فلسفة الإسلام في الصراحة
مايو 10, 2021
فقه الاختلاف
مايو 10, 2021

التدرج سنةٌ قدريةٌ وحكمةٌ تشريعيةٌ

تحميل البحث كملف PDF

د. محمد معاذ مصطفى الخن – رئيس مجلس الإفتاء السوري

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد أرسل الله رسله رحمة بعباده وتفضلا عليهم، وبمقتضى رحمة الله بعباده تدرج مع الخلق فيما يفرض عليهم من تكاليف أو أوامر ونواهي، لتكون شرائع الله أيسر على الإنسان الذي آمن بالله واستسلم له وعقد العزم على طاعته، وهذا التدرج إن وقع في الشرائع كلها وخاتمتها الإسلام، فإنه لم يقع في العقيدة، لأن العقيدة الإيمانية واحدة ثابتة لا تتغير، ولا تقبل وجود أوجه أو مراحل لها.

وكما وقع التدرج في التشريع فقد وقع التدرج في الخلق، فالله القادر على أن يخلق كل شيء بقوله (كن) لم يخلق الكون دفعة واحدة، وكذلك لم يخلق الإنسان والحيوان وسائر الموجودات في لحظة، وإنما وضع للخلق سنن تقديرية تقتضي تدرج وجود المخلوقات، وكذلك أقدار الله فإنها تأتي تدريجيا على الفرد أو المجتمع وفق سنن ربانية محكمة.

وهذا بحث في بيان هذه السنة الربانية، يتضمن 1- تعريفا بالتدرج ووجوهه، 2- وعرضا للتدرج كونه سنة قدرية وكونه حكمة تشريعية، 3- وبيان وقوعه في شريعة الإسلام، 4- ثم حديثا مفصلا عن حكم التدرج في تطبيق الشريعة. 5- وبيان المبادئ والقواعد التي تحكم عملية التدرج في التطبيق.

 

ما التدرج؟

أولا – التدرج لغة واصطلاحا:

لغة: التنقل الارتقائي في الدرجات صعوداً درجة فدرجة[1]. واصطلاحاً: تجزئة العمل المادي أو المعنوي إلى أجزاء متعددة تتناسب مع الغاية والاستطاعة. وعلى هذا فإن التدرج يتناول:

1- كل عمل مادي أو معنوي قابل للتجزئة

    2- والتدرج قد يكون صاعداً، فيؤدي إلى النمو والتكامل شيئاً فشيئاً حتى يبلغ ذروة كماله، وهذا ما نقصده بالتدرج {الصاعد} ، ويقابله في الصعود مصطلحات كالطفرات والقفزات والاندفاع والتعجل، تدل على ما لا يلائم الهدف ولا يتناسب مع الاستطاعة.

    3- وقد يكون هابطاً، ويطلق عليه التدلية، كإنزال الدلو شيئاً فشيئاً، وقد عبر القرآن الكريم عن عملية تدرج الشيطان بالإغواء بأنها خطوات لكنها هابطة فقال: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} [البقرة: 168]، وعبر عنها بالتدلية فقال تعالى: {فدلاّهما بغرور} [الأعراف: 22].

    4- والتدرج هو أنجع الوسائل للنجاح في تحقيق الخير أو الشر، فحذرنا القرآن الكريم بقوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} [البقرة: 168]. وللتركيز على بيان خطورة أساليب الشيطان ومكره بالناس، تكررت في القرآن عبارة {خطوات الشيطان} خمس مرات.

ثانيا – التدرج سنة ربانية:

فالله تعالى له إرادتان إرادة كونية قدرية، وإرادة تشريعية تكليفية، قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، وجرت إرادتا الله القدرية والأخرى التشريعية وفق سنة التدرج التي شاءها الله سبحانه وتعالى.

من مظاهر سنة التدرج

أولاً – التدرج في الخلق:

الله تعالى هو {الرب} فله الربوبية. والتربية: الإنشاء المتدرج للشيء، حياً كان أم غير ذي حياة، وتعهدٌ للشيء حالاً فحالاً، وطوراً بعد طور، وربوبية الله لخلقه تشمل الإيجاد والإنشاء المتدرج حتى الذروة، وكذلك الإفناء التنازلي حتى الحضيض، وكل ذلك ضمن إطار التكليف.

يستثنى من سنة الرب سبحانه في الخلق والإيجاد ترقية أو تنكيساً المعجزات والكرامات والخوارق، فقد لا تخضع أحياناً لسنة التدرج أو لبعض مفرداتها، ففي الغالب تتم دفعة واحدة، كما قال تعالى: {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] ولا تخفى الحكمة من هذا الخلق الاستثنائي في بيان قدرته تعالى، ولإثبات دعوى الرسالة وصدق المرسل إليه،

وكذلك يلحظ الإنسان التدرج في المشاهدات التي يراها في الكون من الذرة إلى المجرة، ومن الخلية إلى الجسم، كل ذلك خاضع لسنة الإيجاد المتدرج.

الإنسان نموذج للخلق المتدرج:

ولنأخذ الإنسان على سبيل المثال: لا يخفى أن الله خلق كل إنسان خلقاً متدرجاً، من نطفة فعلقة فمضغة فعظام فخلق كامل فوليد فرضيع فطفل فشاب وهكذا حتى يبلغ أشده ثم الشيخوخة، نرى الصعود المتدرج والهبوط المتدرج وليس بالضرورة أن يتساويا زمانياً، أو يمر كل إنسان بكل مراحل الصعود وبكل مراحل الهبوط، قال تعالى: {ومنكم من يتوفى} [الحج: 5] أي: قبل اكتمال كل هذه المراحل ثم قال: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} وذلك لحكمة الابتلاء والاستخلاف.

ثانياً – التدرج في الأمر:

يتجلى ذلك في أمور منها: تعدد الرسالات والرسل بما يواكب التدرج البشري، وهذه الرسالات اتحدت بثوابت العقيدة وأمهات الأخلاق، واختلفت في كثير من الأحكام والتكاليف، مراعاة لأحوال البشر وقدراتهم، وكانت شريعة الإسلام خاتمة الرسالات، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين.

