تحميل البحث كملف PDF
الباحث: عامر خطاب – ماجستير في التربية الإسلامية
أصبح الاهتمام بقضايا المجتمع ودراسة الظواهر الاجتماعية علمًا له أصوله ومصادره التي تتطور مع تطور الحياة بشكل مستمر، فبناء الأسرة على أسس تربوية سليمة، وفهم المشكلات التي يقع فيها الأزواج في مرحلة تكوين الأسرة أو مشكلات التربية بعد وجود الأبناء، ودراسة الظواهر السلوكية والمظاهر الدينية والعقائد والأفكار والثقافات والطبقات الاجتماعية والعرقية؛ تحتاج إلى وعي وعلم في كيفية التعامل معها وفهم فروعها وتفاصيلها.
وتؤكد أغلب الدراسات التربوية والاجتماعية أن الإنسان اجتماعي بطبعه يميل بفطرته إلى التكامل مع أبناء جنسه، وتدفعه حاجاته إلى التعامل مع البشر والتعاون معهم لتحقيق مصالحه وتلبية احتياجاتهم واحتياجاته.
إن علم الاجتماع يتناول العلاقات الاجتماعية على مستوى الأفراد أو المؤسسات من حيث تحقيق المصالح الدنيوية فقط بل ربما بفصلها عن الدين وإظهار العداء له([1])، أما الشريعة الإسلامية فقد تميزت بربط العلاقات الاجتماعية في الدنيا بالثواب والعقاب في الآخرة، ووضعت مجموعةً من الضوابط والأطر التي تسهم في البناء السليم لهذه العلاقات، فهي تحمل المؤمن على المراقبة الذاتية في تكوين علاقاته، فيدرك ما فيها من بُعد إيماني وما يترتب عليها في الآخرة من جزاء، كما أن مراعاة هذه الضوابط تقوي صف المؤمنين، وتحمي الأمة من الفرقة والشتات، ومن هنا جاء هذا البحث ليبين أهمية العلاقات الاجتماعية في الإسلام وتنوعها وما يترتب على كل نوعٍ من ثواب أو عقاب.
أولاً: أهمية بناء العلاقات الاجتماعية في الإسلام
العلاقات الاجتماعية: هي الروابط والآثار المتبادلة التي تنشأ نتيجة اجتماع الناس وتبادل مشاعرهم واحتكاكهم ببعضهم، ومن تفاعلهم في بوتقة المجتمع([2]).
وقد بيَّن الله عز وجل أن العلاقة بين البشر تقوم على أساس التعارف والتكامل، وأن ميزان الأفضلية هو التقوى والعمل الصالح، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
ومن هنا يقرر ابن خلدون أن الإنسان مدني بالطبع، وهذا يعني أنه لا يمكن للفرد أن يعيش حياته بعيدًا عن البشر، فلا يتم وجوده إلا مع أبناء جنسه، وذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محتاج إلى المعونة في جميع حاجاته أبدًا بطبعه([3]).
العلاقات الاجتماعية بين المسلمين في القرآن الكريم:
هناك دلائل عديدة تؤكد ربانية النظام الاجتماعي، من ذلك تلك النصوص الشرعية التي تطلب من المجتمع المسلم التطبيق الكامل لتشريعات الوحيين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة: 208]، يقول ابن كثير: يقول الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك([4])، فالنص القرآني واضح في أنه يطالب المجتمع المسلم أن يلتزم بالنظام الرباني الذي شرعه الله تعالى للعباد، وأن يتم تطبيق النظام في المجتمع بصورة كاملة، وبهذا يكون مجتمعًا إسلاميًّا مسالِمًا ربانيًّا([5]).
وأقام الإسلام العلاقة بين المؤمنين على أساس متين من الأخوَّة، قال الله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10] قال الرازي قال بعض أهل اللغة: الإخوة جمع الأخ من النسب، والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فالله تعالى قال: “إنما المؤمنون إخوة” تأكيدًا للأمر وإشارةً إلى أن بينهم ما بين الإخوة من النسب، قال قائلهم:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم([6])
العلاقات الاجتماعية بين المسلمين في السنة:
بيَّنت السنة النبوية أن تطبيق المجتمع المسلم للمنهج الرباني الذي طبَّقه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يشكّل الضمانة له من الضلال والتراجع والانحلال، ففي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ”([7]) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه”([8]).
