تحميل البحث كملف PDF
د. مجدي قويدر – عضو هيئة علماء فلسطين في الخارج ومدير تحرير مجلة المرقاة
العبادات في الإسلام تسهم في بناء شخصية المسلم، والمداومة على الاستقامة، وحراستها من غوائل الشيطان، وتنمية دوافع الخير، وتقليم نوازع الشر، ولكل عبادة دورها وأثرها في تحقيق هذه الوظيفة وحماية الشخصية المسلمة من السقوط والانكسار والوصول بالمجتمع الإسلامي؛ ليكون مجتمع المتقين. والتحقق بملكة التقوى يمنح الإنسان البصيرة النافذة، والشعور الفياض، والقدرة على التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].
والعبادات وشهر رمضان على وجه خاص مواسم للمراجعة والتجدد واستعادة الفاعلية، واسترجاع التوازن الذي يكاد نفتقده في غمرة الحياة بدوافعها ونوازعها، وهي مراكز للتدريب العملي على القيم والمعاني ضمن مناخ جماعي ملائم، يغري بالاقتداء، ويعين على الإنجاز، ولهذا لا تغني عبادة عن الأخرى في القيام بوظيفتها في بناء الشخصية المسلمة، ولو كانت إحدى العبادات كافية ومغنية لم تكن هناك حاجة لتعدد العبادات وتنوعها.
وفي هذا المقال أسلط الضوء على أهم مقاصد عبادة الصوم التي تسهم في بناء الشخصية المسلمة وحمايتها من عوامل الهدم والانهيار وهي على النحو التالي:
جاء في الآية التي فُرض فيها الصوم علينا التعليل للتكليف برجاء تحقيق التقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، والتقوى: وصف جامع لخيري الدنيا والآخرة، والتقوى تنشأ عن الإيمان بالغيب الذي يوقظ الضمير، ويحيي المراقبة لله، ويحرس من الوقوع في المآثم، ويبعث على العمل، وعبادة الصوم تتجلى فيها أسمى صور الإيمان حيث يمتنع المسلم عن المباحات موقنا بمراقبة الله، محتسباً لله، يدع طعامه وشهوته لله، صابراً على طاعته، متزوداً بالتقوى لسفره الطويل.
ومن أهم شروط التقوى الانفطام عن شهوات النفس، والانعتاق من أسرها، والاستعلاء على مطالب الجسد، والتحرر من سلطانه، والارتقاء إلى أهداف تتناسب مع إنسانية الإنسان؛ لتحقيق الغاية من وجوده، وهي العبودية الخالصة لله، والاستخلاف الحضاري في الأرض.
والتقوى وقاية نفسية واجتماعية واقتصادية مركوزة في العبادات وفي الصيام تحديدا، لحماية الإنسان من غوائل نفسه وهينمة شهواته وليس قهرا للنفس وإعناتا للجسد، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام بوظيفته فقال: ((الصوم جُنَّةٌ))([1])، والجُنَّة الوقاية، والسترة، وكل ما وقى من سلاح وغيره، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم الصيام بالدرع الحصينة التي يلبسها المقاتل لتقي ضربات العدو ولهذا تشكل عبادة الصوم وقاية للعبد من الوقوع في المعاصي ومقارفة الحرام، واجتراح السيئات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))([2]). وهي وقاية له من مجاراة السفهاء ومخاصمة الجهلاء، وسوء الأخلاق والسفه والشقاق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب. فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم))([3]) وبهذا يتحلى بحسن المعاملة، والدفع بالتي هي أحسن، ويتعود على الأخلاق النبيلة.
والصوم حماية وحصن منيعة تحمي المسلم من السقوط في كل ما يشينه في الدنيا ويهينه في الآخرة؛ لأنه يهذب السلوك، ويزكي النفوس، ويطهّر القلوب، ويزيد في الإيمان، ويرقى بالشعور، ويوقظ الضمائر، ويبعث على الاجتهاد في طلب الرضوان، لينجو من النيران، ويفوز بالجنان، فهو من أعظم حصون المسلم الواقية من المهالك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصيام جنة))، وهو حصن من حصون المؤمن وكل عمل لصاحبه إلا الصيام. يقول الله: ((الصيام لي وأنا أجزي به))([4])، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصيام جنة وحصن حصين من النار))([5]).
