الكاتب: د. محمد العبدة – عضو المجلس الإسلامي السوري
يروى عن الإمام مالك رحمه الله قوله: ((إن العلم إذا مُنع عن العامَّة لم ينتفع به الخاصَّة)) قال ابن الحاج مفسراً وشارحاً لهذه العبارة: “أن يُحرَم الخاصَّةُ فوائدَ العلمِ لأنَّ استئثارهم بالعلمِ يورثهم الكِبرَ والخيلاءَ فيُحرمون منه، أو يُحرمون ثواب العلم، لأن الثواب يكثُرُ بانتشاره”.
هذا الفقه من الإمام مالك هو ما كان عليه العلماء السابقون ، كان لهم عناية بعموم الناس ونشر العلم في صفوفهم وتهذيب أخلاقهم وعاداتهم. فالإسلام ليس ديناً لصفوة من البشر بل جاء للناس كافة، ولكن ومع الزمن بدأت النظرة إلى من يسمونهم (العامة) تميل إلى نوع من التعالي، وأنه لا فائدة من العوام، وأنهم غوغاء.. متقلبون.. وعُومل المجتمع الإسلامي على أنه متلقٍ وحسب ولم يعامل على أنه يمكن أن يكون فاعلاً مشاركاً للنخبة.
والحقيقة أن هذه (العامة) التي لم تعط الاهتمام الكافي، ولم ينظر إليها النظرة الصحيحة هي تدرك كثيراً من الأمور بفطرتها السليمة، وهي تميز بين ما ينفعها وما يضرها، بين من يُحبها ومن لا يهتم بها. ورحم الله الشيخ محمود محمد شاكر فقد كان للعامة عنده اعزازٌ كبير، يقول “إذا حُرموا من التعليم، فإنهم قد نجوا في أحيان كثيرة من أن يصبحوا أدوات تدمير لأمتهم ” وهو يغمز من الذين يسمون أنفسهم (مثقفين) وهم تغريبيون يدمرون أمتهم بمحاربة عقيدتها وثقافتها.
وسوف نجد أيضا في العصر الحديث مُصلحاً مثلَ الشيخ طاهر الجزائري يهتم بتثقيف العامة لأنهم برأيه ” أطوع للحق من كثير من أدعياء العلم والمنتفعين بالدين، خاصة إذا اتَّبع المصلح الحكمة في دعوتهم وإعطائهم من العلم ما تُطيقه عقولهم” ويقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: ” إنَّ رَجُلَ الشعبِ يُمارس الأفكار بقلبه وعقله معاً، بينما لا يقرأ المثقف عندنا إلا بعقله ، فرجل الشعب يتمتع بالبداهة الصادقة لأنه يرى الأشياء بنور قلبه” وفي تاريخنا الإسلامي كان للعامة دور كبير في مقاومة الأعداء ، والمؤرخون لايحدثوننا بما فيه الكفاية عن الجهد الذي قامت به جماهير المسلمين في مصرَ والشَّام خلال الصراع مع الصليبيين ،ألوف المتطوعة كانوا دائماً حاضرين في كل صراع .
إن أول عمل لصالح أمتنا هو الأخذ بيد أفرادها حتى يتعلموا ويتعودوا على التفكير السليم، أي حتى يكشفوا عن عقولهم تلك الحُجُبَ الكثيفة التي رسَّخها الجهل أو الدجالون من أدعياء العلم، وإن النخبة من العلماء وكذلك أهل العلم من أصحاب الاختصاصات الأخرى هم المكلفون بالاختلاط بعامة الشعب وبث العلم والوعي بينهم، مثل مادة تدخل الدم عن طريق نقطة صغيرة، ثم تطوف أنحاء الشرايين بسرعة وتدريجيا تصل إلى كل الخلايا.
إن عامة الشعوب العربية والاسلامية تحب الشجاعة، ولكن كيف تصرفها؟ هل تصرفها على الفخر والاعتزاز بما لا يرضي الله أم يجب أن تربى على أن تكون في سبيل مبدأ وعقيدة، في سبيل الله. وهذه الشعوب تحب الكرم، ولكننا نراهم يبذلون المال في غير محله أو في أمور لا قيمة لها. فتتوجه التربية إلى وضع هذه المحاسن في موضعها الصحيح. يقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله: “فللإصلاح شرطان: استعداد الأمة لقبوله، والزعيم الداعي إليه من طريقه الطبيعي مع الكفاءة والاضطلاع، فإذا كان القوم غير مستعدين لقبول الإصلاح، فإنما يشتغل بالسعي في إعدادهم وتهيئتهم” إن الذين يقولون: إن الشعب لا يستطيع ان يفكر أو لا يحب أن يفكر، هؤلاء نزعوا من الأغلبية الساحقة من قومنا أحسن ما لديهم وأغلاه. وإن الفجوة التي ظهرت بين ما سُمي الخاصة والعامة هي مأساة اجتماعية وثقافية، كان من ثمراتها إبعاد جهود العلماء المخلصين أن تصل إلى عموم الناس الذين هم بحاجة لها.
وإذا كنا نتحدث عن ضرورة التعليم والتثقيف لعموم الناس ليكونوا على درجة من العلم والوعي. فكذلك نتحدث عن ضرورة وجود نخبة هي في الحقيقة (خميرة النهوض) وهي التي تقدر الأمور تقديراً حسناً، وهي التي تزن الامورَ بالقسطاس المستقيم ، وغياب هذه الصفوة العلمية القيادية هو الذي يؤدي إلى الخلل ويضعف مشروع النهضة، ولذلك لا بد من اجتماع هذين الطرفين ومما يجب أن بعلم أن احتقار العامة هو من بقايا عصور الضعف والتشرذم، ومن بقايا أهل الترف العقلي الذين يعيشون في أبراجهم الخاصة.