الضرب في آية القوامة.. آراء ومواقف
مايو 10, 2021
التدرج سنةٌ قدريةٌ وحكمةٌ تشريعيةٌ
مايو 10, 2021

فلسفة الإسلام في الصراحة

تحميل البحث كملف PDF

أ. د. حسن الخطاف –  أستاذ المنطق في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

ملخَّص الدِّراسة

تأتي أهمية الحديث عن الصراحة كقيمة عليا من القيم الأخلاقية الاجتماعية التي ينبغي أنْ يتحلّى بها الإنسان أيَّا كان معتقده، وتزداد منزلة هذه القيمة عندما يكون صاحبها مسلما، فبها يكون واضحا جليا في باطنه وظاهره، وقد أدّى تصارع المصالح والارتماء في أحضان الاستهلاك والتوسُّع فيه إلى تراجع هذه القيمة، بل وغيابها مع أنَّ الدِّين الإسلامي عقيدة وفروعا يقوم عليها.

نظرا إلى ما سبق جاءت الدِّراسة تأكيدا على أهميتها العقدية والأخلاقية والاجتماعية، وقد قامت هذه الدِّراسة على الاستقراء الجزئي لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ومواقف الصحابة رضي الله عنهم من هذه القيمة.

الكلمات المفتاحية

الصراحة، الفلسفة، المصلحة، الحياة الاجتماعية، النفاق

التعريف اللغوي والاصطلاحي

يرجع مفهوم الصراحة لغويا إلى حروف الصاد والراء والحاء، فإذا اجتمعت هذه الحروف في لسان العرب فإنها تدل على معنيين:

  • الأول: ظهور الشيء وبروزه، من ذلك قولهم هذا شيء صريح يعني بارز وواضح.
  • والمعنى الثاني: هو الخالص من كل شيء اختلط به، فالصريح من اللبن هو الذي تميز عن الغش ولم يختلط به رغوة أو ماء.

فالمعنى المحوري للصراحة هو انكشاف الشيء وظهوره قويًّا واضحًا لخلوصه مما يغشاه، كالصرح الموصوف لا تحجبه أبنية حوله لطوله في السماء، واللبن الصريح هو الذاهب الرغوة، والصرح هو البناء الطويل في السماء قال الله تعالى حكاية عن طلب فرعون من هامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] يعني بناء عاليا[1].

 فالظهور والبروز، والمعنى الآخر عدم الاختلاط؛ متقاربان وموجودان في الكلام الصريح، أوّلا لوضوحه وبروزه، وثانيا لعدم تداخله بغيره من التِواء أو نفاق.

فالصراحة في القول هي: قول الحقيقة كما هي، ورؤية الأمور على طبيعتها بعيدا عن المبالغة في إظهار الشي وتضخيمه أو في ستره وكتمانه. وهذا المعنى قريب من معنى النصح، لأنّ من معاني النصح أو النصيحة في اللغة الشيء الخالص الذي لم يخالطه شيء[2]، وهذا المعنى هو ذاته معنى الصراحة، والنصيحة هي: (تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضر، وضده الغش)[3].

وتعريف الصريح عند الأصوليين لا يخرج عن هذا المعنى ؛ إذ هو: (كل لفظ مكشوف المعنى والمراد، حقيقة كان أو مجازا يقال فلان صرح بكذا أي أظهر ما في قلبه لغيره من محبوب أو مكروه)[4].

الصراحة في القرآن الكريم

لم ترد كلمة الصراحة في القرآن الكريم بهذا اللفظ ولكن ورد ما يدل عليها في نصوص كثيرة، منها الصراحة في بيان العقيدة والأحكام، والتعامل مع اليهود والنصارى والمشركين وفي بيان عقائدهم، وكذلك الآيات التي فيها عتاب لطيف من الله تعالى لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومما يؤسف له أنّ بعضنا يتأذى أحيانا من الآخرين ولا يصرح لهم، وهذا ليس صحيحا، فلنجعل من القرآن قدوة لنا في تعليمنا الصراحة عندما يقتضي الموقف ذلك، وحسبنا من القرآن الكريم فيما يتعلق بهذه المسألة- التي لها بُعد اجتماعي واضح- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]، إذ نلحظ في هذه الآية خطابا صريحا لا مجاملة فيه.