ولعل هذا هو سبب الخيرية التي خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بها القرون الأولى عندما قال: “خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”([9])، وهو ما ميّز الله عز وجل به السابقين عندما قال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ) [الواقعة: 10-16] ثم بيَّن سبب هذا الأجر الكبير فقال: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة: 24].
لقد جاءت التوجيهات النبوية والأحاديث الكثيرة التي تحثُّ المسلم على بناء العلاقات الإيجابية، وتقوي صف المؤمنين وتجعله جزءًا من الجماعة الفاعلة بعيدًا عن الفردية والانطواء، ومن هذه الأحاديث:
1- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”([10]).
2- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن مألفة، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف”([11]).
ثانيًا: تنوع العلاقات الاجتماعية في الإسلام
يمثِّل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مصدرينِ للمسلم في استقصاء القيم التربوية والاجتماعية، فكانت التوجيهات النبوية في دعوةٍ مستمرةٍ إلى التفاعل بين العناصر الاجتماعية المختلفة، وتوثيق الصلات والروابط بين الشرائح الاجتماعية في منهج قويم متكامل قائم على أسس عقدية وتشريعية وأخلاقية تتفق ومتطلبات الفطرة الإنسانية([12])، ومن هنا فقد تنوعت العلاقات الاجتماعية في الإسلام، ولعلنا نلخّص بعضها في الآتي:
العلاقة مع الوالدين:
أولى الإسلام نظام الأسرة اهتمامًا بالغًا، فجاءت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوجيهاته تنظم علاقة الأبوَّة والبنوَّة، وقد صدَّر البخاري كتاب الأدب في صحيحه ببرّ الوالدين، فذكر جملةً من الأحاديث التي تدور حول هذه العلاقة، وهي تمثِّل وحدةً موضوعيةً متكاملةً إلى حدٍّ ما، بلغت أحد عشر حديثًا تحت ثمانية أبواب، وصدَّر كتاب الأدب بما رواه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم “أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله”([13]).
ويعد هذا الحديث أساسًا في بناء العلاقات، فالصلاة صلة بالله تعالى، وبر الوالدين علاقة مع المسلمين لأن من يبرهما يبر غيرهما، والجهاد علاقة مع الكفار، وتخصيص هذه الأمور الثلاثة لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيَّع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مؤنتها عليه وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برًّا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك([14]).
وفي الحديث التالي خصَّ الأم بالبر بعد أن حضَّ على برهما معًا، وأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: “جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك”([15]).
وبعد التوصية ببرّ الوالدين وبيان عظيم حقهما شرع في بيان آليات البر، فقال: (باب لا يسبُّ الرجل والديه) بمعنى ألا يكون سببًا إلى سبِّهما([16])، وهو الحد الأدنى من البر، وبعد أن بين آليات البر شرع في بيان أثر ذلك، فقال: (باب إجابة دعاء من برَّ والديه)، ولما بيَّن الموقف الإيجابي الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم تجاه والديه، بيَّن الموقف السلبي وهو العقوق، وسلك فيه مسلك الترهيب فقال: (باب عقوق الوالدين من الكبائر)، وبعد أن بين على صورة قاعدة عامة وجوب بر الوالدين وفضل القيام عليهما، تطرق إلى بعض أحكامهما فقال: (باب صلة الوالد المشرك)، وقال: (باب صلة المرأة أمها ولها زوج).
وفي ثنايا هذه الأبواب تطرق إلى ما ينبغي على الوالد تجاه ولده، فأورد حديث تحريم وأد البنات، تلك العادة الاجتماعية السيئة التي كانت منتشرة في بعض أوساط المجتمع الجاهلي، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعًا وهات ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال”([17]).