والصيام في معدود الأيام من أهم أسباب الوقاية من الشهوات المردية، خاصة وأن الصوم الحقيقي هو صوم الجوارح عن محارم الله، فإن مَنْ قَدِرَ على الصوم عن الشهوات الجامحة التي خُلق الإنسان إزاءها ضعيفاً؛ كان أقدرَ على اجتناب محارم الأعضاء الأخرى؛ فإن حدودها مؤبدة، لا تحل بغروب الشمس، ولا بِأُفُولِ الشهر، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصوم للأعزب إذا لم يجد سبيلا إلى النكاح الحلال فقال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) [متفق عليه]. فهو جنة بمعنى حماية وحاجز من الفحشاء والفجور.
ومن مقاصد الصيام التدريب على أعباء الجهاد والتعبئة بها؛ ليكون الصائمون إيماناً واحتساباً أكثرَ القوم ثباتاً وصموداً؛ بل جهاداً وجلاداً، حتى لو انقطع المدد، وأَمْضَوْا أياماً معدوداتٍ من غير ماءٍ أو أقوات، كما حصل في بعض الغزوات، حين شَحَّتِ الأمداد، وكان نصيب الواحد منهم تمرةً واحدة في كل أربعٍ وعشرين ساعة، يأخذ منها مَصَّةً أو مصتين كلما آذاه الجوع، ويشرب عليها الماء، ثم انبرتْ أيام جُوعٍ بعدها لم يكونوا يجدون تلك التمرة، لكنهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضَعُفُوا، وما استكانوا، والله يحب الصابرين.
إذاً فالصوم تدريب على احتمال ما يصيب المجاهدين من الظمأ والنصب والمخمصة، فيكونون أقدر على التجلد لها؛ فإن جيوش الجوع والعطش أَفْتَكُ بالجيوش من عدوهم، ذلك أن الذي لا يصبر على شهوة الطعام والشراب لا يصبر على شهوة الحياة، فإذا حَمِيَ الوَطيس، واحْمَرَّ البأس، رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشيِّ عليه من الموت، حتى لكأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون.
ألم تروا إلى طالوت الذي أُوتي بسطة في العلم والجسم كيف يقول للجنود: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 249]، فلم يجدْ لهم عزماً، ورضوا أن يكونوا مع القاعدين، فكان مثلهم كالذين قالوا لموسى عليه السلام: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24].
ومن معاني الجهاد في الصوم أنه معركة تُخاض مع النفس الأمَّارة بالسوء، والنفسُ كالطفل في حُبِّ الشَبِّ على الرضاع، وإن تفطمه ينفطم، وفطام النفس بالصوم، وإذا كان الله لا يُغَيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم؛ فإن الصيام سبيل نقلها من اهتمامات الطفولة إلى الشعور بالرجولة، فإذا صارت النفوس كباراً تَعِبَتْ في مُرادها الأجسام.
ثم إنه معركة مع الشيطان الذي يُزَيِّنُ للإنسان سوء عمله، فيراه حسناً، والذي وصفه الله فقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6]، وقال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 168].
ومن بعد ذلك فالصوم مدرسة في جهاد الدنيا التي أخذتْ زخرفها، وازَّيَنَتْ، فَغَرَّتْكُمْ بزهرتها، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، ولا زالت معظم الهزائم من خور العزائم أمام الوظائف والفواحش.
إن من انتصر بالصوم على هؤلاء الأعداء في معركته الداخلية حقيقٌ أن يحقق النصر في معركته الخارجية، حين يجاهد الكفار والمنافقين، ويغلظ عليهم، وحين تقاتلون المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة.
إن الصوم رباط على حدود الله فلا تقربوها، وهو حراسةٌ للنفس من الجنوح أو الجماح للمعصية بقوة الوازع الديني، والهيبة من الله ذي الجلال والجبروت، وحَرِيٌّ بمن دأب على هذا الرباط، فكان ممن صبروا وصابروا ورابطوا، أن يستسهل الرباط في الثغور، فلا تؤتى الأوطان من قِبَلِه.
إنه من الواجب أن نؤكد أن الشهوة رِقٌّ وعبودية، وأن الواقعين في أَسْرِها قد فقدوا الحرية، فَأَمْسَوا مماليك لها، وأنَّى لفاقد الحرية أن يمنحها البلاد أو العباد؟!، فالصوم إذاً إفلاتٌ من الأَسْر، وتحررٌ من الرقِّ، وإن الذي يَكِرُّ وهو حُرٌّ يفوز بالنصر والظَّفَر.