وكما وقع التدرج في إرسال الرسالات فقد وقع في أحكام الشريعة الواحدة لا ريب في ذلك، ولنأخذ شريعة الإسلام مثلاً على ذلك.

التدرج في شريعة الإسلام

وقع التدرج في جملة من أحكام الإسلام ونظامه التشريعي، فنزل القرآن منجماً، وفي ذلك حكم ذكرها أهل العلم، منها التدرج في الأحكام ومسايرة الحوادث وأسباب النزول، والتدرج في تربية الأمة وإعدادها لتكون خير أمة أخرجت للناس، والتدرج في أساليب الخطاب، وتذكير المخاطبين. فكان الخطاب{(يا أيها الناس} في بداية الدعوة، ثم خوطب المؤمنون {يا أيها الذين آمنوا} لما زادوا وكثروا وصار لهم كيان، وخوطب أهل الكتاب {يا أهل الكتاب} بعدما ساكنهم المسلمون في المدينة.

وكذلك دعوة الإسلام تدرجت في مراحلها من فردية إلى أسرية، ثم العشيرة الأقربين، ثم مكة أم القرى ومن حولها، ثم انتقلت دعوته لقبائل العرب ولأهل جزيرتها، ثم للبشرية جمعاء. وكذلك وقع التدرج في أساليب الدعوة، من سرية إلى جهرية محدودة، ثم إلى الصدع الكامل بما يؤمر به، ثم تحمل الأذى بشتى أنواعه، ثم الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ثم بناء الدولة والمجتمع، ثم الإذن بالجهاد والقتال في سبيل الدفاع عن الإسلام وخدمة الدعوة ونشر الرسالة،

ومن أشكال التدرج في التشريع الإسلامي إقرار بعض الأحكام على خلاف ما جاءت به الشريعة فيما بعد وإقرار ما يترتب عليها من آثار، يقول في ذلك العز بن عبد السلام: (وَلِمِثْلِ هَذَا أقَرَّ الشَّرْعُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى خِلَافِ شَرَائِطِ الْإِسْلَامِ… وَكَذَلِكَ بُنِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ غُفْرَانُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لِأَنَّ عهْدَهَا لَوْ بَقِيَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَنَفَرُوا، وَكَذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ قَدْ زَنَوْا فَأَكْثَرُوا مِنْ الزِّنَا وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إنَّ مَا تَقُولُ وَتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53] وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُلَائِمًا لِطِبَاعِهِمْ حَاثًّا عَلَى الدُّخُولِ فِي الإسلام)[2].

وكذلك الأمر في التشريع الجنائي (نظام العقوبات) إذ استقرت ملامحه في السنة الثامنة للهجرة، ولا تخفى الحكمة من تأخر تشريعه. والمحظورات المألوفة تدرج تنزيل الأحكام فيها، فالخمر استقر حكمها النهائي في السنة الثامنة للهجرة، وتحريم الربا في التاسعة[3].

وقد وقع التدرج في الأمر كما في الجهاد، وفي النهي كما في تحريم الخمر، وفي التشريعات العامة كما في مسألة تحويل القبلة، ولنعرض هنا للجهاد كنموذج للتدرج في الأمر.

الجهاد نموذج للتدرج في الأمر:

في كتابه (زاد المعاد) [4] بيّن الإمام ابن القيم مسيرة هذا التدرج بتفصيل واسع أُورد هنا مختصرا عنه، على الترتيب التالي:

    1- نبأ الله نبيه بـقوله {اقرأ} وأرسله بـ {المدثر}.

    2- ثمّ أمره بقوله {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214].

    3- ثم بقوله {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44].

    4- ثم مكة ومن حولها بقوله {لتنذر أم القرى ومن حولها} [الشورى: 7].

    5- ثم العرب قاطبة

    6- ثم العالمين أجمعين

وفي كل هذه المراحل لم يشرع للمسلمين القتال، بل أمروا بالكف والصبر والصفح.

    1- ثم أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بهجرة أصحابه الهجرتين إلى الحبشة.

2- ثمّ أُمر بالهجرة إلى المدينة فهاجر.

3- ثم أُذن له بقتال من قاتله، وأمر بالكف عمن اعتزله ولم يقاتله.

4- ثم أُمر بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.

5- ثمّ كان له مع الكفار ثلاثة أحوال: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة.

6- ثم أُمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ما استقاموا عليه، فإن خاف منهم خيانة نبذ لهم عهدهم على سواء، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بانتهاء العهد، وأما من نقض العهد بالفعل فأُمر بقتاله، ثمّ بعد نزول سورة التوبة جعل أهل العهد ثلاثة أقسام:

الأول: من نقض عهده، وقد أُمر بقتالهم.

الثاني: من كان لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه أحداً، فأُمر أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم.

الثالث: قسم لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمره أن يمهلهم أربعة أشهر، فإذا انقضت مدتهم قاتلهم.

وكما وقع التدرج في الأوامر كما في الجهاد، فقد وقع التدرج في النواهي كما في تحريم الخمر، ووقع التدرج في الأحكام التشريعية كما في تحويل القبلة. وفوق ذلك وقع التدرج في تطبيق الشريعة ذاتها، وتنزيلها على الواقع.

التدرج في تطبيق الشريعة

ومن التدرج أيضا التدرج في تطبيق الشريعة: والمراد به (تطبيق أحكام الشريعة على مراحل عند العجز عن تطبيقها كاملة، بحيث يطبق في كل مرحلة عدد من الأحكام التي تهيأت الظروف المناسبة لها إلى حين الوصول إلى التطبيق الكامل لكل أحكام الشريعة)[5].

مبادئ لا بدّ منها في التدرج في تطبيق الشريعة

وهنا لا بد من ذكر المبادئ التي تحكم مسألة تطبيق الشريعة، لبيان ما علق بهذه القضية في أذهان بعض المسلمين من تصورات موافقة أو مخالفة لما جاء به الإسلام.

المبدأ الأول: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة

قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ‌الْكِتَابَ ‌بِالْحَقِّ ‌مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [آل عمران: 48-50].

قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: {ينكر الله تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل الخير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونه بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم (الباسق) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وكثيرٌ من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير)[6].

