منظمات المجتمع المدني السوري الجذور والواقع والمستقبل

حكم استعمال المعقمات والأدوية التي تحتوي على الكحول
ديسمبر 24, 2020
الوعي الحضاري
يناير 4, 2021

منظمات المجتمع المدني السوري الجذور والواقع والمستقبل

تحميل البحث كملف PDF

الباحث: محمد علي النجار – محرر مجلة مقاربات

تقوم الدولة على ثلاثة أركان؛ الأرض والشعب والسلطة الحاكمة، ولكل من هذه الثلاثة أحوال تعرض لها ترتقي بها أو تنحط، وإذا كان الجسم السياسي للدولة يكتسب احترامه من قدرته على تحقيق مبادئ العدالة وحفظ الأمن والنهضة بالأمة؛ فإن المجتمع أو الشعب يكتسب احترامه من رقيه الحضاري وتكافل أفراده وقدرته على القيام بشؤون نفسه وإصلاح أخطائه.

وإن من أهم ما يميز المجتمعات المعاصرة المتقدمة مؤسساتها المدنية التي تعمل على تحويل عمل الخير في المجتمع من حالة عشوائية إلى حالة منظمة ومنضبطة تتكامل فيها الجهود. وقد تميز الشعب السوري قديما وحديثا بالانضباط والرتابة والإنتاج الفردي والجماعي، فكيف كان شكل منظمات المجتمع المدني السوري في التاريخ القديم عموما وفي العصر الحديث خصوصا؟ وما واقعها بعد الثورة؟ وما المأمول منها خلال السنوات القليلة القادمة؟

تتضمن هذه الدراسة ثلاثة مباحث وخاتمة، هي:

المبحث الأول: مفهوم المجتمع المدني، ومؤسساته عبر التاريخ السوري.

المبحث الثاني: منظمات المجتمع المدني السوري في العصر الحديث.

المبحث الثالث: منظمات المجتمع المدني السوري بعد الثورة الواقع والمستقبل.

خاتمة: في أسس العمل المجتمعي.

 

المبحث الأول: مفهوم المجتمع المدني ومؤسساته عبر التاريخ السوري

أولا: مفهوم المجتمع المدني

المجتمع المدني مصطلح مترجم عن (civil society) في اللغة الإنجليزية، وقد اشتهر اصطلاحا ومفهوما في الدراسات الاجتماعية المعاصرة، للدلالة على ما يقابل السلطة الحاكمة، فكما أن للدولة والحكومات مؤسساتها التي تقوم عليها، فإن للمجتمع ركائزه ومؤسساته التي يقوم عليها. وبحسب علماء الاجتماع فإن هذا المصطلح يشمل جميع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والأسرية الواقعة خارج دائرة النظام السياسي والاقتصادي للدولة.

وقد وقع جدل طويل حول مفهوم المجتمع المدني بين صناع الفلسفات السياسية والاجتماعية في الغرب، كما وقع جدل آخر أثناء نقل المصطلح إلى العالم الشرقي، ووقع الخلاف حول تفسيره، فهل هو المجتمع المتحضر الذي نظَّر له ابن خلدون في مقابل المجتمع البدوي؟ أو ما يقابل تشكيلات النظام السياسي والاقتصادي والإداري للدولة كما قرره الغرب؟

ومهما يكن فإن معناه القريب والبسيط واضح لعموم المتخصصين أو المثقفين المهتمين بالشأن العام، وقد عرفه البنك الدولي بكونه: (مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجود في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استنادا إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية)([1]).

ثانيا: تطور منظمات المجتمع المدني

في العصر الحديث سعت معظم الشعوب المتقدمة إلى بناء مؤسسات مستقلة عن الدولة تعنى بشؤون المجتمع وتنظم أموره وتسعى في شؤون أفراده بشكل عام، أو بشكل خاص بفئة منهم. وقد غدا تقدم المجتمع يقاس بمدى قدرته على تنظيم نفسه والقيام بشؤونه والرقي بحاله.

ونظرا لاهتمام الشعوب الإنسانية المعاصرة بتنظيم نفسها توجه مفكروها نحو تأصيل عمل (منظمات المجتمع المدني) ووضع قوانين خاصة بها تساهم في ضبطها وتطويرها وتوجيهها حتى غدا عمل هذه المنظمات حقلا معرفيا خاصا تؤلف فيه الكتب وتنشر فيه الأبحاث العلمية.

ثالثا: المجتمعات الإسلامية ومنظمات المجتمع المدني

إن أشكال الإدارة الاجتماعية التي تنتهجها منظمات المجتمع المدني المعاصرة ليست بدعا من حياة البشرية، وإنما هي امتداد متطور لأنساق الإدارة الاجتماعية التي سلكتها التجمعات البشرية منذ آلاف السنين. ولكن ما يميز هذا المجال في عصرنا هو التطور السريع والواسع الذي لحق به كمعظم الحقول المعرفية والإنسانية الأخرى.

باعتبار المجتمع السوري الحالي نتيجة لتفاعل سكان سوريا المسلمين وغيرهم مع الحضارة الإسلامية عبر تاريخها الطويل فإن من الجيد ذكر نشأة العمل المدني في الحضارة الإسلامية.

إن المجتمعات المسلمة التي ظهرت قبل أربعة عشر قرنا من الزمان كانت واحدة من التشكيلات البشرية المعاصرة لها، تتميز بأشكال خاصة من الإدارة المجتمعية كان أكثرها صادرا عن توجيهات الإسلام نحو الحث على عمل الخير وتنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية، وقد ظهرت بأشكال مختلفة حسب المرحلة التي تمر بها الدعوة الإسلامية، إذ بدأت هذه الحركات الاجتماعية بالظهور في دار الأرقم في مكة وفي شعب أبي طالب وفي بيعتي العقبة ثم نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

ولعل أبرز نظم الإدارة الاجتماعية التي ظهرت عند المسلمين وتحولت إلى مؤسسات مستقلة ومركزية في حياة الناس هو (نظام الوقف) الذي شكل عبر تاريخ المسلمين الطويل نواة لظهور منظمات المجتمع المدني المختلفة، ويُروى أن أول وقف في العصر النبوي كان عبارة عن سبعة بساتين تعود إلى مخيريق اليهودي أَوكَل أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل استشهاده في أحد فأمر بوقفها، ومن الأوقاف التي اشتهرت في العصر النبوي بئر عثمان رضي الله عنه التي اشتراها وأوقفها على المسلمين، ووقْفُ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بستانا على الفقراء، ووقف أبي طلحة حديقته الشهيرة بيرحاء. وعلى الطريقة ذاتها انتقل الأمر إلى بلاد الشام وتطور في ظل الخلافتين الأموية والعباسية وما تخللهما من دويلات.

