د. محمّد أيمن الجمّال – أستاذ مشارك في جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية
في عصرنا بات اسم التنوير والحداثة والتجديد -حتى الإصلاح- مصطلحًا يُقصَد به التغيير الشامل للشريعة، والتعدّي على الأصول والثوابت، بل صار كثير ممَّن يزعم الإصلاح هم المفسدون حقًّا، يقول تعالى واصفًا حال هؤلاء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَّا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة: آية: 11-12] وهو ما يجعل الانتساب إليهم موضع تهمة في زماننا، ومشاركتهم الجزئيّة في بعض طروحاتهم محلّ اشتباه!
فالتجديد الذي ينادي به أمثال ميزو وشحرور وعدنان إبراهيم وتيزيني والجابري وأركون وغيرهم يفرّغُ الإسلام من الإسلام ويحرف العقيدة ويهدم الثوابت، وهو تجديد هدفه الهدم وليس البناء، وحين نتكلّم عن الهدم فنحن نعني هدم الثوابت قبل المتغيّرات، وهدم القطعيّ قبل الظنّيّ، أمّا الإصلاحيون الحقيقيّون فإنّهم يختلفون عن الهدامين الذين يسعون لإصابة الأمّة في مقاتلها، ولا يمنعهم من ذلك ركوب الكذب ولا الافتراء ولا التدليس!
إنّ فعل هؤلاء هو ما بات يُعرَفُ اليوم باسمِ (التجديد)، والحداثة، والإصلاح!
حينما نتحدّث عن مهاجمة القطعيّات فنحن نتحدّث عن مهاجمة شعائر الأمّة ومحكمات دينها، أرأيت الحجاب وحدّ الردّة وأحكام العبيد وأحكام الإمامة العظمى وأحكام الميراث؟ كلّها تناقلها أهل العلم بالتسليم والقبول، ولم يخالف فيها مجتهد في عصر من العصور، فضلًا عن أن يخالف فيها أحدٌ من جماهير الناس، بل جاء اليوم من يزعمُ تحديثًا وتطويرًا وتجديدًا فلم يكتف بالكلام عن تلك المسلّمات، -وهي موضع نوعٍ من الإجماع- بل نال من فرضِ الصوم والصلاة، وفرّق بين الشعائر والشرائع وأبطل وجوبَ الزكاة وأراد تعطيل الحجّ، كلُّ ذلك تحت ستارٍ من التنوير والتطوير والتجديد والحداثة!
إن مساحة الظنيّات كبيرة في الفقه الإسلامي، بل لعلّ لها النصيب الأوفى من الأحكام الفقهيّة، وليس من مصلحة أحدٍ من الفقهاء توسيع دائرة القطعيّات، لأنّ الاجتهاد عمليّة متجدّدة بالنظر إلى تغيّر الواقع، وتغيّر تصوّر المسائل! فإن عُدّت المسألة في القطعيّات ضاق على الفقيه أصل تناولها بالبحث! ولذلك فإنّ الفقهاء تجنّبوا قدر الإمكان الزعم بأنّ هذه المسألة من مسائل الإجماع الذي يكفر منكره، ويُفسَقُ تاركها، كما تجنّبوا الحكم على المسألة بالقطعيّة بناء على الأصول التي جعلوها مبيّنةً لحدّ القطعيّ!
ولا ريب أنّ تحديد المسافة بين الظنيّ والقطعيّ ليست واضحة المعالم في كتب الفقه والأصول، لكنّ قواعد عمليّة الفرز وأصولها حاضرة في أذهان الفقهاء والمجتهدين.
واحتياطًا لذلك فقد استعملوا عبارات من مثل: لا يعذر مسلمٌ بجهلِهِ، معلومٌ من الدين بالضرورة، ما لا ينكره مسلم، ما لا يُعلَمُ فيه خلاف، اتفق عليه الفقهاء.
