تحميل البحث كملف PDF
د. عماد كنعان – أستاذ في جامعة كلس
أطلالٌ نحبُّها وتحبُّنا
هذا هو رجع صدى ذلكم العزف الروحي الذي أُنبِتنا عليه نباتنًا حسنًا، إنها يا أُخَيَّ رحلة السنوات المؤنِسات بين أطياف المنبر وخواطر المحراب، هَلُمَّ يا رفيق المساجد ويا صاحب ذكريات الجلوس على الرُّكبِ في حفظ آي النَّبأ العظيم، تعال أيها الغالي نعيدها سيرتها الأولى، نسبر معاً رجع صدى أحاديث الروح يوم كنا نردد المتون ونذوب حبًّا في تلكم الشجون، هاك كلتا يديَّ يا أُخَيَّ فإنه لا يحِنُّ على العود غير قشوره كما علمتنا جدَّتنا الذاكرة الله كثيرًا، أتذْكُرُ؟ وصلوات ربي وسلامه على من نَبَسَتْ شفاهُهُ الشريفة بهذه الأحرف النورانية: ((ألا إنَّ الناسَ دِثاري، والأنصارَ شِعاري، لو سلك الناسُ واديًا وسلكتِ الأنصارُ شعبةً لاتَّبعتُ شعبةَ الأنصارِ، ولولا الهجرةُ لكنتُ رجلًا من الأنصارِ، فمن وَلِيَ أمرَ الأنصارِ فليُحسن إلى مُحسنِهم وليتجاوز عن مُسيئِهم، ومن أفزَعَهم فقد أفزع هذا الذي بين هاتيْنِ. وأشار إلى نفسِه))[1].
دستور الرسول والتربية
إن القرآن الكريم دستور حياة، في أكنافه الثرَّة تنبض بعمران الدنيا مناهج حصيفة تبنى على المصالح المتحققة يقينًا، ومناهج شاملة أخرى ترسم معالم الطريق لآخرة آمنة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وفي النبأ العظيم بيان شافٍ لكل ما يحتاجه الإنسان من معرفة تحدد له أطر العلاقة بربه ونفسه ومجتمعه، وهو كتاب تربية وإعداد سماوي سامٍ تعضده ثوابت أركان الإيمان بالله رب العالمين، وكلمة الربِّ مشتقة من التربية وهي تحمل معاني العناية والرعاية والإصلاح والتأديب، وعليه فإن الله الخالق هو المربي المؤدب للإنسان من خلال الرسالات السماوية التي تضمنت أسمى القيم الأخلاقية وأرفعها، والتي ترتقي بالإنسان وتجعله مؤهلًا لمسؤولية خلافة الله في الأرض.
هذا، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المربي الأول لهذه الأمة بالقرآن، فقد أشرف على تربية جيل رشيد من الناس حتى غدا ذلك الجيل ظاهرة فريدة عجيبة لم يشهد التاريخ لها مثيلا حتى الآن، فاستطاع هذا الرجل العظيم أن يعيد بناء الإنسان العربي الجاهلي، ويخرجه من ظلمات التصحر الفكري والعقائدي والأخلاقي والاجتماعي إلى نور الإيمان والمعرفة وسمو الخلق وسماحة الذات، قال سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].
وبضدها تتميز الأشياء؛ يقول مصطفى السباعي: (فنحن في عصر اضطربت فيه النظم العالمية المتعددة، وعجزت عن إيجاد السلام والرخاء لشعوب العالم، ومهما يكن في قادة الأمم المسيطرة من عيوب أدت إلى هذا الاضطراب، فإن الذي لا ريب فيه عندنا أن الأسباب المباشرة لشقاء العالم هي تلك النظم التي لم تثبت حتى الآن صلاحها لحل مشاكل الإنسانية على وجه يريحها من الحروب والمنازعات، ويبعدها عن جو القلق الذي نعيش به في أعقاب الحروب العالمية الدامية بعد أن كانت تعيش خلال الحروب في جو قاتم من الدماء والدمار والخراب) [2].