العلاقة مع الأرحام:
جاءت الأحاديث النبوية التي تؤكد ضرورة صلة الأرحام وما يترتب عليها من خير في الدنيا وأجر وثواب في الآخرة، وقد أوردها البخاري تحت (باب فضل صلة الرحم)، ومنها عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم: ما له ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرب ما له، تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم. ذرها، قال: كأنه كان على راحلته”([18]).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلة الأرحام لا تكون مكافأة بأن يقتصر في صلته على من يصله، فذلك القصاص، وإنما يصل من يقطعه، قال عليه الصلاة والسلام: “ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها”([19]). قال ابن حجر: “قوله ليس الواصل بالمكافئ أي الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير، وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفًا: ليس الوصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك”([20]).
وأمر الإسلام بصلة الوالد المشرك والأخ المشرك، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: أصلها؟ قال: نعم، قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة: 8] ([21]) وجعل صلة الأرحام سبباً من أسباب الرزق، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من سرَّه أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه” ([22]) وحذر من قطيعة الرحم، قال عليه الصلاة والسلام: “لا يدخل الجنة قاطع”([23]).
العلاقة مع المجتمع:
قرر الإسلام أن المؤمنين إخوة، قال الله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وهذه الأخوة واضحة في تعامل المسلمين بعد الهجرة النبوية، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فقال: “فلان أخ لفلان، وفلان أخ لفلان…” وبناء على هذه الأخوة كان الصحابي الأنصاري يقاسم أخاه المهاجر بماله، وأحيانًا يعرض عليه أن يطلق له إحدى زوجاته، وهذا كله يؤكد أواصر العلاقات الاجتماعية وضرورة أن يعيش المسلم جزءًا من أمَّة.
فالمسلم الواعي لأحكام دينه اجتماعي بطبعه لأنه صاحب رسالة في الحياة، وأصحاب الرسالات لا بد لهم من الاتصال بالناس، يخالطونهم ويعاملونهم ويبادلونهم الأخذ والعطاء، والإنسان المسلم اجتماعي من الطراز الرفيع بما لقن من أحكام دينه الحق، وبما تمثل من أخلاقه الإنسانية الرفيعة النبيلة التي دعا إليها وحضَّ على التخلق بها في مجال التعامل الاجتماعي ([24]).
وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي تنظم علاقة المسلم بالمجتمع المسلم بما لا يتسع المجال لعرضها، فحرم الإسلام الكبر والسخرية والاستهزاء والهمز واللمز بأحد المؤمنين، وأمر بخفض الجناح والرأفة واللين، وحث على التعاون والتراحم والبذل والإحسان إلى الجار والفقير والأرملة والمسكين، وأوصى باليتيم وأمر بالرفق بالأسير، وتتأكد هذه المعاني في واقع الثورة السورية اليوم حيث يحتاج الناس إلى مزيد من التضامن والتعاون وإيجاد آليات وحلول لمستقبل مئات الآلاف من الأرامل والأيتام، وعلاج الآلاف ممن سببت له الحرب إعاقة جسدية أو نفسية، وإيواء الآلاف من النازحين والمشردين، وبالجملة فما من فضيلة في المجتمع إلا وحثَّ الإسلام عليها ودعا إليها، وما من سيئةٍ إلا ونهى عنها وحذر منها، وفي هذا دلالة واضحة على أن الإنسان في تاريخه الطويل لم يحظ بمكونات الشخصية الفاضلة المتكاملة كما حظي الإنسان المسلم حين تلقى إشراقة الوحي والهداية الربانية من نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ذلك أن الإسلام لم يحفل بحشو عقل الإنسان بالمعارف الفلسفية كما صنع اليونان، ولا بالروحانيات المغرقة في الوهم كما فعل الهنود، ولا بتربية الجسم الرياضية كما فعل الرومان، ولا بالفلسفة المادية النفعية، وإنما اختط الإسلام منهجًا متوازنًا متكاملًا في تربية الإنسان آخذًا بعين الاعتبار جسمه وعقله وروحه؛ انطلاقًا من نظرته القويمة للإنسان على أنه مخلوق مكون من جسم وعقل وروح([25]).
