الكاتب: د.محمد العبدة – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
هل صحيح أننا وبعد مئة عام من الحديث عن النهضة وعن التقدم، ما زلنا نراوح مكاننا، وكأننا لم نبدأ، وكأننا لم نكتب ولم نحاضر، ولا أقمنا المؤسسات، ولا أسسنا الصحف والمجلات، ولا نظمنا الجمعيات والجماعات، وأن ما كان يعانيه رشيد رضا من تفرّق المسلمين وضعفهم ما زال هو هو، وما كان يقاسيه الكواكبي من الاستبداد زادت حدته، وإذا كان المقصود من كتاباته السلطان عبد الحميد، فأين نحن الآن من عبد الحميد؟ وفي أسلوب الدعوة لم يحصل التجديد المطلوب في نوعية الخطاب أو طريقة الخطاب، وقد كانت بعض البلدان العربية دائنة لقوة اقتصادها فأصبحت مدينة من كثرة ما تستورد من مأكول وملبوس، وكانت الأميّة متفشية قبل الحديث عن النهضة وما زالت، أي أن المطالب الكبرى التي كانت تطلب ما زالت هي المطالب اليوم، سواء مطلب تطبيق الشريعة أو الحديث عن الحرية السياسية أو التحرر من التسلط الأجنبي.
وإذا نحن نرى أنفسننا وكأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا ولا يزال ينزل، وأشد النكبات التي يصاب بها البشر نكبة الغفلة” (1) منذ سقوط الدولة العثمانية وواقعة الاتصال بالغرب والتعرّف على حضارته وعلومه لم يهدأ التوتر الثقافي، وأدّى إلى بروز الصراع بين تيارين رئيسيين:
تيار التغريب والالتحاق بالحضارة الغربية، وتيار التشبّث بالهوية الحضارية للأمة الإسلامية؛ ليكون لهذه الأمة انتماء ووجهة تولّيها وبوصلة ترشدها. فشلت في هذا الصراع كل محاولات القطيعة مع الهوية والابتعاد عن الجذور؛ فشلت القومية العربية وكل أشكال اليسار. والذين استبعدوا الإسلام كعقيدة وثقافة، ما لبث بعضهم أن عاد مادحاً للإسلام وفضله على المجتمع وعلى الناس جميعاً. ولكن السؤال الذي تردد سابقاً بقي كما هو:
لماذا هذا التأخر في الاقلاع، وهذا البطء في طريق النهضة الشاملة. ولماذا هذه المراوحة التي تعيق أي جهد يبذل للنقد والبناء؟ ولماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟ (2) ولماذا لم يدرس هذا الموضوع دراسة علمية منهجية؟
كانت الإجابة عن هذه الأسئلة أن قامت محاولات جادّة ومشاريع نهضوية، ولكنها كانت جزئية، هي خطوات على طريق الإصلاح نجح بعضها أو نجح في فترة معينة، وتوقف آخر، وكل مشروع ركز على بعض عوامل التحضّر وأهمل العوامل الأخرى، أو غفل عنها، قامت جمعيات وجماعات، وظهرت أعمال فردية قوية، ولكن لم يقم مشروع كبير، يستثير طاقات الأمة كلها.
والذين يؤرخون لبدايات النهضة يذكرون أسماء معينة ومشاريع معينة، وقد نختلف معهم في هذه الرؤية، ولكننا سنتابع الترتيب الزمني الذي يذكرونه:
كل هذه المشاريع والأطروحات وغيرها مما لم تذكر (لأننا لم نقصد الاستقصاء الشامل) كانت خطوات على الطريق، يجب أن يستفاد منها، ولكن الأزمة التي يواجهها المسلمون أزمة كبيرة لا ينفع معها الحلول التوفيقية والتلفيقية ، فالبرامج لم تكن برامج عملية ذات محتوى تفصيلي جاهزة للتطبيق بل كانت تحوم حول العموميات، وقد آلت بعض الشعارات التي تدعو إلى النهضة إلى الضد من أهدافها ، فالشيخ محمد عبده انتهى إلى القول بمبدأ (المستبد العادل) والحريّة قد تؤول إلى التفلّت، فالطهطاوي تحدث عن باريس ومراقصة الرجال النساء بإعجاب، واصفاً إياها بالنظافة والخلو من أي معنى من معاني الفحش، والكواكبي الذي تحدث طويلاً عن الاستبداد وآثاره المدمرة وصل إلى التفريق بين الدين والدنيا، يقول: “دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة “( 7 ).
