه البلاد من أجل إشباع حاجاته النفسية الداخلية.

ختامًا إن الثورة وفكرة معارضة البغي والطغيان قد وصلت إلى منعطف جديد بعد انقضاء عامها الثامن، وإن مستقبل شعبنا وبلادنا مرتبط بالتخطيط الدقيق لإعادة الأمور إلى نِصابها؛ لنتخلص من الطاغية ويتمكن ملايين السوريين من العودة إلى ديارهم، وإن علم الاجتماع جزء من المعارف التي لا غنى عنها للتخطيط الذي يحتاجه شعبنا على المدى القريب والبعيد.

([1])  فؤاد البهي السيد: علم النفس الاجتماعي، دار الفكر العربي-القاهرة، 1999، ص (72).

([2]) فؤاد البهي السيد: مرجع سابق، ص (73).

([3]) غوستاف لوبون: سيكولوجية الجماهير، ص (116).

([4]) سيكولوجية الجماهير، ص (122).

([5]) غوستاف لوبون: روح السياسة، ص (12).

([6]) محمد الفارس: محاضرات في الإرشاد النفسي، جامعة ماردين، ص (55).

([7]) سيكولوجية الجماهير، ص (128).

([8]) خالد أبو بكر: موقع إسلام أُنلاين  https://archive.islamonline.net/?p=9677.

([9])  سيكولوجية الجماهير، ص ( 128).

([10]) د.حسن الخطاف: علم الاجتماع الديني، جامعة ماردين، محاضرات في كلية الشريعة، عام 2017.

([11])  لوبون: سيكولوجية الجماهير، مرجع سابق، ص129.

([12]) المرجع السابق، ص130.

([13])  أخذت عناوين صفات الطغاة من مقال للأستاذ الدكتور ناصر أحمد سنه بعنوان: سيكولوجية الطغاة والمستبدين، منشور على موقع دنيا الوطن الفلسطيني على الشابكة. وانظر أيضا “جنون العظمة وشهوة السلطة: التحليل النفسي للطغاة والمستبدين” للدكتور عزام محمد أمين على موقع قناة أورينت على الشابكة أيضا.

([14])  هيرفي كليكلي: قناع الصحة، 1941م.

([15]) رانيا قناوي: كيف تستمد الأنظمة الشمولية شرعيتها- السيسي والعسكر نموذجًا.

(([16]) سيجموند فرويد: قلق في الحضارة، دار الطليعة-بيروت، ت: جورج طرابيشي، (1982م).

([17]) ديفيد هوتون: علم النفس السياسي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-بيروت، 2015م.