المهندس مروان العش – سياسي سوري، أمين سر اللجنة السورية للمعتقلين والمعتقلات SCD
تمارس الأنظمة الديكتاتورية بمختلف أشكالها ومظاهرها سياسات وقوالب نمطية معروفة حفل بها التاريخ القديم والحديث, ويعتقد الديكتاتور أن اعتقال الرعايا المعارضين وغير المعارضين حق مقدس له يؤيده القانون والمجتمع للحفاظ على الشعب ممن يريدون له السوء والخراب من وجهة نظره.
إنَّ الأنظمة السياسية للأحزاب القومية والشيوعية ومدعي الوطنية في القرن العشرين حملت أنماطًا من المنطلقات النظرية التي تسوِّغ الظلم والقهر والاعتقال بلبوس فكري ممنهج سوَّق له منظروها بشرعية الانقلابات والحركات التي تنقل الدول من نظام إلى آخر, ويعتقد مناصرو هذه الأحزاب أن لهم الحق في استخدام اليد الحديدية في معاملة الشعب بالإرهاب والاعتقال، أو التمييز بين الفئتين المعروفتين في قاعدتهم الشهيرة (من ليس معنا فهو ضدنا) من أجلِ إقصاء ممنهج لكل أشكال المعارضة السياسية والفكرية، وهذا ما مارسه حزب البعث القوميّ الطائفيّ عبر 56 عامًا من الاستيلاء على السلطة في سورية، إذ حولها إلى دولة الرعب ومملكة الصمت والاعتقال والتعذيب والتغييب والانتقام من كل الأفراد والمجموعات المعارضة له أو ما يرتبط بهم.
أُعلِنت حالة الطوارئ في سورية صباح 8/آذار/1963م استنادًا إلى المرسوم التشريعي رقم (51) الصادر في 22/كانون الأول/1962م إثر انقلاب عسكري قاده حزب البعث العربي الاشتراكي في 8/آذار/1963م، فأعلنت الأحكام العرفية بالأمر العسكري رقم (2)([1])، ورُفِعَت حالة الطوارئ في 2/نيسان/2011 ليستبدل بها قانون لا يقل سوءًا عنها هو قانون الإرهاب.
إثر انقلاب حزب البعث وصل إلى السلطة في سورية نمط جديد من الحكامِ العسكريين المتمثلين في اللجنة العسكرية البعثية الطائفية (صلاح جديد – محمد عمران – حافظ الأسد – أحمد المير- عبد الكريم الجندي – حمد عبيد) وواجهة سنية تتمثل بالعميد زياد الحريري قائد انقلاب 8/آذار/1963م، وتظاهرت هذه اللجنة العسكرية بمجموعة من المبادئ والوعود البراقة التي وجدت صدًى كبيرًا في نفوس بعض طبقات الشعب الفقيرة التي ظنت خيرا بهؤلاء الانقلابيين, وعلى أسوأ تقدير هم كغيرهم ممن سبقهم من عسكريين حكموا مدة ثم انقلب عليهم غيرهم.
في غفلة من الشعب بدأ الانقلابيون البعثيون بوضع اليد على الجيش والدولة والقوانين بغية تطويع الشعب السوري وقولبته، فيكون خامًا قابلًا للعجن والتصنيع بيد أغرار بالسياسة والعمل العامِّ، والعمل فيهما لا يشبه ما تربوا عليه من روح العصابة والتنظيم الفاشي الشبيه بالحركة النازية.
بعقلية المؤامرة والإقصاء التي يتصف بها معظم الطغاة بدأت سياسة الاعتقال لكل مخالف أو مشكوك بأمر مخالفته لفكرهم وولاءاتهم الطائفية الضيقة, واستعانوا بواجهات محلية مقبولة نوعًا ما مثل زياد الحريري وأمين الحافظ ونور الدين الأتاسي، ولم تلبث هذه الواجهات مدة حتى دفعت ثمن ثقتها باللجنة الطائفية، إذ تم الانقلاب عليها وزجها في المعتقلات أو نفيها بشكل تعسفي بدون الحاجة إلى قضاء أو محاكم وإنما استنادًا إلى إعلان حالة الطوارئ فقط صباح 8/آذار/1963 حتى 21/نيسان/2011م، وقد استمرت حالة الطوارئ في سورية ثمانية وأربعين عامًا، وهي أطول مدة في التاريخ المعاصر لإعلان حالة الطوارئ في أي دولة, فهي إنما تكون عادة أشهرًا فقط، وتمدد أحيانا سنواتٍ في حالات الحروب والكوارث وأعمال الشغب.