نحن بحاجة إلى تشخيص الواقع والنفاذ إلى أعماق المشكلة والوصول إلى أصل الداء، فإذا قلنا أن من أسباب التخلف الاستبداد ، فإن السؤال يعود ما هو سبب قبول الاستبداد من الفرد أو المجموع ؟ وأين التكيّف بين الايمان والإرادة فكراً وعملاً حتى لا يقبل الفرد الاستبداد، كما وضع مالك بن نبي مصطلح (القابلية للاستعمار) لماذا تقبل الشعوب الاستعمار، وإذا رُفع شعار الحرية، ولكن الإشكال يبقى: ماهي عناصرها التي تغطي مجالات الحياة المختلفة؟ وأين الضوابط التي تضبط تلك العناصر؟ لأن الحرية إذا أطلقت هكذا دون تفصيل وضوابط تصبح خطيرة على المجتمع والدولة، كان الشيخ محمد عبده يرى أن العلّة الأساسية هي الجمود، ولكن هذا عرض للمرض، والسؤال ما هي العوامل التي أدت للجمود؟ كان أصحاب الغيرة من المصلحين يترنّمون بمجد الإسلام ويتحرقون شوقاً لإحيائه، ولكن لم يبحثوا عن العزائم التي خارت لماذا خارت.
لا بد إذن أن نرجع إلى النفسية الفردية للمسلم وما الذي أصابه من داخله (8) حتى أصبح غير فعال في أعماله ، فقد يكون صالحاً في شخصه ولكنه غير مصلح اجتماعياً وحضارياً. لا بد أن نرجع إلى الحضارة الإسلامية كيف قامت وعلى أي الأسس؟ لا شك أنها قامت على أساس الدين والعقيدة الايمانية ، وإن العامل الذي ولّد تلك الحضارة في عصورها الذهبية هو العامل التربوي الذي كون الفرد في تفاعل وتكامل ما بين هذه العقيدة وأمور الواقع في الحياة الدنيا، والعقيدة السليمة تنتج آثارها في الخلق والسلوك ، فعندما يتكون الفرد ايمانياً يسري ذلك على كل مظاهر العمران والحضارة، فلما حصل الابتعاد عن آثار هذه العقيدة بسبب الإغراق في حب الدنيا والإنحراف عن مسلك الإخلاص والاستقامة وأصبح المسلم مقسم الشخصية فمن جهة هو يحب هذا الدين ويريده ، ومن جهة أخرى غلب عليه حب المال أو الرئاسة أو العصبية الجاهلية والتقلب في الشهوات والملاذ كما يعبر ابن خلدون، عندئذ خارت الإرادات الاعتقادية البناءة وظهر الانفصال بين العلم والعمل، بين العقيدة والسلوك وضعف الوازع الديني عن التأثير في السلوك، وابتعد عن أن يخلع من روحه على النهضة ( 9 )
المطلوب هو مشروع متكامل يجمع أهل العلم وأهل المال وأهل الإدارة والاختصاص، ويقوم بتفعيل دور مؤسسات الأمّة وعلى رأسها مؤسسة العلماء، فالأمّة الإسلامية أمّة متدينة والعلماء هم القادة الذين يرجع الناس إليهم، وخاصّة العلماء الربانيون الذين يلون أمور الناس ويصلحون أحوالهم ويجمعون إلى العلم البصر بالسياسة، يؤازرهم في ذلك طلبة العلم والمشايخ، فهؤلاء هم المكلّفون بنشر العلم على جميع طبقات الأمة، ومن واجبهم حماية الأمن الثقافي للمجتمعات الإسلامية. وقد قصرت في هذا المضمار الجمعيات والمشاريع الإحيائية في إبراز هذا الدور الكبير للعلماء كما أن الدور الأكبر لإزاحة العلماء عن التأثير كان مما قامت به الدولة الحديثة التي جاءت بعد الدولة العثمانية وبتأثير من الغرب وتم إضعاف الأزهر في مصر والزيتونة في تونس.