من أسباب نزول هذه الآية أنه لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاما بخبز ولحم ودعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلمّا شعر بعضهم بأن النبي يريد منهم القيام ولكن استحى وظهرت علامات على ذلك قام بعضهم وبقي البعض جالسا، فأخذ النبي يدخل ثم يخرج إيماء لهم بالخروج من غير تصريح فنزلت الآيات تأديبا وتعليما لهم[5].

ولنلحظ قوله سبحانه وتعالى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} والمعنى: لا تحضروا البيوت للطعام قبل تهيئة الطعام للتناول، فتقعدوا تنتظرون نضجه إلا إنْ أذِن لكم، فإن أذن لكم فادخلوا فإذا أكلتم فلا حاجة لبقائكم وجلوسكم بعد الطعام لأنّ النبي يكون مشغولا وعنده ظروفه الخاصة، وهذه الحال بالنسبة لمجتمعاتنا تتقيد بالعرف، فقد يقتضي العرف ألا يجلس أو يجلس قليلا، وبجميع الأحوال لا ينبغي أن نثقل على صاحب البيت.

وهذا خُلُقٌ عالٍ يتعين علينا أن نتربى عليه، فكثيرا ما تجد اليوم من بعض الناس إذا دخل بيت غيره لطعامٍ أو زيارة مريض؛ ينسى نفسه فيطيل الجلوس حتى يثقل على صاحب البيت، وهو لا يشعر.

الصراحة في السنة النبوية

عاش النبي عليه الصلاة والسلام حياة مملوءة بالوضوح والصراحة في علاقاته مع غيره وفي كلامه وأحكامه، من ذلك أنه جاءت قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: (يَا أَبَا طَالِبٍ! إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يُؤْذِينَا فِي نَادِينَا، وَفِي مَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنْ أَذَانَا)، فَقَالَ: يَا عَقِيلُ! (ائْتِنِي بِمُحَمَّدٍ) فَذَهَبْتُ فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَقَالَ: (يَا ابْنَ أَخِي! إِنَّ بَنِي عَمِّكَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ ذَلِكَ)، قَالَ: فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ. فَقَالَ: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟)) قَالُوا: (نَعَمْ). قَالَ: ((مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً))، قَالَ: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: (مَا كَذَبَنَا ابْنُ أَخِي. فَارْجِعُوا)[6]، صراحة واضحة لا تعرف المجاملة أو الخوف.

ولكن إذا لم تكن هناك حاجة إلى الصراحة فلا داعي للفضيحة، يعني إذا كان الطرف الآخر يفهم عليك وكان المقصد أنْ ينتفع الناس فلا حاجة للتخصيص والتشهير بين الناس فإنه أذى، وهذا منهج سار عليه النبي عليه الصلاة والسلام فكثيرا ما كان يقول: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا، لَيْسَت فِي كِتَابِ اللَّهِ))[7]،أو ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ))[8]، و ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً))[9].

 لماذا لم يصرح النبي بالأسماء هنا؟ لأنّ ذات الشخص لا تعنيه، فالمسألة ليست تحاكما بين طرفين، وليس فيها ادِّعاء أو شكاية من طرف على طرف آخر، بل المقصود بيان الحكم. فالتصريح يكون فضيحة للشخص المرتكب؛ إذ ربّما يحمله ذلك على عدم قبول النصح، أو ارتكاب ما هو أشدّ من ذلك، فينبغي لمن ينهى عن المنكر أن يسلك مسلك الستر ما أمكن، فإن ذلك أدعى لقبول قوله، والانتفاع بإرشاده، فكثير ممن يتصدّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسلكون هذا المسلك، فيُفسدون أكثر مما يُصلحون، وقد قال اللَّه تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125][10].

الصراحة منهج الصحابة رضوان الله عليهم رجالا ونساء

لقد ربّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الصراحة إلى حدَّ الجُرأة وقد كان هذا واضحا عند جميع الصحابة، وخاصّة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث لم يدع في نفسه شيئا إلا وأظهره وهذه شجاعة قلَّما توجد في أحد، وكان أكثر ما أظهرها على المنافقين، فمن ذلك مواقفه من عبد الله بني أبي بن سلول وكان زعيما للمنافقين وخاصة يوم موته، قال عمر: (دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا؟ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ» فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: «إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ…قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَة: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] إِلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)[11].