قام عسكر الانقلاب البعثي وقادته بتعطيل القوانين والأنظمة النافذة عبر مراسيم تشريعية تمت خارج البرلمان بقرارات وأوامر عسكرية وبلاغات عامة مخالفة للقانون عموما، نعم عمل كثير من العسكريين المخلصين لمواجهة عملية تسلط البعث على مفاصل الدولة والحياة الاجتماعية، لكن الانقلابيين شنوا حملة إقصاء واعتقالات لمعارضيهم على مراحل ليتفردوا بالسلطة وتخلو لهم الأجواء، وأضافوا إلى ما سبق التدخل في شؤون القضاء، فأقصيت الخبرات والهيئات الفاعلة، وبدأت دولة المحسوبيات والفساد، وانهارت تحت وطأتها المنظومة الأخلاقية والمعرفية التي يتمتع بها السوريون وبها يعرفون.
ثم حدثت عدة تحركات داخل البعث والدولة لتصفية الأجنحة البعثية والناصرية فيما بينها كمحاولة انقلاب علوان وانقلاب 23/شباط/1966م وانقلاب حافظ أسد، وهو الذي فاق الجميع خبثًا ومكرًا وحقدًا على الشعب ومثقفيه وقواه السياسية والعسكرية، وبانقلاب الأسد على السلطة وباقي مكونات البعث بدأت مرحلة مظلمة في حياة السوريين عنوانُها الولاءُ المطلق للدكتاتور أو الاعتقال والتغييب والموت.
بدأ حافظ الأسد برفاقه وزملائه وقادته، اعتقلهم وغيبهم حتى الموت, وتوغل ببناء دولة بوليسية مخابراتية عميقة سَداها ولُحمتها طائفية أقلية عنصرية تحمل الحقد والكراهية لكل السوريين, وأخلى الجيش من كل هيئة وطنية أو قومية حقيقية, وأبدع بالإجرام في السياسيين رغم هُزَالِ العمل السياسي في سورية منذ الوحدة السورية المصرية عام 1958م، ووأَدَ الدولة الديمقراطية الوليدة التي نتجت عن أحزاب وطنية ودستور وطني بالانتخاب وبرلمان منتخب ديمقراطيا في عام 1950م.
لقد اعتمدت الدولة البوليسية السورية بعد عام 1970 على حزمة قوانين وقرارات وبلاغات تحصن العاملين في المجال الأمني والمخابراتي، وتمنحهم صلاحيات واسعة تحميهم من المساءلة على أفعالهم وتمنحهم المزايا والاستثناءات وحق الإفلات من العقاب، كما تسمح هذه القوانين بتسلط المخابرات على الجيش ومؤسسات الدولة والمنشآت الاقتصادية ومشاركتها والسطو على أصول الأملاك العامة والخاصة وتيسير المحسوبية والفساد وصرف النفوذ من أجل تمرير العقود الحكومية والانتفاع منها، باختصار لقد ابتلعت السلطة الأمنية المطلقة الدولة ومؤسساتها والمجتمع ومكوناته، وأعادت تكوينهم لصالح سلطة شكلية عمقُها دولة طائفية بوليسية فاسدة.
مارس الأسد عمليات القمع الوحشية في مواجهة الشعب في كل مفاصل الدولة بلا سبب سِوى ترهيب الآخر أو الشك به، وقد واجه المحتجون على انقلابه أصنافًا من المهالك كالاعتقال والتصفية والاغتيال وتدمير عوائلهم داخل سورية وخارجها, كما دبر الأسد جرائم قتل معارضيه من سوريين وغير سوريين, وخطط ونفذ عمليات داخل وخارج سورية لتصفية منظمات تناوئه وتعرف حقيقته.
