الكاتب: الدكتور عبد الكريم بكار – عضو أمناء المجلس الإسلامي السوري
إشكالية العلاقة:
عالم العلاقات هو عالم التعقيد والالتباس والغموض بامتياز، ومن ثم فإنه لم يكن من المستغرب وجود ذلك الجدل العريض حول علاقة الدين بالسياسة، ومدى ما بينهما من تطابق وتمايز.
ومن الواضح أن التعقيد الذي نلحظه في العلاقة بين الدين والسياسة موجود في العلاقة بين الدعاة وأهل العلم الشرعي وبين السياسيين أيضاً، وهذا طبيعي، فالاختلاف في الرؤى والمنهجيات والأسس لابد له من أن ينعكس على ممارسات ومواقف المختلفين فيها، وهذا ما نلمسه بوضوح اليوم.
وسوف أعرض لحيثيات العلاقة بين الدين والسياسة عبر المفردات التالية:
شمولية أحكام الشريعة:
رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة، ودعوة النبي دعوة عامة لكل من تبلغه في أي زمان وأي مكان على هذه البسيطة، كما أن المطلع على الجوانب المختلفة للشريعة، لا يشك في شمول أحكام الإسلام لكل جوانب الحياة، ومن ثمَّ فإن من الطبيعي جداً أن يقال في تعريف الخلافة إنها “الإمامة موضوعة لخلافة النبي في حراسة الدين وسياسة الدنيا »وهي عند ابن خلدون: «خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به” وذلك التدبير يستلهم روح الشريعة، وينضبط بمقاصدها وأحكامها وآدابها.
بين السياسي والفقيه:
للدين ثوابته وقطعياته الواضحة، وهناك اجتهادات لعلماء الإسلام في الفرعيات والجزئيات، أملاها وجود عدد كبير من النصوص الظنية في ثبوتها ودلالتها، كما أملاها ما نعرفه من أن الفرعيات هي مناط الخلاف وليس الكليات، وهذا واضح، أما السياسة، فإنها تقوم على المصالح ورعايتها والعمل على تحقيقها، كما أنها تقوم على درء المفاسد والعمل على التقليل منها قدر الإمكان، ولهذا كانت السياسة هي فن الممكن، وبما أن القائمين على الحكم في أي بلد يرون ويلمسون ما لا يلمسه غيرهم من البعيدين عن المجال، فإن من الطبيعي أن يرى السياسي من المصالح والمفاسد ما لا يراه الفقيه والداعية، وهذا عند افتراض النزاهة وحسن النية، ومن هنا فإن من المألوف أن يكون لدينا نوع من التباين الواضح بين مواقف السياسيين ومواقف الشرعيين في كثير من المسائل والقضايا.
السياسة والأخلاق:
نستطيع القول: إن هناك تلاحماً قوياً للغاية بين الأخلاق والسياسة، إذ إن ما يحمله السياسي من قيم ومبادئ وتوجهات يدفعه إلى سد الفراغ القانوني والنظر إلى المصالح والمفاسد بطريقة تنسجم مع قيمه ومبادئه … أي إن لدى السياسي مرجعية عقدية أو أخلاقية تتحكم في الكثير من تصرفاته، ولهذا فإن السياسي الذي يخاف الله تعالى والسياسي الذي نشأ على الاستقامة والنزاهة يحاول تدبير الشأن العام على نحو يرضي الله تعالى ويُريح ضميره، وحين يصل إلى السلطة شخص انتهازي أو ميال إلى السيطرة والاستبداد بالرأي، فإنه سيستخدم إمكانات الدولة والأدوات التي بين يديه في تحقيق رغباته ونزعاته بطريقة من الطرق، وهذا يعني أن الفصل المطلق بين الدين والسياسة أو بين الأخلاق والسياسة هو فصل وهمي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. لا شك في أن الدول الحديثة قد وضعت من القيود والإجراءات ما يحول على نحو كبير دون )شخصنة الدولة( لكن الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها رأس الهرم السياسي تمنحه دائماً الفرصة لتسيير بعض شؤون الدولة وفق رؤيته الأخلاقية وميوله الشخصية.