فمع يقين عمر رضي الله عنه المطلق بصواب رأي النبي عليه الصلاة والسلام فيما يفعل، وأنه إنْ لم يوفَّق للصواب صحّح الوحي له توجهه، لم يتردد في إظهار ما في خاطره.

وعادة تكون المرأة أقلَّ جرأة من الرجل لِما جُبلت عليه من رقِّة وغلبة حياء، لقلة المخالطة المطلوبة شرعا إلا في حالات الضرورة، ومع هذا نرى عند الصحابيات الجليلات حالات من الصرَّاحة غير المعهودة في واقعنا، من ذلك أنه (جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني، فأبتَّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: ((أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك))[12]. ولنقف على قولها (مثل الهدبة) أي كالهدبة ضعفا واسترخاء، أرادت بذلك الضعف الجنسي الذي كان عنده، وهي بذلك تشير إلى أنَّ الاستمتاع هو حقٌّ من حقوقها، والمرأة عادة لا تقول مثل هذا الكلام إلا في مجتمع سليم نظيف اعتاد الصراحة لا يحمل كلامها الصريح على غير محمله، فلو أنَّ هذه المرأة كانت في بعض مجتمعاتنا المسلمة لاتُّهمت من قِبَل البعض من رجالٍ أو نساء بقلة الحياء ولَصَار حديثها على الألسن. فهي رضي الله عنها تعلم ما تقول وتقصده.

وكلُّ هذا مرتبط بالصدق في القول وعدم الافتراء وكثيرا ما نسمع في مجتمعاتنا – وخاصَّة في دوائر القضاء – حينما يكون هناك فراق بين الزوجين؛ افتراءات عجيبة بين الطرفين قد تصل أحيانا إلى اتِّهام المرأة بعرضها قصد التَّخلُّص منها والوصول إلى كامل المهر الذي دفعه الزوج.

ليست هذه الحالة الوحيدة التي كانت سائدة في مجتمع النبي الذي علَّم أصحابه على النقاء والطهر والصراحة، إذ كانت المرأة تأتي إلى النبي تسأله عن تفاصيل دقيقة متعلقة بالحيض، أو ما تراه في منامها، وفي هذا تقول السيدة عائشة رضوان الله عليها: (رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَسْأَلْنَ عَنْ أَمْرِ دِينِهِنَّ)[13].

بالبناء على ما سبق نرى أنه من الواجب علينا أنْ نعلِّم أنفسنا الصراحة ونعتاد قبولها من الناس، وقد رأيتُ في بعض مجتمعاتنا شيئا من الغمز بمن يُصرِّح أو يُفهم منه ذلك عندما تخالف صراحته اختياراتنا وآراءنا، ومن ذلك موقف المجتمع من المرأة التي تُوفي عنها زوجها وترغب بالزواج، فالبعض في مجتمعاتنا وخاصة من أقرباء الأرملة، يرى بأنَّ عليها ألا تتزوج أو تومئ بذلك. وكأنَّ عليها أنْ تموت وتُميت مشاعرها وغرائزها مع موت زوجها، وستجد هذا الأمر غريبا كُلَّ الغرابة عندما تُقارن نظرة المجتمع إلى الأرملة؛ بحال الرجل الأرمل الذي تُتَوفَّى امرأته، فلا تمضي بضعة أيام حتى تجد من أقاربه من يخطب له، ولم يجفَّ بعد التراب فوق قبرها، وهذا الذي يخطب له قد يعتقد أن من العار أنْ تتزوج أخته أو قريبته بعد بضع سنوات من وفاة زوجها.

الباعث على الصراحة

ثمة أسباب تدفعنا لمصارحة الآخرين، ومن هذه الأسباب.

1.النصيحة: فعندما ترى صديقك أو أحد معارفك قد أخطأ، فالمطلوب منك أنْ تكون صريحا معه، والصديق من صارح صديقه ولم يتماشى معه، وهذا خلق عظيم لا ينبغي أنْ يغيب عنّا، فعندما نتصادق ينبغي أنْ نكون صُرَحاء فيما بيننا، فالصداقة تقتضي الصراحة لأنّها دليل المحبة، والمؤمن مرآة لأخيه.