رابعا: ازدهار المؤسسات المدنية في العصرين الأيوبي والمملوكي:

عبر التاريخ الإسلامي نمت مؤسسات الوقف وتكاثرت بشكل مضطرد في ظل معظم الدول القوية التي تعاقبت على حكمه. أما بالنسبة لبلاد الشام فإن العصرين الأيوبي والمملوكي يعتبران قمة ازدهار الأوقاف والمؤسسات الاجتماعية، وقد عرفت في العصر المملوكي ثلاثة أنواع من المؤسسات الخيرية المنبثقة عن الوقف، وهي أوقاف الأحباس وأوقاف الكمية وأوقاف الأهلية، وكانت تشمل أعمالها جميع أنواع البر والخير الدينية والدنيوية، كما انتشرت في دمشق في تلك الفترة ظاهرة وقف البيوت بعد الممات لتستغل كمدارس، وكان من أشهرها “دار الحديث البهائية” التي وقفها الشيخ المسند بهاء الدين القاسم (723هـ)، فانتشرت فيها مئات المدارس ووقفت عليها الأموال والضياع والبساتين والحوانيت، مما أدى إلى ظهور مدارس متخصصة بتدريس أنواع شتى من العلوم([2]).

كما امتلأت البلاد بالمشافي والمؤسسات القائمة عليها، وكانت ثمة أوقاف خاصة بخدمة المسافرين وأخرى للعناية بالمرضى، أو مساعدة الطلبة والإنفاق على مراكز التعليم المختلفة، وقد كان لأمراء المماليك دور كبير في ذلك (ففي عصر الدولة المملوكية (658 – 923هـ) ازدهرت الأوقاف ازدهارا واسعا وتعزز أثرها في المجتمع، إذ تسابق السلاطين إلى الوقف وكذلك الأمراء والأعيان والنساء وأهل الخير من المسلمين، وتعددت مصادر الأوقاف وأوجه الصرف منها حتى شملت جوانب كثيرة من حياة المجتمع آنذاك. وقد اعتنى المماليك بالأوقاف عناية فائقة وأكثروا منها في بلادهم، إلى جانب إقامة كثير من المنشآت التعليمية والصحية والمرافق العامة الأخرى)([3]). وكان للنساء دورهن الواضح في ذلك، (فقد أصبح للنساء نصيب وافر في هذا الشأن وذلك يعود إلى تعدد ثروات المرأة في العصر المملوكي، وحرصها على القيم الإسلامية الرفيعة، مما جعلها تسهم إسهاما كبيرا في أوقاف بلاد الشام)([4]).

خامسا: المؤسسات المدنية في سوريا تحت السلطة العثمانية:

تطورت منظمات المجتمع المدني تحت اسم (الوقف) في ظل السلطنة العثمانية تطورا سريعا تجاوز كل مراحل التاريخ الإسلامي السابقة، وشمل نشاطها جميع ميادين الحاجات البشرية، فساهمت في إدارة المجتمع وضبطه وتخفيف مسؤولية القيام بشؤونه عن السلطة السياسية الحاكمة، ولكن هذا التطور كان في الأقاليم العثمانية الأوربية أوضح منه في الأقاليم الشرقية والعربية، لأسباب كثيرة من أهمها قرب الأقاليم الإسلامية في أوربا وأعالي الأناضول من مركز الحكم العثماني ولوقوعها على حدود الدول الأوربية التي نشأت فيها فلسفات اجتماعية حديثة كان يمكن لها أن تسقط السلطة العثمانية في هذه الأقاليم لولا توجه السلطة المركزية في إسطنبول نحو دعم منظمات المجتمع المدني الخدمية والاقتصادية لتقوم بمواجهة أدوات النظام الغربي الرأسمالي الذي سخَّر الدينَ وعملَ الخيرِ لخدمة رأس المال والسياسة.

يقول عمر النشوقاتي في كتابه “جهود علماء دمشق في رواية الحديث الشريف في العصر العثماني“: (كثرت المدارس في دمشق على اختلاف أنواعها في العصـرين الأيوبي والمملوكي؛ من مدارس القرآن والحديث، ومدارس الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية، وغيرها، واستمر قسم منها في نشاطه في العصر العثماني، وتحول قسم منها إلى مساجد أو زوايا أو دور للسكن، واندثر قسم ثالث بعوامل الزمن. واستولى بعض المتنفذين في أوقات مختلفة على أوقاف المدارس وغيرها، فضعف دورها التعليمي، مما حدا ببعض الولاة الغيورين إلى ضبط الأمور ومراجعة شؤون المدارس. أما ما بُني من المدارس في العصـر العثماني فيُعد قليلا نسبيا، وأشهر المدارس التي بناها العثمانيون التكية والمدرسة السليمانية التي شُيدت أواخر عهد السلطان سليمان القانوني سنة 974هـ، وتُعد أهم المعالم العثمانية الباقية إلى الآن، ومنها مجموعة مدارس أنشأها ولاة دمشق)([5]). وما قيل في المدارس ومراكز التعليم وقع مثله في كل أعمال الخير والمؤسسات المدنية في سوريا وبلاد الشام في تلك الفترة.

 

المبحث الثاني: منظمات المجتمع المدني السوري في العصر الحديث

أولا: المؤسسات المدنية السورية مطلع القرن العشرين:

ورث المجتمع السوري عن العصر الأيوبي والمملوكي الكثير من المؤسسات المدنية التي ساهمت في تطوير المجتمع عبر مئات السنين، وفي ظل السلطة العثمانية تطورت العديد من هذه المؤسسات في المدن الكبرى -إلى حد ما- بينما حل محلها أنواع من الإدارات الاجتماعية العشوائية أو غير المرضية في كثير من الأرياف البعيدة والمدن الصغيرة، فشاع نظام الإقطاع بمآسيه ليملأ الفراغ الذي خلفه ضعف السلطة ومنظمات المجتمع المدني خارج المدن الكبيرة خصوصا في أواخر السلطنة العثمانية.

