تحميل البحث كملف PDF
في ضوء الثقافة الإسلاميّة
د. محمد أيمن الجمال – أستاذ الدراسات العليا في جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول
ضمن سلسلة من الوثائق المرجعيّة وفي الذكرى العاشرة لصمود أهلنا في وجه الطغيان والظلم أصدر المجلس الإسلاميّ السوريّ وثيقة سمّاها: (وثيقة الهوية السورية) وقد كان لهذه الوثيقة صدى كبير في الأوساط العلمية والاجتماعية والثورية والسياسية في سوريا، ويمكن أن نعدّها بحقّ منطلقا نحو تثبيت هوية الشعب السوريّ، وحجر الأساس في فهم طبيعة المجتمع السوريّ.
إنّ هويّة المجتمع السوريّ التي عبّر عنها المجلس الإسلاميّ لا تتجاوز توصيفًا لواقع الحال، ولم تكن مطالبةً بحقوقٍ، ولا إقصاءً عن مناصب، ولا تغييرًا لواقع حال، ولا محاولاتٍ لتغيير ديمغرافيّ أو أيديولوجيّ للمجتمع السوريّ، ولم تُشِر إلى وصايةٍ على مرجعيّة الشعب السوريّ الثقافية أو الفكريّة أو الدينيّة، ولا كانت فرضًا لدستور، ولا اقتراحًا لمبادئ فوق دستوريّة، ولم تتضمّن ذكر المحاصصات بين أبناء الشعب وفئاته المختلفة، فكانت بذلك نموذجا للقبول بالشريك في الوطن، ومثالاً للتعامل المثاليّ مع الآخر في نطاق الوطن.
إنّ العالم الغربيّ يسعى بشكل دائم إلى فرض محاصصة بين أبناء الوطن يُسمّيها (عادلةً) وهي ظالمة لكونها محاصصةً، حيث إنّ العلاقة الأصيلة يجب أن تبنى على القدرات والإمكانات والتخصصات لا على الانتماءات، فيفرض نسبة للمرأة، وحضورًا للأقليّات، ممّا يؤثّر في كثير من الأحيان على حقوق الأكثريّة، فيحتكر بدعوى العدالة الاجتماعيّة حقّ تقسيم المجتمع، وفرض نسبةٍ منه لتمثيلٍ ما! وهو في ذلك يؤسّس لطائفيّة نأت المرجعيّة الشرعيّة عنها، وأسّست في وثيقة الهويّة لإنكارها.
لقد راعت هذه الوثيقة مكوّنات المجتمع السوريّ الأصيلة في الوطن كلّها، فنصّت على حقوقها، وبيّنت أنّ من أغراض هذه الوثيقة صيانة حقوق الأقليّات التي لم ترتض الهويّة أن تصفها بأنّها (أقليّات)، بل سمّتها الوثيقة (مكوّنات)، في نظرةِ احترام وتقدير وقبول للآخر، على نحوٍ لا نجد مثله في أدبيّات تلك المكوّنات جميعها عند حديثها عن الأكثريّة.
إنّ وثيقة الهويّة السوريّة تؤكّد على هويّة الشعب السوريّ (العربيّة الإسلاميّة المعتدلة المتوارثة في بلادنا) بشكلٍ واضحٍ وإن لم تنصّ الهويّة عليها بشكلٍ مباشرٍ، والغرض من عدم النصّ: التأكيد على أنّ الهوية ليست طائفيّةً أصلاً، لكنّ هذا هو واقع الشعب السوريّ، وحين نذكر بوضوح في مثل هذا المقال هذه الهويّة فذلك لئلاّ يُظنّ أنّ الهويّة هي الهويّة الإسلاميّة الهلاميّة، أو أنّ الهويّة الإسلاميّة تعني الانتماء إلى الإسلام بمعناه الأعمّ الذي تدّعيه المكوّنات الأخرى كالدرزية والنصيريّة، بل الهويّة بما ذكرَتْهُ من بنودٍ أرادت تحديدَ الإسلام المتوارث في شعبنا منذ عهد الفاتحين من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يومنا هذا؛ باعتباره حقيقة واقعة لا من باب الطائفيّة. وهذا من توصيف الواقع الذي جاءت به هذه الوثيقة.