  1. قول الحق: إذا كان الأمر متعلقا بدعوة أو قضاء أو تخاصم وطُلبت شهادتك، سواء أكان أمام عدوك أو قريبك أو صديقك فإن الأمر يحتاج إلى صراحة وعدم استخدام الكنايات والألفاظ الموهمة المشكلة، يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، وقد جاء في الصحيح أنّ الغامدية رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني)[14].

3.الاستفتاء: يحدث في أيامنا هذه أنّ بعض الأشخاص يطلق زوجته، ولا ينقل الصورة الحقيقية في كيفية حصول الطلاق، وما الأسباب؟ وكيف تلفَّظ وكم عدد الطلقات؟ ويوهم المفتي بأنّه كان شبه مجنون ليجد فتوى تناسبه وتُرد له الزوجة، وهو في زعمه هذا يتصور أنه يخدع المفتي وما علم أنَّ الفتوى تكون على حسب السؤال وأنَّ الفتوى لا تحلُّ حراما ولا تحرم حلالا.

  1. المشورة: عندما يستشيرنا أحد ينبغي أنْ نظهر له ما في أنفسنا وأنْ نكون صريحين معه، ولو كان هذا يزعجه أو يغضبه وهذا أصل أخلاقي عظيم، وإلا كان النفاق، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أشيروا عليَّ أيها الناس))، وكان الصحابي يعرض رأيه من غير مجاملة، بل كان بعض الصحابة يعرض ما يعتقد من صواب حتى قبل أن يُسأل ذلك.

ومن شواهد ذلك اقتراح الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ تغيير مكان المعركة يوم بدر، فقد أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم مصرحا أن المسألة ليست تشريعا[15]، ومنه ما وقع عندما همّ النبي عليه الصلاة والسلام مصالحة غطفان، فقد عرض عليهم ثُلُث تمر المدينة، وطالبوا بالنصف فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيد على الثلث، وقبلوا ذلك، فأقبل أسيد بن حضير رضي الله عنه إلى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله إن كان أمراً من السماء فامض له، وإنْ كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلا السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل شيء أصنعه لكم))[16].

  1. بناء حياة جديدة

قد تجد بعض الناس لديه مشكلة مع الطرف الآخر كالصديق مع صديقه، أو التاجر مع من يتاجر معه أو الزوج مع زوجه، فالسكوت ليس حلا بل قد تتفاقم الأمور  بسبب عدم التصريح  بالمشكلة لأنّ في ذلك استمرارا لما قد يؤثر في التواصل في الحياة، فتصوَّر لو أنَّ رجلا يشكُّ بزوجته أو هي تشك بزوجها أو التاجر يخوِّن شركاءه في العمل، فليس الحلُّ السكوت بل إظهار ما في النفس ولعل ما في النفس عبارة عن أوهام تنزاح، وبقاؤها يشكِّل عقبة في العلاقات وربما عدم الصراحة يجعل بعضهم يشكُّ في بعض وقد يؤدي هذا إلى التجسس والاتهام من غير دليل، فالحلُّ في هذا أنْ نكشف عمّا في قلوبنا لمن نحبُّ من أقربائنا وأصدقائنا حتى تستمر الحياة، ويمكن بعدها بناء حياة جديدة أو شراكة جديدة مبنية على الوضوح، والأمثلة على هذا كثيرة، من ذلك (أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟)) قَالَتْ: (نَعَمْ)، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً))[17].

فليس هناك حلٌّ آخر غير الصراحة، فمن غير الصراحة ستصبح الحياة جحيما وربما يؤدي ذلك في بعض المجتمعات إلى الخيانات الزوجية.