إثر ظهور النداءات القومية وانكفاء المجتمع التركي على نفسه ورغبة القوميات الأخرى بالاستقلال في أواخر السلطنة العثمانية انحسرت سلطة العثمانيين عن البلدان العربية بما فيها سوريا، فقامت الإدارات المدنية والسلطات الاجتماعية المحلية بما يقع على عاتقها من إدارة للمجتمع وضبطه في فترات الفراغ السياسي.

ثانيا: الوضع تحت سلطة الاحتلال الفرنسي:

لم تكد تتحول الإدارات المحلية السورية إلى سلطة سياسية حتى فاجأها الاستعمار الغربي المجرم الذي عمل على محاصرة هذه المؤسسات لإجبارها على خدمته. وعلى خط مواز قام الاحتلال بتأسيس الكثير من المؤسسات المدنية المناصرة له كانت تتمثل غالبا بمشافي خيرية ومدارس تعليمية ومراكز علمية وصالونات فنية وتجمعات مهنية تحمل ثقافة المستعمر.

أثناء وجود المستعمر الفرنسي تمكنت منظمات المجتمع المدني السوري من الحفاظ على نوع من الاتزان في المجتمع السوري بفضل عراقتها وقدرتها على صناعة التحالفات الحقيقية بين كياناتها من جهة، وبين قيادات المجتمع التي تمثلت في شيوخ العشائر والمخاترة ورؤوس العائلات الكبرى في المدن والأرياف.

حافظت معظم العشائر والعوائل السورية الكبرى على خصوصياتها في ظل الاحتلال الفرنسي، فلم يستطع المستعمر اختراقها إلا في الحدود الدنيا، كما بقيت للمدارس الدينية والمؤسسات الوقفية والمراكز العلمية إداراتها الخاصة، وتمكنت بيوت العبادة المختلفة وعلى رأسها المساجد والكنائس والزوايا والطرق الصوفية، والتجمعات التجارية والمهنية في حلب ودمشق وحمص وحماة وغيرها من الحفاظ على استقلالها إلى حد مقبول، بل وتمكنت من انتخاب ممثلين سياسيين لها في المجالس النيابية المتعاقبة كما تمكنت من إدخال إداريين ووزراء يقومون بمصالحها ومصالح المجتمع في الحكومات المختلفة التي تشكلت في أواخر سني المستعمر أو عقب خروجه.

وبنظرة سريعة إلى خريطة المجتمع السوري في تلك الحقبة نجد تجمعاته ومنظماته المدنية تنقسم إلى أربعة أقسام عموما:

1- تجمعات على أسس مهنية، 2- وأخرى على أسس دينية، 3- وثالثة على أسس قبلية أو إقليمية، 4- ورابعة على أسس فكرية؛ علمانية أو دينية، تشكلت نتيجة اصطدام المجتمع السوري بالثقافة الغربية المعاصرة، وانقسامِ المجتمع بين مناصر للثقافة الغربية الوافدة ورافض لها.

هذه التشكلات الاجتماعية ساهمت -بما فيها من إيجابيات وسلبيات- في بناء الدولة السورية المعاصرة التي نشأت في المدة القصيرة الفاصلة بين الحكم العثماني والاحتلال الفرنسي، ثم أكملت تشكلها في أواخر سني المستعمر الفرنسي وبعد خروجه.

نتجت عن منظمات المجتمع المدني السوري أحزاب سياسية حمل كل منها شيئا من خصوصيات الطبقات التي يُمثلها وأضاف إليها مثلها من المذاهب السياسية والاقتصادية المعاصرة، وقد كان لقانون العمل الذي أقر عام 1946م دور كبير في ظهور النقابات المهنية بشكل منظم يكفل لها حقوقها. واستمر الأمر كذلك حتى حلول الكارثة بالمجتمع السوري، تلك الفاجعة التي تمثلت بوصول حزب البعث إلى السلطة في بلادنا، ذلك الحزب الشمولي الذي أخذ على عاتقه استبدال المجتمع تماما بمجتمع هجين تصنعه مخابر البعث وأجهزته القمعية.

ثالثا: نموذجان من المؤسسات الاجتماعية السورية:

جمعية النهضة العربية:

من الجمعيات التي قامت بدور اجتماعي مهم في أواخر الدولة العثمانية وحقبة الاحتلال الفرنسي (جمعية النهضة العربية) التي أسسها محب الدين الخطيب في إسطنبول عام 1906م، ثم نقل مركزها إلى دمشق وكان من أعضائها الشيخ طاهر الجزائري وجمال الدين القاسمي، وكان هدفها رفعة العرب وخدمة لغتهم، وقد امتد أثرها حتى شمل الوطن العربي كله.

جمعية العاديات:

ومن الجمعيات القديمة جمعية (العاديات) التي أسست عام 1924م تحت مسمى (جمعية أصدقاء القلعة) من قبل رئيسها الشيخ كامل الغزي وبمساهمة من الأب جبرائيل رباط، ردا على قيام الفرنسيين بسرقة المحراب الأثري لجامع نور الدين الزنكي في القلعة، وقد استمر وجودها حتى يومنا وساهمت بقوة في الحفاظ على آثار مدينة حلب وطرازها الثقافي، ولكن نشاطها حُد بتوجهات حزب البعث في الربع الأخير من القرن العشرين ([6]).

رابعا: منظمات المجتمع السوري في زمن البعث:

مع انقلاب البعث انشغل قادته في الصراع الداخلي بينهم الذي امتد إلى إدارات الدولة كلها السياسية والعسكرية والاقتصادية والمدنية، ومع تغول الفريق الإجرامي الذي ينتمي إليه حافظ الأسد عمل على صناعة تحالفات شخصية ومصلحية تمتطي حزب البعث داخل معظم مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وعلى امتداد أكثر من عشر سنين من تسلطهم على مقاليد السياسة والجيش في البلد تمكنوا من فرض سيطرتهم على مجمل مؤسسات الدولة والنقابات المهنية وعلى عدد ليس بالقليل من منظمات المجتمع المدني.