إن العالم الإسلامي بحاجة اليوم وأكثر من أي وقت أَفَلَ إلى البحث عن سبل ووسائل تمنع السلوكيات الهدامة، التي استباحت الدماء واستحلت الأعراض ونهبت الخيرات كافة دون رادع إيمانيٍّ، وإن طريقها المعبد السريع الآمن هو سبر أغوار التربية الإسلامية المعجزة التي فتحت أمام العالم آفاقًا ومجالات لتعزيز الاستقامة بالدليل وتقويم الانحرافات بالشواهد، وكان لها الفضل في بناء حضارة إنسانية متكاملة ما تزال طلائع أنوارها بارزة في كل ميادين العلوم التربوية والتطبيقية والاجتماعية والإنسانية، فإن وفقنا في حمل مشعلها الوضاء أعدنا للحياة الآمنة المطمئنة مكانها بين المسلمين المتقهقرين خاصة والعالم التائه عامة.
مصطلح ومفهوم
استعمل العرب كلمة التقويم في معان عدة، وفيما يخص إيضاح موطن استعمال مصطلح التقويم في هذه المقالة فقد أشار مختار الصحاح إلى عين هذا المعنى بقوله: (قَوَّمَ المِعْوجَّ عدَّله وأزال عوجه، وتَقَوَّم الشَّيء تَعَدَّل واستوى، واستقام الشَّيْء اعتدل واستوى)[3].
لقد تعددت الإجراءات التي يعمد إليها المربون والمصلحون لرصد نتاجات جهودهم في التربية والتدريس والإصلاح، وتباينت إثر ذلك المصطلحات التي تحدد ماهية كل إجراء ووجهة عملياته التي تنشد تعريف المعلم والمربي مستوى إتقان المتعلمين لمحتوى موضوع التعلم، غير أن جميع هذه المصطلحات من قياس وتقييم وتقويم تجمعها مقاصد مشتركة تدور في فلك هدف عريض واحد هو تصحيح خُطَا السير نحو بناء الإنسان وإعمار الأوطان.
وفي ضوء المعنى اللغوي والاصطلاحي السابق لكلمة التقويم يمكن تحديد المعنى الدقيق المراد هنا بالتعريف الآتي:
التقويم: هو جملة الأفكار والمعارف التي يقدمها أحد أطراف التواصل -الداعية، العالم، المربي، الوالد، المعلم، المدير، القائد، وغيرهم- إلى طرف آخر بغية تصويب مساره وتصحيحه وتطوير مستوى أدائه وتحسينه.
وقد أضيف مصطلح المسار في هذه الدراسة إلى مصطلح التقويم بغية الإشارة إلى ماهية العمل الذي يراد تقويم سبله بالتعديل أو التغيير، وذلك سواء كان المتعلم المستهدف بالتعليم ولداً أو تلميذاً أو جندياً أو موظفاً أو غيرهم.
إن منهج التربية بالتقويم توطن بقوة في منهج الخلف الصالح متمثِّلًا بمقاومة الأفعال المحظورة في الشريعة المنافية لمثل الإسلام العليا وبتعزيز ثقافة التغافر بين أبناء الرسالة الخاتمة وبصور أخرى، وفيما يأتي قطوف دانية من شهد ذلكم التاريخ المشرق:
أولاً: لقاء الشيخ الزَّهَاوي الحاسم مع الزعيم القاسم
إن الرمز الذي سنحط رحالنا على أعتاب مجده هو العلامة المجاهد الشيخ أَمجدُ بن مُحَمَّد الزَّهَاوي، وينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل سيف الله المسلول خالد بن الوليد المخزوميِّ رضي الله عن الصحابة والآل أجمعين.
ولد الفقيه الزَّهَاوي ببغداد سنة 1883م، ونهل العلم من والده الشيخ الجليل مُحَمَّد بن سعيد الزَّهَاوي مفتي بغداد، ومات رحمه الله سنة 1967م حيث ووري الثَّرى في مقبرة الإمام الأعظم ببغداد.
وقد حَدَثَ في العراق عقب ثورة 24 تموز سنة 1958م أَن خرج الإلحاديون في أكبر مظاهرة شهدتها بغداد آنذاك وهم يهتفون تأييداً للرئيس عبد الكريم قاسم([4])، وبدا السفير السوفييتي في تلك المظاهرة مُبتَهِجًا إذ طَفِقَ يُلَوِّحُ بيده لجماهير المتظاهرين الداعمين لخلع عباءة الإسلام عن العراق وكأنه رئيس الدولة المُنتَخَب.
