وسائلُ التَّواصلِ الاجتماعِيِّ وأثرُهَا على الأسرةِ المسلمة

فقه الموازنة والأولويات في التشريع الإسلامي وبعض تطبيقاته المعاصرة
سبتمبر 14, 2020
تجدد ظاهرة الوضع في الحديث وخطرُها على العقيدة والشريعة في العصر الحديث
سبتمبر 14, 2020

وسائلُ التَّواصلِ الاجتماعِيِّ وأثرُهَا على الأسرةِ المسلمة

تحميل البحث كملف PDF

الباحث: عمار حمشو

دعا الإسلام إلى التواصل، قال الله تعالى: {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سور الحجرات: 14]، فبيَّنَ سبحانه أن التواصل والتعارف من مقاصد الخلق؛ خلقهم من أجل أن يتواصلوا ويتنافسوا في التقرب إليه.

وقد كانت سُبُل التواصل في العصور القديمة محدودة، أمّا اليوم فإننا نعيش في أرقى عصور التقدم التِّقني والتطور الشبكي والانفجار المعرفي؛ فأصبح العالم قرية صغيرة، واجتمعت أخباره في شاشة متنقلة، وغدا البعيد قريبًا بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي التي تعد من أهم منتجات التقنية في العصر الحديث، إنها نعمة عظيمة لمن استغلها الاستغلال المفيد واستعملها فيما ينفع؛ فبعد أن كان الناس يعانون من قلة التواصل فيما بينهم وصعوبة الوصول إلى المواقع المهمة وتحصيل المعلومات الضرورية لحياتهم، أصبحت الأمور أيسر وأسهل.

ولا شك أن وسائل التواصل سلاحٌ ذو حدين، فلها جوانب إيجابية وأخرى سلبية، ولها أخطار بليغة على كثير من الصُّعُد، ومن أشدها خطرًا مساسها بالأسرة، فإذا بهذه الوسائل تغدو نقمة وكان حقها أن تكون نعمة!

وبسبب وسائل التواصل ظهرت أشكال جديدة من العقود تُبرَم عبر هذه الوسائل، ونتيجة لأهمية الموضوع تملكتني الرغبة في دراسة هذه الوسائل واستقراء الجوانب الإيجابية والسلبية فيها، ووضع ضوابط للحد من هذه السلبيات قدر الإمكان وترشيد استخدامها.

تتكون هذه الدراسة من ثلاثة مباحث وخاتمة، المبحث الأول: مفهومُ وسائِلِ التّواصُلِ الاجتماعِيّ ومراحلُ تطورها. المبحث الثاني: آثارُ وسائِلِ التواصُلِ الاجتماعِيّ. المبحث الثالث: دراسة بعض آثار وسائل التواصل الاجتماعي المؤثرة في الأسرة من ناحية فقهية. وفي الخاتمة أهم النتائج والتوصيات.

المبحث الأول

مفهومُ وسائِلِ التّواصُلِ الاجتماعِيِّ ومراحلُ تطورها

المطلب الأول: مصطلحات البحث

أولًا: الوسائلُ لغةً واصطلاحًا

    الوسيلةُ لغةً: وسل فلان إلى ربه وسيلة أي عمل قربة، وتوسل بكتاب أو بقرابة، وهو واسل([1])، ووسل فلان إلى الله وسيلة إذا عمل عملا تقرب به إليه، والواسل: الراغب إلى الله. وقال الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوُسل والوَسائل([2]).

والوسيلة في اصطلاح الأصوليين: هي الطرق المُفضية إلى المقاصد ([3]).

ثانيًا: التواصُلُ لغةً واصطلاحًا

    التّواصُلُ لغة: وصل إليه وصولًا أي بلغ، وأوصله غيره، والوصل: ضد الهجران، والتواصل: ضد التصادم ([4]).

والتّواصُلُ في اصطلاح علم الاجتماع: هو عملية تبادل الأفكار والآراء والمعلومات والمشاعر عبر وسائط متنوعة لفظية وغير لفظية، كالكلام والكتابة والأصوات والصور والألوان والحركات والإيماءات، أو بوساطة أي رموز مفهومة لدى الطرف الثاني([5]).

ثالثًا: مفهومُ الاجتماعِيِّ

تشير كلمة “اجتماعي” إلى العالم حولنا وتفاعلات الناس وتعايشهم بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن يعيش منعزلاً عن الآخرين([6])، وأرى أن الاجتماعي يطلق أيضًا على الإنسان المنسجم المخالط لطبقات المجتمع مع المحافظة على فكره وقيمه ومعتقده.

المطلب الثاني: مفهوم شَبكاتِ التّواصُلِ الاجتماعِيِّ

أولًا: شَبكاتُ التّواصُلِ الاجتماعِيِّ

وسائل التواصل الاجتماعي: مقهى اجتماعي يجتمع فيه بعض الأفراد لتبادل المعلومات، وثمة فارق بين المقهى الحقيقي والافتراضي وهو أنك تستطيع الدخول إلى المقهى الافتراضي أينما كنت([7]).

وعُرفت أيضا بأنها: مجتمعات افتراضية عبر شبكات الإنترنت، تجمع مجموعة من الأفراد يحملون ذات الاهتمامات، يتبادلون الخبرات والمعلومات من خلال إطار برنامج محدد يشتركون جميعا في استعماله([8]). إذًا هي وسائل تسمح لمستخدميها بالتواصل عبر الإنترنت.

ثانيًا: أنواعُ شَبكاتِ التواصُلِ الاجتماعِيِّ

نتيجة لانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وازدياد أنواعها يوما بعد يوم يعسر حصرها جميعًا، ولكن ثمة مواقع تعد الأبرز في هذا المجال وهي:

1-فيس بوك: هو من الشبكات الاجتماعية التي تسمح بالحصول على صفحة لمن يرغب في التواصل الاجتماعي مع الأقارب والأصدقاء وغيرهم، ويساعد على تبادل المعلومات والصور الشخصية ومقاطع الفيديو([9]).

2-تويتر: أحد مواقع الشبكات الاجتماعية، أسَّسه جاك دوريس عام 2006م، ويقدم خدمة التدوين المصغر التي تسمح بإرسال تغريدات عن الحالة([10]) . لعب دورًا كبيرًا في الأحداث السياسية في عدة بلدان ([11]).

3-واتساب: هو تطبيق مراسلة فورية متعدد المنصات للهواتف الذكية، ويمكِّن المستخدمين أيضًا من إرسال الصور والرسائل الصوتية والفيديو والوسائط والمكالمات، أسسه الأمريكي بريان أكتون والأوكراني جان كوم عام 2009م، وهو من أكثر الوسائل خطرًا ونفعا في الوقت ذاته.