وحتّى نتمكّن في هذا المقال المختصرِ من الحديث عن مفهوم قبول الآخر في (وثيقة الهويّة السوريّة) فيجب أن نحدّد مفهوم الآخر، وينطلق ذلك من معرفة من نحن؟ ولا بدّ كذلك أن نتحدّث عن مفهوم القبول ومعناه، بعد التعرّف إلى مفهوم الهويّة.
ما الهوية؟
يختلف علماء الاجتماع والسياسة في تعريف الهوية المجتمعيّة، ويمكن القول إنّ بناءَ الهويّة على التعريف اللغويّ أصحُّ ما يمكن أن تُعرَّف به، فهي تعبير عن ماهيّة الشيء، أو هي: ما به الشيء، ولذا فإنّه يُمكِنُ القولُ إنّ الهويّة الوطنيّة: هي مجموعةُ الخصائص والسمات التي تصنع الانتماء المشترك بين مجموعةٍ من الناس. وللهويّة دورٌ في رفع شأن الأمم وتقدّمها وازدهارها، وإذا غابت الهوية فإنّ المجتمع يفقد معنى وجوده واستقراره وتغيب مشتركاته، فيتفرّق صفّه.
فهي تعبيرٌ عن انصهارِ العوامل التي لا تشكّل الهويّة، واضمحلال الفوارق بين المنتمين لهذه الهويّة على حساب تحقّق الهويّة في كياناتهم الشخصيّة، فهم يُغلّبون هويّتهم على رغباتهم وحاجاتهم الفرديّة أو الجماعيّة.
وللهويّة جوانب متعلّقة بالدين واللغة، وعناصر متعلّقة بالتاريخ والثقافة، وعناصر متعلّقة بالعادات الاجتماعيّة والنفسيّة، وتؤثر في الزيّ والطعام، ولكنّ أهمّ ما يكوّنها الدين واللغة إن كان الدين يشمل كلّ نواحي الحياة، ففي هذه الحالة تكون الهويّة مستقاةً من الدين بشكلٍ أساسٍ، ومنبثقةً عنه أولاً، وهو أهمّ مرجعيّاتها. فلا غرابة أن تكونَ الهويّة في (وثيقة الهويّة السوريّة) التي أصدرها المجلس أنّنا مسلمون، بل الغريب أن يُنظَر إلى الهويّةِ المعاصرةِ لسوريا بانعزالٍ عن الإسلامِ، فإنّ هذا نوعٌ من الانفصال عن الماضي والواقع وعيشٌ في الأحلام.
إنّ شعوبنا التي خرجت من المساجد بشعارات عفويّة في أوّل الثورة تهتف للحريّة لهي أحقُّ بإعلاء قيمةِ الهويّة، وأولى أن تكون الهويّةُ متمثّلةً في منطلقاتها في الحياة ومنطلقاتها في الثورة، لم يخرج الثائرون ليعبّروا عن هويّة شيوعيّةٍ ولا عروبيّةٍ قوميّةٍ، ولا كرديّةٍ ولا شركسيّةٍ، ولا ليعلنوا انتماءهم إلى الديمقراطيّة الغربيّة أو الليبراليّة الأوربيّة، بل خرجوا تعبيرًا عن هويّة دينيّةٍ ترفضُ الظلم انطلاقًا من تعاليم دينها، وإنسانيّة تنادي بالحقوق اعتمادًا على صفاء إنسانيّتها، ولذا فإنّ كون الهويّة (إسلاميّةً) أدقّ ما يعبّر عن هويّة المجتمع التي لم تستطع أيدي العابثين أن تعبث بها مع جهودهم المضنية عبر أكثر من أربعة عقود، فلم يستطيعوا تغيير الهوية لتصبح هويّةً قوميّةً أو اشتراكيّةً أو بعثيّةً أو شيوعيّةً! بل حافظ الناس على هويّتهم مع شدّة البطش وعنفِ محاولات تشويهِ الهويةِ ابتداءً بالمناهج ومرورًا بالمسلسلات والأفلام وانتهاءً بالقوانين التي فُرِضت في محاولاتٍ مستميتةٍ لقطعِ الناس عن إرثهم الحضاريّ الدينيّ.