والذي يُعدّ قطعيًّا أحد ثلاثة: نصٌّ لا يقبل الاحتمال وحديثٌ متواترٌ وإجماعٌ منعقدٌ. كما يقول الإمام الجوينيّ في البرهان: (وأدلة الفقه هي الأدلة السمعيّة، وأقسامها: نصُّ الكتاب، ونصُّ السنّة المتواترة، والإجماع)[1]
فأمّا النصُّ الذي لا يقبل الاحتمال أو التأويل فهو نادرٌ، وكذلك المتواتر من الحديث، والمنازعة فيهما ممّا لا تخفى، والذي يظهر من هذه الأمور التي يعدّونها في القطعيات قطعيّتها من وجه دون وجه، وهذا الوجه الذي صارت منه قطعيّة يكفي لبناء الأحكام عليها، لكنّ ما هو أكثر يقينًا من الكتاب والسنّة في القطعيّة هو الإجماع، لأنّه إجماع على عين المسألة، وليس فيه خلاف في فهم النصّ المنقول أصلا، ولذلك فإنّ محطّ اهتمام الفقهاء والمشتغلين بالشريعة هو الإجماع، الذي يقسمه الأصوليّون إلى قسمين: صريحٍ يُظهرُ كلّ واحدٍ من المجتهدين فيه رأيه صراحةً، وسكوتيٍّ يصرّح بالحكم بعضهم ويسكت آخرون، وجعله بعضهم حجّة ظنيّة موجبة للعمل دون العلم.
وأرى أنّ لنوعَي الإجماع قسيمًا لا يقلّ أهمّيّةً عنهما، بل لعلّه يفوقهما أهميّة من حيث إثبات القطعيّات المنقولة به، وهو ما أجمعت عليه الأمّة، وتناقلته بنقل الكافّة عن الكافّة، فنقله جماهيرُ عريضةٌ من الأئمّة وجموعٌ غفيرةٌ من الأمّة عمّن سبقهم حتّى نقل عن جيل الصحابة بكافّته، وهو أعظم منزلة من نقل أعدادٍ محدودةٍ من الفقهاء وإن كانوا من مجتهدي الأّمّة.
قال الجويني في البرهان (1/436): (والإجماع عصام الشريعة، وعمادها، وإليه استنادها).
وحدُّ الإجماع الاصطلاحيّ في كتب الأصول صريحًا أو سكوتيًّا يشملُ المعلوم من الدين بالضرورة وما لا يُعذرُ مسلمٌ بجهله، وجملةُ ما يتمّ التعدّي عليه من الحداثيين أدعياء الإصلاح من هذه الباب.
ومهما يكن فهمنا لمصطلح الإصلاح والتجديد فإنّ استعماله اليوم لا يعدو هذه السقطات الشنيعة التي تدلّ بما يبدو من بغضاء متفوّهيها على ما تخفيه صدورهم.
على أن تناول بعض الأحكام الثابتة بالتطبيق قد يحتاج اجتهادًا جديدًا، فكيفيّات التنفيذ قد تُراعَى فيها الحداثة في الأساليب، وتطبيق الحكم قد يوقف بتقدير الحاكم المجتهد في بعض الظروف، والتغيير ضمن الضوابط قد يكون مقبولًا في كثيرٍ من الصور، وذلك لأنّ التعامل مع الاجتهاد بالتقديس مرفوض، لكنّ تطاول الفريق المدّعي للتحديث والتصحيح والتجديد دفع إلى ردّة فعل عنيفة لم تُورِث عند جماهير عريضة من طلاب العلم إلا جمودًا في محراب التراث! وهجرًا للتطوير والتجديد المشروعَيْنِ.
نعم، قد يواجَهُ المصلِحُ الحقيقيّ بسوء الفهم أو سوء الظن! لكنّ هذا لا ينبغي أن يكون دافعًا له إلى الانجرار خلف التنويريّين والحداثيّين والتجديديّين من أعداء الأديان والمجتمعات، ولا مسوّغاً للتقوقع على الذات والتحجّر عند المنقول، ممّا يؤدّي إلى مخالفة المنهج الشرعيّ الصحيح للتعامل مع مستجدّات الواقع.
ذلك كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أمر اللهُ تعالى بحجّ بيته الحرام، وجَعَلَ الطلبَ عامًّا للناس كلّهم، لكنّ هذا كان قبل وجود أمّة مسلمة!
وقد أمر سبحانه بشهود المنافع فيه، قبل أن يأمر بذكر اسم الله تعالى فيه، فحثّ عليها أولًا في قوله: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [سورة الحج: آية 28] فكانَ الحجّ لشهود المنافع قبل أن يكون للذكر.