4-انستغرام: تطبيق أسسته شركة فيسبوك عام 2010 م، وهو أحد وسائل التواصل المخصصة لالتقاط الصور وتعديلها ومشاركتها، وكل من لديه حساب على التطبيق سيتمكن من رؤية المنشورات والتفاعل معها، وأضيف إليه مؤخرًا ميزة المحادثات بالرسائل النصية والصوتية أيضًا ([12]).

5-تِليجرام: هو أحد تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح للمستخدم إمكانية تبادل الرسائل والصور والفيديوهات بكل سهولة وبسرعة عالية، يتميز البرنامج باهتمامه بالناحية الأمنية للخصوصية، فهو من أكثر التطبيقات أمانًا في تبادل المعلومات، ويعزى السبب في ذلك إلى ميزة التشفير التي يقدمها التطبيق للمستخدم([13]).

المطلب الثالث: ميّزاتُ وسائلِ التَّواصلِ الاجتماعِيّ

تتسمُ وسائلُ التّواصلِ الاجتماعِيّ بخصائص وميزاتٍ قيمة، منها ([14]) :

السرعةُ: سرعة التواصل مع العالم الخارجي، فيستطيع الإنسان في ثوانٍ التواصل مع من يريد.

الاحتواء المعرفِيّ: مصدر غني للتزود بالمعرفة السهلة والتواصل بين ذوي الإبداع في شتى المجالات، وفيها فُرص عظيمة تَنتج عن التواصل بين ذوي الخبرات والكفاءات.

غير محدودةٍ: لا تحدُّها حواجز جغرافية، فيستطيع الشخص في الشرق التواصل مع الشخص في الغرب بسهولة.

سهولةُ الاستخدامِ: هذه البرامج سهلة الاستخدام ولا تحتاج أي جهد، فاستخدامها متاح لكل طبقات المجتمع.
التوفيرُ والاقتصاد: نستطيع من خلال خدمات شبكات التواصل الاجتماعي توفير المال والجهد والوقت؛ فنرسل من خلالها رسائل نصية أو مكالمات صوتية أو مرئية مجانًا.

مصدر إخباري: غدت وسائل التواصل مصدرًا جديدًا وسريعًا للأخبار العاجلة المهمة في كل المجالات.

تتسم هذه الوسائل بالسهولة والسرعة، وهي نعمة من نعم الله على الإنسان في هذا العصر إذا ما استخدمت على النحو الأمثل.

المبحث الثاني: آثارُ وسائِلِ التواصُلِ الاجتماعِيّ

المطلب الأول: الآثارُ السلبيّةُ لوسائل التواصلِ الاجتماعِيِّ

انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة بشكل كبير، وأصبحت الوسيلة الأبرز التي فرضت سيطرتها على جميع المجتمعات، وغدا مستخدموها يتجاوزون المليارات، وأصبحت وسيلة شديدة التأثير في المجتمعات والأسر؛ وذلك لأنها أصبحت تستخدم أساليب جذب لا حصر لها ما يجعلها سلاحا ذا حدين، فمن شأنها زيادة ثقافة المرء وحثه على العديد من القيم الإيجابية ولكنها على النقيض أسهمت بشكل كبير في فرض كثير من السلوكيات([15]).

 أولًا: الآثارُ السلبيّةُ لوسائِلِ التواصُلِ الاجتماعِيِّ على الأسرةِ

أثرت وسائل التواصل في كل جوانب الحياة الإنسانية وخاصة الجانب الأُسري، فقضت على كثير من القِيَم، وأحدثت تغييرات أسهمت في زعزعة علاقات الفرد بأسرته وعلاقات الأُسر ببعضها([16]).

ارتفاع نسبة الطلاق بسبب وسائل التواصل:

كشفت إحصاءات اجتماعية خلال السنوات العشر الماضية ارتفاع حالات الطلاق والخلافات الزوجية أمام محاكم الأسرة، وأوضح قانونيون أنّ أسباب عديدة تقف وراء تفاقم مشكلات الطلاق والخلافات الاجتماعية في مقدمتها مواقع التواصل التي تسببت في فضح خصوصيات الحياة الزوجية، ونشرت كثيرًا من المشكلات بين طرفي العلاقة الزوجية بدوافع الانتقام أو التشفي أو التشهير أو الإيذاء، كلُّ هذا كان سببًا في الطلاق وكثرته([17]).

ووفقًا لإحصائيات وزارة العدل في المملكة العربية السعودية عام 2015م هناك ما يقارب ثماني حالات طلاق كل ساعة عدا حالات الخلع، وارتفعت حالات الطلاق المسجلة في محاكم المملكة بنسبة 22 بالمائة، وكشف جهاز التعبئة والإحصاء أنّ مصر شهدت أكثر من 75 ألف حالة طلاق خلال عامي 2006 _ 2007، والمفاجأة في تلك الإحصائية أنّ 45 ألف حالة من تلك الحالات كانت بسبب الإنترنت والفيس بوك على وجه الخصوص، حيث إنَّ  68 % من حالات الطلاق نتجت بسبب تفضيل أحد الزوجين للحاسوب على زوجه أو زوجته([18])، وصرح رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي الفلسطيني الشيخ يوسف إدريس أن وسائل التواصل الحديثة أحد أسباب ارتفاع معدلات الطلاق إلى 2% في السنوات الأخيرة ([19]).

وتعد شبكة التواصل الاجتماعي الإلكتروني «فيسبوك» وراء ثلث حالات الطلاق، وهذا ما خلص إليه عدد من الدراسات الحديثة، أبرزها دراسة أجرتها الأكاديمية الأمريكية لمحامِي الطلاق، وأخرى نشرتها صحيفة الإندبندنت نقلًا عن جمعية المحامين الإيطالية.

ويأتي موقع «فيسبوك» في صدارة المواقع كافَّةً، ويعد السبب الأول المسؤول عن ارتفاع نسب الطلاق العالمية، وتشير الإحصائيات إلى أن 20% من حالات الطلاق في الولايات المتحدة الأمريكية سببها المباشر هو «فيسبوك»، وفي المرتبة الثانية يأتي تطبيق «واتساب»، فبحسب جمعية المحامين قد تسبب في 40% من حالات الطلاق في إيطاليا، وذلك لسهولة الاتصال بين الرجال والنساء وارتفاع نسب خيانة الأزواج([20])، وأفادت الدراسات بأن معدلات الطلاق بين الأزواج تزايدت بسبب مواقع التواصل الاجتماعي في 45 دولة في الفترة ما بين 2010 و2014م([21]).