وعندما تدخل في لبنان برعاية عربية ودولية تحول إلى احتلال وطرف ومسيطر عبر أجهزته الأمنية، وقد عانى اللبنانيون الويلات من حملات النظام ضدهم، ولم يهدأ له بال حتى طوع قسمًا منهم زبانية وعملاء له ينكلون بإخوانهم الآخرين ويغدرون بهم, ولم يكتف بذلك حتى فعل الأفاعيل بالمقاومة الفلسطينية، فقتل وغدر وتآمر على قادتها وتحالف مع إسرائيل لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وشرذم المنظمات الفلسطينية وقسمها كي تسهل له السيطرة على قرارها ومصادرة قرار فلسطين واسمها لتتم له المتاجرة بقضيتها بشكل رسمي.
إن مأساة اعتقال السوريين قد بدأت مبكِّرًا عبر عسكر الانقلابات, فكان كل انقلابي جديد يقتل أو يشرد قائده السابق وجماعته, وتطور أمر الاعتقال والتعذيب إلى القتل والإخفاء القسري أيام الوحدةِ وسلطةِ العقيد عبد الحميد السراج رئيس جهاز مخابرات الوحدة السورية المصرية، وخلَفَ تلك الحقبةَ حكمُ البعثيين الذين جعلوا من الاعتقال وسيلة أساسية لإحكام قبضتهم على الاعتقال، وقد تغوَّلَتْ هذه السياسةُ المقيتة بحكم حافظ الأسد من أول أيامه حتى بلغت أقصى ما يتصوره بشر.
تغول العمل الأمني والمخابراتي في سورية الأسد لإرهاب الشعب وتخويفه من مواجهة الحاكم بأمر نفسه بصفته قائدًا للدولة والمجتمع, تجلى ذلك في مواجهات الاحتجاج على الدستور في حماة 1973م, وفي أحداث المواجهات بين الإخوان المسلمين والنظام بدءًا من عام 1976 وما تلاها، ووصلت حملات الاعتقال الممنهج والحملات العسكرية المنظمة إلى دمشق وريفها وحلب وحماة وحمص ودير الزور ومعظم المدن والبلدات السورية الأخرى، وقامت قوات الأسد بشن مواجهة مفتوحة ضد كل أشكال التنظيم الإسلامي أو النشاط الإسلامي التقليدي تحت شعار مكافحة عصابة الإخوان المسلمين, وفي هذا السياق تمت مجزرة سجن تدمر الصحراوي بتاريخ 27/حزيران/1980م.
وزيادة على مجزرة تدمر بمعتقلي الإخوان المسلمين استهدف الأسد الشباب السوري المثقف، فزج آلاف الشبان في السجون والمعتقلات بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين أو الطليعة المقاتلة سواء كانوا على علاقة بذلك أم لم يكونوا، وعقد لهم محاكمات ميدانية زائفة حكم فيها على الآلاف منهم بالموت شنقًا، وقد نُفِّذ نحو 17 ألف حكم إعدامٍ فعليًّا بأعضاء الجماعة أو مناصريهم أو حاضنتهم أو عامَّةٍ لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بجماعة الإخوان أو أحداث الثمانينيات.