“وذلك أن حافظ الأسد منذ وصوله إلى السلطة أطلق مرحلة جديدة تحت اسم الحركة التصحيحية، كان أهم عناوينها تشكيل جبهة وطنية انضوت فيها معظم الأحزاب السياسية ذات التوجه القومي واليساري واستبعدت منها بقية الأحزاب، كما جعل من حزب البعث حزبا قائدا للدولة والمجتمع في دستور عام 1973م، كما نصبت الجبهة في بيانها حزب البعث رئيسا للجبهة مدى الحياة.

بجعل حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع هيمن على النشاط المدني والسياسي في المجتمع، ورغم أن السنوات الأولى من حكم الأسد الأب شهدت نشاطا مجتمعيا ونقابيا واسعا إلا أنها انحصرت جميعها تحت هذا العنوان وتحولت الجمعيات الأهلية والمنظمات والأحزاب والمؤسسات المدنية إلى أذرع وأدوات للحزب القائد.

ومن المنظمات التي تأسست في عهده طلائع البعث والشبيبة والاتحاد النسائي واتحاد العمال التي هيمن عليها الحزب وجعل أهدافها تحقيق أهدافه وهي الوحيدة المسموح لها بالعمل على قضايا المرأة والشباب والعمال بالإضافة للاتحاد الوطني للطلبة الذي ينظم الحياة الاجتماعية والسياسية لطلاب الجامعات والذي عدل نظامه الداخلي ليصبح نشاطه مقتصرا على حزب البعث العربي الاشتراكي”([7]).

بقيت بعض المؤسسات المدنية خارج السيطرة، فاتخذ نظام الأسد من أحداث الثمانينيات جسرا يصل به إلى أهدافه، فنشر الخوف وبالغ بالتصعيد العسكري واستأصل عوائل وتيارات كاملة قتلا أو تهجيرا، وأعلن حالة الطوارئ المستمرة التي استخدمها لقمع أي حركة تعترض سلطته، وقام من خلالها بتدمير كل من الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني في البلاد، وقد تم له ذلك تدريجيا، فالأحزاب إما ألغيت أو غدت أدوات لتبرير سلطته الجائرة.. وأما الجمعيات ومنظمات المجتمع السوري فقد أصدر قرارات متتابعة حدت من قدرتها على التحرك ليتم إغلاق أكثرها لاحقا ومصادرة أملاكها، أما المؤسسات الوقفية التي كانت معنية بإدارة المساجد ودور العبادة ودعم التعليم الديني ومساعدة أصناف من المحتاجين؛ فقد همشها من الناحية الإدارية والقانونية وسلط عليها رجالاته حتى أفقدها استقلاليتها وأتبعها تماما لسلطة حزب البعث ورجال الدين المؤيدين له.

جمعية النهضة الإسلامية نموذجا:

من الجمعيات التي نشطت في حلب منتصف القرن العشرين وأحدثت نهضة اجتماعية واضحة (جمعية النهضة الإسلامية) التي أسسها تلاميذ الشيخ محمد النبهان طيب الله ثراه، عام 1960م، وقد أُسِّست بقدرات مالية كبيرة شاركت فيها معظم عوائل حلب الغنية، ونشطت في المجال الاجتماعي والإغاثي والتعليمي والصحي والثقافي والفني، فأنشأت العديد من مراكز التعليم المتطورة وواجهت بها مؤسسات التعليم التبشيرية المدعومة من الغرب، واستهدفت نشاطاتها الأطفال والبالغين وخصوصا أبناء الأرياف والأيتام، وكان منها (مؤسسة التدريب المهني للإناث) التي استهدفت تدريب الفتيات اليتيمات على مختلف المهن، كما نشطت في مجال تأسيس المراكز الطبية، وحسب وثائق الجمعية بلغت الأسر التي تعيلها الجمعية عام 1961م (1600) عائلة، وبلغ عدد المستفيدين من خدماتها الصحية عام 1963م وحده (4787) مريضا، وقد أقامت الجمعية معرضا لإنتاجها الفني في حلب عام 1966م ونالت عنه شهادة تقدير المحافظة، كما أقامت معرضا آخر في دمشق. وكان من أعمالها مكافحة التسول ودعم دور العجزة والأيتام بالتعاون مع المؤسسات الحكومية في حلب.

مدارس الكلتاوية بعض ما بقي من نشاط جمعية النهضة الإسلامية

استمر نشاط الجمعية بقوة حتى وفاة السيد النبهان عام 1974م، حيث تم التضييق عليها تدريجيا حتى صودرت قريب عام 1990م ولم يسلم من مؤسساتها الكثيرة إلا بعض المراكز التعليمية المعدودة، وبعض النشاطات الخيرية القليلة([8])، منها مدرسة الإناث المهنية سالفة الذكر، ومدرسة الكلتاوية للتعليم الشرعي، التي أسست عام 1964م في موضع المدرسة التي أسسها الأمير المملوكي طقتمر الكلتاوي (ت787هـ). وقد صودرت أملاك الجمعية، وأغلقت بقرار من نظام الأسد استهدف حينها معظم المؤسسات المدنية حوالي عام 1990م.

المبحث الثالث: منظمات المجتمع المدني السوري بعد الثورة

الواقع والمستقبل

أولا: مؤسسات مدنية تبدأ من الصفر

كانت ثمة العديد من النقابات، والاتّحادات المهنية، والمنظمات الطلابية وغيرها في سورية قبل عام 2011، لكن لا تنطبق عليها صفة “المجتمع المدني” أو فقدت هذه الصفة لاحقا؛ كونها تأسست أو تم إخضاعها للسلطة بموجب سلسلة من القرارات والقوانين التنظيمية بين عامي 1963 و1981م، وأصبحت جزءًا من أجهزة الدولة الشمولية فيما يُصطلح عليه رسميًّا بالمجتمع الاشتراكي، الذي أنهى دور القطاع الثالث في حماية حقوق السوريين من هيمنة القطاع العام وحتى الخاص لاحقا([9]).

قام نظام آل الأسد عبر سني حكمه الطويلة والمظلمة بتدمير شبه كامل للمجتمع عبر تدمير المؤسسات وإفقاد المجتمع القدرة على العمل الجماعي أو التواصل إلا في ظل حزب البعث وفيما يتبع له من فرق وشعب، أو نقابات مهنية تمت السيطرة عليها بقوة السلاح وبطش المخابرات، فكانت الفئة الوحيدة القادرة على العمل الجماعي والممارِسَة للعمل الإداري هي الفئات المنتسبة لحزب البعث، والتي تترقى في سلم الأولويَّات بمعيارين: الأول الولاء المطلق لآل الأسد، والثاني القدرة على ممارسة الفساد.