ضعفُ العلاقاتِ الأسريّةِ، والعزلة النسبية للأسرة:

أصبحت الأسرة تشهد ضعفًا وتصدُّعًا في تركيبتها، وأصبح الطابع الفردي هو السائد بين أفرادها وانخفض مستوى التفاعل بين أفراد الأسرة، وزادت العلاقة سوءًا بين الزوجين وبين الأبناء والآباء؛ وذلك بسبب الجلوس أمام هذه الوسائل ناهيك عما تبثه تلك الوسائل من أفكار هدامة تنعكس سلبًا على سلوك الفرد، وهذا ما وصل إليه حال الأسر التي انغمست بشدة في استخدام تلك الوسائل([22])، والنبي صلى الله عليه وسلم: يقول: )) كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))([23]).

التباعدُ بين الزوجين وقلة مناقشة الأمور الأسرية:

أصبحت السمة السائدة بين الأزواج داخل الأسرة هو انشغال كل منهم بجهازه الخاص، وأدى ذلك إلى حدوث فجوة كبيرة بين الزوجين، فكل منهما مشغول بعالمه الخاص الذي لا يجد فيه وقتا لمناقشة المشكلات الخاصة بالأسرة والأبناء؛ وهو ما أدى إلى حدوث تفكك أسري وعدم دراية كل منهما بما يهدد الأسرة من أخطار لعدم وجود الوقت الكافي لمناقشتها وحلها([24]).

القضاء على صلة الأرحام والزيارات بين الأقارب:

 من الآثار السلبية على الأسرة ضعف التواصل الشخصي والاكتفاء بالمحادثات، وإهمال صلة الأرحام المباشرة التي شُرعت للمواساة والاطمئنان على أفراد الأسرة والنظر في أحوالهم، ويحسب المرء نفسه وصَّالًا لرحمه برسالات يرسلها، فنتيجة هذه الوسائل تدنت الزيارات وتراجعت حتى في المناسبات   ([25]).

ظهور مصطلح ما يسمى “أرامل الإنترنت”:

ظهرت فئة من النساء تُسَمَّى (أرامل الإنترنت(، فَإِدمان أحد الزوجين للإنترنت وافتتانه بمواقع الرذيلة يضرب الثقة الزوجية في مقتل، ويغير طبيعة التفكير والإحساس، ولا يُبقِي للمؤثرات العادية بين الزوجين أي قوة تُذكر، فالرَّجل المفتون بالمواقع الإباحية يزهد في زوجته وتقلّ لحظات الاجتماع الأُسرية، ويتلاشى التناصح فتصبح المرأة كالمطلقة أو الأرملة؛ ومن هنا جاءت هذه التسمية ([26]).

ازدياد الخيانات الزوجية:

إن الخيانة الزوجية أصبحت في يومنا هذا سهلة جدًّا باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي وبناء علاقات مشبوهة مع أشخاص خارج النطاق العائلي، وهذا السلوك يطوّر حالة انفصال سَلِسة غير واعية عن الأسرة، وقد يصل الأمر إلى حدّ ممارسة الفاحشة أو مقدماتها([27]).

تفكك الأسرة:

أحاطت مواقع التواصل أفراد الأسرة بجدران العزلة، فانفرد كل منهم بنفسه منكبًّا على حاسوبه يتصفح شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، أو غارقًا في الحوارات مع أصدقاء أو أناس مجهولين، يقيم معهم علاقات مختلفة، بعضها جاد ومفيد، وبعضها لأغراض التسلية وغيرها ([28]).

تقريب البعيد وتبعيد القريب:

في بعض الحالات نجد أن وسائل التواصل الحديثة قرّبت البعيد مكانيًّا وأبعدت المتقاربين؛ فأصبحت تنتزع الشخص من أسرته وأهله وأولاده.

إهمال أفراد الأسرة لواجباتهم:

على سبيل المثال نجد بعض الأشخاص يندمجون مع أصدقائهم على فيس بوك، ويتركون من معهم سواء أكانوا ضيوفًا أو أصدقاء؛ لما أدت إليه وسائل التواصل الاجتماعي من الانشغال عن القيام بالواجبات المختلفة.

نشر الانحلال الأخلاقي في الأسرة:

تعد وسائل التواصل الاجتماعي مدخلًا لنشر الفساد والانحلال الأخلاقي في الأسرة؛ وذلك لأنها عبارة عن مجتمع مفتوح، فيه جميع الثقافات ومن بينها ما يتعلق بترويج ثقافة الانحلال والفساد، وهي مكان مناسب لنشر التطرف أيضًا([29]).

ضعف المستوى الدراسي:

أدى الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي إلى تراجع مستوى التحصيل الدراسي لدى الأبناء بسبب التخلي عن المطالعة والاستذكار.

إهمال كبار السن في الأسرة:

أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل ملحوظ في انشغال بعض الناس عن الآخرين في حضورهم خاصة كبار السن، فأصبح بعض كبار السن يشعر بالعزلة عن أقاربه لانشغالهم عنه أثناء زيارتهم له بدلًا من الحديث معه والاهتمام به([30]).

غياب التهنئة الشرعيَّة:

هناك عادات ووسائل أكثر ودًّا للتهنئة نفقدها تدريجيًّا بسبب وسائل التواصل، كانت التهنئة تستلزم في الماضي زيارات لا بديل عنها بين الأهل، ثم تحولت إلى اتصالات أقل ودًّا وتخفي بسماتنا على الوجوه، ثم هيمنت رسائل الهاتف المحمول التي تظهر معها رسومات مصطنعة لوجوه كرتونية، ثم رسائل تهنئة مجمعة لكل الأصدقاء تخلو من الاهتمام بشخص المرسل إليه([31]).

فتور العلاقة الزوجية:

كم من بيت كان سعيدًا مليئًا بالدفء والحنان دمرته وسائل التواصل، وخلقت فيه نوعًا من الشك والمشكلات وعدم الاهتمام بالبيت وإهمال شؤون المنزل والأسرة، فالزوج يجلس بجانب زوجته دون أن يعيرها أي اهتمام، وكلا الزوجين يتعامل مع وسائل التواصل ويسهر بالساعات يتحدث ويتعامل مع عالمه الخاصِّ دون اكتراث بالآخر ([32]).

كَثرة الأمراضِ الجسديّة:

تُسبب المبالغة في متابعة وسائل التواصل الحديثة آلامًا في الرأس والعيون والرقبة والكَتِف والظهر والركبة والقَدَم وغير ذلك من الأعراض، كَما أنَّها تؤدِّي إلى آثار نفسية سيئة بسبب التعرُّض للموجات الكهرومغناطيسية التي تؤدِّي إلى القلق والاكتئاب([33]).

اصطناع الشخصية الوهمية الكاذبة:

يضع اسمًا غير اسمه وصورًا غير صوره لأغراضٍ عدَّة منها التلاعب والدخول في قصص حب مع الجنس الآخر، والاختلاس أو ممارسة أعمال غير شرعية عبر الإنترنت بدون اكتشاف الآخرين ذلك([34]).