ومن المعلوم أنّ العواملَ المؤثّرةَ في بناء الهويّة كثيرةٌ، منها: المجتمع المحيط، والانتماء الديني والفكريّ والجغرافيّ، والتحدّيات المشتركة بين مجموعة من الناس، وهذه العوامل لها تأثيراتٌ كبيرةٌ في بناء الهويّة الذي قد يمتدّ لقرون متطاولة. ولهذا فإنّ مصطلح (صناعة الهويّة) أو (صياغة الهويّة) مصطلح غير مفهوم ولا يمكن أن يُتعقّل، فالهوية لا تُفرَضُ ولا تُبنَى ولا تُصاغُ ولا تُنشأ، بل تتكوّنُ من مجموعةِ العوامل عبر عصورٍ متطاولةٍ، ولا بدّ أن يتواطأ عليها جمهورٌ كبيرٌ هم الذين يمثّلون محلّ هذه الهويّة (المجتمع).
من نحن؟
وقد يتبادر سؤالٌ حول طبيعة المجلس الإسلاميّ، ومن الذين يمثّلهم المجلس ويتحدّث باسمهم، ويعدّ مرجعيّة لهم؟ وجوابه أننا أكثريّة سكّان سوريا التي عبّرت الوثيقة عن هويّتها، فنحنُ المسلمون السنّة الذين يقطنون هذه البلاد منذ مئات السنين، ولغةُ عامّتنا هي اللغة العربيّة، فلذلك أمكننا أن نقول إنّنا مسلمون عرب، وكون الأكثريّة التي نتحدّث عنها هي من العربِ لا يعني أنّ غيرهم ليس منتميًا لهذه الأكثريّة، بل ينتمي إليها التركستانيّ والشركسي والألبانيّ كما ينتمي إليها الكرديّ والأذريّ، لا فرق بينهم في الانتماء إلى هذه الهوية عينها، ومجموع هؤلاء هو ما نفخر به مكوّنًا أغلبيًّا للشعب السوريّ، وما يلتقي عليه هؤلاء أكثر بكثير مما يفرّقهم.
إنّ وثيقة الهويّة السوريّة بنصّها على العربيّة لغةً تُشكِّل ثقافةَ الشعبِ السوريّ لا تقصي المكوّنات الموجودة في المجتمع السوريّ عن هذه الهويّة، فالشركسي والتركمانيّ والكرديّ يتكلّمون العربيّة باعتبارها لغة عامة الشعب السوريّ، واللغة العربية هي لغة التواصل بين أبناء المكوّن الواحد وإن كان من غير العرب أصلاً، وهي لغة التواصل بين أبناء هذه المكوّنات وبينهم وبين الأكثريّة التي يشكّلها من يتكلّمون العربية أصلا، ولا يشكّل لهم حديثهم بالعربية تعدّيًا على ثقافتهم المستقاة من الدين، بل كلّ واحدٍ منهم يقرأ في صلاته القرآن الكريم باللغة العربية، ويستمع إلى خطبة الجمعة والعيدين بالعربية، ويفهم أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعربية.
والقولُ إنّ العربيةَ هي لغة الهويّةِ لا ينتقصُ من لغاتِ المكوّناتِ الأخرى الموجودةِ في المجتمع السوريّ، فالكرديّةُ لغةٌ تشكّلُ ثقافةَ الأكراد حيثما كانوا في سوريا، لكنّها ليست لغةً تشكّل ثقافة العربيّ أو التركمانيّ مثلا في المجتمع السوريّ، وكذا التركيّة والشركسية هي لغة تشكّل ثقافة داخليّة لكنّها ليست ثقافة مجتمعيّة ترقى لتكون هويّة مجتمع. ويمكن القول إنّ اللغات الأخرى كاللهجات المحليّة في المناطق وإن لم تذكر في الهويّة إلا أنّ هذا لا يعني إلغاءها أو محاربتها، لكنّ هذا يعني عدم عدّها لغةَ تخاطبٍ في المجتمع بشكلٍ عامٍّ، ولا يعني عدمَ القبولِ بها لغةً علميّةً في التعليم المنهجيّ في عموم البلاد، وقد يقبل أن تكون لغةَ تعليمٍ خاصّةٍ في المناطق التي يكثُرُ بين أهلها انتشارُ هذه اللغة.