وقد سمّى القرآن كلّ من حُكّم من دون شرع الله {طاغوتا} فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ ‌إِلَيْكَ ‌وَمَا ‌أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠)﴾  [النساء: 60]، قال ابن القيم: {والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو ما يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم} [7] وهناك نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تؤكّد هذا المعنى وتبيّنه.

المبدأ الثاني: ترابط أحكام الشريعة وتكاملها

إن الشريعة بكل أجزائها ومفرداتها وأحكامها مترابطة متكاملة، آخذٌ بعضها بحجز بعض، فلا يفصل التشريع الجنائي عن أحكام الأسرة وما يصطلح عليه بالأحوال الشخصية، ولا يفصل التشريع الأخلاقي عن أحكام المعاملات كالبيع والشراء والإجارة وغيرها، ولهذا شدد الله النكير والوعيد على من يأخذ ما يحلو له ويترك ما لا يعجبه من شرع الله، فقال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ ‌بِبَعْضِ ‌الْكِتَابِ ‌وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: 85]

المبدأ الثالث: وجوب التطبيق الفوري لكامل الشريعة عند الإمكان

إنّ كل تكاليف الشريعة سواء أكانت على مستوى الفرد أو الجماعة أو الأمة منوطةٌ بالقدرة والاستطاعة، وهذه قاعدة محكمة من قواعد الشريعة جاءت بها الآيات الكريمة من مثل قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ‌اللَّهُ ‌نَفْسًا ‌إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا﴾ [البقرة: 286]، والأحاديث الكريمة من مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))[8].

ومن المعلوم أن الشريعة جاءت باليسر ورفع الحرج عن الناس قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ ‌عَلَيْكُمْ ‌فِي ‌الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾  [الحج: 78]،أوضح مثال على هذا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد جاء في الحديث: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))[9] وهذا يلتمس منه التدرج في تطبيق الشريعة عند العجز عن إقامتها كاملة، عقب ابن رجب على هذا الحديث فقال: (فمن شهد الخطيئة فكرهها بقلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها)[10] .

المبدأ الرابع: الشريعة تطبق على الجميع

كل الناس سواء أكانوا حكاماً أو محكومين، ذكوراً أم إناثاً على اختلاف مكانتهم الاجتماعية وأحوالهم الاقتصادية تحت سلطان الشريعة وأحكامها، لا سيّما في مجال العقوبات والحدود التي قد يُتسامح فيها مع أصحاب المناصب والرياسات، وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام أن هذا السلوك المتناقض من أحد أسباب زوال الأمم وهلاكها، فقال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد))[11].

المبدأ الخامس: كمال الشريعة وانتهاء التدرج في التشريع

لقد شهد الله على كمال شريعته بنص كتابه فقال: ﴿الْيَوْمَ ‌أَكْمَلْتُ ‌لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3] فشرعُ الله اكتمل، ولا يعني ذلك أنه فصّل في كل ما يعتري حياة الناس من مستجدات ونوازل، لذا بيّن العلماء الأحكام الراسخة في الشريعة والأحكام النازلة التي تستدعي اجتهاداً منضبطاً بقواعد الشريعة التي استخرجها العلماء من نصوص الشريعة ودلالة ألفاظها، وبذل علماء الشريعة جهوداً عظيمة في مجالين أساسيين، الأول: في حفظ نصوص الشريعة لا سيّما الحديث النبوي، وكان من ثمرة ذلك علوم أصول الحديث ومصطلحه، والثاني: في فهم هذه النصوص واستنباط الأحكام منها، وكان من ثمرة ذلك علم أصول الفقه، ومن ثمّ ثمرته علم الفقه.

المبدأ السادس: التدرج في التطبيق لا يشمل الجانب العقائدي

فهذا الجانب لا مساومة فيه ولا تنازل عنه، فهو يشكل الملمح الأساس لهوية الدين، وعليه يحمل قوله تعالى: ﴿‌قُلْ ‌يَا أَيُّهَا ‌الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢)﴾ [الكافرون: 1-2]، ثم يبين عدم وقوع ذلك في كل الأزمنة فيقول: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ﴾ [الكافرون: 4]،  فهو ينفي جوازه شرعاً ووقوعه فعلاً، فهو متضمنٌ نفي الفعل وكراهيته، فلو اقتصر على {لا أفعل} فقد يترك الإنسان فعل شيء لسبب آخر مع أنه يرغب به، فأكد ذلك بكلمة {ما أنا بفاعل} فهذا يدل على البغض والكراهية.

المبدأ السابع: التدرج سنة إلهية في تغيير المجتمعات

استمر الصرح الإسلامي بالبناء والتشييد إلى أن بنى المسلمون حضارة عالمية، لم تسمح {للطفرة} أن تحل محل {التدرج} ولا {للثورة} أن تحل محل {الإصلاح} ، لقد راعت الدعوة الإسلامية قوانين التغيير الاجتماعية التي قررها الباحثون فيما بعد، فمن جملة ذلك أن التغيير في المجتمع الإنساني “دورات متتالية” وليس خطاً مستقيماً صاعداً نحو الصلاح أو هابطاً نحو الفساد، ففي هذه الدورات يكون فيها صعود وهبوط في داخلها لكنها في الجملة كانت صاعدة، قال عليه الصلاة والسلام: (( لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره، ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره)) [12]، فدورات العدل والجور محكومة بسنة التدرج، كظاهرتي شروق الشمس وغروبها، فالصلاح لا يكون طفرة، والفساد لا يحدث فجأة، وبينهما تناسب عكسي فعندما يتمدد العدل يتقلص الفساد والعكس صحيح، يقول سيد رحمه الله: (ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، ولينشئ مجتمعاً، ويقيم نظاماً، والتربية تحتاج إلى زمن وتأثر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع، والنفس البشرية لا تتحول تحولاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة، بقراءة كتاب شامل للمنهج الجديد، وإنما تتأثر يوماً بعد يوم بطرف من هذا المنهج، وتتدرج مراقيه رويداً رويداً، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدّم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً) [13].