أسس فلسفة الإسلام  في الصراحة

عندما نتأمل الصراحة من جميع جوانبها نجد أنَّها ليست مستحبة دائما على إطلاقها فقد لا تكون هناك حاجة للتصريح، بل ولا للتلميح، كمن يريد الحديث عن شيء لا يعنيه، وقد يكون هناك احتياج للحديث في مسألة من المسائل ولكنَّ الإيماء كافٍ كما لو كان الحديث بين أشخاصٍ فهموا على المتكلم ولم يترتب على التصريح حكمٌ قضائي،

وعندما ننظر إلى الصراحة من جميع جوانبها نجد أن فلسفة الإسلام في الصراحة تقوم على أًسس عدة من أبرزها:

1- الإحسان

ونعني به في هذا المقام مراقبة الإنسان لربه، وهذه المراقبة لا تكتمل ما لم يشعر المرء أنه عبد لله تعالى، وبذلك يكون كلامه تصريحا أو تلميحا أو سكوتا متماشيا مع المصلحة المتوخاة من ذلك.

2- جلب المصلحة

نقصد بالمصلحة هنا هي المصلحة التي اعتبارها الشارع وحددها وقام بضبطها، وهذه المصلحة سواء أكانت شخصية أو غيرية، فإذا تجلّت المصلحة من المصارحة فإنَّ الصراحة تكون هي الأولى للوصول إلى الحق، وكلُّ ذلك مرهون بعدم التنازل عن الحق الشخصي أو حقَّ الآخرين، مع ملاحظة أنَّ حقَّ الآخرين من النصح لا يمكن التنازل عنه لأنه متعلق بالآخرين، والأمثلة التي يمكن استحضارها في الصراحة للوصول إلى الحق الشخصي كثيرة ومنثورة في كُتُب الفقه، وهي في الحقيقة تقوم على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية والقواعد العامة في الشريعة، ومن الأحاديث التي يمكن الاستناد إليها قول هند زوج أبي سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام :  (إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي جناح أن آخذ من ماله سرا؟) قال: ((خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف))[18]. فالنبي لم ينهها مع صراحتها، والأصرح من هذا ما ذكرناه سابقا في حديث رفاعة .

وقد تكون المصلحة مرتبطة بجلب النفع للآخرين ودفع الضرر عنهم، والشريعة قامت على جلب المصالح ودفع المفاسد في الدنيا والآخرة، ولأجل هذا أبيحت الصراحة، ولم يَعُد الحديث عن الآخرين غيبة، وقد رأينا النبي عليه الصلاة والسلام يستمع ويحكم لهند مع أنها ذكرته بشرٍّ وهو الشح، والمستثنيات من الغيبة كلها فيها صراحة لكنها تحقِّق مصلحة شخصية أو غيرية أو شرعية كجرح الرواة وذكْر كذبهم[19].

3- مراعاة آداب المروءة والحشمة

تتنوع الصراحة بحسب الموضوع الذي يتم الحديث عنه، خاصة في بعض أنواع الصراحة التي لا تتعلق بالحقوق الشخصية، كما يمكن أحيانا الاستغناء عن الصراحة بالتلميح، أو يكتفى باختيار ألفاظٍ أبعد عن الفُحش، ولعلنا نفهم هذا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها))[20].

ودلالة التحريم واضحة في الحديث، ما لم تكن هناك حاجة ماسة تدعو إلى ما ذُكر، فإذا خلا الأمر من الحاجة الداعية فأقلها أنه مكروه؛ (لأنه خلاف المروءة)[21]، ولنلحظ إلى علوِّ ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم وبُعدها عن خدش الحياء باستخدام لفظ “الإفضاء” وهذا يذكرنا بقوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20، 21] ، والإفضاء في هذه الآية هو الجماع ولكنَّ الله تعالى كريم يكني[22]، تعليما لنا في اختيار الألفاظ الموصلة للمعنى المُراد.

يقول النووي: (ومما يُنهى عنه؛ الفحشُ وبذاءةُ اللسان، والأحاديثُ الصحيحة فيه كثيرة معروفة)، ومعناه: التعبيرُ عن الأمور المستقبحة بعبارة صريحة، وإن كانتْ صحيحةً والمتكلّمُ بها صادق، ويقعُ ذلك كثيراً في ألفاظ الوقاع ونحوها.

وينبغي أن يستعملَ في ذلك الكنايات، ويعبّر عنها بعبارة جميلة يُفهم بها الغرضُ، وبهذا جاءَ القرآن العزيز والسنة الصحيحة المكرّمة، قال الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ) [البقرة: 187] وقال تعالى: (وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ) [النساء: 21] .

وقال تعالى: {وَإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] والآيات والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة.