وقد سيطر دعاة الإلحاد على الشارع العراقي، وراحوا يُسَوِّقون ثقافة الكفر وأخلاقه عبر نوافذ إعلامية متنوعة سخَّرتها لهم السلطات العراقية، وذلك بعدما أوقعوا بالعلماء المسلمين خاصة صنوفًا من ألوان العذاب الجسدي، وأفنانًا من أشكال الأذى المعنوي، فعادة الحكام الظلمة في قمع العلماء المخلصين قديمة، وإبداعاتهم في تكميم الأفواه نوعية، ولقد خرج اللواء الركن محمود شيت خطاب من سجونهم المظلمة مُهَشَّمَةً عِظَامُهُ، وعَدَّ الأطباء في جسده قرابة (43) كَسْرًا وتفتُّتًا.
وإزاء هذه الأهوال الجسام التي أمطرت المجتمع العراقي بوابل من الأخطار دعا العالِم العامل المجاهد الزَّهَاوي العلماء إلى مقر رابطة علماء العراق بغية مناقشة الظروف المستجدة، ووضع آليات وقائية للتعامل مع نتائجها، فخلص المجتمعون إلى قرار يقضي بالتوجه للقاء رئيس الدولة عبد الكريم قاسم، وخرج إليه جمهرة من العلماء منهم الشيخ فؤاد الآلوسي والشيخ إبراهيم المدرِّس والشيخ ياسين المنصور، وذلك برئاسة الشيخ الزَّهَاوي بوصفه رئيس جمعية رابطة علماء العراق، فاستقبلهم في وزارة الدفاع العقيد وصفي طاهر، وأخذ يجاملهم بقوله: إنه يحمل القرآن في جيبه دائمًا، ليبهته الشيخ الزَّهَاوي بردٍ حاسمٍ في لهجة مؤثِّرة أخرسته حيث خاطبه بكبرياء: إن القران الكريم لا يُحْمَلُ في الجيب بل في القلب، وما فيه يجب أن يُطَبَّقَ قولًا وعملًا.
وبعد برهة من الزمن دخل الزعيم عبد الكريم قاسم، ليفاجئه الشيخان الزَّهَاوي والآلوسي بعدم النهوض لاستقباله ترحابًا، فبادر الزعيم بالتقدُّم إليهما ومصافحتهما، ثُمَّ استقر جالسًا إلى جانب الشيخ الزَّهَاوي.
وبعد الترحيب بهم قال بلطف وتودُّدٍ: أنتم علماؤنا، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى مساعدتكم وتأييدكم، فقال الشيخ الزَّهَاوي من غير أن يقدِّم أي مجاملاتٍ مُمْتَهَنَةٍ: المملكة خربت، لقد انتشر الكفر والإلحاد في البلد، فكيف نؤيدكم! وكانت أطراف الشيخ ترتجف غضبًا، وفي صوته نبرةُ تَحَدٍّ وحَنَقٍ.
-الزعيم: لا يوجد ما تَدَّعون.
عند ذلك أشار الشيخ الزَّهَاوي إلى الشيخ المُدَرِّس مخاطباً إياه: قدِّم له كتب المسقوف، فقدَّم الشيخ المُدَرِّس للزعيم كتاب “أين الله” وكتاباً آخر فيه الكثير من الطعن والهجوم على الإسلام.
-الزعيم مبرراً: البلد في حرية…. ردُّوا عليهم!!
-الشيخ الزَّهَاوي: كيف نردُّ عليهم والصحف والمجلات الإسلامية معطَّلة، والعلماء يهانون في المساجد!
-الزعيم: الصحف غير معطَّلة!!
-الشيخ المُدَرِّس: جريدة الفجر الجديد معطَّلة، وصاحبها كان معنا في رابطة العلماء، وطلب منا إبلاغك بذلك.
وهنا نادى الزعيم رئيس أركان الجيش أحمد صالح العبدي، وسأله: هل حَقَّاً جريدة الفجر الجديد معطَّلة؟ فقال: نعم، فطلب الزعيم منه رفع هذا المنع، ثُمَّ قال: أَحضر لي محضر مقابلة السفير الأمريكي.