المطلب الثاني: الآثارُ الإيجابيّةُ لوسائلِ التواصُلِ الاجتماعِيّ

لا شك أنّ أي وسيلة لها جانب إيجابي وآخر سلبي، ودائما تُدرسُ السلبيّات لتجتنب، وسوف نعرض بعض الإيجابيات، ونبدأ بآثارها الإيجابية على الأسرة.

أولا: الآثارُ الإيجابيّةُ لوسائلِ التواصلِ الاجتماعِيِّ على الأسرةِ

تدعيم العلاقات الأُسرية داخل العائلة وخاصة للمقيمين بعيداً عن ذويهم باستخدام الصوت والصورة، وهذا يقلل من المشاعر السلبية المصاحبة للبُعد والشعور بالغربة([35]).

تسهيلُ الزواج من خلال التعارف عبر هذه الوسائل: غدا التعارف سهلًا على الراغبين في الزواج والراغبات، ومن خلال التواصل يتم التعارف من غير عقبات.

الخِطبةُ عن طريق هذه الوسائل: أصبح الأمر سهلًا من خلال التواصل عبر واتساب وطلب الفتاة على الهاتف وسماع رضاها خاصة في ظروف التهجير.

إبرامُ العقودِ بواسطة هذه الوسائل: باتت هذه الوسائل وسيلةً لإبرام كثير من العقود كالبيع والشراء وعقود النكاح وغيرها.

تقريب المسافات بين أفراد الأسرة: فتعد مواقع التواصل الاجتماعي طفرة تقنية نتج عنها إمكانية مشاهدة الأقارب والأهل كما يمكن عن طريقها إجراء اجتماعات خاصة بالعمل وإنجاز عدة مهام كان يصعب إنجازها قديمًا([36]).

اكتساب الخبرات وتكوين الصداقات: استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي تقديم كل ما يحتاجه المرء من إمكانيات لاكتساب الخبرات من جميع أنحاء العالم، كما مكنت الأفراد من تكوين صداقات على مستوى العالم ([37]).

وسيلة لترميم الود بَيْن أفراد الأسرة: كم من مخاصمة بين شخصين أرسل إثرها أحدهم رسالة ودية فذهبت الشحناء والبغضاء.

وسيلة تعليمية لأفراد الأسرة: أغنت هذه المواقع الأسرة عن الدروس الخصوصية وعن متابعة الطلاب، وتم تفعيلها في كثير من المؤسسات التعليمية تحت اسم التعليم عن البعد؛ فكان لها أثر كبير وحلت محل اللقاءِ الفيزيائيّ.

مد أواصر الصداقة بين الأصدقاء القدامى: في حين ظن كثير من الأشخاص أن صلتهم بأصدقائهم القدامى قد انقطعت مدَّتْ مواقع التواصل الاجتماعي يدها للتدخل بشكل قوي، فأعادت تلك الصداقات القديمة إلى الحياة مرة أخرى؛ إذًا هي تساعدك على استرجاع الصداقات القديمة التي كنت تظنها قد انتهت([38]).

زيادة الحصيلة اللغوية واستخدام مفردات جديدة لأفراد الأسرة عن طريق البرامج التي تتحدث بالفصحى، إضافة إلى تعلُّم بعض اللغات الأجنبية.([39])

تعد مصدرًا للمعلومات والأخبار عن الأسرة عن طريق متابعة صفحاتهم ومن خلال الغرف الجماعية.

معرفة أحوال المسلمين في المناطق النائية من العالَم والتواصل معهم.

سهولة الاتصال بالعلماء من خلال متابعتهم لأخذ الفتوى عنهم.

البحث عن الفرص: تتيح لك البحث عن فرص للتدريب والعمل في المؤسسات والشركات والمنظمات ومتابعة نشاطها وأعمالها؛ فهي تعد مركزًا مهمًّا لعرض الوظائف المختلفة وتيسر الأمر على الباحثين عن العمل أو عن وظائفَ معينة، وتُتيح الاطلاع على المجلات والدوريات والنشرات العلمية والكتب والتقارير المتنوعة.

عقد المؤتمرات والاجتماعات: أصبح بالإمكان عقد مؤتمرات عن بعد دون إهدار الوقت والجهد في الأسفار والتنقل.

وسيلة للدعاية والإعلان: تعد وسائل التواصل من أهم وسائل الدعاية والإعلان والتواصل بين الشركات التي تروِّج منتجاتها وبين المشترين الذين يبحثون عن مبتغاهم، وتسهم في نشر العديد من الأحداث المهمة كالمؤتمرات والندوات والمحاضرات والأنشطة الإنسانيّة والخدمية.

هذه بعض الآثار الإيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي ذكرتها على سبيل الإجمال، وكثير منها يلمسه الإنسان من خلال استعمال هذه الوسائل.

المطلب الثالث: ضوابط استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والحد من سلبياتها

لا ريب أن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة صارت من الأهمية بمكان، وهي من ضرورات التواصل المجتمعي لما فيها من تيسير وتسهيل، وصارت شائعة في متناول الجميع، فهي حاجةٌ عصرية لا يمكن إلغاؤها؛ والناس ما بين مهوِّل ومهوِّن.

إذا كانت هذه إيجابياتها وسلبياتها فما السبيل لاستخدامها على النحو الأمثل؟ يتضح السبيل بوضع الضوابط والإرشادات للحد من الآثار السلبية بالضوابط والآداب الواجب مراعاتها في استخدام هذه المواقع.

وأهم هذه الضوابط والإرشادات:

  • تجنب الخضوع واللين في القول من الجنسين([40]):

وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أتاحت للجميع التواصل، ولكن كل شيء له ضابط وخاصة عند الحديث بين الجنسين.

وقد أجاز الفقهاء كلام المرأة والرجل الأجنبي عند الحاجة وبقدر الحاجة كما في البيع والشراء والتطبيب وسائر المعاملات المالية الأخرى، أو كأن تسأل المرأة العالم عن مسألة شرعية أو أن يسألها الرجل إذا كانت عالمة وغير ذلك من الأمور التي تستدعي كلام المرأة مع الرجل، فقد كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم يكلمن الصحابة، وكانوا يستمعون منهن أحكام الدين، ولكن يشترط في حديث النساء مع الرجال الأجانب أثناء التواصل تجنب الخضوع في القول واللين والابتعاد عن الكلام الفاحش والبذيء، وأن يكون القول قولا معروفًا حسنا، فالله تعالى يقول: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قولًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32].