ثالثًا: الثواب المترتب على العلاقات الاجتماعية في اليوم الآخر
إن سائر الأعمال الصالحة من عبادات أو أعمال خير لها دور في نجاة المؤمن من أهوال يوم القيامة، فسائر الأعمال الصالحة هي طريق المؤمن إلى الجنة، وسوف نستعرض نماذج من الأعمال التي تنظم العلاقات الاجتماعية ويترتب عليها ثواب في ساحة الحشر قبل أن يتجاوز المرء ساحة الحساب إلى مستقره الأخير.
1- القيام بحقوق المجتمع:
عن أبي هريره رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه”([26]).
هؤلاء السبعة اختلفت أعمالهم في الصورة وجمعها معنى واحد هو مجاهدتهم لأنفسهم ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج إلى رياضة شديدة وصبر على الامتناع مما يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشم ذلك مشقة شديدة على النفس، ويحصل لها به تألم عظيم، فإن القلب يكاد يحترق من حر نار الشهوة أو الغضب عند الهيجان إذا لم يُطفَأْ ذلك ببلوغ الغرض، فكان ثواب الصبر على ذلك أنه إذا اشتد الحر في الموقف، ولم يكن للناس ظل يظلهم ويقيهم حر الشمس كان هؤلاء السبعة في ظل الله عز وجل، فلم يجدوا لحر الموقف ألَمًا جزاءً لصبرهم على حر نار الشهوة أو الغضب في الدنيا([27])، ولا يخفى أن أغلب هذه الأعمال التي استحقوا بها المقام في ظل عرش الرحمن هي أعمال تتعلق بالمجتمع وتنظيم العلاقة مع الآخرين.
2- إطعام الجائع والمسكين:
وصف الله عزَّ وجلَّ عباده المؤمنين بأنهم: (يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) [الإنسان: 8-10] قال البغوي: “يعني أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لطلب مكافأتكم”([28]) وكان جزاؤهم على ذلك أن وقاهم الله أهوال يوم القيامة (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) [الإنسان: 11] كما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أطعم الجائع أظله الله في ظل عرشه”([29]).
3- التجاوز عن المعسر:
عن أبي اليسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحب أن يظله الله في ظله فلينظر معسرًا أو ليضع عنه”([30]) قال السندي: (“فلينظر” من الإنظار “أو ليضع له” أي الدَّين)([31]).
4- إزالة الكربة عن المكروب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”([32]) ومعنى نفَّس كربة: أزالها ([33]).
5- مساعدة الفقراء والمحتاجين:
عن عقبه بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس -أو قال: يحكم بين الناس- قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا”([34]).
رابعاً: العقاب المترتب على سوء العلاقات الاجتماعية:
حرص الإسلام على بناء العلاقات الاجتماعية السليمة، ورتب عليها الأجر والثواب وجعلها من أسباب النجاة يوم القيامة، وحذر من كل ما يوهن الأمة ويضعف صفها ويشتت أفرادها، فنهى عن التنازع والخلاف قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
ورتب الإسلام العقاب على سوء العلاقات الاجتماعية، وجعل الإضرار بها سببًا للوقوع في الهلاك والتعرض يوم القيامة للعذاب، وسوف نعرض بعض النماذج التي تسيء إلى العلاقات الاجتماعية ويترتب عليها في الآخرة نوع من العقاب:
1- نشر الكفر والضلال:
تنتشر بين بعض الشباب موجة من الإلحاد وإنكار وجود الله عز وجل خاصة بعض أولئك الذين هاجروا إلى بلاد غير مسلمة نتيجة للظروف العصيبة التي تمر بها بلادهم، فأصابتهم حالة من السخط ورد الفعل على ما كانوا يؤمنون به من المبادئ وما يحملونه من القيم والدين، وصدَّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه وراحوا يكتبون على وسائل التواصل وينشرون في منصاتهم وقنواتهم سخريتهم واستهزاءهم بدين الله عز وجل غير مبالين بمن سيتأثر بهذه المنشورات، قال الله عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النحل: 24-25] وعن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أيما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتُّبِع فإن له مثل أوزار من اتبعه، ولا ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى هدى فاتُّبِع فإن له مثل أجور من اتبعه، ولا ينقص من أجورهم شيء”([35]).