صرَّح العماد مصطفى طلاس في حديث لمجلة دير شبيغل الألمانية في شباط / 2005م العدد 8 أنه كان يوقع في أوائل الثمانينيات على 150 حكمًا بالإعدام أسبوعيًّا على المعارضين السياسيين الإسلاميين، واعترف لها بأن يده وقَّعت على أحكام إعدام بلغت الألوف، وهؤلاء كلهم لم يتم التعامل مدنيًّا مع حالاتهم، ولم يبلغ ذووهم بوفاتهم.([2])
وتجلت أعنف ممارسات النظام القمعي الأسدي في أحداث مدينة حماة 2/شباط/1982م، فقد اقتحمت قوات سرايا الدفاع المدينة تدعمها المدرعات والمدفعيات والطائرات والقوات الخاصة وقوات الأجهزة الأمنية المتنوعة وأعضاء حزب البعث من محيط محافظة حماة، وتم تدمير المدينة بمواجهات دامية استمرت أسبوعًا كاملا, ثم تفرغت سرايا الدفاع لشن حملات تصفية بقيادة العميد رفعت الأسد تستهدف القضاء على عائلات كثيرة من سكان مدينة حماة السنَّة حصرًا أو ملاحقة من لا يزال حيا من أفرادها, فقتلت الشيوخ والنساء والأطفال، واغتصبت الفتيات، وسرقت المجوهرات والممتلكات في مواجهة طائفية مدروسة مخططة مقدَّمًا, ونتج عن الحملة الأسدية على حماة أن خسرت المدينة نحو أربعين ألفًا من سكانها ما بين قتيل ومفقود ناهيك عن آلاف المعتقلين وتهجير عشرات الآلاف غيرهم داخل سورية وخارجها.
لقد منحت أحداث حماة النظام الأسدي القدرة على تسويغ العنف المفرط، وأجبرت المجزرة وما تلاها من سياسات قمعية المجتمعَ على الخضوع حتى ثلاثين سنة قادمة، إذ استخدمت أحداث الإخوان المسلمين ذريعةً لتصفية كل القوى المجتمعية والسياسية والفكرية بدعوى “لا حياة في هذا الوطن إلا للتقدم والاشتراكية ” المقولة الشهيرة لحافظ الأسد التي أنتجت مجتمعًا خاليًا من التقدم والعصرية وبريئًا من الاشتراكية التي كان ينادي بها، بل أعَدُّوا لها عبر سياسات رأسمالية وليبرالية مشوهة بنَتْ دولة عميقة داخل الدولة السورية الشكلية.
تقوقع المجتمع خلال نصف الثمانينات وبعده، وأصابه رُهاب الاعتقال والتعذيب والقتل مما سمع وأشيع عن ممارسات الأجهزة الأمنية المنفلتة من كل عقال، المحمية بنصوص وقوانين تمنع مراقبتها ومحاسبتها, وخمدت إثر ذلك كل التنظيمات والأحزاب والقوى السياسية على قلتها وفقرها الفكري والتنظيمي, ومُنِيتْ هيئاتها بالاعتقال الطويل، واخترق تنظيماتِها أقزامُ السلطة والمخابرات.
وقد واجهت بعض المجموعات الفكرية والسياسية سطوةَ الأسد بالحيلة أحيانًا وبالالتفاف والمواجهة أحيانًا أخرى, ولم تظهر شخصية سياسية سورية تواجه النظام الأسدي أو شخص الأسد رغم وجود سوريين كُثُر يحملون التاريخ الوطني والتأهيل العلمي والقانوني والسياسي, لقد صحَّر النظام المجتمع وجفَّفه من العمل السياسي المشروع المنظم الفعلي لا النظري, ولم يقاوم هذا الجفافَ المفتعل إلا ثلةٌ قليلة من الناس ثبتت؛ فنكَّل بها النظام.
وقد عمل الأسد للسيطرة على رجال الدين، فسيَّس هذا القطاع إلا قليلًا، واخترقه عبر أقزامٍ وأدواتٍ عُرِفت بالخنوعِ حينًا وبالإرهاب حينًا آخر، هذا رغم تململ كثيرين وخروج بعضهم عن محاولاتِ السلطة قولبةَ الشعائرِ الدينية وشكلِ الدعوة وتسخيرَهما لخدمتها؛ نتيجة لذلك نبت شعور بالغبن والقهر والظلم ولَّد مستقبلًا بيئةً حاضنةً ترفض ممارسات النظام.