  • حرمة التجسس وتتبع العورات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي([41]): يستخدم كثيرون هذه الوسائل للتأكد من سلوك شخص ما، أو للتحقق من وشاية، وأيًّا كانت هذه الدوافع فإنَّ التجسس لا يجوز إلا ما كان له مستند شرعي من كشف عدو متربص أو جاسوس، وما عدا ذلك فتحرمه الشريعة مهما كانت البواعث حفاظًا على خصوصية الآخرين.
  • عدم تشبه النِّساء بالرِّجال أو الرّجال بالنّساء خاصة في الأسماء: ينبغي عدم تشبه النساء بالرجال أو الرجال بالنساء في أي شيء وخاصة في اختيار اسم المستخدم؛ ذلك أن الرجل لا يليق به التأنث، والمرأة لا يليق بها الترجُّل، وهذا يجر مشكلات كثيرة لعل أبرزها خداع الطرف المقابل.
  • عدم وضع المرأة صورتها أو صور عائلية تجنبًا للخلافات الأسرية ومنعًا للابتزاز وسدًّا للمفاسد.
  • تجنب تصفح المواقع الضارة أخلاقيًّا أو دينيًّا أو فكريًّا كالمواقع الإباحية أو الإلحادية.
  • صون الخصوصية العائلية من خلال عدم نشر صور ومقاطع ومناسبات خاصة بالعائلة؛ تجنبًا للابتزاز والحسد والغيرة.
  • انتقاء الرموز التي لا توحي بالحب والغرام خاصة عند الحديث مع الجنس الآخر.
  • عدم إفشاء الأسرار العائلية.
  • الاكتفاء بين الجنسين بالاتصال الإلكتروني الكتابي دون الصوتي إذا كانت الحاجة تُسَد بذلك، وعدم الانتقال إلى الاتصال الصوتي إلا عند الحاجة إليه.
  • عدم استخدام تعبيرات المزاح والدعابة التي تثير الشهوة بين الجنسين، أو كلمات المغازلة والإيماء التي قد تدفعهما إلى التماس الاتصال والالتقاء، كما لا ينبغي أن يختم أحدهما عبارته برسمة ابتسامة أو قلب أو وردة([42]).
  • احترام التخصص العلمي وعدم النشر في غير التخصص وترك الخوض في التعليقات التي لا صلة له بها.
  • التأكد من نقل أي معلومة قبل نشرها وتعميمها لقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، يقول الدكتور وهبة الزحيلي مقررا بعض ما في الآية:) وجوب التثبت من الأخبار المنقولة والروايات المروية وأخذ الحيطة والحذر؛ منعاً من إيذاء الآخرين بخطأ فادح)([43]).
  • ضبط لغة الخطاب من خلال الابتعاد عن الكلام السيء والبذيء والمهاترات والكلام المستهجن([44]).
  • البُعد عن نشر شواذ الأفكار والمعلومات من قصص غريبة خيالية ومواقف غير صحيحة وليس لها مستند وفيها غرابة .
  • عدم الطعن في الأعراض أو التشجيع على ذلك بالإعجاب ومتابعة صفحات الطعن والتشهير ومشاركتهم وبث ما ينشرون.
  • الصبر وتحمّل الأذى، فمجال التواصل الإلكتروني يعجّ بالإساءات والشتائم فلا بد من الصبر.
  • ترك المِراء والجدال دون مسوغ أخلاقي معقول وهو الوصول إلى الحقيقة؛ ذلك أن كثرة الجدل تورث الخصومة والشقاق.
  • حماية حقوق الملكية الفكرية، فقد ينتج مستخدمٌ برنامجًا أو يصمم شعارًا أو يُعِدّ مادة علمية أو أدبية وينشرها على صفحاته؛ فإن كان المحتوى لعموم المتصفحين فلا بأس بنقلها أو نسخها أو طباعتها على أن تنسب لصاحبها، أما إن عرضها على أنها جهد خاص به ولا تتعلق بعموم القراء، فلا يجوز سرقتها أو التعدي على ملكيتها دون إذن من صاحبها([45]).

هذه أهم الضوابط التي تحدُّ بعض الشيء من تلكم السلبيات، ويبقى الوازع الديني والأخلاقي هو الضابط لكل هذا؛ وعلى المؤسسات الدعوية والثقافية أن تبين وتعمم هذه الضوابط وأمثالها للارتقاء بأساليب التعامل مع هذه الوسائل.

المبحث الثالث

دراسة فقهية لبعض آثار وسائل التواصل الاجتماعي المؤثرة في الأسرة

في ظل التطور التقني المتسارع وانتشار وسائل التواصل الحديثة ظهرت أشكال جديدة وأساليب حديثة لإبرام العقود أو فسخها لم تكن معروفة قديمًا، فالعقود التي كانت تجري في مجلس واحد يجتمع فيه طرفاه بدأت تُعقد عن بعد بالمراسلة الخطية أو الصوتية المباشرة التي تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي بسهولة وسرعة بالغة، فانتشر ما يعرف بـ “العقود التجارية الإلكترونية”، و”الزواج الإلكتروني” وغيرها. فيُفسخ أو يُعقد النكاح وغيره بمكالمة هاتفية أو برسالة عبر هذه الوسائل، وعليه فهل تصح هذه العقود والفسوخ شرعًا؟([46]).

المطلب الأول: إبرامُ عقدِ النكاحِ عبرَ وسائلِ التواصلِ الاجتماعِيِّ

اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم عقد الزواج عبر وسائل التواصل بين مانع ومجيز بناءً على اعتباراتٍ عدة مؤثرةٍ في الحكم؛ لعل من أهمها حكم عقد الزواج كتابةً، ومدى تحقق اتحاد مجلس العقد بجلسة وسائل التواصل الاجتماعي، ومدى ضمان تحقق أركان العقد وشروطه، وكيفية تجنب ما قد تنطوي عليه هذه العقود من الخديعة أو الخطأ لإمكان التلاعب صوتًا وصورةً.

عقد الزواج:

إنَّ عقدَ الزواج بالوسائل الحديثة يتم بعدةِ أشكالٍ؛ إما بالكتابة كالرسائل النصية، وإمَّا بالمراسلة الصوتية أو بالمكالمات الصوتية المباشرة بصورة أو دونها، فيمكن تقسيمها إلى قسمين: المكاتبة والمشافهة؛ فإن كانت بالمراسلة كتابةً فهي ملحقة بإبرام عقد النكاح بالكتابة، وما سوى ذلك ملحق بإبرام عقد النكاح مشافهة، وسندرس حكم الزواج عبر هذه الوسائل نطقًا وكتابة([47]).