وظّف كثيرٌ من أدعياء الإصلاح ذلك الخطاب الربّانيّ للناس بالحجّ في سبيل هدم الثوابت، وتغيير المنقول المتواتر، ومن ذلك قولهم إنّ الحجّ للناس كلّهم، وإن تقييده بالمسلمين لا يجوز، وقولهم: إنّ الحجّ للمنافع لا للطقوس، وقولهم: إن السعي بين الصفا والمروة نوعٌ من السياحة فمن أحبّ أن يفعله فليفعله، وهو ليس لازمًا في شيء من العبادات، أو: هو ليس عبادةً أصلًا، مع تعمّدهم الاستهزاء بالشعيرة، وانتقاصهم من حرمة المشاعر وقدسيّتها، ونيلهم من ملايين المسلمين الذين توارثوها عن أسلافهم إلى صاحب الرسالة صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلى غير ذلك من أقوالهم التي لا يتّسع المجال لذكرها.
والناظر في جملة ما قالوه يرى أنّهم يُغفلون عند الحديث عن هذه الأمور جملةً من أساسيّات استنباط الأحكام في التشريع الإسلاميّ، ويسعون نحو هدفٍ بارزٍ واضحٍ لا مشاحّة فيه، إلى هدم الثوابت، وتحطيم الرموز.
وإن من أبرز ما يخترقه أولئك من أساسيّات الاستنباط، وما يقومون به من التأثير في الجمهور:
يزعم هؤلاء أنّه أشهر، ومن حقّ الناس أن يحجّوا في أيّ أيّام السنة شاؤوا! ويتناسون أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم استعملَ لفظ (خذوا، فخذوه، لتأخذوا) القرآنيّ ذاته من قول الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} {سورة الحشر: آية 7] فقال: ((لتأخذوا عنّي مناسككم))[2].
وقد فرّق العلماء ببن الأشهر المعلومات والأيّام المعدودات أمّا الأشهر فهي للإحرام بالحجّ والعزم عليه وعدم الرفث والفسوق في أشهره بطولها، وقد كان أمرًا طبيعيًّا بسبب مسيرة الحياة وطبيعة التنقّل، وأمّا الذكر فهو في الأيام المعدودات (وهي أيّام أداء المناسك!) كما يقول الفقهاء.
ويؤيّد ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [سورة البقرة: آية 203] فالتعجّل في يومين لأداء شعائر الحجّ، وهي تلك الأيّام التي توارثت الأمّة فيها الحجّ وعرفت وقته من المنقول متواترًا بنقل الكافّة عن الكافّة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو الوحيد المكلّف ببيان ما أنزل لا غيره من المدّعين للبيان بأهوائهم في عصرنا.
أوليس فهمُ شحرورَ وأمثالِه فهمًا بشريًّا غيرَ معصوم؟ فلِمَ يُرتجى منّا تصديقه والتسليمُ له؟ ثمّ ألا يحقّ لنا أن نعدّ كلام شحرور وغيره من المفسدين بعد سنين من قولهم له؛ من التراث الذي ينبغي أن نؤرشفه كما يريدون لتراثنا وكتبِ فقهائنا؟
وهل يمكن للمهندس شحرور وغيره ممّن يريد نسف السنّة والتاريخ والفقه أن يُعلِمَنا من القرآن وليس من اجتهاداته ما هي الأشهر المعلومات؟ وكيف صارت معلومة بالنسبة له إلا من التراث؟
ختامًا:
لعلّ من الملاحظ أنّ المسلم الباحثَ عن الحقّ، المنصفَ في إعمال العقل، الذي لم يُعطِ عقلَهُ منحةً للمتخلّفين والمفسدين ليصيغوه بحسب مقاسهم؛ لا يجد مادّة فكريّة تُغنيه عند التعامل مع هؤلاء، نعم قد أفاض بعضُ المعاصرين في مناقشة تلك الأطروحات المفسدة في كتب مطوّلة فما نالت موقعها في مكتبات الناس ولا في عقولهم، ولا استطاعوا أن يُفرّغوا لها من أوقاتهم لفهمها وتلقّي أجملَ ما فيها من ردودٍ مفحمةٍ ومناقشاتٍ قاتلةٍ لشحرور ولغيره من المفسدين.
ولعلّ من أوجب الواجبات على طلاب العلم اليوم أن يجتهدوا في بيان ضلال أولئك من خلال كلمات قليلة ومقاطع صوتيّة قصيرة تغني وتفيد وتحقّق المراد منها عند جماهير الناس، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
[1] البرهان (1/8).
[2] (مسلم: كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، 1297).