المبدأ الثامن: اعتبار النظر إلى المآلات

وهذه قاعدة عظيمة في تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وهو أساس {فقه الموازنات} قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (العمل الواحد يكون فعله مستحباً تارةً وتركه تارةً، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فسادٌ راجحٌ على مصلحته) ثم ذكر حديث عائشة ((لولا أنّ قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، باباً شرقياً وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم)) [14] وعلق عليه فقال: (فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح وهو حدثان عهد قريش بالإسلام، لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة) ثم عقب على ذلك بقوله: (لذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف للمأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل بأن يسلّم في الشفع ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يصلي بقوم لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن ينقلهم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله)[15]، ثم ذكر أمثلة أخرى كالجهر بالبسملة في الصلاة فيترك ما يراه راجحاً مراعاةً لجمع الكلمة وتأليف القلوب، وقال ابن القيم: (إذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم عليه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا الباب واسع)[16].

الأسئلة المهمة في مسألة التدرج

في الحديث عن التدرج تستوقف المسلم أسئلة في غاية الأهمية، ومن دون الإجابة عليها يكون من الصعوبة بمكان بناء تصور متكامل عن فقه التدرج في الشريعة الإسلامية، ولعل أبرز هذه الأسئلة ثلاثة، هي:

    1- هل توقَّف التدرج في التطبيق مع توقُّف التدرج في التشريع؟ أو يمكن أن يستمر التدرج في التطبيق بما يناسب أحوال المجتمعات؟

    2- هل نقل عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على اعتباره تدرجَ التطبيق؟ بمعنى أنه أخّر المطالبة بتكليف شرعي بعد ثبوت حكمه وتشريعه.

    3- من الذي يحدد مراحل التدرج في التطبيق على اختلاف المستويات؟

هذه الأسئلة المفصلية التي نتج عن الإجابة عليها بأشكال غير منضبطة آثارٌ كثيرة، سببت انقساماً كبيراً بين العاملين والدعاة للإسلام، ونتج عنها غلوٌ في التكفير للحكام والمحكومين على حد سواء، وكذلك فشلت كثير من المشاريع الإسلامية لعدم مراعاتها هذه السنة الربانية، ولأهمية هذا الموضوع لا بدّ من التفصيل فيه من جوانب مختلفة، فأبين ما يأتي:

أولاً: الشريعة لا تطبق إلاّ في مجتمع مؤمن

من الثابت أنّ أيّ قانون لا يمكن أن يحقق نجاحاً إلا في مجتمع يؤمن به، ويدرك أهميته، وإلا صار مجرد نظرية ليس لها حظ من الالتزام والعمل، ويؤكد هذا أن معظم تشريعات الإسلام قُررت في المدينة ولم تنزل في مكة، لأنّ الغلبة في مكة للكفار، فعامة المجتمع لا تقرّ بهذه التشريعات، وهذه الحقيقة أثبتها التاريخ عبر عصوره المديدة، فكلما قوي الإسلام في مجتمع وتمكن الإيمان فيه كان أقرب إلى تطبيق الشريعة من غيره، وكان التزامه في أغلب الأحيان يعطي صورة مشرقة تغري الآخرين بهذا الدين، وإذا اقتصر الأمر على رفع شعارات الإسلام فإنه سيعطي صورة مشوهة وناقصة كما يحصل في بعض البلاد اليوم، ومثال ذلك بعض الدول التي أعلنت عن تطبيق الشريعة فبدأت بتطبيق الحدود مع قصور واضح في المجالات الأخرى التي لا بد منها لتهيئة الناس، كمناهج التربية والتعليم والإعلام والوضع الاقتصادي والاجتماعي، مما أظهر الشريعة متناقضة مع نفسها، وأعطى صورة منفرة عنها. وللمجتمعات في تطبيق الشريعة أصناف:

الصنف الأول:

هناك مجتمع قطعت الدعوة فيه أشواطاً بعيدة فأحدثت بيئة إسلامية تنقاد طواعية لأحكام الشريعة، لما تذوّق أفرادها من حلاوة الإيمان، فغدوا يتطلعون لتحكيم الشريعة في كل جوانب الحياة، وأصبح ذلك مطلباً شعبياً لعامة الناس أو أغلبهم، وينطبق هذا على المجتمع الإسلامي الأول مجتمع المدينة، فقد استقرّ الإيمان في قلوبهم وذاقوا حلاوته، فكان التدرج في التشريع وليس في التطبيق، إذ وجدنا أنه كلما نزل تشريع سارعوا إلى تطبيقه طواعية بمجرد حصول التبليغ والعلم به، وأما المنافقون وهم الأقل فكانوا يساقون بسلطان الدولة، وينقادون لنظامها العام، وما كان بينهم وبين ربهم فقصورهم فيه يعود عليهم وحدهم، ويشهد على الالتزام الطوعي لأحكام الشريعة كثير من أحداث ذلك العصر، منها ما وقع عند نزول تحريم الخمر، فقد هرعوا إلى دنانهم فأهرقوها وبعضهم كسرها وإن لم يؤمروا بذلك، لكن مبالغة منهم في إظهار الامتثال، ولهذا أمثلة وشواهد فردية وجماعية كثيرة روتها كتب السير والسنة النبوية.

الصنف الثاني:

ومجتمع آخر حديث عهد بإسلام، دخل الناس فيه حديثاً في الدين، فلا بدّ في هذا المجتمع من تحديد الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، ومثال ذلك التركيز على عقيدة التوحيد وأركان الإسلام الكبرى كالصلاة والصيام والزكاة، والمحرمات القطعية كالربا والزنا وشرب الخمر، ويندرج هذا تحت ما يسميه الفقهاء اصطلاحاً (ما علم من الدين بالضرورة) والتدرج هنا ليس تدرج تشريع وإنما تدرج تطبيق، وأمثلته حال من دخل في الإسلام زمن النبي عليه الصلاة والسلام فرادى أو جماعات، وخير بيان لهذا الهدي حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه عليه الصلاة والسلام إلى اليمن، فقد جاء فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم))[17].