أولًا: إبرام عقد النكاح كتابةً

من أشكال عقد الزواج عبر وسائل التواصل الحديثة أن يجري العقد عن طريق المراسلة بالكتابة، وقد اختلف فيه الفقهاء قديمًا:

القول الأول: لا يصح عقد النكاح كتابة عند جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة([48]) لاشتراط التلّفظ بالإيجاب والقبول والإشهاد، قال الإمام النووي: (إذا كتب بالنكاح إلى غائبٍ أو حاضرٍ لم يصحَّ. وقيل: يصحُّ في الغائب، وليس بشيء)([49]). وقال الشيخ الدردير: (ولا تكفي الإشارة ولا الكتابة إلا لضرورةِ خرس)([50])، وحجتهم اشتراطُ الإشهاد وحضور الولي والشهود -وهذا غير ممكن بالنسبة للمراسلة الكتابية- والاحتياطُ لعقد النكاح لأن له خصوصية([51]).

القول الثاني: الصحة، وهو مذهب الحنفية لأنهم جعلوا مجلس وصول الخطاب بمثابة مجلس العقد، وأضافوا لذلك بعض الشروط مثل أن يكون العاقد غائبا، وأن يكون الرد صريحًا من المخطوبة، وأن يشهد على الكتاب عند إرساله اثنان، وأن يشهد عند حضور الكتاب الشهود([52]). قال الدكتور محمد بن يحيى النجيمي: (أما إذا كان العقد بين غائبين بطريق الكتابة أو الرسول فإن مجلس الإيجاب هو مجلس قراءة الغائب للكتاب أمام الشهود أو إسماعهم الرسالة، فإذا كتب إلى امرأة: زوجيني نفسك، فلما وصل إليها الكتاب أو الرسول أحضرت الشهود وقرأت عليهم وأشهدتهم أنها زوجت نفسها منه، انعقد الزواج؛ فلا بد من القبول في مجلس قراءة الكتاب أو بلاغ الرسول بحضرة الشهود ليتحد مجلس الإيجاب والقبول، ولا بد أن يسمع الشهود ما في الكتاب أو رسالة الرسول ثم يسمعوا القبول ليكونوا سمعوا شطري العقد وشهدوا الإيجاب والقبول)([53]).

ثانيًا: إبرام عقد النكاح صوتيًّا

من آثار التقنية الحديثة الاتصال هاتفيًا بولي الزوجة وإبرام عقد النكاح، أو إرسال مقاطع صوتية تبين رغبته بالزواج كما يمكن أن يصحب الصوتَ تصوير مرئي.

وقضية إبرام العقد بالصوت قريبة من الصورة التي ذكرها الإمام النووي رحمه الله تعالى، وهي أن يكون المتعاقدان في مكان يسمع كل منهما الآخر، شاهده أو لم يشاهده، قال: (ولو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف)([54])، وقد اختلف العلماء المعاصرون في عقد النكاح عبر وسائل التواصل الحديثية (صوتيًّا) على قولين:

القول الأول: الجواز وبه قال الشيخ مصطفى الزرقا والدكتور وهبة الزحيلي والدكتور محمد عقلة([55])، ودليلهم (أن النطق باللسان ليس طريقًا حتميًّا لظهور الإرادة العقدية بصورة جازمة في النظر الفقهي بل النطق هو الأصل في البيان، ولكن قد تقوم مقامه كل وسيلة اختيارية أو اضطرارية مما يمكن أن يعبر عن الإرادة الجازمة تعبيرًا كاملًا مفيدًا)([56]). ولهذا الفريق أدلة عديدة تتلخص بصحة أي وسيلة ممكن أن تدل على الإرادة الباطنة لدى المتكلم.

القول الثاني: يمنع عقد الزواج بطريق الوسائل الإلكترونية الناقلة للكلام نُطقًا، وهو رأي جمع من فقهاء مجمع الفقه الإسلامي بجُدَّة، وللمجلس الإسلامي السوري تفصيل في ذلك، وهو عدم صحة العقد بالرسائل الصوتية عند اختلاف المجلس وصحته إذا اتحد بضوابط ذكرتها الفتوى، وتتأكد الصحة أكثر عند وقوع العقود بالمكالمات المرئية. جاء في فتوى المجلس: (وأما عقد الزواج بالرسائل الصوتية فهو لا يختلف عن المراسلة الكتابية من حيث عدم اتحاد المجلس، ووجود الفاصل بين الإيجاب والقبول، وعدم حضور الشهود للإيجاب والقبول، فلا يجوز عقد النكاح بهذه الطريقة، قال ابن قدامة في «المغني» : (حكم المجلس حكم حالة العقد، فان تفرقا قبل القبول بطل الإيجاب؛ فإنه لا يوجد معناه فإنّ الإعراض قد وُجد من جهته بالتفرق فلا يكون قبولًا، كذلك إذا تشاغلا عنه يما يقطعه لأنه مُعرِضٌ عن العقد أيضًا بالاشتغال عن قبوله)، وقال النووي في «روضة الطالبين»: (يشترط الموالاة بين الإيجاب والقبول على الفور، ولا يضر الفصل اليسير ويضر الطويل).

وأما إجراء عقد الزواج بالاتصال الهاتفي والبرامج الصوتية فقد أجازه جمعٌ من أهل العلم المعاصرين بشرط توفر جميع الإجراءات التي تضمن صحة العقد من وجود ولي وشاهدين، والتأكد من شخصية الزوجين بالمعرفة أو السماع، وسماع الشهود لطرفي العقد في مجلس واحد لا يكون فيه فصل أو انقطاع بحيث يسمع كلُّ طرف كلام الطرف الآخر في الوقت نفسه، فيكون الإيجاب من الولي أو وكيله ويليه القَبول من الزوج أو وكيله على الفور مع الأمن من التدليس والغلط، فلو اقتصر سماع الشهود على الإيجاب الصادر من الولي فقط أو على القبول من الزوج لم يصح العقد.

ويرى المجلس الأخذ بهذا القول بضوابطه المذكورة عند تعذر إجراء العقد بالطرق المعتادة وتعذر التوكيل بعقد الزواج مراعاة لأحوال السوريين ودفعًا للمشقة عنه.

وأما إجراء عقد النكاح بالمكالمات المرئية فهو أولى بالجواز من المكالمات الصوتية لإمكان مشاهدة طرفي العقد حال إبرام العقد والتلفظ بالإيجاب والقبول، ولانتفاء الخداع والخطأ غالبًا، فيجوز إبرام عقود النكاح بهذه الطريقة مع مراعاة الضوابط السابقة المذكورة في الفقرة السابقة)([57]).

المطلب الثاني: حكم الطلاق عبر وسائل التواصل الاجتماعي

الطلاق عبر وسائل التواصل الاجتماعي يكون بالكتابة أو النطق:

أولًا: حكم الطلاق عبر وسائل التواصل الحديثة صوتيًّا

إذا طلق الرجل زوجته عبر الهاتف أو رسالة صوتية فإن الطلاق واقع عند جمهور الفقهاء لأن الطلاق لا يشترط فيه الشهود ولا حضور الزوجة ولا رضاها([58]).