قال العلماء: (فينبغي أن يستعملَ في هذا وما أشبهَه من العبارات التي يُستحيى من ذكرها بصريح اسمها؛ الكنايات المفهمة، فيُكنّي عن جماع المرأة بالإِفضاءِ والدخولِ، والمعاشرةِ والوِقاع ونحوها… وكذلك يُكنّي عن البول والتغوّط بقضاء الحاجة، والذهاب إلى الخلاء، ولا يصرّحُ بالخِرَاءة والبول ونحوهما… واعلم أن هذا كلَّه إذا لم تدعُ حاجةٌ إلى التصريح بصريح اسمه، فإن دعتْ حاجةٌ لغرض البيان والتعليم، وخِيفَ أن المخاطَب لا يفهم المجاز، أو يفهمُ غيرَ المراد، صرّح حينئذ باسمه الصريح ليحصلَ الإِفهامُ الحقيقي، وعلى هذا يحمل ما جاء في الأحاديث من التصريح بمثل هذا، فإن ذلك محمول على الحاجة كما ذكرنا، فإن تحصيل الإِفهامُ في هذا أولى من مراعاة مجرّد الأدب)[23].

4- إقامة النظام الاجتماعي الإسلامي على الوضوح

هذا مقصد مهم جدا ينبغي أنْ يُلحظ عند الحديث عن الصراحة، فالصراحة قد تكون مُغضِبة في بداياتها، ولكنَّها حتى عند من يتضرر بها أكثر قبولا من الوجه الآخر المتمثل بالالتواء والغموض، فليس هناك في المواقف التي تحتاج إلى صراحة من بديل عنها، والبديل قد يصل إلى مرحلة الكذب والنفاق، وهما الوجه الآخر للكتمان وتغيير الحقائق، وأكثر خصلة عابها ربنا سبحانه وتعالى على المنافقين هي الغموض العقدي والعملي، فما يخبئه القلب من نفاق نقيض للصراحة العقدية، وما يتلفظ به اللسان من نفاق وكذب ضد الصراحة العملية.

تريد الشريعة من المرء أنْ يكون واضحا، ولذا فإن الصَّراحة لا تصدر إلا من نفوس كبيرة، فليس الخطأ أن تكون صريحا وتعترف بالخطأ، فالاعتراف بالخطأ  فضيلة ولا يحصل عادة من النفوس الضعيفة المهزومة، من ذلك مثلا ما يحدث أحيانا بين الشركاء في التجارة أو بين الزوجين من اعتراف أحدهما بالخطأ اتِّجاه الآخر، كأنْ يُطلقها لأنه يريد أن يتزوج عليها، ولها عليه دين مؤخر، فمن الرجولة والصراحة أنْ يعترف أنَّها ما كانت مخطئة؛ لأنَّ بعض الرجال بقصد إكراهها على إسقاط المهر المؤخر قد يفتري على عِرضها تهما باطلة، فالاعتراف فضيلة وهذه لا يقوم بها إلا كبار القوم وعليّتهم.

وإذا كانت الصراحة مطلوبة وفق المصلحة فلا ينبغي الخلط بينها وبين المدارة والمداهنة.

الصراحة أنْ نكون واضحين في كلامنا وأفعالنا من غير مجاملة ولكنْ بطريقة مهذبة ومن غير وقاحة كما سبق، فهي تدلُّ على المحبة أو النصيحة وتخرج من قلب سليم نظيف اتِّجاه الآخرين، والصراحة محبوبة وممدوحة، وقد سبق بيان ذلك، أمَّا المدارة فهي المجاملة والسكوت عن بعض الأشياء طمعا في الاقتراب من الشخص أو مراعاة لمصلحة ما له، أو طمعا في إسلامه، فليس في المداراة موافقة  له، بل فيها السكوت الظاهري والموافقة الظاهرية طمعا في مصلحة أكبر منها، وهذا ما أمر الله به نبييه موسى وهارون بمخاطبة فرعون باللين، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]، فالطمع بصلاح شخص مقابل اللين في الكلام أمر مطلوب، وكذا إذا كنَّا نخشى شر شخص ما فيمكن أنْ ندارِه اتِّقاءً لشره.