الصنف الثالث:

وهناك مجتمع هو مسلم بالأساس وليس حديث عهد فيه، لكن اعتراه كثير من التشويه والبعد عن حقائق الإسلام وجوهره، وتعطيل كثير من أحكامه كحال كثير من المجتمعات المسلمة اليوم، لا سيما إن طال عليها الأمد وألفت كثيراً من المحظورات التي لا تجيزها الشريعة، فهل يجب العمل على عودة الأمة والمجتمع إلى كل تشريعات الإسلام دفعة واحدة، أو يمكن أن يسلك التدرج في التطبيق حتى يعود الناس شيئاً فشيئاً إلى الالتزام الكامل بأحكام الشريعة؟ هنا انقسم العاملون في الشأن الإسلامي المعاصر إلى فريقين:

الفريق الأول: ينادي بشمول الشريعة، وأنه بعد اكتمال الشريعة لا يسوغ التدرج.

 واستدلوا على ذلك فيما اصطلح على تسميته بأدلة (الحاكمية) من مثل قوله تعالى ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]  وقوله في مجال الإنكار: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ ‌بِبَعْضِ ‌الْكِتَابِ ‌وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85].

وقد اعتبر هذا الفريق الخروج عن بعض جزئيات الدين كالخروج عنه بالكلية، وممن سلك هذا المسلك سيد ومحمد قطب، وعبدالقادر عودة وغيرهم، وفندوا شبه التدرج في التطبيق بعد اكتمال التشريع، واعتبروا الأخذ بالبعض وترك البعض أو تأجيله عملاً بالهوى، والانتقائية في ذلك تستند إلى مصلحة موهومة مزعومة، وكل ذلك بحقيقته تساهل ومدخل من مداخل الشيطان بحجة تأليف القلوب وإرضاء المجموع، يقول سيد رحمه الله: (إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحَّى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون، فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد، ولكل منهم مشرب، ولكل منهم منهج، ولكل منهم طريق، ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين، وقد عرض الله عليهم الهدى وتركهم يستبقون، وجعل هذا ابتلاءً لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون، وإنها لفعلة باطلة إذن، ومحاولة فاشلة أن يحاول أحدٌ تجميعهم على حساب شريعة الله، بتعبير آخر على حساب صلاح البشرية وفلاحها، فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئاً إلا الفساد في الأرض، وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم، وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر، وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض) إلى أن يقول: (وهو شرٌ عظيم وفساد عظيم لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون)[18].

الفريق الثاني: يرى العمل بالتدرج بالتطبيق.

هذا الفريق يرى أن التدرج في التطبيق مختلف تماماً عن التدرج في التشريع، ومن أشهر من تبنى ذلك من المعاصرين المودودي والقرضاوي، واستدلوا بأمور:

الدليل الأول:

المعنى المستوحى من التدرج التشريعي زمن الرسالة إذ الحكمة منه مراعاة أحوال الناس، وإعانتهم على قبول الحق والإذعان له، وهذه حكمة معتبرة بعد زمن الرسالة تقتضي تدرج التطبيق، يقول ابن تيمية: (إنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ جَوَابُهَا السُّكُوتُ كَمَا سَكَتَ الشَّارِعُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَنْ الْأَمْرِ بِأَشْيَاءَ وَالنَّهْيِ عَنْ أَشْيَاءَ حَتَّى عَلَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ، فَالْعَالِمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ؛ قَدْ يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ كَمَا أَخَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ آيَاتٍ وَبَيَانَ أَحْكَامٍ إلَى وَقْتِ تَمَكُّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا إلَى بَيَانِهَا)[19].

الدليل الثاني:

نقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه رخّص في بعض الأحوال بشرائع مخصوصة مع أنها شرعت واكتمل تشريعها، فمن ذلك حديث (اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ صدقة عليهم ولا جهاد، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيتصدقون ويجاهدون))[20] وحديث نصر بن عاصم الليثي ((عن رجل منهم أنّه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على ألا يصلي إلا صلاتين فقبل منه))[21] قال ابن رجب: (وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها، واستدلّ أيضاً بحديث حكيم بن حزام قال: (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على ألا أخرّ إلا قائماً)[22]، قال أحمد: (معناه أن يسجد من غير ركوع)[23].

وقد ذهب بعض أهل العلم كالسيوطي في {الخصائص الكبرى} إلى أنّه من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام، ويسقط عمن شاء ما شاء من الواجبات، لكن يلتمس من كل ذلك التدرج، فقال عن ثقيف بأنهم سيتصدقون ويجاهدون، ومن المعلوم بالضرورة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل مِن كل مَن جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلماً، وتعددت الروايات في بيعته كثيرين؛ بعضهم على الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقط، وبعضهم بايعهم على أكثر من ذلك، مع أن الأحكام مستقرة، لكن كان يطالبهم فيما بعد بكامل الشرائع والواجبات، وخرّج العلماء قبول اشتراط الكافر على إسلامه شرطاً فاسداً على قاعدة تقديم المفسدة الأخف على الأشد عند تزاحم المفاسد، فلو اشترط شرب الخمر فإنه أهون من بقائه على كفره، وبالمقابل يمكن ترك مصلحة خوف مفسدة،

الدليل الثالث:

سيرة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز، إذ إن عمر لم تكن تنقصه الحماسة ولا الغيرة على الدين وأحكامه وحرماته، فقد نقل عنه قوله: (لو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً)[24].

ولكن عمر كان يرى أن الإصلاح والتغيير له سننه وقوانينه، يلخص ذلك جوابه لابنه عبدالملك الذي اعترض على أبيه تباطؤَه في تنفيذ كل الأحكام وإقامة العدل في كل المسائل والقضايا. قال عبدالملك لأبيه: (ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيت بدعة لم تمتها وسنة لم تحيها؟) فقال له عمر: (رحمك الله وجزاك من ولد خيراً، وأرجو أن تكون من الأعوان على الخير، يا بني: إن قومك شدوا هذا الأمر عقدة عقدة وعروة عروة، ومتى أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجنة من دم، أو ما ترضى ألا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة، ويحيي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين)[25].

وفي مناسبة أخرى قال له: (يا بني، إن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ثم حرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعونه جملة، ويكون من ذلك فتنة)[26].