المشروع المتكامل يشمل كل مناحي الحياة التي لابد منها للإنسان، يشارك فيه الجميع ويستفيد من كل الطاقات، ويلتف حوله المخلصون، فهناك شرائح كبيرة من المتعلمين ذوي الكفاءات العالية ومن أهل الذكاء والخبرة يجب أن يستفاد منهم، وهم جاهزون تواقون للمساهمة في مشروع كبير للخروج من هذا المأزق، ويشارك فيه أيضاً رجل الشعب الذي يتمتع بالبداهة الصادقة ويرى الأشياء بنور قلبه ، فالجماهير غير ميالة كثيراً للتأمل والمحاكمات العقلية، ولكنّها مؤهلة للانخراط في الممارسة والعمل، لقد افتقدوا القيادة منذ زمن، وعندهم استعداد للتضحية إذا وجدوها.
الرجوع إلى الماضي هو المهماز الذي يساعد على النهضة ويدفع للمستقبل ” فالذي يتملّك الماضي يتملك المستقبل أما الذي يمسك بالحاضر فحسب فهو من أهل الماضي” (10) نستفيد مما سبق من الخبرات والتجارب المتراكمة، وهي كثيرة على المستوى الفردي أو الجماعي، وندرس بحيادية وموضوعية الأخطاء التي وقع فيها السابقون، ونقوّم ونسدد ونقترح الطرق الصحيحة. لقد استوعب القرآن الوحي السابق وأضاف وأكمل الدين وختم الرسالات، قال تعالى: ” يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ” النساء / 26 واستوعب الإسلام الأشياء الحسنة والأعراف الحسنة التي كانت قبل ولم يقصها أو يبترها ووضعها ضمن منظومة أخلاقية واحدة .
في الأمة مخزون حضاري يملك من المقوّمات ما يساعد على النهوض، هذا المخزون قد لا يراه الناظر لأول وهلة، فالذي يطفو على السطح لا يشير إلى هذه المقومات ولكن في العمق هو ايجابي، الأمة تنتظر مشروعاً ريادياً تنتعش به الآمال وتعود الروح قوية، والعزيمة بنّاءة.
_________________________________________________________________
1 ــ محمود محمد شاكر : تقديم لكتاب في مهب المعركة لمالك بن نبي / 10
2 ــ أجاب عن هذا السؤال الأمير شكيب أرسلان في كتاب صدر بهذا العنوان .
3 ــ عبد القادر المغربي : جمال الدين الأفغاني / 8
4 ــ انظر : عبد المجيد النجار : مشاريع الإشهاد الحضاري ، وهو الجزء الثالث من كتابه عن النهضة
وذلك حين تحدث عن الإحياء الايماني .
5 ــ نصحهم الشيخ : أبو الحسن الندوي أن يؤجلوا موضوع السياسة قليلاً
6 ـ انظر بحث: حتى لا تستلب الجهود الإسلامية للكاتب، دار الصفوة – القاهرة.
7- عبد المجيد النجار : مشاريع الإشهاد الحضاري .
8 ــ وقد أشار المفكر الجزائري مالك بن نبي الى هذا الموضوع في كثير من كتبه .
9- انظر : الفاضل بن عاشور : روح الحضارة الإسلامية .
10ــ أحميدة النيفر : لماذا أخفقت النهضة العربية / 74