فهو يقي النفس من غوائل المال والاستغناء به، {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]، والحرص على حيازته واكتنازه، والشح به كنوازع بشرية مهلكة قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] أي: جعل شيئا حاضرا لها كأنه ملازم لها لا يفارقها؛ لأنها جبلت عليه، وأشار في موضع آخر إلى أنه لا يفلح أحد إلا إذا وقاه الله شح نفسه، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] والعلاج الناجع للشح والبخل يكون الإنفاق من المال، ورمضان موسم للانعتاق من عبودية المال، والعودة إلى حالة التوازن الاجتماعي، وذلك بالمسارعة إلى الإنفاق في سبيل الله اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، وأجود بالخير من الريح المرسلة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ))([6])، فبالصدقات تزيد النعم، وتزول النقم.
رمضان محطة لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، وإطفاء حرائق المعاصي، وإخماد نيران الآثام، ومطهرة من الخطيئات، فـ ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))([7])، ((ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))([8])، ((ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))([9])، وفي الحديث: (ارْتَقَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: “آمِينَ”، ثُمَّ ارْتَقَى ثَانِيَةً، فَقَالَ: “آمِينَ”، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ ف فَقَالَ: “آمِينَ”. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: عَلَى مَا أَمَّنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ))([10]). ((ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما)) ([11]) فرحمة الله واسعة، والله غافر الذنب، وقابل التوب، فلا تفوتوا فرصة المغفرة، ولا تفرطوا في موسم الطاعة.
الصيام ينمي لدى المسلم الشعور بالآخرين والإحساس بالفقراء، فهو يشعر الإنسان بحجمه الطبيعي وببشريته، وحاجته، ويحميه من آفة التأله، والتسلط، والتعالي على عباد الله. فهو بشر مثلهم مفتقر لصنوف الطعام والشراب وسائر الأشياء التي لا يحس بها إذا كان يعيش الوفرة، ولا أدل من الصوم للإنسان على حقيقته، واستشعار حاجات الآخرين، فهو مدرسة عملية للقضاء على الأثرة والأنانية، وإحياء لروح الشعور بالجسد الواحد، فهو أشد وقعا في النفس من كلام البلغاء، ومواعظ الخطباء، لأنه تذكير يسمعه من بطنه الفارغة، وأمعائه الخاوية، وكبده العطشى، فيشعر بآلام الجائعين، وبؤس البائسين، فيتحرك بهذا الحس الاجتماعي للتخفيف من معاناتهم، والمساهمة في قضاء حوائجهم، وأداء الواجب لله تجاههم.
لذلك التهيؤ بالصيام والتصويب النفسي في أجوائه، وإدراك مقاصده، واسترجاع معانيه، يمنح المرء آفاقا بعيدة من العطاء والنقاء لا تحدها حدود، بحيث يجود الإنسان مقتديا برسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس تحمل الخير للإنسانية؛ ليكون شهر رمضان حقيقة شهر التكافل الاجتماعي، فيحس المسلون بطعمه، ويقطفون ثمرته، ويعيشون معانيه، ويحققون مقاصده.
قد يصيب الإنسان في أيامه العادية، بعض كفران النعمة، وعدم الالتزام بواجب شكرها، وعدم أداء حقوقها، فيأتي الصوم كعملية تصويب وترميم للنفس البشرية مما أصابها، فيعْرِف أهمية وقيمة النعم بشيء من فقدها، والحرمان منها، ولو لساعات، فيهرع إلى شكرها؛ ليضمن دوامها والاستزادة منها، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم : 7] ، فالشكر يزيد النعم والكفر يذهبها، وَقد قَالَ سبحانه فِي الْكُفْرَانِ وَعَوَاقِبِهِ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]، والشكر وضع النعمة حيث أراد المنعم، وحسن التصرف بها ابتغاء مرضاته؛ وسئل بعض الصلحاء عن الشكر لله فقال: (ألا تتقوى بنعمه على معاصيه). وحكي عن داود عليه السلام أنه قال: (أي رب كيف أشكرك ، وشكري لك نعمة مجددة منك علي؟ قال : يا داود الآن شكرتني). قلت: فحقيقة الشكر على هذا الاعتراف بالنعمة للمنعم. وألا يصرفها في غير طاعته؛ وأنشد الهادي وهو يأكل :
أنالك رزقه لتقوم فيه *** بطاعته وتشكر بعض حقه
فلم تشكر لنعمته ولكن *** قويت على معاصيه برزقه
فغص باللقمة، وخنقته العبرة. وقال جعفر الصادق: إذا سمعت النعمة الشكر فتأهب للمزيد([12])؛ لذلك ختم الله آيات الصيام بقوله: {ولعلكم تشكرون}.