إن المعنى الذي قرره عمر بن عبد العزيز هو ما اصطلح على تسميته (اعتبار المآلات) فتغيير ما شاب عليه الكبير وشبّ عليه الصغير ليس أمراً سهلاً، فمن وُلد في الظلم فلربما مع طول العهد والألفة يظنه عدلاً، فهذا يحتاج لوقت حتى يعرف الحق والعدل ويألفهما، لذا نلاحظ من سياسته رحمه الله التدرج في الإصلاح، فكانت البداية بنفسه إذ جعلها قدوة صالحة، ثم بدأ برد المظالم التي وقع فيها بعض أسلافه إلى أهلها وإلى بيت مال المسلمين، وبقي في رد المظالم منذ تسلمه الخلافة إلى أن مات[27]. وهذا يعني ضرورة التعايش مؤقتاً مع مقادير من الظلم والفساد حتى يحين الحين لتغييرها شيئاً فشيئاً إلى أن تزول، وكان من سياسته تغليف العدل بشيء من مطامح الدنيا، كالدواء المر الذي يخلط بشيء من السكر ليستطيع المريض تناوله، قال عمر بن عبدالعزيز: (إني لأجمع أن أخرج للمسلمين أمراً من العدل فأخاف ألا تحتمله قلوبهم، فأخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فإن نفرت القلوب من هذا سكنت إلى هذا)[28]. وكان من أبرز ما قامت عليه سياسته في الإصلاح:

     1- التدرج والاهتمام بعنصر الوقت، فمما نقل عنه قوله: (لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت فيكم ما أريد من العدل)[29]، وكان سعيه لاستكمال النقص وإصلاح الخلل في كل المجالات وليس في جانب على حساب جانب

    2- الاستعانة بتولية الأصلح على شؤون الناس، قال ابن كثير: (وقد صرح كثير من الأئمة بأنّ كل من استعمله عمر بن عبدالعزيز ثقة)[30].

     3- إقامة الشورى والعدل واستعادة دور الرعية، قال بعض السلف عن فترة توليته: (اليوم ينطق كل من كان لا ينطق)[31].

     4- رد المظالم، وإعادة الأموال التي أخذت بغير حق إلى بيت المال، والحفاظ على المال العام، قال الماوردي: (كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أول من ندب نفسه للنظر في المظالم فردها وراعى السنن العادلة وأعادها)[32].

الدليل الرابع:

قاعدة الاستطاعة المطردة في كل التكاليف الشرعية، وهذا من رحمة الله بعباده ولطفه بهم، ولذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وشواهد كثيرة من السيرة النبوية، ومن ذلك: أن الهجرة فرضت على المسلمين في مكة، واعتبرت الآيات من لم يهاجر بأنه ظالم لنفسه قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ‌الْمَلَائِكَةُ ‌ظَالِمِي ‌أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧)﴾ [النساء: 97]  وقطع الولاية عمن لم يهاجر فقال: ﴿‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: 72] ، ومع ذلك عذر القرآن قوماً لعدم استطاعتهم فقال: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ ‌مِنَ ‌الرِّجَالِ ‌وَالنِّسَاءِ ‌وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 98-99].

وقد بيَّن حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام قاعدة التكليف الأساسية فقال: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم))[33]، قال النووي في تعقيبه على هذا الحديث: (هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام، كالصلاة بأنواعها)[34]، وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].

يقول ابن تيمية رحمه الله في تقرير هذا الأمر: (فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يُمكِن حين دخوله أن يُلقّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلِّها)[35]، ثم يبين رحمه الله لطيفة مهمة فقال: (وَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ وَالْأَمِيرِ أَنْ يُوجِبَهُ جَمِيعَهُ ابْتِدَاءً، بَلْ يَعْفُوَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِمَا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ إلَى وَقْتِ الْإِمْكَانِ، كَمَا عَفَا الرَّسُولُ عَمَّا عَفَا عَنْهُ إلَى وَقْتِ بَيَانِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ، وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ سُقُوطُ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ، لِعَدَمِ إمْكَانِ الْبَلَاغِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ فِي الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّ الْعَجْزَ مُسْقِطٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)[36].

وفي ذلك أيضا يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: (إذَا اجْتَمَعَتْ الْمَصَالِحُ الْأُخْرَوِيَّةُ الْخَالِصَةُ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا حَصَّلْنَاهَا، وَإِنْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُهَا حَصَّلْنَا الْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ وَالْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿‌فَبَشِّرْ ‌عِبَادِ﴾ [الزمر: 17]، وقوله ﴿الَّذِينَ ‌يَسْتَمِعُونَ ‌الْقَوْلَ ‌فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18]، وَقَوْلُهُ ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ‌مَا ‌أُنْزِلَ ‌إِلَيْكُمْ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: 55]، وَقَوْلُهُ ﴿‌وَأْمُرْ ‌قَوْمَكَ ‌يَأْخُذُوا ‌بِأَحْسَنِهَا﴾ [الأعراف: 145]، فَإِذَا اسْتَوَتْ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ تَخَيَّرْنَا، وَقَدْ يَقْرَعُ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ فِي التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ)[37].

الدليل الخامس:

مراعاة القواعد الفقهية التي تؤكد هذا التوجه، منها، قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وقاعدة (يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام)[38]. فالشرع يتسامح في حال الابتداء بالعمل فيما لا يتجاوز عنه حال الاستمرار فيه، ومحل الاستشهاد بهذه القاعدة هنا: أن هذه القاعدة تتعلق بالمأمورات الشرعية التي قد يشوبها النقص أثناء بداية أدائها، فيغتفر هذا النقص في البداية على أن يتم تداركه فيما بعد.

ومن قواعد الشريعة المهمة اعتبار الظروف الطارئة كالجوائح والنوازل والحروب وتسلط المستعمرين على بلاد المسلمين، وضعف الأمة، وظهور منافقيها على مؤمنيها، وعلى هذا حملت كثير من القواعد الشرعية التي قنّنت للضرورات ورفع الحرج ووضع الجوائح.

ومما لا ينبغي أن يغفل عنه أن التدرج في التطبيق لا يتعارض مع بيان الحكم بشكل صريح وواضح إذا اقتضى الأمر.