من الآخر؟
أمّا الآخر فهو المنتمي إلى غيرِ هذه الهوية، من أبناء هذه الأرض الذين يشاركون الأكثرية في العيش المشترك عليها منذ مئات السنين، والذين حفظت لهم الأكثريّة حقوقَهم الكاملةَ عبر التاريخ، فبقيت لهم أحياؤهم ومناطقهم ومزارعهم وجبالهم، وتوارثوا أسماءهم وانتماءاتهم، ودامت لهم معابدهم ورموزهم الدينية أشخاصًا وأماكنَ وكتبًا.
بعضُ الآخرُ هو المعتدي علينا من الذين حمل السلاح وقاتلنا، أمّا الوافدون إلينا من الطوائف والملل الأخرى، ومن الذين قدموا إلى هذه البلاد في ظلّ حكم الطغاة والمجرمين، ومن الذين استقدمهم الطغاة وأعطاهم جنسيّة هذه البلاد ووطّنهم في بيوت من هجّرهم من أهلها فهؤلاء ليسوا من أبناء هذا الوطن وإن حملوا جوازات سفره.
بعضُ الآخرِ وقف مع الثورة وبعضُهم وقفَ موقفَ المتفرّج على الطاغية الظالم الباغي، وبعضهم أرسل أولاده إلى جيش المجرمين، الجيش الذي سعى لطمس هذه الهوية وتمويهها وإذابتها بالاعتداء عليها والاجتهاد في تغيير هوية الشعب وانتمائه، بعض هؤلاء هم أعداء للثورة والقيم والمبادئ والإنسانيّة، وليس فقط للهويّة والانتماء، بعض هؤلاء لا يمكن أن يُقبَلوا في مجتمع ليكونوا فيه جزءًا من هويته ونسيجه الوطنيّ، وبعضهم جزءٌ من هذا النسيج.
وخلاصة القول إنّ الآخر في نطاق الوطن يعني واحدًا من ثلاثة كلّهم لا ينتمي انتماء مباشرًا إلى الهوية السوريّة:
ومن نافلة القول أنّ الذي أُعطِيَ جنسيّة هذا البلد لأنّه حمل سلاحَه في وجه الثائرين -من الفرس الرافضة أو الأفغان الذين جنّسهم النظام في هذه الفترة لقتالهم إلى صفّه- لا يمكن أن يكونوا أبناءَ وطنٍ أصلاً، وليسوا منتمين إلى هذا الوطن، وإلى هذا ألمَحَتِ الوثيقة حين عبّرت بقولها: (المكونات التاريخية العديدة) فقيدُ التاريخيّة يُفيدُ أنّ كلّ مكوّنٍ انتمى إلى الوطن في ظلّ هذه الظروف لا يمكن أن يكون إلا في الصفّ الخامس من صفوف الانتماءِ، وهو أبعدُ ما يكون عن أن يُعدّ جزءًا من معادلة الانتماء أو مؤثّرًا في صياغة هوية المجتمع.
والواجب الشرعيّ يقضي بقبول الصنف الأول والثاني من الآخر في إطار الوطن، والتعامل معهم في نطاق الحقوق والواجبات كما نتعامل تمامًا مع من ينتمي إلى الهويّة نفسها انتماءً حقيقيًّا كاملاً، وهذه هي الطريقة التي يفرضها ديننا وتوجبها شريعتنا في التعامل معهم، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، من البرّ إلى محسنهم ومنع مسيئهم من الإساءة إلى الدين أو الهوية أو المجتمع، والأخذ على يد المعتدي، وليس من المقبول أن نتنازل عن ثوابتنا أو نطمس هويتنا تحت شعار رعاية الآخر والقبول به، ولا من المطلوب منا شرعًا أن نغيّر أحكام ديننا من أجل أن يقبل بنا الآخر! الذي لا يمثّل هوية المجتمع.
إنّ محاولات الآخرين المتكررة لطمس الهوية تحت شعارات صناعةِ هويّةٍ جديدةٍ سعيًا لفرضِ نمطِ حياةٍ جديدٍ مستوردٍ لا يناسب واقع مجتمعاتنا ولا عاداتنا ولا تقاليدَنا، ويعارِض بشكلٍ فجٍّ دينَنا وثوابتَنا لا يُمكِن أن يكونَ مَرضِيًّا في أيّ مجتمعٍ يحتفظ بقدرٍ من الاعتزاز بماضيه، فكيف بالمجتمع المسلم الذي تنبع عزّتُه من امتدادِه الزمانيّ إلى عصر النبوّة والفتوحات.