هلَك حافظ أسد في 10/حزيران/2000م وترك جملوكية([3]) سورية مشوهة, أورث دولة داخل دولة, وظن بعضهم أنَّ الخلاص جاء عبر عملية توريث ربما تكون أقل سوءًا وأخف وطأة من عهد سفاح حماة وأخيه وحاشيته، لقد كانت طيبة السوريين وتفاؤلهم يوهمانهم بأن الحال مع التغيير أفضل، ولكن سرعان ما خاب ظنهم وتراجعت أحلام التخلص من الاستبداد والفساد في أول مفصل لمحاولة الانتقال بالمجتمع السوري من عبودية نظام حافظ الأسد إلى وعود التطوير والتحديث والعصرنة التي أوهم بها بشار شعبنا.
تبدلت وجوه قادة المؤسسات الأمنية شكلًا فقط وبقي نهج وطريق الديكتاتورية والعنف والاعتقال ومصادرة المجتمع وشلل الحياة عنوانًا واضح المعالم, وهكذا خمدت حركة المنتديات ببدء اعتقالات ربيع دمشق سنة 2000/2001 وبمواجهة الحركة الفكرية والسياسية الناشئة بنصائح أمنية من جنرالات مجزرة حماه الذين لم يتعلموا في مدرسة حافظ إلا قاعدة تقول: (إن هذا الشعب لا ينفع معه إلا العنف والاعتقال), وواجه المجتمعُ السوري وأحرارُه في تلك الفترة خطرَ خططِ النظام لاختراق وتفخيخ أية محاولة مجتمعية للنهوض نحو مستقبل أفضل خارج منظومة النظام الأسدي الفكرية والشعبوية.
قام عشرات الناشطين السياسيين في سورية بمحاولة استرداد العمل السياسي وأدواته في حركة إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي عام 2007م؛ فنتج عن ذلك حملة اعتقالات لقادة الإعلان ووجوهه، حاملة رسالةً تقول للشعب السوري بوضوح: لن نسمح للمجتمع بالتحرر والعمل السياسي إلا ضمن رؤية النظام ومنظومته وأدواته بأحزاب شكلية مهلهلة وشخصيات منهكة لا مستقبل لها, ولن نسمح بأية منافسة لحزب البعث؛ فهو قائد الدولة والمجتمع بالمادة الثامنة من الدستور الأسدي 1973م([4]).
تخمرت فكرة المواجهة لدى شرائح سياسية وفكرية ومجتمعية كثيرة بوصفها نتيجةً طبيعيةً لمسارات الأمور في سورية بين 2007 – 2011 من حَجب ومعاقبة كل من يعمل بنَفَس سياسي وطني, ومنع أي شكل من أشكال التعاون والاجتماع الوطني والسياسي والمجتمعي, وإقصاء الموظفين النزيهين وأصحاب الكفاءة والخبرة، واستيلاء أقزام النظام على مفاصل الاقتصاد السوري بخطوات ليبرالية وقفزات نوعية من استغباء للمجتمع واستيلاء على ثرواته وممتلكاته لأفراد ومافيات مخلوف وشركائهم بصفتهم وكلاء حصريين في المملكة الأسدية؛ لذلك ارتفع معدل الفقر وترسخ الفساد وزادت المحسوبيات، وبات التزلف لوجوه السلطة سبيلا وحيدا للعيش والإنتاج في هذا الجو المشحون.