ثانياً: التدرج في تطبيق الشريعة ينبغي ألا يكون وسيلة لتخدير الشعوب ولا للاستغلال السياسي

إن مما أساء إلى قاعدة التدرج في التطبيق النماذج السيئة التي أرادت أن تستغل تطبيق الشريعة لمقاصد سياسية ومآرب شخصية، أو لتجاوز مرحلة يتم فيها تزجية الوقت بتخدير الأمة بالشعارات، في حين لا شيء يتحقق في أرض الواقع.

إن الصدق في تطبيق الشريعة له أمارات وعلامات يدركها الواعون المنصفون العقلاء من أبناء الأمة، فهم يستطيعون التمييز بين القول الصادق والادعاء الكاذب، ومن تلكم الأمارات الدالة على الجدية:

    1- تعديل الدستور بحيث يعبر عن هذه الرغبة بالطريقة المناسبة وبالصيغة الملائمة، ويمكن تقنين ذلك عن طريق تشريع مواد تتناسب مع هذه الغاية، ومن ذلك إزالة كل المواد التي تخالف صراحة قطعيات الشريعة وأحكامها.

    2- اختيار البطانة الصالحة التي تدل على الحق والخير وتعين على اتباعهما مع التمكين لها، ومن هؤلاء أهل العلم الذين يبينون خطة التدرج من حيث الأحكام ومراعاة الحال والزمان، وكذلك إبعاد بطانة السوء التي تسعى للفساد والإفساد، فهذا من أكبر الأدلة على جدية الحاكم في الإصلاح، ولكن لو بقيت بطانة السوء فهذا من أكبر المؤشرات على عدم جدية الدعوى.

    3- ازدياد وجوه الخير وانحسار وجوه الشر يوماً بعد يوم، ولو كان ذلك بطيئاً، فتصبح القضية مسألة وقت، فسوف يعم الخير ويزداد أهله، وينحسر الشر ويقل أهله، ولا يكون ذلك إلا باستعمال الأصلح فالأصلح في ولايات الناس ووظائفهم العامة.

    4- مراعاة الأولويات في حدوث الإصلاح والتغيير، فليس من الأولويات تطبيق الحدود كما فعل البعض، ونجم عن ذلك نفرة من الناس لأنهم لم يتهيؤوا لذلك، فمن أهم الأولويات إصلاح مناهج التعليم ووسائل الإعلام، بحيث يتم تلقين الشريعة الإسلامية بوسطيتها واعتدالها وعدلها، والتركيز على تخلق الناشئة بأخلاق الإسلام ومراعاة آدابه، ومن أهم الأولويات تثبيت العقيدة في قلوب الناس، ويستـأنس هذا من القرآن المكي الذي ظل يعالج هذه الموضوعات ثلاث عشرة سنة قبل غيرها، لكن ببساطة الخطاب ونصاعة الاستدلال، ومجتمعاتنا عموماً اليوم لا تشكو من الإلحاد، لكنها تشكو بالمجمل من ضعف الإيمان، مما تسبب في هجران كثير من الأحكام والآداب الشرعية، وهذا يحتاج من الداعية إلماماً بواقع المجتمع وفهماً لعلله وأمراضه، ومن ثم يكون العلاج على وفقه.

     5- من الأولويات تأمين البدائل المشروعة لما يأتيه الناس من معاملات غير مشروعة بدعوى الحاجة والضرورة، ولا يكون ذلك إلا بمواكبة الفقه الإسلامي لحاجات الناس ونوازلهم، فالمصارف الإسلامية تمكّن الناس من الاستغناء عن الربا ومصارفه، فلا بد من تقديم النموذج الإسلامي في الاقتصاد والاجتماع.

     6- تهيئة الناس لما لم يألفوه من الأحكام وذلك بالبيان المسبق والتعليم والتثقيف وضرب الأمثلة، قال ابن القيم في بيانه لأدب المفتي: (الفائدة السابعة: إذا كان الحكم مستغربًا جدًا مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما كان مأذونًا به كالدليل عليه والمقدمة بين يديه)[39].

    7- السماح للدعوة الإسلامية بالقيام بأنشطتها لتوعية الناس وتعليمهم وتقريبهم من هدي دينهم وشرع ربهم، وعدم التضييق على دعاة الخير.

      8- إزالة الشبهات والمعوقات التي يضعها أعداء الشريعة في سبيل تطبيقها، من قبيل حديثهم عن تطبيق الحدود، وحقوق المرأة، والمعاملات المالية، ومفهوم الحرية… إلخ، فيكون هذا من جملة التهيئة.

      9- إقرار مبدأ حقوق الإنسان كما أقرته الشريعة الإسلامية وأكدته كثير من المواثيق الدولية، حقوقه في التعبير، وممارسة شعائر دينه، وانتقاد الفساد وفضح المفسدين.

     10- عدم سن قوانين مخالفة صراحة للشريعة الإسلامية

     11- تبني قضايا المسلمين في العالم، بحيث يكون الحاكم على الأقل متعاطفاً معها وناصراً لها بالموقف والكلمة.

    12- تأمين أهم عنصرين للحكم الراشد وهما الكفاية والحماية، ويتلخص ذلك في تأمين الحد الأدنى من متطلبات معيشة الناس، وتأمين الحماية لهم بتحقيق الأمن لهم.

 

 

تطبيق معاصر للتدرج في حل مشكلة الربا

لا يخفى أن النظام الربوي هو أهم أعمدة وأركان النظام الاقتصادي العالمي، ومع ذلك أدركت كثير من الدول خطورته، لكنها لم تستطع الفكاك من أسره، لأسباب عدة منها: عدم طرح البديل المناسب، وعدم وجود تعاون حقيقي بين الدول التي أدركت خطورته للخلاص منه، وعدم وجود خطة تدريجية تنتهي بالخلاص منه بالكلية. وإنّ تغلغُل الربا في معظم النشاطات الاقتصادية والتعاملات البنكية جعل منه ظاهرة معقدة، لا يمكن الخلاص منها إلا بحلول مركبة وليست مفردة، يشد بعضها بحجز بعض، تقوم على التدرج والمرحلية، بحيث تضيق المساحة على المعاملات الربوية يوماً بعد يوم، فمن جملة هذه الحلول المركبة:

    1- مأسسة الزكاة: بحيث تجمع ممن وجبت عليه جمعاً عادلاً، وتصرف فيمن استحقها ضمن نظام يقوم على الاستيعاب والعدالة في التوزيع، وفق الحكم التي شرعت لأجلها في مسألة تحقيق الكفاية وتأمين مستلزمات الإنتاج لمن يملك الخبرة.