الصَّراحة والثورة السورية

لا نعلم اجتماع الدَّجل والكذب والنفاق في مرحلة من مراحل التاريخ كما اجتمع ضدَّ الشعوب العربية المطالبة بحريتها من عبودِّية حُكَّامها في دول الربيع العربي وخاصة في سورية، حيث تآلب الإعلام والمال والنفاق والإفتاء والتزوير… للوقوف أمام الثورة السورية، وهذا التّآلب جاء لإخفاء الحقيقة وعدم التصريح فضلا عن التلميح بمطالب الشعب في سورية.

فالإعلام يصدح صباح مساء بالكذب بأنَّه يقاتل إرهابيين ومرتزقة… والأسلحة بمختلف إشكالها بما فيها الكيماوي لم تتوقف على الشعب السوري بهذه التَّهمة، وكلُّ ذلك بمؤازرة من إفتاءٍ ماجن ومنابر صنع النَّظام أزلامها، تبارك له القتل والتجويع والتهجير.

وأما عن الدُّول المساندة للقتل والإجرام وفي طليعتها صفوية إيران، فهي بذلك تحقق تناغم الكذب والدجل مع التقيَّة التي هي جزء من تلك العقيدة الصفوية وأنَّى للتقيِّة أنْ تلتقي مع الصراحة.

التربية على الصراحة

هناك أكثر من سبيل لهذا، ومنها:

1.أن ننمي هذه الخصلة الموجودة في النفوس، فهي فطرة موجودة في النفس البشرية وهي تعبير عن رفضنا للشيء الذي لا نقتنع به، وعدم الموافق على كل شيء. وتعبير الطفل بالصراخ هو وجه من وجوه رفضه لما لا يعجبه وهو تعبير عن صراحته ووضوحه في مطلبه قبل أنْ يتكلم ويحسن الكلام.

  1. أنْ نمدح أصحاب المواقف الجريئة ولا نذمها، بعض الناس يحبِّطون أصحاب المواقف الشجاعة والصريحة كأن يقولون له، مَن أنت حتى تُصرِّح بهذا القول؟ ستفقد منصبك؟ سيُغضب عليك… ومثل هذه المواقف التي تثبط الهمم ولا تصنع في الناس الرجولة وتبني المواقف.

3.أنْ نعلم أنَّ الخير والشر والضر والنفع بيد الله تعالى، فإذا استدعى الموقف منّا صراحة فلنفعل ذلك ولن يضيع الله عباده.

  1. أنْ نربي في الناس مراقبة الله تعالى، وأنْ نغرس فيهم الحرص على مصالح الناس، فمن تربَّى على هذا لا بدَّ أنْ يكون حريصا على قول الحق وإظهار ما يحتاجه كل موقف.

5.أنْ نبين لهم خطورة التذبذب في المواقف وعدم التصريح بها.

  1. أنْ نبين لهم أنّ الصراحة من الواجبات على المسلم، وعندنا حديث: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))[24] يقول الخطابي: (النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له)[25].

الخاتمة

بعد هذا يمكن القول إنَّ الصراحة خُلُقٌ عالٍ أصيل، وهي من الأخلاق الطيبة التي كانت موجودة عند الكثيرين من العرب في الجاهلية، وهي لا تجتمع مع النفاق، ولأجل هذا لا نجد النفاق في مكة وإنما في عرب المدينة، وقد تسلل إليهم من مجاورتهم لليهود.

والموقف الشرعي هو الذي يتحكم في الإنسان فقد يكون التكلم بالتصريح فُحشا، وقد يكون السكوت أو الإيماء تعمية للأمر أو نفاقا، ولنا في تجلية هذا الأمر من القرآن الكريم والسنة النبوية وتعاملات الصحابة رضوان الله عليهم منهجا نستند عليه.

وإذا كانت الصراحة مطلوبة فلنحذر من المداهنة التي هي خلق ذميم، لأنها السكوت على إهانة الدين والقيم والأخلاق مقابل مصالح مالية أو شخصية أو مكانة، ومن ذلك بعض المفتين – كمفتي النظام السوري- الذين يمشون مع السلاطين فيفتون لهم بما يتماشى مع أهوائهم، ومثل ذلك أنْ تعظّم الصغير الحقير وتكرمه وهو ليس أهلا للإكرام، فهذه مداهنة وهي بيع للدين مقابل الدنيا، والمداراة بيع للدنيا مقابل الدين، والصراحة هي الوضوح وترجع إلى المحبة.