محذوران مهمان:
لدى كل مسلم صالح رغبة قوية في أن يرى مبادئ الإسلام وأحكامه سائدة في كل مجالات الحياة، وعليه أن يسهم في تحقيق ذلك بكل وسيلة ممكنة ودون ملل أو كلل.
لكن لا بد من الإشارة إلى شيئين مهمين:
الأول: هو أن على الإسلاميين الحذر كل الحذر من أن يفسر الناس حرصهم على تطبيق الشريعة على أنه نوع من النهم إلى الوصول إلى السلطة والتحكم برقاب العباد، إذ يصعب على الناس التفريق بين راغب في السلطة من أجل تطبيق الشريعة وبين راغب فيها من أجل المنفعة الشخصية، و إن الخبرات السياسية لشعوبنا تحفزهم على الفهم الأول، وهذا يؤدي إلى استنفاد الرصيد الشعبي لأهل الخير بسرعة مذهلة، وعلى النحو الذي حدث في بعض الدول العربية!.
الثاني: هو ضرورة ألا يمنح التزامُ أي مواطن وتدينه الشخصي سلطةً استثنائية ليست لغيره، لأن هذا يُسيء إلى الشخص، ويؤذي معاني )المواطنة( إيذاءً شديداً، إن من المهم الفصل بين النفوذ الذي يمنحه التدين لصاحبه في المجال الدعوي والتجاري والاجتماعي وبين النفوذ في المجال السياسي، ونحن كما نقول بأهمية الفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية علينا أن نعمل على الحيلولة دون استثمار المكانة الدينية لأي مواطن في المجالات السياسية، أو المالية، فهذا يفسده ويُفسد النظام السياسي أيضاً.
لكن لا بد من الإشارة إلى شيء مهم، هو أن تقلد الوظائف الحكومية لا يحتاج إلى المهارة والكفاءة فحسب، وإنما يحتاج إلى النزاهة والأمانة أيضاً، ولكن يجب أن يكون هذا منضبطاً بقانون عام وصارم.
بين الإخلاص والقوة:
تقوم الدعوة والقضاء والفتيا وكل الشؤون والأعمال الدعوية والدينية على الإخلاص والتقوى والورع أولاً وعلى المهارة والكفاءة ثانياً، أما أمور الحكم والسياسة والإدارة فإنها تقوم على القدرة على تحقيق مصالح الناس وتدبير أمورهم وإقامة موازين العدل بينهم أولاً، ويكون الصلاح والورع ثانياً.
وقد قيل للإمام أحمد رحمه الله: رجلان يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يُغزى؟ فقال: «أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه للمسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر .
وفعل النبي كان صارماً في هذا، فهو يولي على كل عمل من يستطيع تحقيق مقاصده، ولهذا فقد ولى خالداً قيادة الجيش بعد مدة قصيرة من إسلامه، وحين طلب أبو ذر منه الولاية على بعض الأعمال، قال له: “يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها “.
إذن هناك موازنة دقيقة في مسألة اختيار الحكام وكبار موظفي الدولة فالأصلح للوظيفة هو الذي ينجح في عمله، ويؤديه ببراعة وتفوق حتى يخدم الناس على الوجه الأكمل، وحتى يصير لدى الدولة قوة ومنعة وتماسك في وجه المحن، وهذه النظرة الفاحصة تكسر حدة اختيار الرؤساء والمدراء على أساس عقدي أو سلوكي، وفي هذا خير عظيم، لكن الذي أود التأكيد عليه في هذا السياق هو أن الاستقامة المالية تساوي في أهميتها الكفاءة والقوة لأن الفساد الإداري والمالي هو الجرثومة التي تفتك بالعالم النامي اليوم.