وصل الربيع العربي إلى تونس ومصر وليبيا, وكان الممر الحتمي لذلك الربيع في سورية والمشرق العربي, وظن النظام أن رياح التغيير والثورة يمكن مواجهتها بما تعوَّد عليه من احتيال والتفاف على الناس وامتصاص لغضبهم بطرق مختلفة، ففي 15/آذار/2011/ تحرك المجتمع السوري مثل كل شعب حر مطالبًا بحقوقه بالحرية والكرامة والعدالة, وكان الحامل الوطني عظيمًا كبيرًا برافعة شعبية وطنية مدنية, وسبقت ذلكَ إرهاصاتٌ أولية كمظاهرة الحريقة في 17/شباط/2011م ومظاهرة صغيرة أمام الأموي بتاريخ 15/آذار/2011م ومظاهرة في اليوم نفسِه في الحريقة, ووقفة النشطاء أمام السفارة الليبية وغيرها، وفي يوم الجمعة 18/آذار/2011 تفجرت ثورة الحرية والكرامة بدرعا وبانياس والرستن وغيرها, فانطلقت وعبرت عن نفسها بأساليب وأدوات حضارية مثل المظاهرات المطالبة بالحرية والعدالة, ومظاهر الاحتفالات الشعبية اليومية ضد النظام وأساليبه, وتطورت سياسة المواجهة التي اعتمدها النظام بدلًا من أن يسمع صوت الشعب والشارع الغاضب من ممارساته وأقزامه وأدواته، فازدادت المواجهات وبدأت الاعتقالات العنيفة عقب كل صلاة جمعةٍ وعقب كل مظاهرة سلمية أو بعد تشييع أوائل شهداء الثورة
لقد تجلت الوطنية السورية وتكاتف أبناء الوطن بالمصاب, وزاد عزمهم على الاستمرار ومواجهة الظلم والفساد لفرض شروط الشعب ومطالبه بالحرية والكرامة, لكن نظام القمع والإجرام المتأصل بمؤسساته الأمنية والعقلية العقيمة التي تربت على الأوامر والتنفيذ الأعمى عمل على المواجهة بين شباب الثورة وحاضنتهم وبين النظام وأقزامه وشبيحته منذ أشهر الثورة الأولى حتى الشهر العاشر من سنة 2011م، ولم تظهر أي مقاومة مسلحة لمواجهة ظلم الأسد حتى الشهر العاشر من السنة الأولى للثورة، هذا رغم آلاف عمليات الاغتيال والتصفية والاستفزاز والمجازر الجماعية الممنهجة بنفَس طائفي ضد شباب الثورة فرادى وجماعات وضد محافظات ومدن وبلدات وقرى السوريين الثائرين, وكانت بداية شرارة المواجهة حينما قرر النظام العسكري الأسدي إعادة الشعب إلى حياة الذل بكل أدوات العنف والقتل.
إن بداية حملات الاعتقال في الثورة السورية كانت أمام الجامع الأموي يوم 15/آذار/2011م حين اعتقل النظام ناشطتين وبعض شباب جامعة دمشق بدؤوا بالتظاهر أمام الأموي, وبعدها بساعات خرجت مظاهرة أخرى في الحريقة فقابلها النظام بالاعتقالات أيضًا، وفي اليوم التالي خرجت مظاهرة خلف وزارة الداخلية للمطالبة بالمعتقلين السياسيين المحكومين سابقًا, وإلغاء حالة الطوارئ والمطالبة بقانون للأحزاب, والتنديد بشن النظام حملة اعتقال طالت ثلاثة وثلاثين ناشطا وناشطة يومها.
تصاعدت المظاهرات في 18 آذار يوم “جمعة الكرامة” بدرعا، ووقعت اعتقالات بالجملة ومداهمات، وسقط أول الشهداء, وسعى النظام لإرهاب الناس بالقتل حينما سقط أول شهداء الثورة محمود الجوابرة وحسام عياش رحمهما الله, وتصاعدت الثورة وعمليات الاعتقال حتى ناهز العدد أربع مئة ألف عملية اعتقال في وسط الثورة بتقديرات منظمات حقوقية ، وتضاعف العدد إلى نحو 800 ألف معتقل نهاية 2018 من خلال سياسة الباب الدوار, لا يزال حوالي 200 ألف شخص منهم في سجون الأسد([5]).
إن أساليب الأسد قد فاقمت روح الثورة وضرورة المواجهة مع نظام لا يعترف بأدنى حقوق البشر في الحياة أثناء الاعتقال وخارجه, ولا يرعى المواثيق ولا الاتفاقيات والبروتوكولات التي وقع عليها سابقا كمعاهدة مناهضة التعذيب وميثاق حقوق الإنسان الذي وقَّعت عليه الجمهورية العربية السورية منذ 1949م وغيره.