وجيء بالمحضر، وتناوله الزعيم قاسم، وما كاد يقرأ نصف صفحة منه حتى ثارت ثائرة الشيخ الزَّهَاوي، فخاطب الزعيم بلهجة حادَّةٍ صارخاً في وجهه:
ما لنا وللسفير الأمريكي! لقد جئنا لنخبرك بما حَلَّ بالبلد من دمار.
أَذْعَنَ الزعيم للشيخ وأخذ يستمع إلى ما يشرحه له من أحداث مُعْضِلَةٍ أَلَمَّتْ بالعراق، ويقترح على الزعيم حلولاً لها.
-الشيخ الزَّهَاوي في ختام اللقاء الحاسم: إن هذا البلد مسلم، ولا تستطيع أي قوة في الدنيا أن تجعله شُيُوعيًّا، وسوف نقف جميعاً نحن العلماء ضد الشُّيُوعيَّة والاستعمار حتى آخر لحظة من حياتنا حتى يرجع البلد إلى الإسلام مرة أخرى.([5])
إن الكثيرين ممن حولنا ممن بلغ بهم الدهر سنًّا متقدمًا أو بلغت بهم الأقدار منزلة رفيعةً هم بحاجة إلى تذكير مستمر لا يفتر بالحق إن حادوا عن جادته، وذلك يتحقق عبر منهج تقويم المسار التربوي، وهم في الوقت نفسه في عوز ملح إلى تعزيز وتوطين مواقفهم الصائبة عند تحريهم الحصيف بغية اقتفاء أثر النبوة، وذلك يتأتى من خلال منهج تمكين المسار التربوي.
لقد زلت قدم أحد حكام العرب أيما زللٍ، فنهض له الشيخ الزَّهَاوي محذرًا، فكان للرجل عند الله أجر النهي عن المنكر، وعند الناس خلود اسمه في قلوب المسلمين، فما برحت الأقلام والألسن تتشرف بالدعاء له والثناء عليه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثانياً: الحَسَنِيُّ وغلال العفو الحَسَنِ
وثَّق العارفون من أهل دمشق أنه كان في مدينتهم العامرة عالم شهير متفنِّنٌ من أقران المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحَسَنيِّ[6]، وهو الشيخ عبد الرزاق بن حسن البَيْطار المَيْدِانِيُّ الدمشقيُّ، وقد وقع في نفس البَيْطار على الحَسَنِيِّ في ذات يومٍ غابرٍ غبطةٌ لِمَا آتاه الله من الفتح المبين في العلم والعمل، فَزَلَّت قدمه يومًا حيث نظم قصيدة يهجو بها الإمام الحَسَنيَّ، وأرسلها مع أحد تلاميذه إلى دار الحديث التي يعتكف فيها الشيخ للعبادة والتعليم، فطفق حامل الرسالة الناقدة يُلقيها في رحاب المسجد الملاصق لمقر إقامة الشيخ طمعًا في تعكير رائق صفوه وتغوير زلال نبعه.
وكان في المسجد مُريدٌ محبُّ للشيخ الحَسَنيِّ شِبْهُ عامِّيٍّ يقال له الشيخ طه الزَّبَدانيُّ، وهو رجل أَيِّدٌ مفتول العضلات، هاجم الخطيب الملقي للقصيدة بفظاظة فأوسعه ضربًا، وأحدث في مسجد الحيِّ جَلَبَةً، وذلك من دون أن يكلِّفه أحدٌ بالتصرف الخاطئ الذي أقدم عليه بقرارٍ عاطفيٍّ فرديٍّ مَحْضٍ، فلمَّا أن سمع الشيخ الحَسَنيُّ الضَّجة وعرف المشكلة أطلَّ من حجرته إلى صحن المسجد صارخًا: لا لا.. هذا مسجد.. لا يجوز هذا الذي تصنعون.. لا يجوز. ثُمَّ أرسل وراء القوم، فلمَّا عَلِمَ جَلِّية الأمر عنَّفَ المحبَّ المنتصر له على سوء تقديره وقلَّة تدبيره، ثُمَّ خاطب كاتم سِرِّه في حضرة جميع تلاميذه: يا شيخ يحيى.