وإلى جانب تدمير العمل الجماعي وحظره، قام نظام البعث ببث الفرقة بين أبناء الشعب على أسس طائفية أو إقليمية أو عرقية، ثم قام بتدمير العلاقة بين الأفراد عبر نظام الوشاية بالآخرين الذي غدا أقرب طريق لإثبات الولاء للبعث والحصول على امتيازات حزبية أو وظيفية.

مع بداية انطلاق الثورة وجد المجتمع السوري نفسه بحاجة إلى مرجعيات وتجمعات مدنية وسياسية قادرة على صياغة قرارات الثورة في مواجهة فجور نظام الأسد، الذي عمل جاهدا على تقسيم صفوف الثوار وتنويع أشكال الحرب عليهم، ولكن للأسف لم يجد المجتمع السوري في داخله -نظرا إلى الخوف والرعب والملاحقة الأمنية التي عاشها- أي رابطة تجمع أطيافه، فبدأ أبناء كل منطقة يقومون بجهود ارتجالية لإدارة شؤون الثورة عبر التنسيقيات، أو إدارة شؤون المناطق المحررة عبر مجالس محلية مؤقتة.

كان المجتمع السوري يبدأ كل شيء من الصفر، ومع هذا نجح بملء الفراغ الإداري في بدايته، ولكن عدم وجود خبرة عملية بالإدارة أو العمل الجماعي والتخطيط البعيد كان حائلا دون الاستمرار بالقدرة على الإدارة طويلة الأمد التي ألقت بأعباء كثيرة على من يتصدى للقيام بشؤون الناس، مما فتح الطريق أمام الفاسدين من البعثيين القدامى الذين تربوا على المنافع الشخصية والفساد والخداع فاخترقوا كثيرا من مؤسسات المجتمع السوري الناشئة وحولوها إلى مزارع خاصة لمصالحهم ومصالح عوائلهم ومن يلوذ بهم من المتنفِّعين… ولا زال المجتمع السوري يعاني إلى اليوم من كلا الأمرين: 1- عدم القدرة على الإدارة والعمل الجماعي. 2- تسلط عدد ليس بالقليل من المتنفعين والفاسدين المتسترين بستار الثورة على مؤسسات المجتمع السوري في الداخل المحرر أو في المهجر، ولم ينج من ذلك إلا القليل النادر من المؤسسات التي رفدت كوادرها في الغالب بشخصيات سورية تربت خارج بلادنا ومارست الإدارة في مؤسسات عصرية.

إن استمرار منظمات مجتمعنا بالوضع الحالي يعني استمرار أمراض الأنانية والشخصنة وحب الفرقة وكراهية التعاون وسوء الظن ورفض الآخر التي زرعها النظام المجرم في الشعب، ومما يعني بطبيعة الحال استمرار طغيان آل الأسد والاحتلال الأجنبي وعدم وجود أمل في تكتل الشعب السوري على قضيته أو حلها بما يضمن حقوقه.

إن معظم ما نراه من أخلاقيات سلبية في أبناء مجتمعنا في هذا المجال أو غيره يعود إلى نمط العيش الفردي الذي يحكم رؤاهم وسلوكياتهم، وعلاجها يبدأ من تجميع خامات الشعب –وهي كثيرة- في مؤسسات مدنية يمارسون فيها الحياة الجماعية المتحضرة التي ميز الله بها البشر.

ثانيا: تنظيم مؤسسات المجتمع المدني هو الحل

إن علاج الإشكالية السورية يكمن في معالجة الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها شعبنا، فإن كان يرى البعض مشكلتنا سياسية فمن خلال مراقبتي لواقعنا وما يعرض لتشكيلات المجتمع السوري من أحوال أراها مشكلة اجتماعية فكرية وعمليَّة بامتياز، مع عدم نكران الإشكالية السياسية.

فما نعيشه اليوم من إشكاليات سياسية هو نتاج سفالة الواقع الاجتماعي والفكري والعملي الذي تلطخنا به بعيشنا تحت سلطة آل الأسد.  ولو فرضنا مثلا أن المجتمع السوري استطاع اليوم أن ينشئ أحزابا ودخل حياة سياسية حرة ماذا ستكون النتيجة؟ لن تكون ثمة نتيجة حقيقية لهذه الأحزاب لأن المؤسسات المجتمعية التي تمثل حلقة وصل بين السياسيين والشعب غير موجودة.

وهنا أضرب مثلا بالائتلاف السوري المعارض لبيان الحاجة إلى المؤسسات الاجتماعية للوصل بين السياسيين والمجتمع، مؤسسة الائتلاف من حيث هي مؤسسة وظيفية فاقدة للشرعية -في نظر الكثيرين من أبناء الشعب السوري أو أطياف الثورة-، والكثيرون يطالبون باستبداله بأشخاص أصحاب مواقف حقيقية تعبر عن تطلعات شعبنا وحاجاته. وبتقديري فإن السؤال الأهم الذي يجب أن نسأله ما النتيجة لو تم استبداله اليوم؟

الجواب بسيط: سيكون لدينا مجلس أكثر وطنية في تصريحاته ولكنه كالائتلاف الحالي لا يملك شيئا سوى الكلام، لأن المؤسسات الاجتماعية الوسيطة بين الممثل السياسي والفرد غير موجودة أصلا، وهي الوحيدة الكفيلة بتعبئة الشعب خلف قيادته السياسية المستقلة التي ستكفل كسر الجمود الذي يلف القضية السورية.

وكمثال آخر لو فُرض أن الحكومة السورية في المناطق المحررة مُكِّنت من سلطة تامة في شمال سوريا، في ظل العشوائية التي تحكم روابطنا الاجتماعية ماذا ستكون النتيجة؟

الجواب: ستكون لدينا طبقة سياسية ضائعة أو متسلطة لا ترى أمامها مؤسسات مجتمع قادرة على المساعدة أو على المحاسبة والحد من فساد السلطة،. وستكون الصورة بهذه البساطة: (حكومة عاجزة بسُلطة لا محدودة في مقابل شعب متفرق معتاد على الفوضى أو الانضباط بقوة السلاح، في ظل عدم وجود مؤسسات مدنية تتحدث باسمه وتحل قضاياه سلميا وفق القوانين والأعراف).

إن من واجب قادتنا اليوم أن يقوموا بخطوات عملية ومدروسة على طريق إعادة تجميع الشعب السوري وتفعيل الروابط بين أفراده ضمن منظمات مهنية واجتماعية أو فكرية أو عملية أو غير ذلك مما يربط الأفراد ببعضهم البعض. وبدون ذلك فإن أي إصلاح أو بناء للمجتمع على أسس سياسية وحزبية أو عسكرية هو بناء على الماء. فالأرضية الصلبة للدولة والمتمثلة بالمجتمع هي ما يجب العناية به أولا وقبل كل شيء.

ثالثا: تجربة إنشاء روابط مهنية سورية في تركيا

إثر المشاكل التي عانى منها اللاجئون السوريون في تركيا عموما وفي إسطنبول خصوصا عام 2019م، عَرَضْتُ على مجموعة من الناشطين السوريين المستقلين في تركيا والداخل وأوروبا فكرة العمل على إنشاء روابط مهنية سورية، وقمنا بالتحضير للقاء عام يكون كالمدخل لهذا المشروع يجمع شخصيات من كافة النخب السورية تمثل مختلف الشرائح المهنية، وقد عقد اللقاء بنجاح تحت اسم (السوريون في تركيا الإشكاليات والحلول) بتاريخ (17 – آب – 2019م) وشاركت فيه شخصيات من كافة شرائح المجتمع، وكانت كلمة الحضور متفقة على حاجة السوريين في تركيا إلى روابط – تحاكي النقابات – تقوم على أسس مهنية تقوم برعاية المنتسبين إليها، فتكون لدينا رابطة واحدة لكل الأطباء وأخرى للمهندسين وثالثة للمعلمين، ويكون لدينا اتحاد مستقل للطلبة وآخر للعمال، بحيث تكون هذه الروابط الممثل الوحيد للسوريين أمام الحكومة التركية والإدارات الدولية، من خلال مجلس موحد يجمع ممثليها، وفي الوقت ذاته تهيئ داخلها جوا حضاريا يتمثل بالتبادل المنظم للقيادة والتدرب على الإدارة لتتكوَّن لدى أبناء شعبنا فكرة إدارة الدولة بشكل عملي.

مع الأسف لم تحظ هذه الخطوة بالمتابعة لأسباب مختلفة، من أهمها رفض العديد من المنظمات المجتمعية السورية المؤثرة في إسطنبول التعاون مع مثل هذه الخطوة، ومنها فقدان الشباب الطامح الأمل في إحداث تغيير حقيقي لكثرة خيبات التجمعات التي شاركوا فيها خلال السنوات السابقة، ومنها الحديث عن نقابات مستقلة ومهنية غير خاضعة لتوجه سياسي أو لون فكري خاص، مما جعل الكثيرين من القادرين على رعاية هكذا مشاريع يحجمون عن ذلك، إثر الاستقطاب اليميني واليساري الحاد الذي برز في مجتمعنا نتيجة للنكبات التي لحقت بالثورة منذ 2015م.

رغم ذلك وُجِدت خطوتان لتنفيذ هذا المشروع، كانت إحداهما بتنظيم رابطة للمعلمين السوريين، أنشئت وتم التوافق على قانونها الداخلي ولم يكتب لها الظهور إلى العلن لأسباب منها مادية، ومنها ما هو متعلق بأصحاب الشهادات المزورة التي رأت فيها خطرا عليهم، وبعض الشخصيات السورية والتركية التي عمل أصحابها على إقامة كيانات موازية حاولوا من خلالها القيام بخطوات استباقية لإفشال أي مشروع قد يؤثر على مصالحهم الضيقة في مجال التعليم.

أما الخطوة الثانية فتمثلت بقيام مجموعة من الطلبة السوريين الذين شارك بعضهم في لقائنا الأول -الذي كان باسم السوريون في تركيا الإشكاليات والحلول– بإنشاء اتحاد واسع لطلبتنا في تركيا، وقد نجحوا في إنشاء روابط محلية للطلاب في مدن مختلفة ثم قاموا بجمع ممثليها في اتحاد موحد يمثل آلاف الطلبة، وأُعلن عنه بشكل رسمي في احتفال كبير شاركت فيه العديد من المؤسسات السورية، ولكن للأسف لم يحظ بعد الحفل الافتتاحي بدعم حقيقي من المنظمات السورية القادرة على الدعم المادي والمعنوي والإعلامي، مما يجعل الجهود الكبيرة التي بذلت في تأسسيه في مهب الريح.

رابعا: المفاضلة بين التنظيم السياسي والاجتماعي:

توجد العديد من المراكز السورية القادرة ماديا ومعنويا على تأسيس روابط مهنية سورية يمكن لها أن تسهم في تحسين الوضع السوري في تركيا والداخل المحرر، ولكنها مع الأسف تنطلق من رؤى فكرية مجردة لتأسيس وجودها السياسي الذي تود من خلاله خدمة شعبنا، وتغفل عن أهمية الانطلاق من الفئات العمالية والمهنية نحو المشاريع السياسية المرتجاة.

إن المنظمات المدنية هي ما يمثل حلقة الوصل بين الأحزاب السياسية وأفراد الشعب، وبدون هذه المنظمات الوسيطة ستبقى الجهود السياسية الفكرية عبارة عن حبر على ورق، لا يعدو تأثيرها المؤسسين ومن حولهم، لفقدانها أدوات التواصل مع الجماهير، وإذا كانت تسعى إلى إيجاد تأثير سياسي حقيقي لها في الحياة السورية فإن الخطوة الأولى تكون بإنشاء منظمات المجتمع المدني السوري، ثم التنافس بين الأحزاب السياسية على قيادة هذه الروابط وإقناعها بفلسفاتها السياسية ضمن جو من الحرية الذي يضمن للجميع حرية اختيار ما يراه خيرا لمستقبل شعبنا.

بهذه الطريقة يمكن للمنظمات المدنية السورية أن تسهم في تحسين وضع المجتمع السوري في الخارج والداخل وتحرير المدن السورية ضمن الظروف المتاحة، بل والإسهام في صناعة الحياة السياسية العادلة التي افتقدناها تحت سلطة البعث.

