تحميل البحث كملف PDF
د. عبد العزيز محمد الخلف
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأكمل التسليم، على سيدنا محمد، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، أما بعد:
فيكثر حديث الناس في شهر رمضان المبارك عن بعض القضايا الخلافية التي للعلماء فيها أكثر من وجهة نظر، كتحديد بداية الشهر واختلاف المسلمين حوله، فتصوم دولة في يوم وأخرى في يوم تالٍ، وربما صامت ثالثة في يوم ثالث، وتحديد صدقة الفطر أهي من الأعيان أم الأثمان، وهل على من فرَّقها من الأثمان بأسٌ، أم أنها صدقة متقبَّلة، ثم يبدأ التقريع واللوم وجلد الذات، وتكثر الآراء التي تطالب بالاتفاق على هذه القضايا الفقهية، وأن الاختلاف فيها اختلافٌ غير محمود، حتى ليخيل للسامع أن اتفاق المسلمين عليها غاية المنى ونهاية المطلب، وأن أقطار المسلمين ستتوحد، وجبهتهم ستقوى بعد هذا الاتفاق الموهوم.
والحقيقة أن اختلاف المسلمين في تحديد يوم الصوم وتحديد ماهية صدقة الفطر اختلافٌ سائغٌ مشروعٌ، وليس فيه ما يغُضُّ من شأن المسلمين أو يُنْقِص من قدرهم، ما داموا ينطلقون في اختلافهم من فقهٍ ودليلٍ، وكل منهم يبغي الحق ويتحراه، بل إنهم في اختلافهم مأجورون جميعاً، على تفاوت في الأجر، فللمصيب أجران وللمخطئ أجرٌ واحدٌ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ))[1]، وهذا الحديث توجيه نبوي عظيم يؤسس لثقافة قبول الرأي المخالِف.
ولا يُفهم من هذا أن سعيَ المسلمين للوصول إلى اتفاقٍ في كثير من المسائل الخلافية مذمومٌ، بل هو أمر محمودٌ لا مرية في ذلك، وبذل الجهد في سبيل تحقيقه لازمٌ، على ألا نقرِّع أنفسنا ونجلد ذواتنا إذا اختلفنا في أمرٍ فرعيٍّ، لأن الاختلاف سيستمر ما دامت العقول متفاوتةً والفهوم مختلفةً. فلا بد من التأسيس لثقافة قبول المخالِف.
ليست المشكلة في أن نختلف، وإنما المشكلة في أن يفضيَ هذا الاختلاف إلى التنازع فالتخاصم وربما الاقتتال، هذا ما لا ينبغي أن يصير إليه حال المسلمين بأي شكلٍ من الأشكال، يقول الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، ولو شاء الله لجعل الناس جميعاً يسيرون في الطريق ذاته، ويتبعون الرأي ذاته، ولكن الله شاء أن يجعل للناس عقولاً، ويعطيهم حرية الاختيار، ليحاسبهم بعد ذلك على اختياراتهم، يقول سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119]، فالاختلاف سنة إلهية أقام سبحانه وتعالى الكون والخلق عليها.
ومن الاختلاف ما هو اختلافُ رحمةٍ، لما يجلب للناس من تيسير، ولو فرضنا أن آيات الكتاب الحكيم جاءت تحمل معنىً واحدا لا يختلف فيه الناس، وجاءت الأحاديث جازمةً لا تقبل تأويلاً أو اختلافاً؛ لأورث ذلك المشقة والعنت على الناس جميعاً، بل ربما جعل هذه الأحكام غير صالحةٍ لكل زمانٍ ومكانٍ، ولذلك شاء ربنا سبحانه أن يكون كثير من كلامه حمّال أوجه، ليختار المجتهد ما يراه حقاً، ويختار غيره منه ما يراه حقاً. وحينما يختلفون ينشأ عن اختلافهم اليسر لمن يتبعهم، فيكون اختلافهم رحمة، يقول أحد التابعين: (كان اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لهؤلاء الناس)[2]، ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يضيقوا ذرعاً بذلك، بل نجد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول عن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم: (ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنما أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحدٌ بقول رجلٍ منهم كان في سعة)[3]، فالصحابة باختلافهم أتاحوا لنا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم، كما أنهم سنُّوا لنا سنة الاختلاف في القضايا الاجتهادية، مع الحفاظ على رابط الأخوة والمحبة.
فالاختلاف وحده ليس مشكلةً، إنما المشكلة ألّا نحدِّد مرجعيةً لحل الاختلاف إذا وقع، تلك المرجعية التي نصَّ عليها ربنا سبحانه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، فذاك المرجع لحل كلّ خلافٍ، إن التجأنا إليه وُقينا شر الاختلاف، وإن تركناه أصابنا الزلل والضلال، فعدم تحديد مرجعية حل الاختلاف هي المشكلة المعضلة.
وهنا لا بد من أن نذكر بالقاعدة الجليلة التي تؤسس لقبول الاختلاف، تلك القاعدة القائلة: (الاختلاف لا يفسد للود قضيةً)، والقاعدة الذهبية في ذلك: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه)، ولنا في الإمام الشافعي خير قدوةٍ، يقول يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: (يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإنْ لم نتفق في مسألة)[4]. رحمه الله تعالى، ما أجمل كلمته هذه من كلمةٍ تُرسي دعائم إدارة الاختلاف، ولا تحاول استئصاله من جذوره، لأنها محاولةٌ غير مجديةٍ.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا حسن الاختلاف، وحسن إدارته، وأن يسدد إلى الحق خطانا، ويجنبنا الزلل والضلال. والحمد لله رب العالمين.
ا
[1] البخاري، في الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، حديث رقم (6919).
[2] حلية الأولياء: 7/119.
[3] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر: 2/901.
[4] سير أعلام النبلاء: 10/16.