وأمّا النوع الثالث فهو وإن كان بعض مكوّنات هذا المجتمع لكن عدوانه على الأنفس والهوية والقيم والأخلاق والحضارة التي يمثّلها هذا الشعب يجعل حقّه في محاكمةٍ عادلة هو الحقّ الأوّل الذي يمكن أن ينالَه، ثمّ إن ثبتَ إجرامُه فيحاسبُ محاسبةَ المجرمين.
إنّنا هنا نتكلّم عن أفرادٍ ولا يُمكِنُ أن نُحمّل طائفةً كاملةً أو مكوّنًا كاملاً وِزرَ ممارسة أشخاصٍ منه، وإن كانوا أكثريّة في هذا المكوّن، لكن يمكن تحميل المؤسسات المشاركة في وِزرِ القتل وقمع المطالبين بحقوقهم وِزرَ هذه المشاركاتِ، فالمؤسساتُ الأمنيّةُ والعسكريّةُ التي كان لها دورٌ في قمع الشعب السوريّ ليست منتميةً إلى هذه الهويّة وإن انتمى أفرادها بمسمّياتهم إليها، فهي كياناتٌ ساهمت في قتلِ الناس، وكلّها منبوذةٌ مجتمعيًّا عدوّةٌ للهويّةِ السوريّةِ.
مفهوم قبول الآخر مجتمعيًّا:
قبول الآخر لا يعني أن يأخذ حقوق الأكثرية، ولا يعني أن نقتنع بفكره ونغيّر هويتنا تماشيًا مع رأيه ووجهات نظره، ولا يعني عدم بيان ما في فكره من مفاسد من وجهة نظر الأكثريّة الذين يشكّلون هذه الهويّة، ولا يعني عدم مخالفته، وإنّما القبول المجتمعيّ هو قبول أن يطرح فكره ويُسمح له بعرض رؤيته، وعدم منعه أو تكميم فمه، وعدم الإساءة إليه، وحين يطالب بعض الناس من (الآخر) أن تسير الأكثريّة على رأيهم واجتهادهم حتى يقولوا: إن الأكثريّة تقبل الرأي الآخر يتبادر إلى الذهن أنّ هذا احتلال من نوعٍ جديد وتغوّل وتنمّر على حقوق الأكثريّة وهويّتها تحت دعوى الحفاظ على حقوق الأقليّات، أو تحت دعوى صناعة الهوية الجديدة للمجتمع.
إنّ الدعوات إلى النسوية وإلى الجندر وإلى قانون الزواج المدني المخالف للشريعة الإسلامية هي دعوات لإنكار الهوية والبعد عن الذات، وفي مؤدّاها دعوات إلى الانحلال الأخلاقيّ الذي لا يمكن أن يتوافق مع الهوية السوريّة الوطنيّة. ولا يمكن فرضها تحت شعارات قبول الآخر والتعايش السلمي والسلم المجتمعي، وهذه الدعوات انتهاك صارخ لهوية المجتمع المحافظة المنطلقة من الموروث الحضاري والفكري والقيمي لهذا الشعب.
الاعتداءُ على الهويّة ومحاولةُ تغييرها عسكريًّا وديمغرافيًّا وسياسيًّا لا يمكن أن يكون مقبولاً في أيّ مجتمعٍ بل هو معدودٌ في جرائم الخيانة العظمى، وهو كالاعتداء على الدستور أو على المبادئ فوق الدستوريّة، فالهويّة صنعتها تضحياتٌ كبيرةٌ قُدِّمت لبناءِ هذه الشخصيّةِ الوطنيّةِ المميِّزةِ للمجتمع، وجهودُ آباءٍ وأجدادٍ مؤسّسين لهذه الهويّة، حيث صاغ كلّ جيلٍ منهم بعض بنود هذه الهويّة، حتّى تكاملت صورة الهويّة بعد مئات السنين من الصناعة، وليست الهويّة استيرادًا، ولا يمكن أن تكون طريقتها الفرض الخارجيّ ولا القوانين الصادرة عن الأنظمة.
وسيحافظ شعبنا على هويّته مهما كثرت التحدّيات، لكنّ تقليل الصراع حول الهويّة، بتوضيحها للناس مطلبٌ شرعيٌّ ووطنيّ.