-الشيخ يحيى: لبيك.
-الشيخ: اذهب إلى (أبو حَرْبٍ) فاشترِ صندوقين من الحلو، أحدهما كبيرٌ والآخر صغيرٌ، وهيِّئ لنا سيارة.
ثُمَّ اصطحب الشيخ الحَسَنيُّ المبعوثَ بالقصيدة حتى وصلوا إلى دار العالِم الذي نظم القصيدة في هجاء الشيخ المُحَدِّث، ولَمَّا فتح الشيخ البَيْطار الباب وجد الشيخ البدر فذهل، وطفق يرحب بقدومه على استحياء منه، فدخل الجمع إلى باحة المنزل وجلس الحَسَنيُّ على البحرة، والتفت إلى صاحب الدار قائلًا: أنتم أحسنتم إلينا إحسانًا كبيرًا بأن أخذتم من كثير سَيِّئاتنا، وأعطيتمونا من حسناتكم بتلك القصيدة التي أرسلتموها، جزاكم الله عنَّا كل خير كِفاءَ ما قدَّمتموه من إحسان! هذا صندوق كبير لكم، وهذا صغير لتلميذكم الذي أتحفنا بالقصيدة في دار الحديث، جزاه الله خيرًا كذلك.
احمَرَّ وجه العالم وتلميذه، وأطرق كُلٌّ منهما، وقام الشيخ الحَسَنيُّ منصرفًا لا يلوي.
وقد كان من غلال عفو الحَسَنيِّ أن نظم البَيْطار قصيدة من وزن الأولى مع قافيتها ورويِّها في مدح مولانا المحدِّث الأكبر، وجاء فألقاها بنفسه في دار الحديث في محفل الحَسَنيِّ المُشْتَمِلِ على غالب تلاميذه؛ لتأتلف القلوب الكبيرة نَزْلَةً أخرى، ولتنعقد بين الشيخين الجليلين عرى علاقة متينة تجاوزت العثرات وتعالت عن تتبع العورات، نسأل الله لهما أن يكتبا في المتحابين في الله الذين يظلُّهم سبحانه في ظلِّه يوم تصير كل نفس بما كسبت رهينة.([7])
إن ثقافة التغافر قد وظفت على نحو إبداعيٍّ نادرٍ للغاية، فمنهج التربية وفق خارطة تقويم المسار قد آتى أُكُلَهُ على خير وبركة من خلال مبادرة طيبة أخلص فيها الشيخ الحَسَنيُّ النية لوجه الله تعالى، فقلبت الحلوى المهداة بسخاء شعر الهجاء القبيح إلى شعر تطيب بسماعه الآذان، وتنجلي بعذب لحنه أدران القلوب.
ثالثًا: حسن العَدْوِيُّ وارث النبوة بحقها
إن من أعيان الرجال الصَّدَّاحين بالحقيقة في أزمنة تسويق ثقافة الكذب والرياء والإملاءات الهدامة العارف بالله الشيخ الأزهري حسن العدْوِيُّ، إنه عالِمٌ ربانيٌّ من خاصَّة الخاصَّة في علمه بالشريعة وتقواه لله تعالى، وهو فقيه مالكي محدِّث، أحد أشهر خطباء الثورة العُرابيَّة، كان عضوًا في مجلس القيادة الأعلى الذي شكله المجاهد الثائر الحر أحمد عرابي.