ثانيًا: حكم الطلاق عبر وسائل التواصل الحديثة كتابة

قال الدكتور وهبة الزحيلي: اتفق الفقهاء على وقوع الطلاق بالكتابة الواضحة والكتابة المستبينة وهي الكتابة الظاهرة التي يبقى لها أثر كالكتابة على الورق والحائط والأرض، والطلاق بالرسالة أو بإرسال رسول بأن يبعث الزوج طلاق امرأته الغائبة على يد إنسان، فيذهب الرسول إليها ويبلغها الرسالة على النحو المكلف به، فإذا كتب أحد إلى زوجته كتابًا إلكترونيًّا) رسالة نصية (يقول لها فيه: أنت طالق، فإنها تأخذ حكمها فور الكتابة، فيقع الطلاق حالًا، ولا يتأخر إلى وصول الكتاب وقراءته إلا إذا علقه على علمها به كقوله: إذا وصلتك رسالتي هذه فأنت طالق، فيقع عند الوصول لا عند الكتابة([59]).

ويظهر جليا من خلال النصوص السابقة أن الأحوال الشخصية لها خصوصيتها في التشريع الإسلامي لا سيما النكاح والطلاق، ولهذا شرط الفقهاء مجموعة من القرائن التي ترفع احتمال الخديعة عن العقود التي تجري دون حضور الطرفين بشكل مباشر عند إبرام العقد أو فسخه.

خاتمة البحث وأهمُّ نتائجه:

إن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة نتيجة من نتائج التطور التقني الذي شهدته الحضارة الإنسانية في العصر الحديث، وحالها في الشرع كغيرها من موجودات الدنيا التي سخرها الله للإنسان، يمكن استخدامها في طاعة الله وخدمة العباد فيثاب الإنسان على استخدامها. وتُستخدَم أيضا في معصية الله وضرر الناس فيستحق فاعل ذلك العقاب، وقد انعكس وجودها على مسيرة الاجتهاد في الفقه الإسلامي، فناقش العلماء أهم ما نتج عن استخدامها من أحكام فقهية وخاصة موضوع العقود والزواج والطلاق.

وخلص البحث إلى مجموعة من النتائج وهي:

– أيّ تقنية حديثة هي سلاح ذو حدين تستخدم للخير والشر.

– أثرت وسائل التواصل الحديثة في الحياة الإنسانية كافة، ودخلت كل المجالات.

– تسببت وسائل التواصل الاجتماعي في زيادة حالات الطلاق في معظم البلدان.

– يمكن توظيف هذه الوسائل في القطاعات كافة وخاصة قطاع التعليم والدعوة.

– إدراك أخطار وسلبيات هذه الوسائل ثم معالجتها هو السبيل الوحيد للحد من آثارها السلبية.

– يجوز الحديث مع الرجال الأجانب والنساء الأجنبيات عند الضرورة أو الحاجة المعتبرة شرعًا.

-لا يجوز إبرام عقد الزواج كتابة أو نطقًا بدون اتحاد المجلس افتراضيًّا عبر هذه الوسائل لما لهذا العقد من خصوصية.

-يصح عقد النكاح بمكالمة صوتية مباشرة يسمعها الشهود وتتوفر فيها الشروط والأركان لا سيما إذا عقد صوتًا وصورة.

– يجوز الطلاق عبر هذه الوسائل لأن الطلاق لا يحتاج إلى شهود.

التوصيات:

1) إصدار دراسات فقهية موسعة تدرس الجرائم الإلكترونية وآثار وسائل التواصل الاجتماعي على الأحوال الشخصية.

2) عقد المحاضرات والندوات لترشيد استخدام هذه الوسائل.

3) ضرورة اهتمام الوالدين بمراقبة الأبناء وتوعيتهم وغرس القيم فيهم.

4) فرض عقوبات على المخالفات التي تمارس من خلال هذه الوسائل.

 

([1]) تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393هـ) تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين – بيروت، الرابعة -1987 م. مادة (س ل و) 2/375.

([2]) لسان الميزان: أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852هـ)، دائرة المعرف النظامية – الهند، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت – لبنان: باب الواو، 11/724.

([3]) الفروق: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ)، تحقيق: عمر حسن القيام، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط1. 2/42.

([4]) الصحاح: الجوهري، مادة (و ص ل) 5/1842.

([5]) مصطلح تواصل، الموسوعة الحرة على الشبكة: رابط التعريف: https://ar.wikipedia.org/wiki.

([6]) الفرق بين مصطلحي (اجتماعي) و(مجتمعي)، د. أحمد إبراهيم خضر، بحث على شبكة الألوكة، تاريخ الاقتباس: 12/5/2020. رابط البحث: https://www.alukah.net .

([7]) الإنترنت والمنظومة التكنولوجية، د. علي محمد رحومة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007م، ص75.

([8]) المقاهي الإلكترونية ودورها في التحول الثقافي دراسة إنثروبولوجية: جيهان حداد، جامعة اليرموك، رسالة ماجستير غير منشورة، 2002م. ص10.

([9]) أثر استخدام شبكات التواصل الاجتماعي على مهارات التواصل والشعور: محمد عبد المنعم، دار الرشيد إسماعيل الطاهر. ص294.

([10]) شبكات التواصل الاجتماعي ودورها في العملية التعليمية: بشرى فيصل الحربي، رابط المقال: http://community.tftoolkit.com.

([11]) أثر استخدام شبكات التواصل الاجتماعي على مهارات التواصل، د. محمد عبد المنعم، ص294 .

([12]) وسائل التواصل الاجتماعي، مقال على الموسوعة الحرة، رابط الموضوع: https://ar.wikipedia.org/wiki/ .

([13]) ما هو تطبيق تلغرام، مقال على موقع “موسوعة كله لك”. رابط: .http://wiki.kololk.com  

([14]) شبكات التواصل الاجتماعي “إيجابيات وسلبيات”، حسني عزام، شبكة أصداء الإخبارية http://www.asdaapress.com، سلبيات وإيجابيات مواقع التواصل الاجتماعي: إبراهيم العبيدي -١٢ أيَّار ٢٠١٩. https://mawdoo3.com . أهمية مواقع التواصل الاجتماعي https://socialmediadotme.wordpress.com.

([15]) الإنترنت في العالم العربي دراسة ميدانية على عينة من الشباب العربي: سامي عبد الرؤوف، المجلة المصرية لبحوث الرأي العام، عدد 4، 2000م، ص35.