والمعنى: أن من سنَّ سنة قبيحة عظم عقابه حتى إن ذلك العقاب يكون مساويًا لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، قال الواحدي: ولفظة: “من” في قوله: (ومن أوزار الذين يضلونهم) ليست للتبعيض؛ لأنها لو كانت للتبعيض لخفَّ عن الأتباع بعض أوزارهم، وذلك غير جائز لقوله عليه السلام: (من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) ولكنها للجنس أي: ليحملوا من جنس أوزار الأتباع([36]).
2- الغدر:
الغدر هو نقض العهد وترك الوفاء([37])، والغدر الخيانة يقال: لست منه على ثقة يغدر غدراً([38])، وقد حذر الإسلام من الغدر بالمؤمن وخيانته، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان”([39]) لكل غادر لواء أي: علامة يشتهر بها في الناس، والغادر من ينقض العهد، واللواء الراية العظيمة تكون لرئيس الجيش ويكون الناس تبعاً له، ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة لأنه يتعدى ضرر غدره إلى خلق كثيرين([40]).
3- الاعتداء على أعراض المجاهدين:
عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقِفَ له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟”([41]) ومعنى (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم) أنها في شيئين: أحدهما تحريم التعرض لهم بريبة من نظر محرم وخلوة وحديث محرم وغير ذلك، والثاني برهنَّ والإحسان إليهن وقضاء حوائجهن التي لا يترتب عليها مفسدة ولا يتوصل بها إلى ريبة ([42]).
4- الاعتداء على المال العام:
عن أبي حميد الساعدي قال: “استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأَزْد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا لي أُهدي لي، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه؛ بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تَيْعَر، ثم رفع يديه حتى رأينا عَفْرَتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت. مرتين”([43]) ففيه بيان أن هدايا العمال حرام وغلول لأن العامل خان في ولايته وأمانته؛ لهذا ذكر في الحديث عقوبته وحمله ما أهدي إليه يوم القيامة كما ذكر مثله في الغالِّ، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسِه السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية([44]).
5- الاستيلاء على أرض الغير:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه دخل على عائشة وهو يخاصم في أرض، فقالت: يا أبا سلمة، اجتنب الأرض؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من ظلم قيد شبر من أرض طوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين”([45]) قال الخطابي: قوله “طوّقه” له وجهان: أحدهما أن معناه أنه يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة، الثاني معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقًا في عنقه، وهذا يؤيده حديث ابن عمر ثالث أحاديث الباب بلفظ: “خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين”([46]).
6- القتل العمد:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه في يده وأوداجه تشخب دمًا، يقول: يا رب قتلني، حتى يدنيه من العرش، قال: فذكروا لابن عباس التوبة، فتلا هذه الآية: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93] قال: ما نسخت منذ نزلت، وأنى له التوبة!)([47]).
7- ترك العدل بين الزوجات:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل”([48]).
8- التكبر على الخلق:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صورة الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن من جهنم يسمَّى بولَس، تعلوهم نار الأنيار، ويسقون من عصارة أهل النارِ طينةِ الخبال”([49]).
من خلال هذه النماذج وما ترتب عليها من جزاء يظهر جليًّا كيف نظم الإسلام العلاقات الاجتماعية وربطها بالثواب والعقاب في الآخرة، فما أعده الله عز وجل للمحسنين في علاقاتهم الاجتماعية من أهم الدوافع التي تنظم علاقاتنا وترقى بها نحو المثالية والاحترام، كما أن الإيمان بما توعد الله عز وجل به المسيئين في علاقاتهم من أهم الزواجر التي تنهى العبد المؤمن عن الطغيان والاعتداء.