خامسا: واقع المنظمات السورية في تركيا:

مؤسسات العمل المدني في تركيا تكاد تنحصر في نوعين؛ الأول: ما قام بمهام جيدة في الحفاظ على الشعب السوري وتثقيفه والعمل على ترابطه، والثاني: مؤسسات لم تَعْدُ كونها منظمات للارتزاق يديرها بعض الذين تربوا على أخلاق البعث وتشبعوا بسلوكياته.

وبنظرة عامة إلى عدد اللاجئين السوريين في تركيا والمهام المتوقعة من قادته وواقع منظماتنا المدنية فإننا بكل أسف نستطيع أن نقول إن منظمات المجتمع المدني السورية في تركيا هي الأضعف والأقل تأثيرا مقارنة بحجم الجالية ومواردها والفرص المتاحة لها.. فلا نرى لدى المنظمات السورية الجهد المتوقع لتحسين الوضع السوري في تركيا والداخل المحرر فضلا عن وضع خطط للتواصل مع أبناء شعبنا في الداخل المحتل ودعم صموده في ظل الإجرام الواقع عليه وسياسة التجويع التي اتبعها النظام الفاسد قبل العقوبات الأمريكية، وطورها بعدها للضغط على الشعب والمجتمع الدولي.

سادسا: محاور أخرى للعمل الاجتماعي السوري:

إلى جانب الروابط والنقابات المهنية التي ذكرت سابقا وعقدت لأجلها اجتماعات كثيرة وصرفت جهود ليست بالقليلة ثمة عدة محاور أخرى يحتاج شعبنا إلى تكثيف الجهد فيها للحصول على نتائج عملية تسهم في عدالة قضية شعبنا الذي تعرض للتهجير والاضطهاد القسري على يد النظام المجرم ودول الاحتلال. وسأذكر بعضا منها:

محور مواجهة التبشير الشيعي والاحتلال الإيراني:

من أهم الملفات التي تعني المنظمات السورية عموما والمتواجدة في تركيا خصوصا ملف مواجهة التبشير الشيعي في المدن السورية الواقعة تحت الاحتلال الإيراني والروسي، فالشعب يعاني الجوع والفقر والمرض والإذلال في تلك المناطق وتقوم المنظمات الإيرانية بابتزازه لإجباره على التشيع، كما تقوم بكفالة الأطفال اليتامى وتنشئتهم على المعتقدات الإجرامية وتجنيدهم ضمن القوات العسكرية الإيرانية الرديفة.

وليس الوضع خافيا في هذا الموضوع فقد كثرت الدراسات التي توصف الواقع المحزن الذي وصلت إليه بلادنا في هذا الميدان، كما كثرت مواقف الشجب والتنديد التي تستنكر ما يقوم به الإيرانيون دون وجود خطوة عملية على الأرض المحتلة.

إن المؤسسات الدينية والخيرية السورية يقع على عاتقها تخصيص شيء من برامجها ومواردها لدعم صمود أهلنا في الداخل المحرر، وإيجاد طرق آمنة لإيصال المساعدات للجهات الدينية المخلصة التي لا زالت تعمل على تثقيف شعبنا في المناطق المحتلة، لتقوم بمشاريع خيرية وعلمية تخفف من حجم المأساة التي يصنعها التغول الإيراني معتمدا على فقدان مراكزنا العلمية أي دعم حقيقي من مثيلاتها في الخارج عموما وتركيا خصوصا.

معظم الجمعيات الخيرية السورية المعنية بالتعليم الديني تقوم بجهود جبارة في ميدان التعليم في الداخل المحرر أو في تركيا، ولعله من الصواب أن تقوم بنقل نصف مشاريعها إلى الداخل المحتل وتنفيذها عبر دعم سري ومدروس للفئات السورية في المناطق الواقعة تحت الاحتلال، بغية مواجهة التبشير الديني الشيعي. وقد قامت بعض المنظمات السورية بخطوات توعوية في هذا الاتجاه منها ما قام به المجلس الإسلامي السوري من إصدار دراسة مطولة من تأليف الأستاذ مطيع البطين بعنوان (الاحتلال الإيراني لسوريا الممارسة والمواجهة) يتضمن توثيقا جيدا للواقع وطرحًا لأساليب للحل، يمكن أن يستفاد منها في خطوات عملية لاحقة.

المنظمات الحقوقية في المجتمع السوري:

التجمعات السورية التي اختصت في مجال العدالة وحقوق الإنسان كان لها أثر واضح في القضية السورية على المستوى العالمي، فمن جهة عرَّفت الرأي العام العالمي على واقع الإجرام الأسدي مدعما بالصور والأدلة والأحكام القانونية، ومن جهة أخرى أمنت محاكمة بعض المجرمين الذين شاركوا بجرائم خطيرة ضد المدنيين، مما دفع دولا عدة للتراجع عن خطواتها للتقارب مع نظام الأسد. وقد حقق التنسيق العالمي بين هذه المنظمات السورية لسنواتٍ عدةٍ نجاحا جيدا عبر دفعها الإدارة الأمريكية نحو إقرار قانون قيصر الذي أوقف جهود الروس لفك العزلة الدولية عن النظام المجرم، وإعادة تعويمه.

ومن المرجو من هذه المنظمات أن تضيف إلى خطط عملها لعام 2021م التحقيق في انتهاكات حقوق اللاجئين السوريين في بعض دول الجوار ورفع دعاوى قضائية ضد المسؤولين أو الإعلاميين الذين ساهموا في خلق خطاب عنصري آذى ملايين اللاجئين الأبرياء، وأزهق أرواح بعضهم. وخاصة في لبنان التي يتعرض فيها أبناء شعبنا لاضطهاد التيارات الموالية لآل الأسد وإيران.

وكما استفادت هذه المنظمات من الوضع السياسي الأمريكي الذي طرأ في فترة ترامب وأمنت إقرار قانون قيصر، فإن أمامها مهمة ليست بالسهلة تتمثل بوضع خطة عمل للقضية السورية ضمن الوضع السياسي العالمي الجديد الذي يتشكل جزء منه بانتخاب جو بايدن رئيسا لأمريكا، مع ما يحمله فريقه من خطط للصدام مع روسيا وتركيا والتقارب مع إيران.