كما لا ينبغي أنْ تجرَّ الصراحة إلى الوقاحة، الوقاحة مرتبطة بقلة الحياء وبغلظة اللفظ وفظاظته وجلافته بينما الصراحة تبتعد عن ذلك، فالحامل لها محبة الخير وليس الإهانة والتقريع، ولكي يتم التفريق بينهما بوضوح يمكن التمثيل لذلك بتحكيم بحثٍ علمي، فبعض البحوث ليست مؤهلة في نظر المحكِّم، فالفرق كبير بين أنْ يُقال لصاحب البحث نأمل أن ننشر لك في أعداد قادمة، ونعتذر لأنَّ البحث لا يتناسب مع سياسة المجلة، وبين أن يُقال له إنَّ بحثك لا قيمة له، وكيف حصلت على الجامعة! فهذه وقاحة؛ لشدِّتها وللغاية المقصودة منها وهي الإهانة والتحقير[26].

 

 

 

 

 

 

[1] انظر: أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، مقاييس اللغة، المحقق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1399هـ – 1979م، الصاد والراء والحاء، علي بن إسماعيل بن سيده المرسي، المحقق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2000 م، مادة صرح، محمد حسن حسن جبل، المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، الناشر: مكتبة الآداب – القاهرة، الطبعة: الأولى، 2010 م. مادة صَرَحَ،

[2] مقاييس اللغة، مادة نَصَحَ.

[3] محمد الطاهر ابن عاشور، الناشر: الدار التونسية للنشر – تونس، سنة النشر: 1984 هـ،8/ 94.

[4] السرخسي، محمد بن أحمد السرخسي، دار المعرفة – بيروت، 1/ 187.

[5] انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، 22/ 81.

[6] رواه ابن حجر العسقلاني وقال:” هذا إسناد حسن” ابن حجر العسقلاني، المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، دار العاصمة، دار الغيث – السعودية، الطبعة: الأولى، 1419هـ، 17/ 251، وقد أورد الشيخ الألباني هذا الحديث فقال معلقا :” قلت: وهذا إسناد حسن ” الألباني، محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة: الأولى، 1/ 195.

[7] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، رقم: 456.

[8] صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، رقم: 750.

[9] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، رقم: 6101

[10] محمد بن علي بن آدم بن موسى الإتيوبي الولوي، البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج، الناشر: دار ابن الجوزي

الطبعة: الأولى، 10/ 214.

[11] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين، والاستغفار للمشركين، رقم: 366.

[12] صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب شهادة المختبي، رقم: 2638.

[13] ا بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، جامع بيان العلم وفضله، الناشر: دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1414 هـ – 1994 م، ص373.

[14] مسلم، صحيح مسلم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت،  كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى  ، رقم: 1695.

[15] انظر: عبد الملك بن هشام، سيرة ابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ – 1955م، 1/620، صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، دار الهلال – بيروت، الطبعة: الأولى، ص191.

[16] انظر: محمد بن يوسف الصالحي الشامي سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1993 م،4/376.

[17] صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، رقم: 5273.

[18] البخاري، صحيح البخاري، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم: في البيوع والإجارة والمكيال والوزن، وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة، رقم: 2211.

[19] انظر فيما يُباح من الغيبة، النووي، رياض الصالحين، تعليق وتحقيق: الدكتور ماهر ياسين الفحل

دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1428 هـ – 2007 م، ص 424.

[20] مسلم، صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، رقم: 1437

[21] النووي، يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثانية، 1392، 10/ 8.

[22] انظر: القرطبي، محمد بن أحمد، تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م، 5/ 102.

[23] يحيى بن شرف النووي، الأذكار، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط رحمه الله، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ص375.

[24] مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم:96.

[25] أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي، معالم السنن، المطبعة العلمية – حلب

الطبعة: الأولى 1351 هـ – 1932 م، 4/ 126.

[26] الوقاحة في اللغة ترجع إلى مادة (وقح)، وهي كلمة تدل على صلابة في الشيء. وقلة في الحياء، انظر ابن فارس، مقاييس اللغة، الواو والقاف والحاء.