خامسًا: النتائج والتوصيات
نخلص مما تقدم إلى جملة من النتائج والتوصيات نوضحها في الآتي:
أولًا: النتائج
ثانيًا: التوصيات
[1]– المطيري، منصور زويد، الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع الدواعي والمكان ص79، سلسلة كتاب الأمة الصادر عن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بقطر، العدد 33.
[2]– فياض، حسام الدين، العلاقات الاجتماعية، ص2.
[3] – ابن خلدون، المقدمة، ص204.
[4] – ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص 565.
[5] – خطاطبة، عدنان، أصول التربية الإسلامية ص213.
[6] – الرازي، مفاتيح الغيب ج28، ص106.
[7] – مسند أحمد، رقم الحديث 17144.
[8] – موطأ مالك، رقم الحديث: 678.
[9] – صحيح مسلم، رقم الحديث: 2533.
[10]– صحيح مسلم، رقم الحديث: 2586.
[11]– مسند أحمد، تتمة مسند الأنصار، رقم الحديث: 22840.
[12]– الهزايمة، لؤي عباس، الجانب الاجتماعي في كتاب الأدب من صحيح الإمام البخاري، مجلة البيان، العدد 161، ص12.
[13]– البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب بر الوالدين، رقم الحديث: 5970.
[14]– ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج6، ص7.
[15]– البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب بر الوالدين، رقم الحديث: 5971.
[16]– ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج10، ص417.
[17]– البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، رقم الحديث: 5975. للتوسع في الموضوع: الهزايمة، لؤي عباس، الجانب الاجتماعي في كتاب الأدب في صحيح البخاري، مجلة البيان، العدد 161، ص 12.
[18] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب صلة الرحم، رقم الحديث: 5986.
[19] المصدر السابق، باب ليس الواصل بالمكافئ، رقم الحديث: 5991.
[20] ابن حجر، فتح الباري، ج10/ص423.
[21] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب بر الوالد المشرك، رقم الحديث: 5978.
[22]– المصدر السابق، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم، رقم الحديث: 5985.
[23]– المصدر نفسه، باب إثم القاطع، رقم الحديث: 5984.
[24]– محمد علي الهاشمي، شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام ص162.
[25] المرجع السابق ص324.
[26] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، رقم الحديث: 660.
[27]– ابن رجب الحنبلي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج6، ص46.
[28]– البغوي، لباب التأويل في معاني التنزيل، ج4، ص379.
[29]– الطبراني، مكارم الأخلاق، ج1، ص373.
[30]– ابن ماجه، سنن ابن ماجه، كتاب الصدقات، باب إنظار المعسر، رقم الحديث: 2419.
[31]– السندي، حاشية السندي على سنن ابن ماجه، ج2، ص78.
[32]– مسلم، صحيح مسلم، كتاب الذكر…، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، رقم الحديث: 2699.
[33]– النووي، شرح صحيح مسلم، ج17، ص21.
[34]– أحمد، مسند أحمد، مسند الشاميين، رقم الحديث: 17333.
[35] – ابن ماجه، سنن ابن ماجه، كتاب الإيمان…، باب من سن سنة حسنة…، رقم الحديث: 205.
[36]– الرازي، مفاتيح الغيب، ج20، ص197.
[37] – ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص8.
[38] – الزبيدي، تاج العروس، ج13، ص 203.
[39]– مسلم، صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، رقم الحديث: 1735.
[40]– السيوطي، الديباج على شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ج4، ص348.
[41]– مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب حرمة نساء المجاهدين، رقم الحديث: 1897.
[42]– النووي، شرح صحيح مسلم، ج13، ص42.
[43] – مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، رقم الحديث: 1832.
[44]– النووي، شرح صحيح مسلم، ج12، ص219.
[45]– البخاري، صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، رقم الحديث: 2454.
[46]– ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج5، ص104.
[47]– النسائي، السنن الصغرى، كتاب تحريم الدم، باب تعظيم الدم، رقم الحديث: 4005.
[48] أبو داود، سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب القسم بين الزوجات، رقم الحديث: 2133.
[49] البخاري، الأدب المفرد، باب الكبر، رقم الحديث: 557.