([16]) إدمان الإنترنت في عصر العولمة: محمد علي النوبي، عمان، دار صفاء 2010، 250 ص 256.

([17]) اتهام مواقع التواصل بزيادة حالات الطلاق، جريدة الشرق. رابط: https://al-sharq.com/article/ .

([18]) المرأة العربية ومشكلاتها الاجتماعية: إسماعيل عبد الفتاح. العربي ط 1، 2011، ص152.

([19]) ارتفاع نسبة الطلاق إلى 20% مقابلة شخصية: يوسف إدريس إسماعيل، مجلة عرب، بتاريخ 7/ 4/ 2014 م. https://www.arab48.com.

([20]) أثر وسائل التواصل الاجتماعي في تفكك الأسرة والمجتمع، إسلام ويب، رابط: https://www.islamweb.net .

([21]) فضائح فيس بوك » Facebook Scandals أشهر موقع استخباراتي على شبكة الإنترنت”: شادي ناصيف، رابط:   https://algeriemarket.com/produit/.

([22]) إدمان الإنترنت في عصر العولمة: محمد النوبي، ص251.

([23]) صحيح البخاري، محمد زهير الناصر، الناشر دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422هـ.، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، رقم الحديث: 892. ج2 ص5.

([24]) الخدمة الاجتماعية في مجال الأسرة والطفولة: جبريل ثريا وآخرون، مركز بيع الكتاب الجامعي، كلية الخدمة الاجتماعية، جامعة حلوان، القاهرة، 2002م، ص43-44.

([25]) كيف ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إضعاف العادات والتقاليد وتقليص العلاقات الاجتماعية: موسى آدم عبد الجليل، الرابط: https://socio.yoo7.com .

([26]) وسائل التواصل الحديثة وأثرها على الأسرة: عبد الله عبد المنعم وآخران، ص12. هذا البحث عُرِض في “جامعة النجاح” يوم الخميس الموافق 24/4/2014م.

([27]) المواقع الإباحية على شبكة الإنترنت وأثرها على الفرد والمجتمع: مشعل بن عبدالله القدهي، وحدة خدمات الإنترنت، مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، رابط: https://www.google.com

([28]) تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على النسق القيمي الأخلاقي للأسرة: نعيمة طايبي، المجلة الجزائرية للتربية النفسية، رابط: https://www.asjp.cerist.

([29]) مخاطر مواقع التواصل الاجتماعي على الأسرة، موقع معلومة ثقافية: رابط. https://www.thaqfya.com

([30]) أثر وسائل التواصل الاجتماعي في تفكك الأسرة والمجتمع، مجلة البيان عدد 341، موقع إسلام ويب: رابط: https://www.islamweb.net/ar/hajj/article/214441/

([31]) الأسرة ووسائل التواصل، موقع الخطباء. http://elfarmanews.com/

([32]) أثر وسائل التواصل الحديثة على العلاقات الاجتماعية والأسرية، تحرير شكري عبد الحميد حماد، ديوان قاضي القضاة /المجلس الاعلى للقضاء الشرعي، ص.21

([33]) منظمة حماية البيئة من الإشعاعات الكهرومغناطيسية. رابط: https://www.facebook.com

([34]) جريدة “المسلمون الدولية”، عدد 683-، ص 15، ذو القعدة 1418 ه.

([35]) مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرها على الفرد والمجتمع: الولي ولد سيدي هيبة، وكالة الرائد الإخبارية، الرابط: https://arayede.com/content.php?id=4818 .

([36]) تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على المجتمع سلبًا وإيجابًا، سفيان بوقرة، ص13. رابط البحث   https://www.academia.edu/37273847/.

([37]) المرجع السابق.

([38]) الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، موقع أبحاث دوت كوم رابط: https://abhaskom.blogspot.com/2019/10/blog-post_73.html  .

([39]) الإعلام والطفل: جميل خليل محمد، دار المعتز، ص82.

([40]) الضوابط الشرعية لاستخدام وسائل التواصل الحديثة: محمد أحمد حسين المفتي العام للقدس، بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الدولي الرابع لكلية الشريعة في جامعة النجاح الوطنية / نابلس جمادى الآخرة 1435 ه / 24 نيسان 2014 م. ص 12.

([41]) الضوابط الشرعية في التواصل بين الجنسين في وسائل التواصل الحديثة: راغب الجيطان ص15.

([42]) ضوابط شرعية لاستخدام وسائل التواصل الحديثة بين الجنسين: محمد مطلق محمد عساف، قسم الفقه والتشريع، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة القدس، فلسطين ص12.

([43]) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج: وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر – دمشق، الطبعة الثانية، 1418 هـ.26/226.

([44]) الضوابط الشرعية في التواصل بين الجنسين في وسائل التواصل الحديثة: راغب الجيطان ص13.

([45]) المرجع السابق ص14.

([46]) أثر التكنولوجيا الحديثة في النظر الفقهي: فريدة صادق زوزو 55/69.

([47]) حكم الزواج عبر وسائل التواصل الحديثة، رابطة علماء السنة. https://www.rabtasunna.com .

([48]) وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها في الأسرة: دراسة فقهية. دعاء كتانه، ص87.

([49]) روضة الطالبين وعمدة المفتين: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ) تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت-الطبعة الثالثة، 1412هـ / 1991م، ج7ص37.

([50]) حاشية الصاوي على الشرح الصغير، أبو العباس أحمد بن محمد الخلوتي الصاوي المالكي (المتوفى: 1241هـ)، دار المعارف، بدون طبعة ولا تاريخ، ج2ص350.

([51]) حكم الزواج عبر وسائل التواصل الحديثة، رابطة علماء السنة. https://www.rabtasunna.com/5752 .

([52]) وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها في الأسرة: دعاء كتانه، ص87.

([53]) المرجع السابق.

([54]) المجموع شرح المهذب: النووي، دار الفكر. 9 /193

([55]) وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها في الاسرة: دعاء كتانه، ص87.

([56]) المدخل الفقهي العام: مصطفى الزرقا، دار القلم . 2/326.

([57]) حكم عقد الزواج بوسائل الاتصال الحديثة. رابط الموقع: https://sy-sic.com/?p=7442

([58]) الطلاق عبر وسائل الاتصال الحديثة حكمه وحجيته في الإثبات: حجاري محمد، بحث مشارك في الملتقى الوطني حول “الزواج والطلاق عبر وسائل الاتصال الحديثة، حكمه وحجيته في الإثبات” المنعقد يومي 20 -21 أيَّار/ 2014 بجامعة غرداية، ص8.

([59]) الفقه الإسلامي وأدلته: وهبة الزحيلِي، دار الفكر، سوريَّة-دمشق، الطَّبعة الرَّابعة، 9/360.