مع الأيام ظهرت همجية النظام وحقده وعنفه المنفلت من كل معيار دولي أو إنساني في بيئة الاعتقال وظروفه، إذ مارس التعذيب بكل فنونه الإجرامية التي ورثها عن الضابط النازي “ألويس برونر”، وكان قد أقام في سورية متخفيا منذ 1960م وتعاقد حافظ الأسد معه لإقامة أجهزة أمنية مثيلة للأجهزة النازية الهتلرية([6]), وانفرد النظام في الإبداع باختراع آلات التعذيب أثناء التحقيق لانتزاع الاعترافات الكاذبة بالضغط والإكراه, واستخدام الضرب العنيف بالأدوات المعدنية والأكبال والبواري البلاستيكية, والشبح والتعليق والتغطيس بالمياه والحرق والإيذاء بالنار, والحرق بالكهرباء وتكسير الأطراف، وابتدع النظام نشر الأمراض السارية والمعدية والسل والطاعون والقوباء والإسهال بين السجناء, كل ذلك بدون علاج أو دواء أو طعام لمقاومتها إمعانًا في قتل المعتقلين وتعذيبهم بأقسى الممارسات التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، كل هذا بسبب وحيد هو طلب الحرية والكرامة والعدالة وإقامة دولة العدالة والمواطنة.
إن نظام الأسد الأب والابن هو من أنهى الاستقلال السوري الذي حصلنا عليه عام 1946، فمنذ الاستقلال حتى انقلاب الأسد الدامي مر على الشعب السوري كثيرون من قادة السياسة والرأي والعسكريين الشرفاء والوطنيين، لكن الابتلاء العظيم جاءت به كذبة ثورة البعث التي وضعت سورية بعد خمسين عامًا من تسلطها الطائفي في أحط درجة في تصنيف دول العالم، إذ غدت أسوأ دولة للحياة في هذا العالم وأكبر مصدِّر لِلاَّجئين في القرن الحادي والعشرين على يد حاكم مهووس بالسلطة، قتل شعبًا وشرَّده ليبقى على كرسيِّه متحديًا كل الأعراف الدولية والقيم الإنسانية.
بهذه المقتلة السورية والجريمة الموصوفة على الشعب السوري, المتمثلة بالاعتقال والتعذيب والإخفاء والقتل وإصدار شهادات وفاة لا تمت إلى الحقيقة بصلة وإخفاء جثامين الشهداء القتلى؛ تبرز قضية مهمة جدًّا, ألا وهي توثيق هذه الجرائم وتتبع وملاحقة جميع المتورطين فيها من قادة الأجهزة الأمنية السورية ومختلف المستويات السياسية المساندة لهم، وتحميلهم مسؤولية قتل وتعذيب مئات الآلاف من المعتقلين بأساليب شنيعة بهيمية، كما أنَّه لا بد من ملاحقة المتضررين والقتلى وعائلاتهم للمجرمين دوليًّا لوضع حد لسياسة الإفلات من العقاب، ويكون ذلك بالمتابعة الحثيثة للأطراف الدولية الموقِّعة على المعاهدات الدولية المختصة بالشرطة الدولية وملاحقة المشتبهين وجلبهم إلى محاكم دولية لتنفيذ الأحكام عليهم.
إنَّ لمتضرري الاعتقال وجرائم الحرب لأملًا كبيرًا بالقوانين التي أتاحت الولاية العالمية للقضاء في بعض الدول مثل ألمانيا وفرنسا والنمسا والسويد, وما الدعاوى التي أقيمت أمام سلطات القانون في تلك الدول من مواطنين سوريين شهود على التعذيب والقتل والإخفاء والخطف إلا خطوة نحو تحقيق العدالة, وما قانون سيزر الذي أقر منذ فترة قريبة إلا وسيلة للوصول إلى القَتلة الحقيقيين للشعب السوري الذي نُكب بحاكم ديكتاتور عفا عليه الزمن، ولم يتعظ بهتلر وموسوليني وبول بوت وتشاوشيسكو، والأيام دُوَل.