    2- إقامة المصارف الإسلامية التي تقوم على القرض الحسن بمساعدة من الدول وأهل اليسار فيها، وتشجيع فكرة الودائع من غير فائدة، وفكرة استثمار الأموال فيها في مشاريع صناعية أو زراعية أو تجارية أو عقارية، بحيث تغطي هذه الأرباح نفقات هذه المصارف وأجور العاملين فيها، ومن ثم يمكنها من تقديم الأرباح للمودعين فيها.

    3- إنشاء الجمعيات التعاونية التكافلية: كالجمعيات الزراعية، والجمعيات السكنية، التي تقوم على مبدأ التعاون، ويكون من مهامها الأساسية إقراض أصحاب الحاجات والضرورات ومن نزلت به الجوائح قرضاً حسناً، ويضعون لها من النظم ما يضمن شفافيتها والحفاظ على أموالها من العبث والتلاعب، ويمكن استغلال أموالها أيضاً في مشاريع استثمارية.

    4- إقامة أقسام خاصة في البنوك تقوم على أساس شرعي غير ربوي على أن تكون خطوة في التحول التدريجي.

    5- إنشاء المصرف الإسلامي الدولي: ولاستكمال الحلول لا بد من حل ينظم العلاقات الاقتصادية بين الدول على أساس شرعي بعيد عن الربا، فالإجراءات السابقة يمكنها معالجة الأوجاع الاقتصادية الداخلية. أما القروض الخارجية، والتبادل التجاري، وحركة التصدير والاستيراد، والضمانات المالية، وما تقتضيه من حاجة إلى الإيداع والاقتراض؛ فلا بد لها من تأسيس مصرف دولي تغطي فروعه الدول الجادة في إيجاد البديل عن النظام الربوي. فهي مسؤولية تضامنية لا يمكن أن تنهض بأعبائها دولة واحدة أو دولتان، بل لا بد من مجموعة دول، لا سيما تلك التي تملك الموارد والثروات والعوائد المالية الكبيرة المستودعة في المصارف، ويرافق ذلك المشاريع الاستثمارية المشتركة، والمناطق الحرة للتبادل التجاري وفتح الأسواق، ويمكن للجماهير الإسلامية في هذه الدول أن تنشئ صندوقاً لدعم هذا المصرف – (دولارا) في كل شهر مثلا – وهناك سبل أخرى لدعم المشروع، كما توجد طرق أخرى للتخلص من آفة الربا نهائياً.

خاتمة:

يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الظروف الدولية والضغوط التي تمارسها الدول بمؤسساتها على الدول المستضعفة، بحيث تمنعها من الأخذ بمقومات الإصلاح والنهوض والتقدم، بحيث تتمكن من التفلت شيئاً فشيئاً من التبعية الاقتصادية والثقافية، وهذا يجعلنا نلتمس العذر في بعض الأحيان في وجود جوانب القصور، وذلك لعدم التمكن من تحقيق كل برامج الإصلاح ومحاربة الفساد، وكذلك تقدير البعض أن الاستعجال في ذلك سيكون سبباً في إجهاض مشاريع الإصلاح قبل أن تقوم على قدم وساق من قبل الجهات المتربصة من دول ومنظمات، ﴿وَاللَّهُ ‌يَعْلَمُ ‌الْمُفْسِدَ ‌مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: 220].

كما يجب تحديد مقومات التدرج، كتوصيف واقع المجتمعات وتشخيص أمراضها ومشاكلها، وكذلك ترتيب سلم الأوليات، وتحديد برامج الإصلاح في كل مجتمع، فهو من مهام أهل الذكر وعلى رأسهم العلماء، ولا يمكن أن يقوم بذلك فرد أو أفراد، بل لا بد أن يكون للعلماء مؤسسة جامعة تحدد كل مقومات التدرج ومراحله، ثم يقومون بنقل هذه المشاريع من حيز التصور إلى واقع التنفيذ ومتابعته.

 

[1] الشريعة الإسلامية بين التدرج في التشريع والتدرج في التطبيق للشيخ عبدالرحمن حبنكة ص (12).

[2] قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/64).

 [3]القانون الإسلامي لأبي الأعلى المودودي ترجمة محمد عاصم الحداد ص (51).

 [4]زاد المعاد (3/143).

[5] التدرج في تطبيق الشريعة وعلاقته بالسياسة الشريعة لزياد الفواز ص22

[6] تفسير ابن كثير 2/540

[7] إعلام الموقعين 1/50

[8] متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه

[9] أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري

[10] غذاء الألباب1/227

[11] متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها

[12] أخرجه أحمد في المسند عن معقل بن يسار بإسناد ضعيف

[13] تفسير الظلال 5/2562

[14] متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها

[15] مجموع الفتاوى 2/355

[16] إعلام الموقعين 3/5

[17] متفق عليه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه

 [18]في ظلال القرآن 2/748

[19] مجموع الفتاوى 20/59

[20] أخرجه أحمد في المسند وفي سنن أبي داود عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه

[21] أخرجه أحمد في المسند وفي مصنف ابن أبي شيبة

[22] أخرجه أحمد في المسند وسنن النسائي

[23] جامع العلوم والحكم ص 105

[24] طبقات ابن سعد 5/343

[25] تاريخ الخلفاء ص180

[26] مرآة الزمان في تاريخ الأعيان 10/239

[27] طبقات ابن سعد 5/251

[28] العقد الفريد 2/232

[29] البداية والنهاية 9/200

[30] البداية والنهاية 9/208

[31] طبقات ابن سعد 5/344

[32] الأحكام السلطانية ص 78

[33] متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه

[34] شرح صحيح مسلم 3/482

[35] مجموع الفتاوى 20/60

[36] مجموع الفتاوى 20/60

[37] قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/62

[38] الأشباه والنظائر للسيوطي ص86

[39] إعلام الموقعين 4/163