ولد في قرية عدْوة بمصر سنة 1221هـ، وتعلم في الأزهر فغدا واحدًاً من أكابر مشايخه، ومات بالقاهرة سنة 1303هـ، ومن مواقفه المشهودة أنه لَمَّا زار السلطان العثمانيُّ عبد العزيز بن محمود الثاني مصر في عهد إسماعيل باشا، راح اسماعيل يَجْهَدُ في بذل كل مظاهر الاحتفاء بالزيارة؛ إذ إنها كانت جزءًا من برنامجه التَزَلُّفِيِّ للحصول على لقب خديوي، وقد كان من مراسم الزيارة أن يستقبلَ العُلَمَاءُ الخليفة في السَّراي، وعندما حان الموعد (دخل السادة العُلَمَاءُ الأجلَّاء فنسوا دينهم واشتروا به الدنيا! وانحنوا أمام مخلوق مثلهم تلك الانحناءات، وخرجوا موجِّهين وجوههم نحو الخليفة كما أمرهم رجال التشريفات، إلا عالماً واحداً هو الشيخ حسن العَدْوِيُّ، ذكر دينه ونسي دنياه، واستحضر في قلبه أَنْ لا عزة إلا لله، ودخل مرفوع الرأس كما ينبغي أن يدخل الرجال الأحرار)([8])، ثُمَّ ابتدر الخليفة بالنصيحة التي يرتقبها القوم من العالِم العامل، مذكراً إيَّاه بعذاب الله إن هو لم يَعْدِل فيمن وَلَّاَه سبحانه عليهم، وما إن فرغ من الإدلاء بما في جعبته من كلام الحق الذي أريد به الحق حَتَّى سَلَّمَ على الحضور ومضى نحو مكانه في المجلس بهيبة العُلَمَاء تاركًا الأدعياء من المشايخ أذلاء صاغرين، فاجعًا الخديوي حيث أسقط في يده.
توجس الجميع من آثار أَنَفَةِ الشيخ العَدْوِيِّ، فالخديوي قلق على طموحاته الرئاسية، والسَّراي على منافعهم الكثيرة المكتسبة، والمشايخ على ماء وجههم المهدَر بسبب خروج الشيخ التواقة نفسه لنيل شرف الشهادة في سبيل الله عن معزوفة القطيع المعتمدة لدى الحاكم المطلق، ولا تغفو أعين الظالمين إلا على أنغامها الخافتة، ولا تُذْبَحُ قلوب المظلومين إلا على وقع أصدائها الخانقة.
بيدَ أن أمرًا عَجَبًا قد وقع، فرَفَعَ الغُمَّةَ عن الخديوي وزبانية السَّراي بعدما اطمأنوا على بقاء نفوذهم وحصانة ممتلكاتهم، وألحق الخزي بالمشايخ المطأطئين رؤوسهم رغبة بما عند السلطان أو فرارًا من صفع سوطه الرَّنان؛ فقد أخبرهم الخليفة بكلامٍ فَصْلٍ قائلاً: ليس عندكم إلا هذا العالِم، ثُمَّ خلع عليه فألبسه ثوباً وأكرمه دون من سواه، وذلك في إغداقٍ سخيٍّ لم يكن الشيخ الكريم يرتقبه([9]).
ثُمَّ قدر الله أَنْ كان الشيخ حسن العَدْوِيُّ من الذين قُدِّموا للمحاكمة بعد أن حلَّت الهزيمة بالثورة العُرابيَّة، ووقف الشيخ -وهو على أعتاب الثمانين من عمره المبارك- بإباءٍ ضَنَّتِ الأيام بمثله في عصرنا هذا أمام رجالات الخديوي من الباشاوات المأجورين، فسأله رئيس المحكمة إسماعيل باشا أيُّوب بأسلوبٍ فيه حنقٌ وحِقْدٌ: هل وقَّعْتَ باسمك أو ختمت بخاتمك قرارًا يقضي أن أفندينا المعظَّم سمو الخديوي توفيق باشا يستحق العزل؟
وفي لحظات خالدة من تاريخ الرجال المؤمنين الموقنين بحتمية وقوع القضاء والقدر رَمَقَهُ الشيخ الكبير بِقَدْرِهَ وعُمُرِهِ وإِيمَانِهِ بنظراتٍ ثابتة لا يُرَدُّ طرفها ولا تنكسر حِدَّتها، ثُمَّ وضع يديه على منضدةٍ أمام إسماعيل وقال باطمئنان غريب: أيها الباشا! إنني لم أَرَ الورقة التي تتحدث عنها؛ لهذا لن أجيب عن سؤالك عما إذا كنت وقعتها، لكنني أقول لك ما يأتي:
إنك إذا أحضرت لي الآن ورقة تحتوي على مثل هذا المعنى الذي ذكرته، فإنني لن أتأخر عن توقيعها، وأختمها بخاتمي في حضورك الآن أيها الباشا! ثم نظر الشيخ إلى أعضاء المحكمة قائلًا: إذا كنتم مسلمين فهل تستطيعون أن تنكروا أن توفيق باشا –وقد خان بلده وذهب إلى الإنجليز وانضم إليهم- لم يعد جديرًا بأن يكون حاكمًا لنا؟
لقد أذهلت جرأته أعضاء المحكمة الذين خابت كل سبلهم لإرعاب الرجل، وحملق بعضهم بوجه قرينه بِحُمْقٍ، ثُمَّ كَسَرَ رئيس محكمة الظُّلمات حاجز الصمت المُلِمِّ بهم، فدعا الحراس بغضب شديد إلى نقل الشيخ -المُدَان بقرينة الاعتراف الضِمْنِيِّ بمعاداته للخديوي توفيق واتهامه له بالخيانة العظمى- إلى قريته النائية، وذلك بعدما أَمَرَ بزجِّه في سِجنٍ هَرِمٍ كان فيها([10]).