إن الجاليات السورية في الغرب مع ما تملكه من قدرة على التنسيق قادرة على الاستفادة من كافة نقاط الوضع العالمي الجديد وعلى رأسها الخلاف الأمريكي الروسي والمصري الأوربي، والتقارب التركي السعودي، والخليجي الخليجي أو حتى التركي المصري، وواجب المؤسسات المدنية السورية في تركيا يتمثل في التواصل مع المؤسسات الأخرى الموجودة في أوربا وباقي دول العالم والتنسيق معها بدل العزلة عن الآخر، أو التخندق خلف الخلافات الدولية والابتعاد عن بوصلة القضية السورية.

منظمات رعاية المعتقلين السوريين:

المحور الثالث المكمل لقضايا العدالة هو محور السجون، فقضية المعتقلين السوريين لدى نظام الأسد أصبحت واضحة للعيان، أمام الشعوب وفي المحافل الدولية، والمرحلة التالية في هذا الاتجاه ينبغي أن تتمثل في تحويل هذه الجهود إلى واقع عملي، عبر التفاوض من خلال الأمم المتحدة مع نظام الأسد على تبييض السجون مقابل تخفيف العقوبات المفروضة عليه، أو مقابل استمرار أعمال مبعوثي الأمم المتحدة التي يجد نظام الأسد من خلالها وسيلة للتواصل مع الخارج.

ثمة الكثير من المنظمات التي تعنى بشؤون المعتقلين وذويهم، ومن الضروري جمعها تحت سقف واحد ووضع خطة عمل يشارك فيها الجميع تهدف إلى إثارة رأي سوري موحد يجعل مسألة تبييض السجون شرطا أساسيا لأي خطط تطرحها الدول الكبرى للتفاوض أو المشاركة في الحلول المطروحة للقضية السورية.

هذه بعض المحاور التي يمكن أن يجتمع عليها أبناء شعبنا وتعمل عليها المنظمات المدنية إن توفرت على تنسيق جاد وتخطيط حقيقي طويل الأمد.

 

خاتمة في أركان العمل المجتمعي

لمنظمات المجتمع المدني ثلاثة أركان رئيسية تقوم عليها وهي: 1- الفكر والتخطيط السليم 2- الإرادة الحقيقية لتنفيذ الخطط 3- الدعم المادي لإقامة المشاريع.

في نقاشاتنا الطويلة حول الواقع المتردي لمنظماتنا الاجتماعية في تركيا كثيرا ما ينسب الفشل إلى الجانب المادي، وهذا ليس السبب الوحيد كما يتوهم كثيرون، فقد جاءت أموال كثيرة في سنوات الثورة الأولى من أصدقاء الشعب السوري ومن أبنائه الأجواد، وصُرف كثير منها بشكل عشوائي لعدم وجود الفكرة المنتجة والمؤسسات المنظمة القادرة على توظيف المال بشكل صحيح.

نعم في السنوات الأخيرة تعاني المسألة السورية من ضعف التمويل فقد اشتد الفقر وزادت المتطلبات وقلت السيولة، وأعرف أناسا أفرغوا كل مدخراتهم النقدية وأرسلوها لتوزيعها على المحتاجين، ونساء بِعن ما يملكن من ذهب وتصدقن بثمنه على الفقراء وآخرين وأخريات، وعرفت عاملين في مجال الإغاثة، يقفون أمام مشهد مؤلم وليس في يدهم مورد للمساعدة فيقسمون ما في جيوبهم من أموالهم الشخصية بينهم وبين المحتاجين، أو يبقون بلا شيء.

نأمل أن تتحسن الأوضاع، لكن إن تحسنت الموارد المالية ولم تسبقها الفكرة والجسم العملي الذي ينفذها فلن يجد المال مصارفه الصحيحة، إن الأولوية اليوم تكمن في إنشاء الأجسام المدنية التي يحتاجها شعبنا، فوجود الفكرة الصحيحة والإرادة القوية قد يصنع المال وإن لم يستطع فإنه يعمل ضمن الجهود التطوعية الممكنة، أما إن وجد المال ولم تسبقه فكرة وإرادة حينها تكون الكارثة، يتصدر اللصوص وغيرُ الأكفاء، وتضيع الأموال التي يمكن أن يكون من دفعها حرم نفسه وعائلته ليقدم خيرا لأمته وشعبه.

فالفكرة الصحيحة أولا والإرادة ثانيا، وأخيرا المال، وقد علمتنا سنوات الثورة الطويلة أن الفكر السليم والإرادة الصلبة إذا اقترنا يصنعان الحلول ويصنعان المال، ولكن المال مهما كثر لا يصنع فكرة ولا يولد إرادة.. كما علمتنا أن الحلول التي لا نصنعها بأيدينا لا يمكن أن تكون أبدا لمصلحتنا.

([1])  انظر مجلة (غليمبس/ومضة) كانون الثاني/2020 – لمحة تاريخية عن المجتمع المدني السوري ص (25) وما بعدها

([2])  (الوقف الإسلامي في العصر المملوكي  لسهاد نصيف جاسم) مجلة جامعة تكريت للعلوم الإنسانية المجلد 25 العدد 1 كانون الثاني 2018م. باختصار ص (514- 524)

([3])  انظر أوقاف النساء في بلاد الشام وأثرها في الحياة العامة خلال العصر المملوكي (658_623هـ /1359_1517م) ص (8)، وانظر  حمود بن محمد النجيدي – الموارد المالية لمصر في عهد الدولة المملوكية الأولى، ص (111-113)

([4])  المرجع السابق، ولتفاصيل أكثر انظر المرأة في بلاد الشام خلال العصر المملوكي لهنادي بنت إبراهيم أبو خديجة.

([5])  جهود علماء دمشق في رواية الحديث الشريف في العصر العثماني، ص 32 – 33.

([6])  للاستزادة انظر موقع التاريخ السوري المعاصر على الشبكة – قسم الحياة الاجتماعية.

([7])   موقع الأيام – تاريخ منظمات المجتمع المدني في سوريا

([8])  كتاب السيد النبهان – الشيخ هشام عبد الكريم الألوسي ج1 ص 195 وما بعدها

([9])  جسور- دراسة بعنوان تجربة المجتمع المدني السوري