الاجتهاد في الدين والسياسة:
لعلّ من الفروق الكبيرة بين الدين والسياسة تباين مساحة الاجتهاد بينهما، إذ إن من الواضح أن مساحة الاجتهاد في الأمور الشرعية أضيق بكثير من مساحة الاجتهاد في المجال السياسي، وهذا يعود إلى عدد من العوامل، منها أن النصوص في مجال العقائد والعبادات والمعاملات والآداب وفيرة، وهذا يجعل خيارات الطرح أقل، فمن المعلوم أن أقسام الحكم التكليفي خمسة: الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والمُباح، ولو تأملنا في اختلاف الفقهاء في مصارف الزكاة أوفي الطواف أو عقد الوكالة مثلاً لوجدنا أن من النادر جداً أن تتعدد مواقف الفقهاء تجاه أي مما ذكرت حتى تبلغ الخمسة، فالنصوص تمنع من ذلك في أغلب الأمر، ومعظم ما يدور من خلاف هو بين الإباحة والكراهة أو بين الإباحة والاستحباب، وقد يدور بين الحرمة والكراهة أو بين الاستحباب والوجوب.
لكن الشأن السياسي ليس كذلك، لأن الآراء المتداولة في أي قضية سياسية ناتجة من التحليل وتقليب وجهات النظر، واختلاف زوايا الرؤية ومدى اطلاع السياسي على المعطيات والحيثيات المتعلقة بالقضية موضع البحث.
وإن من يلقي نظرة عجلى على المقالات التي كُتبت حول القضية الفلسطينية أو حول الحرية أو العدالة الاجتماعية أو الشرق الأوسط الجديد… يجد عشرات الآراء والتحليلات التي تتطابق في بعض الجزئيات وتتفاوت في جزئيات أخرى، ويترتب على التباين الكبير بين مساحة الاجتهاد في أمور الدين ومساحة الاجتهاد في الأمور السياسية والاجتماعية الكثير من سوء الفهم والكثير من النزاع بين الفقيه والسياسي، وهذا أحد أهم أسباب النفور التاريخي بين الفريقين.
الفقيه يريد للسياسية أن تكون أكثر انضباطاً، ويريد من السياسي أن يكون أكثر التزاماً ودقة في تعبيراته وفي مواقفه السياسية، أما السياسي فإنه يضيق ذرعاً بقيود الفقيه ومحدداته، ويتهمه بعدم فهم تعقيدات المشهد السياسي وعدم إدراك حساسياته على النحو المطلوب.
والحقيقة أن على السياسي المسلم أن يدرك أنه لا بد من العمل من أجل البقاء في المسار العقدي والفقهي العام، لأن مهمته هي خدمة الناس وتدبير شؤون العيش، إلى جانب نشر المبادئ والقيم والفضائل الإسلامية وترسيخها في الحياة العامة، كما أن على الفقيه أن يدرك أن السياسة تقوم على تقدير المصالح والمفاسد، كما تقوم على الاجتهاد في تحقيق خير الخيرين، ودرء شر الشرين، بالإضافة إلى أن السياسي كثيراً ما يواجه ضغوطاً خارجية وداخلية تدفعه إلى إيثار حل من الحلول أو موقف من المواقف غير المُرضية حتى لا تقع البلاد في أزمة عاصفة لا قِبَل لها بها.
الخلاصة:
نحن نحتاج إلى تأسيس وعي اجتماعي بخصوصية مسارات الفتيا والقضاء والدعوة ومسارات الإصلاح السياسي والاجتماعي والحضاري عامة، حيث إن فصل السياسة عن الدين شيء خاطئ وغير ممكن، كما أن الاعتقاد بأن ساحة الاجتهاد في أمور الدين مفتوحة وواسعة كما هو شأن ساحة العمل السياسي، اعتقاد غير صحيح، فالفقيه مقيد بأصول الاجتهاد__واحترام النصوص والإجماع، كما أن الاعتقاد بأن على السياسي أن يراعي كل النصوص ويمضي على مدلولاتها كما يفعل الفقيه أيضاً اعتقاد غير صحيح، فالسياسي كثيراً ما يلجأ إلى التدرج في الإصلاح حتى لا يفشل مشروعه على نحو كامل، كما فعل عمر بن عبد العزيز حين تدرج في إصلاح رعيته، وقد كشف عن ذلك بقوله لابنه عبد الملك: إني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة