أ. د عبد العزيز الحاج مصطفى – عضو رابطة العلماء السوريين
في كثير من الأحيان يصعب الحصول على الحقائق المجردة، وذلك لأسباب كثيرة، منها: أنها قد لا تكون مكشوفة، أو لا تكون معروفة، أو لا تتوافر لها الأدلة الكافية. وسورية بعد مئة عام من الانفصال عن الدولة العثمانية، دخلت في هذه الدائرة، والذي أدخلها فيها السوريون أنفسهم!! وسبب ذلك: يعود لشتاتهم الفكري والثقافي، ولضعف خزينهم المعرفي، ولابتعادهم أكثر عن قضيتهم المركزية، وانشغالهم بسواها من القضايا الأخرى، التي تتضاد مع قضيتهم!! وهو انشغالٌ آذاهم، وآذى قضيتهم، وآذى الأمة كذلك.!
فمن المسلَّم به جدلاً:
أولاً _ أن التوازن الدوليّ قد انفرط عقده، وأن سياسة القطب الواحد وهي منحازة للصهيونية، قد باتت هي المهيمنة على السياسة الدولية، ومعنى ذلك أن خللاً كبيراً أصاب التوازن العام في صميمه، وأن العالم الإسلامي يتحمل الجزء الأكبر منه.
ثانياً _ أن الحروب الصليبية التي عرفها العالم في العصور الوسطى، لم تكن قد انتهت حقيقة!! وأن القوم امتلكوا ناصية القوة، ويريدون أن يصّفوا حساباتهم مع المسلمين!! وهذه المسألة يمكن أن تقرأ في وقائع الحياة اليومية، وهي ملحوظة!! وسياسة الكيل بمكيالين، أو السياسة ذات الوجهين أكثر من ملحوظة أيضاً!
ثالثاً _ أن (المستجد الحديث في المنطقة) وسورية تضطلع اليوم بكفل منه؛ يكاد يكون تشاركياً بينهم! وقد وزعوا أدوارهم، من حيث التعامل معه بشكل تحاصصي، وتبعاً لمصالحهم وحجومهم. وسبع السنوات التي مرت على سورية؛ الوقائع والأحداث فيها تثبت صحة ذلك؛ وقد قطعوا أوصالها وانتهكوا حرماتها ودمّروا بناها التحتية والفوقية!! والتحالف الدولي الذي يشمل (٦٨) دولة، يتولّى كبر المسألة فيها، وهو يومياً يشرّق ويغرب في الأجواء السورية، وعلى الأرض السورية، وقد عدمت سورية الموقف المسعف من أصدقائها، أو المنصف من البشر الذين لما يزل لديهم بقية من ضمير. فناءت بكبر ذلك.
فكان على شعبها الأعزل – زيادة على ما يقترفه ضده النظام من موبقات – أن يواجه حرباً عالمية معلنة عليه من طرف واحد!! وأن يتحمل تبعات تلك الحرب، بالرغم مما اتسمت به من جبروت وقوة، ومن أدوات خسيسة وخبيثة، وبعضها دون المستوى الآدمي، في شراستها، ووحشيتها وأساليبها غير المشروعة، وقد استهدفت على وجه الخصوص الأسواق العامة، والمدارس، والمستشفيات، والتجمعات. وقد عملت ولا تزال على التهجير القسري والطوعي؛ كما أنها أتاحت الفرصة للمرتزقة أن يتوافدوا إليها بشكل عصابي، من دول شتى، وغضت الطرف عما يفعلون، وفي مقابل ذلك أثارت حول الفصائل المقاتلة زوابع إعلامية قصد شيطنتها، ثم عملت على شقها، وشرذمتها، وتشويه سمعتها، والدفع بها تجاه ما هو أسوأ بالنسبة لها، حتى غدت سورية حمى مستباحاً من قبل المرتزقة والموتورين، وفي مقابل ذلك غدت المسألة السورية – وكجزء من الالتفاف على المسألة قصد الإحباط والتضليل _ مما يجب أن تثار في كل محفل ذراً للرماد في العيون، وخداعاً للعاملين، فكانت جنيف واحد، ثم امتدت إلى جنيف ثمانية، ثم كانت أستانا واحدة، ثم امتدت إلى أستانات متعددة، أما الوسطاء الدوليون من أمثال: مصطفى الدابي، وكوفي عنان، والأخضر الإبراهيمي، ودي ميستورا فقد رتعوا فيها! والحقيقة أن الجميع أدخلوها في عنق زجاجة، ثمّ أحكموا سدها وإغلاقها، بعد أن تنصلوا من تبعاتها، وكل ذلك يمكن أن يكون وزيادة، فلا حدود لما يفعله الأعداء ولا سيما إذا كانوا كأعداء الشعب السوري، ينطوون على حقد وضغينة، وعلى تارات قديمة، وعلى رغبة بقتلهم وتدميرهم خدمة للصهيونية، أو لأرباب المصالح، ممن يسيل لعابهم تجاه موضع قدم فيها؛ كالروس والأمريكان. ومع ذلك لم تتوقف المشكلة السورية عند حدود الأعداء الخارجيين، بل الذي زاد الطين بلّة الإقليميون، الذين أجادوا اللعب على الحبال والقفز والجمز، في تعاملهم مع القضية السورية! فكانوا (مَعْ) و(ضد) في آن واحد، وقد أجادوا الاصطفاف في خانتَي الأعداء والأصدقاء، وبعضهم لم يتوان لحظة عن الكيد للقضية السورية، أو للاجئين الذين اندفعوا عبر الحدود يبحثون عن ملجأ آمن، فعاملهم كغرباء، وقاسمهم السلة الغذائية هضما لهم!!
أما الداخل السوري الذي كُتب عليه أن يرزح تحت نير نظام متألّه يؤمن بالحلول، أي: أن يحل الإله في الجسد البشري، فقد سام الناس خلال أكثر من ستين عاماً بخسا. وقد كتب على أناس الداخل بعامة أن يواجهوه بالمعارضة السلمية والمسلحة، وكان أشهرها ما عرف بـ (ثورة الإخوان) في ثمانينات القرن الماضي، وبالثورة الشعبية السلمية والمسلحة التي اندلعت بشكل بركاني مع مستهل ٢٠١١ م، ولا تزال قائمة إلى اليوم، وقد وُوجهت بأقصى ما ووجهت به ثورة في التاريخ، واستخدمت فيها البراميل المتفجرة التي توصف بالعمياء أو الشبيحة التي توصف بأنها أكثر عمى من البراميل، واستخدم الذكاء المخابراتي المجنون، من أجل إدارة الصراع مع المعارضين الذين أسقطتهم خلافاتهم وتشرذمهم، وتآمر الغريب والقريب عليهم، وحال بينهم وبين أن يكونوا على مستوى القضية فهما وأسلوباً وتضحية ما هم فيه من شقاق ومن خلافات تدمي القلوب، وقد استعصت على الحل ولا سيما بعد أن كثر أمراء الحرب فيها، حتى صعب معرفة عددهم، وبعضهم وللأسف الشديد لبس لبوس الإسلام، وطرح الشعارات الإسلامية، والإسلام منه بريء.
وفي تقديرنا مع هذا الموقف الجلل، ليس على المفكرين السوريين وأصحاب الرأي والموقف منهم، إلا أن يتداعوا لدراسة هذا المستجد الصعب، الذي تمخضت عنه السنوات السبع، قصد التوصل لفهم مشترك للقضية السورية، ولمعرفة الأسباب المباشرة وغير المباشرة، التي أوصلت السوريين إلى هذا المستوى من التشرذم، ومن العدوان الواسع المقنن دولياً، الذي تشارك فيه الدول الكبرى والصغرى، وجماعات وأحزاب من منطلق عدواني بحت.!!!
وفي تقديرنا أنه من أجل ذلك لا بدّ من جدول أعمال يتمثل بمحورين رئيسين:
المحور الأول _ يتمثل بالخارج الإقليمي والدولي؛ بما كان من سياساته، ومن مواقفه تجاه القضية السورية خاصة.
المحور الثاني _ يتمثل بالداخل السوري، وبما كان من عدوان عليه، طال البشر والحجر، وحتى الحيوانات الأليفة والمتوحشة، ولم يستثن.. وأطلال حلب الشهباء وأريافها وهي شاخصة، تشهد على وحشية ذلك العدوان، وعلى مدى ما كان عليه من جريمة.
ومع أن جدول الأعمال، مما يجب أن يضعه الخبراء والمختصون، إلا أننا نقدم بين أيديهم رؤية متواضعة، هي بمنزلة إضاءات على ما التبس أو أبهم، أو خفي عن الأعين، وهذه الرؤية بمنزلة دراسة أولية للقضية السورية، وهي تتجاوز (الحديث) وتتخطاه إلى ما هو (أقدم) وذلك من واقع أزمنة ثلاثة:
الزمن الأول _ يتمثل بما يتعلق بالقضية السورية منذ العهد العثماني، وإلى نهاية الحقبة الاستعمارية، ويشمل على وجه الخصوص: (ورقة هرتزل)، و(اتفاقية سايكس بيكو)، و(وعد بلفور)، و(سياسات غورو في سورية)، ومنها تقسيمها إلى دويلات، وإنشاؤه (قوات الشرق الخاصة) ذات الصفة الطائفية، وأخيراً: (الكتلة الوطنية السورية) التي تغوّلت على نفسها فيما بعد، ولم تفلح ولو في قضية واحدة، سوى ألق رموزها، وقد كان خدَّاعاً وكاذباً.
الزمن الثاني _ ويتمثل بمرحلة ما بعد الاستقلال، وبدقة من ١٩٤٦م إلى انقلاب الثامن من آذار سنة ١٩٦٣م، ويشمل على وجه الخصوص (أسس نشأة الجيش السوري وتكوينه)، و(الأسباب التي أدت إلى أن يكون زيداً أو عبيداً رئيساً للجمهورية، أو للوزراء من أمثال (شكري القوتلي، وناظم القدسي، وخالد العظم، وجميل مردم)، و(الانقلابات العسكرية)، وقد كثرت وتعددت أسبابها وبواعثها، و(الاغتيالات)، وقد تعددت أيضاً، و(عهدي الوحدة والانفصال) اللذين أدخلا البلاد في أرجوحة اللامستقرّ، حتى أسلموها طواعية للطائفيين.
الزمن الثالث _ يتمثل بحكم الطائفيين، وبالنظام الطائفي، وبدقة من ١٩٦٣م إلى ٢٠١١م. ويشمل أربع مراحل:
الأولى _ تتمثل بحكم (أمين الحافظ)، أو ما يسمى بالقيادة القومية. وتمتد من ١٩٦٣م إلى ١٩٦٦م وفيها تمَّ التخلص من الضباط السنة (الكبار حصراً)، ومن السياسيين التقليدين الذين حال قانون العزل السياسي -الذي أعلنوه بعد الانقلاب- بينهم وبين أن يتولوا الوظائف الكبرى في الدولة، وقد شهدت هذه الحقبة (صراعات وتصرفات) كان الخاسرَ فيها السنةُ، والرابحَ الطائفيِّون الذين خرجوا منها، وهم أكثر قوة.
الثانية _(تتمثل بسيادة اليسار، وبطرح الاشتراكية العلمية منهجاً وأسلوباً. وتمتد من سنة ١٩٦٦م إلى ١٩٧٠م، وفيها زهقت الأنفس، وقد أصبح الطرح الاشتراكي من المسلم به جدلاً _ طوعا أو كرها _(وأصبح الاشتراكيون سادة الموقف، وقد استطاعوا التسلل إلى حزب البعث والسيطرة على مصدر القرار فيه، وهو أمر دفعهم إلى الغلو في الطرح، مما جعل الناس أكثر نفرة منهم واستهجاناً لما يقولونه أو يفعلونه، بعد أن كان كثير منهم يصفقون لهم.
الثالثة _ تتمثل بسيادة المنهج الطائفي الذي كان بطله وزعيمه حافظ أسد الذي طوى صفحة الاشتراكية العلمية، ليستعيض عنها بانتخابات وديمقراطيات وطدت أركان النظام، وكانت من دعائمه القوية.
والوقوف على ما فعله حافظ أسد في سورية ضرورة تحتمها المواقف المستجدة كافّة، على امتداد ذلك التاريخ الذي عاشه حافظ أسد، والذي كان بعضاً من سيرته الذاتية التي تتوزع على أربع مراحل:
المرحلة الأولى _ توصف بـ (مرحلة البروز الذاتي)، حين استطاع هو ومحمد عمران وصلاح جديد تأسيس ما يسمى بـ (اللجنة العسكرية) ذات الصفة الطائفية، ووقتها برز بين الطائفيين وكأنه أحد رموزهم.
المرحلة الثانية _ توصف بـ (المرحلة الاعتبارية) على مستوى الدولة السورية، وقد أصبح بعد انقلاب 1963 قائدا للطيران، وأحد المسؤولين الكبار في التنظيم الحزبي؛ إذ استطاع هو وزميله صلاح جديد تسريح العدد الأكبر من الضباط السنة من الجيش والقوات المسلحة، وخوض الصراع مع الحافظ ورفاقه، والذي انتهى بسيطرتهما على الدولة والحزب وذلك بعد انقلاب 1966 م.