لقد تنقلنا في الحادثة الرائعة السابقة في ظلال تقويم راسخ على المبدأ للمسار، فقد أبلغ وارث النبوة بحقها الشيخ الأزهري حسن العَدْوِيُّ الضيف الزائر الكبير بأحوال الرعية بصدق بعدما استقبل جنابَه بأنفة، فحقق في ذلك هدفًا ساميًا عبر تقويم شذوذ المستأمنين على مصالح أهل مصر بدءًا بالخديوي ثم رجالات السَّراي، وقد انبثق عن موقفه الناصح لأئمة المسلمين تعزيز السلطان العثمانيِّ عبد العزيز لشهادة الحق التي أدلى بها الشيخ العَدْوِيُّ بقوله :(ليس عندكم إلا هذا العالِم)، ثم إن الأقدار أوقفت الشيخ العَدْوِيَّ ابن الثمانين حولاً في موقفٍ طلب فيه الصدح بكلمة الحق نزلة أخرى، فما كان من هذا العالم العامل إلا أن حمل اللواء بحقه وقوم مسار أعضاء المحكمة غيرَ آبهٍ بعقاب حتميٍّ سوف تطاله ألسنة نيرانه لا محالة.
وإنني لأسأل المولى سبحانه أن يقيض لهذا المنهج الرشيد من يوصِّفه فكرًا نافعًا جامعًا، ومن ينشره تمثُّلًا عمليًّا مبهرًا، فاللهم إخلاصاً ننشد عبره نور هديك العظيم.
[1] متفق عليه واللفظ لمسلم (1/1061).
[2] مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع، دار الوراق، 2000، ص 8.
[3] إبراهيم أنيس وآخرون: المعجم الوسيط، (2/ 272).
([4]) ولد ببغداد سنة 1332هـ، وشارك في القضاء على الحكم الملكي في العراق، فقَتَلَ آخر ملوك الهاشميين ببغداد فيصل بن غازي في 14 تموز سنة 1958م، مات رميًا بالرصاص في 8 شباط سنة 1963م.
([5]) مازن مَكِّي العاني: أمجد الزَّهَاوي، العلامة المجاهد وشيخ العراق، (106– 108).
[6] هو أحد أعيان الأُمَّة الأفاضل من الشاميين، عالمٌ محدِّثٌ، عارفٌ عابدٌ، وجيهٌ مُقَدَّمٌ، الشريف الشيخ محمد بن يوسف الحَسَنيُّ الملقب ببدر الدين، ولد بدمشق سنة 1267هـ، وحفظ الصحيحين غيبًا بأسانيدهما، ونحو 20 ألف بيت من متون الشعر للعلوم المختلفة، وكان منقطعاً للعبادة والتدريس، مُنْكِرًا لرغائب النفس والدنيا، فرفع الله شأنه عند الحكَّام وأهل الشام.
([7]) محمد عبد اللطيف فرفور: صفحات مشرقة من تاريخنا المجيد، (39 – 42).
([8]) عبده كوشك: صفحات مشرقة من تاريخ أعلام الأُمَّة، (615).
([9]) سيد حسين العفَّاني: صلاح الأُمَّة في علو الهمة، (3/281- 282).
([10]) سيد حسين العفَّاني: أساليب الدَّعوَةِ والتَربِيَة في السُنَّة النَبَوَيِّة, (2/ 328- 283).