وقد قامت منظمات وهيئات ولجان سورية وأفراد أيضًا بتوثيق حالات الاعتقال والاختفاء القسري والخطف والقتل في المعتقلات وأثناء الحرب العدوانية، وتعاونت هذه الجهات مع مؤسسات دولية ودول لتثبيت هذه الوقائع والشهادات والوثائق, وتم إنشاء عدة برامج متخصصة توفر قاعدة بيانات للمعتقلين والشهداء، وكان أول جهد في هذا الإطار مركز توثيق الانتهاكاتVDC ([7]) الذي أشرفت عليه المحامية رزان زيتونة، ثم تابع العملَ بعد اختطافها مجموعةٌ مميزة ما زالت إلى اليوم تقوم بالعمل والتوثيق، وكذلك مركز أورنامو([8]) URNAMMU.ORG ، والشبكة السورية لحقوق الإنسان([9])SNHR , وثمة مؤسسات عديدة تعمل على توثيق حالات الاعتقال والقتل والخطف, وتتيح معلوماتها وتوثيقاتها للأمم المتحدة والمنظمات الدولية واللجان الحقوقية والجهات الفاعلة لكشف حجم الكارثة موثقًة مؤكدة من أرض الواقع بشهادات ثقات.
كل هذه الجهود تخدم قضية الاعتقال الذي بلغ أرقاما هائلة لم تشهدها أعتى الديكتاتوريات بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ما سينعكس على المجتمع والإنسان والمستقبل، ولا يخفى ما لحملات دعم المعتقلين من أثر في إحراج النظام دوليًّا ومحليًّا وإجباره على الإفراج عن المعتقلين من الرجال والنساء والأطفال، وقد كان آخرها حملة حركة الضمير العالمية التي انطلقت في دول مختلفة في الشرق والغرب تطالب بإطلاق سراح النساء السوريات المعتقلات، وأقامت تجمعات كبيرة في يوم المرأة العالمي 8/آذار/2019م تندد بجرائم الأسد ونظامه بالمعتقلات السوريات.
إن واجبنا اليوم تنظيم جهودنا وتكاتف جميع المؤسسات السورية لتنتج جسمًا سوريا حقيقيا قادرا على قيادة شعبنا وإنقاذ المعتقلين وبناء الدولة السورية المنشودة دولة العدالة والحريات.
[1] موقع الجزيرة: وثائق وأحداث، نص قانون الطوارئ السوري (1962م).
([2]) تصريح طلاس: رابط صحيفة دير شبيغل الألمانية: http://www.spiegel.de/international/spiegel/syria-a-101-course-in-mideast-dictatorships-a-343242.html
([3]) الجملوكية أو الجملكية وتلفظ أحيانًا جمركية: مصطلح مستحدث يمزج بين كلمتي الجمهورية والملكية، يستخدم عادة بطريقة ساخرة لوصف أنظمة تدعي أنها جمهورية لكنها تشبه المملكة سياسيا خاصة في قضية توريث الحكم. ويكيبيديا.
([4]) دستور سورية 1973 المادة 8: حزب البعث قائد الدولة والمجتمع. https://cours-examens.org/images/An_2013_2/Etude_superieure/Droit/CONST/Autres/syrie.pdf
([5]) انظر العربية بعنوان “كم معتقلا في سجون الأسد” https://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/syria/2017/12/22/%D9%83%D9%85-%D9%85%D8%B9%D8%AA%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D8%AC%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF%D8%9F
([6]) انظر موقع BBC خبرًا بعنوان “مجرم الحرب النازي ألويز برونر فارق الحياة في سورية” http://www.bbc.com/arabic/worldnews/2014/12/141201_nazi_criminal_dies_syria
([7]) موقع شبكة مركز توثيق الانتهاكات http://vdc-sy.net/en/
([8]) موقع مؤسسة أورنامو http://www.urnammu.org/
([9]) موقع الشبكة السورية لحقوق الإنسان http://sn4hr.org/arabic/