المرحلة الثالثة _ توصف بـ (بروزه زعيما وقائدا) للجيش والقوات المسلحة، فهو بعد حدث شباط استطاع أن يحتل منصب وزير الدفاع، وخلال الحقبة من 1966 إلى 1970 استطاع أن يحكم قبضته الطائفية على الجيش والقوات المسلحة، وأن يخوض حرب 1967 ويخرج منها منتصرا بالرغم من سقوط الجولان وهزيمة الجيش السوري، ومما تنوقل عن بيعه الجولان وعن انسحاباته الكيفية التي عدت وصمة عار في جبينه.
المرحلة الرابعة _ توصف بـ (مرحلة الهيمنة المطلقة وقد أصبح رئيسا للجمهورية)، وفيها انقلب على شركائه في الطائفة، وعلى زملائه في الحزب، وقد امتدت هذه المرحلة من 16تشرين الثاني من1970 إلى 2001 وقد انتهت بموته، وتمتاز هذه المرحلة بسمات أربع :
السمة الأولى _ بـ (القفز إلى منصب رئيس الجمهورية) وتهيئة الظروف المساعدة، لجعلها وراثية في عقبه.
السمة الثانية _ باعتماده (شكلا من الديمقراطية ومن البرلمان) يخدم نظامه ويساعده من أجل تحقيق أهدافه.
السمة الثالثة _بصراعه (مع الإخوان المسلمين، وبارتكابه مجزرة حماة التي راح ضحيتها أكثر من أربعين ألفا من الشهداء)، ووقتها كشف عن وجهه الطائفي بعد أن كان مقنعا بالحزب والدولة.
السمة الرابعة _ بتصفية معارضيه من الطائفة ومن غيرها بـ (تهيئة الحزب والدولة بما في ذلك القوات المسلحة لقبول وراثة منصب رئيس الجمهورية لولده من بعده).
الرابعة _ مرحلة بشار الأسد الذي خلف والده في رئاسة الجمهورية، ابتداء من سنة ٢٠٠١م ولم يزل على كرسي الحكم إلى اليوم، وقد كان أشد خطراً من والده، أو أكثر منه ضررا في المسائل العامة والخاصة، وقد اتسم حكمه بظواهر ثلاث:
أولاها _ تمثل بمد النفوذ الإيراني إلى سورية، أو تمكين الإيرانيين من أن يكونوا أكثر تسلطاً على البلاد والعباد، والسماح لهم بالإقامة والتملك، وبالعمل على افتتاح الحسينيات، والمدارس الشيعية التي تعمل على تشييع السوريين، وكذلك على إنشاء المنظمات والهيئات الداعمة لها، وتعد جمعية المرتضى التي كان يتوّلى أمرها جميل الأسد الأخ الشقيق لحافظ الأسد المثال الدال على ذلك.
ثانيتها _ إطلاق يد رموز النظام في الكسب غير المشروع؛ ولا سيما من العائلة الحاكمة وأنسبائها وأقربائها، وتعد ظاهرة (رفعت الأسد) ومن بعده (رامي مخلوف) المثال الأكثر دلالة على ذلك.
ثالثتها _ استقدام الأجنبي إلى البلاد ليستقوي به، ومن هؤلاء الروس الذين أصبحوا محتلين حقيقيين لسورية، والميليشيات الرافضة التي جاءت من أقطار شتى، وكل ذلك قصد التغيير الديمغرافي الشامل والكامل لسورية كلها، وهو أمر يُعَدُّ اليوم قيد التحقيق، ولا يماري به إلا عميل أو ضال.
إن كل ذلك في رأينا، وحسب تقديرنا، يوجب علينا أن نعمل مجتمعين، من أجل تقرير صيغة ما لعمل مشترك فيه إنقاذ السوريين مما هم فيه من واقع لا يحسدون عليه، من أجل خلاصهم من محنتهم التي طالت وامتدت، حتى كادت تكون الظاهرة الأكثر خطورة خلال القرنين (العشرين) و(الواحد والعشرين)، وتجاه ذلك فإننا نتوجه بدعوتنا المفتوحة إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى _ فئة العلماء العاملين، كلا منهم حسب علمه وفهمه ودرجته العلمية.
الفئة الثانية _ فئة الخبراء والمختصين، من إعلاميين وسياسيين وعسكريين محترفين، واقتصاديين حاذقين، ومن مهتمين بالمشهد السوري عامة.
الفئة الثالثة _ فئة الأدباء والكتاب، من أصحاب الأقلام الرفيعة ممن يكتبون ويبحثون ويدرسون ويفكرون بطريقة سليمة.
نقول ذلك ونحن نتمثل الحكمة القائلة: ” إذا لم يكن بإمكانك أن تشعل شمعة فليس أقل من أن تلعن الظلام “.