وورد في القرآن من دعاء الأنبياء الصالحين أن يلهمهم الله تعالى شكر نعمه عند رؤيتها كقول سليمان: ﴿أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ [النمل: 19] وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رب اجعلني لك شكارا)) وجاء في وصيته عليه الصلاة والسلام لمعاذ الاستعانة بالله على شكره فقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك. أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))([13]).
رمضان شهر الصبر؛ والصبر حبسٌ للنفس، والصائم يحبس نفسه عن مشتهاها من المأكل والمشرب والنساء؛ طاعةً لله تعالى، قال سبحانه في الحديث القدسي: ((يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي))([14])، ويصبر على الصيام والقيام والتلاوة والدعاء حسبة لله تعالى لذلك قال في الحديث القدسي: ((الصوم لي وأنا أجزي به)) ، ويصبر على الابتلاءات المؤلمة بما يحصل من تألم من أثر الجوع والعطش وقد قال في جزاء الصبر ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، فعلم بذلك أن من الصابرين الذين يُوفون أجورهم بغير حساب: الصائمين، الذين صبروا عن شهواتهم؛ طاعة لله تعالى، وتقرباً إليه، فما أعظمها من منزلة ينالها الصائمون أن توفى لهم أجورهم بغير حساب! فالله يتولى جزاءهم بلا مقدار يحدده، ولا ثواب يسميه؛ والكريم يجزي على قدر كرمه، وخزائنه لا تنفد، وعطاؤه لا ينقطع، وقد جاء التوجيه القرآني بالاستعانة بالصبر والصلاة لما لهما من أثر في تربية النفوس فقال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]، قال الطبري: (أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم من طاعة الله تعالى، وترك معاصيه، وأصل الصبر: منع النفس محابّها، وكفّها عن هواها؛ ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر؛ لكفّه نفسه عن الجزع، وقيل لشهر رمضان: شهر الصبر؛ لصبر صائمه عن المطاعم والمشارب نهاراً)([15])، وقد جاء في السنة النبوية النصُ الصريحُ على تسميةِ رمضان بشهر الصبر، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صوم شهر الصبر وثلاثة أيامٍ من كل شهر صوم الدهر))([16])، وجاء رجل من باهلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد هَزُل جسده، وتغير لونه، من ديمومته على الصيام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أمرك أن تعذب نفسك؟ صم شهر الصبر رمضان، وثلاثة أيام من كل شهر))([17]) ، وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يذهب كثير من وَحَرِ صدره فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر))([18])، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، ويُذهب مَغَلَّة الصدر، قال: قلت: وما مَغَلَّةُ الصدر؟ قال: رجس الشيطان))([19]).
فما أحوجنا إلى الصبر في هذا العصر الذي اكفهرت فيه الدنيا، واحلولك الظلام، وتكالب الأعداء، فهو عدتنا التي تسبق كل إعداد، وسلاحنا في شدائد الأهوال، وأهم مقومات النصر لقوله عليه السلام: ((إن النصر مع الصبر))، وهو الفلاح في الدنيا والأخرة قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200] ولهذا نشعر أن للصوم مذاقا خاصا وهو يربينا على التحمل والمصابرة على أزمات الحياة، لأن الصبر قبس مضيء ونور هادي في ظلمة الليل البهيم.
([1]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به، ح (1903).
([2]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به، ح (1903).
([3]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم؟، ح (1904).
([4]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به، ح (1903).
([5]) مسند الإمام أحمد، مسند أبي هريرة، ح (9225).
([6]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي، ح (1902).
([7]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا، ح (1901).
([8]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا، ح (1901).
([9]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا، ح (1901).
([10]) صحيح مسلم (2551) مختصراً بنحوه، والترمذي (3545) واللفظ له، وأحمد (7444) باختلاف يسير.
([11]) مسند الإمام أحمد، مسند أبي هريرة، ح (7129).
([12]) القرطبي- الجامع لأحكام القرآن، (9/343).
([13]) مسند الإمام أحمد، من حديث معاذ بن جبل، ح (22119).
([14]) مسند الإمام أحمد، مسند أبي هريرة، ح (9112).
([15]) الطبري- تفسير الطبري، (1/11).
([16]) سنن النسائي، باب ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ح (2408).
([17]) سنن ابن ماجه، كتاب الصيام، باب صيام أشهر الحرم، ح (1741).
([18]) مسند الإمام أحمد، مسند البصريين، من حديث الأعرابي، ح (20737).
([19]) مسند الإمام أحمد، مسند الأنصار، من حديث أبي ذر الغفاري، ح (21364).