فقه الموازنة والأولويات في التشريع الإسلامي وبعض تطبيقاته المعاصرة

لا تصنع أعداءك بنفسك “خَطَواتٌ آمنة نحو التَّغافُر”
سبتمبر 14, 2020
وسائلُ التَّواصلِ الاجتماعِيِّ وأثرُهَا على الأسرةِ المسلمة
سبتمبر 14, 2020

فقه الموازنة والأولويات في التشريع الإسلامي وبعض تطبيقاته المعاصرة

تحميل البحث كملف PDF

الباحث: خليل الحسين

الفقه المقاصديّ من أهم ما يجب علمه على الفقهاء والقضاة والمفتين؛ إذ به تتميز الأحكام وبه يعرف الحلال والحرام، وبناء عليه توضع الأحكام للمستجدات والأحداث المعاصرة، ولكن يجب مع فهم مقاصد التشريع أن ينضم إليه التمييز والقدرة على الترجيح بين المفسدة والمصلحة، وبين المصلحة والمصلحة، وبين المفاسد فيما بينها، حتى لا يُقدَّم حكم مشتمل على منفعة على حكم أعلى رتبة منه في منفعة أخرى، وحتى لا تختلط الأحكام في بيان المقاصد النفعية للعباد فيترجح ما هو مرجوح ويتقدم ما هو متأخر. قال الإمام الغزالي رحمه الله: (وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور بل قد يتعين في الإنسان فرضان أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان أحدهما يضيق وقته والآخر يتسع وقته، فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغرورًا)([1]).

إن فقه الموازنة باب دقيق ومسلك عظيم من مسالك التأصيل والترجيح، ولا بد لمن يقتحم هذا الباب أن يشتمل على ذكاء الفطرة ونضوج العقل ومعرفة الأحكام والإلمام بالفروق، والأهم هو التعمق في فهم مقاصد الشريعة التي تتوخى منافع العباد وتطرد عنهم الأضرار، كما لا بد من أن يكون الموازِن مطلعا على فقه الأولويات الذي يعدُّ أساسًا من أسس الموازنة، ولا بد أيضا من أمر لا يستغني عنه فقيه أو قاض أو مفتٍ وهو النظر في مآلات الأمور إذ من لا يعرف المآلات يقصر عن فهم المقاصد التي من خلالها تُحدَّد الواجبات والمحرمات والمندوبات والمكروهات.

يعرَّف فقه الموازنة بكونه: (المفاضلة بين المصالح فيما بينها، وبين المفاسد فيما بينها، وبين المصالح والمفاسد المتعارضة والمتزاحمة؛ لتقديم أو تأخير الأولى بالتقديم أو التأخير)([2]) ويعد تعريف هذا المصطلح مفصليا في بيان ماهية العمل في فقه الموازنة بين الأحكام، ومعرفة المصالح بتقسيماتها المتعددة بين المعتبرة وغير المعتبرة والملغاة، وأيضا الدنيوية منها والأخروية والمشتركة بينهما. ويعرف فقه الأولويات بكونه العلم بالأمور التي ثبت لها حق التقديم وفق الأدلة الشرعية([3]).

الأدلة على فقه الموازنة:

ذكر العلماء كثيرًا من الأدلة على العمل بفقه الموازنة، وسأكتفي بدليلين من القرآن ودليلين من السنة:

إن الله تعالى حينما حثنا على تطهير النفس من الخبائث وظلمات الجهل والكفر والفسوق، وجه الأمر إلى كل مخاطب في ذات نفسه، ثم إن تطهرت نفسه التفت إلى غيره فدعاه أيضا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105] وهذا ما أكده قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيءٌ فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيءٌ فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا))([4]) وإن كان الحديث في النفقة ولكن فيه دلالة واضحة على تقديم الواجبات بعضها على بعض، يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث فوائد منها الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب، ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد([5]). والدعوة إلى الله تعالى واجبة والنصح واجب إذ ((الدين النصيحة)) كما ورد([6])، ولكن واجب تطهير الذات مقدم على واجب النصح للآخرين قطعًا إذا تعارضا وضاق الأمر عن القيام بهما معًا.

ويظهر فقه الموازنة جليًّا أيضًا في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108] حيث إن في الآية مصلحتين مشتملتين على المنفعة؛ إحداهما تسفيه الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله تعالى بسبها وشتمها، والثانية عدم سب المشركين لذات الله تعالى بناء على سب المسلمين لآلهتهم، فالله تعالى أمرنا بتقديم الثانية على الأولى لأن عدم سب الذات الإلهية من المشركين أولى من سب آلهتهم من المسلمين، فتعظيم الله تعالى مقدم على ما سواه من المصالح بل هو أعظم مصلحة.

وأما من السنة فهناك أحاديث كثيرة استدل بها الأصوليون على الموازنة وأكتفي باثنين منها:

الحديث الأول: حديث الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم أولًا إلى الإيمان بالله ثم الصلاة ثم الزكاة، وهذا ترتيب مقاصدي من حيث الأهمية، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ))([7]) فهو دليل على ترتيب الواجبات من حيث الأهمية والأولوية.

الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عنِ الحِجرِ أمنَ البيتِ هوَ؟) قالَ: ((نعَم)). قالت: (ما لَهُم لم يُدخِلوهُ في البيتِ؟) قالَ: ((إنَّ قومَكِ قصُرَتْ بِهِمُ النَّفقةُ)) فقُلتُ: (ما شأنُ بابِهِ مرتَفِعٌ؟) قالَ: ((فعلَ قومُكَ ليُدخِلوا مَن شاؤوا، ويمنَعوا مَن شاؤوا، ولولا أنَّ قومَكِ حَديثو عَهْدٍ بجاهليَّةٍ -فأَخافُ أن تُنْكِرَ قلوبُهُم ذلِكَ- لنظَرتُ أن أُدْخِلَ الحِجرَ في البيتِ، وأن أُلْزِقَ بابَهُ بالأرضِ))([8]). يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: (وفي هذا الحديث دليلٌ لقواعد من الأحكام منها: إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحةٌ ومفسدةٌ وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدئ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحةٌ، ولكن تعارضه مفسدةٌ أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا؛ وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا، فتركها صلى الله عليه وسلم)([9]) هذا الحديث دليل واضح على فقه الموازنة وتقديم المهم من المصالح على غيرها، (وفيه ترك إنكار المنكر خوف الوقوع في أنكر منه، فهنا ترك المفسدة خوف الوقوع في مفسدة أعظم)([10]).

ومما يدل لهذا المعنى أيضا حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك))، قلت: إن ذلك لعظيمٌ، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تزاني بحليلة جارك))([11]). وفي هذا الحديث دلالة على أن رتب المفاسد متفاوتة، فإذا اجتمعت وجبت الموازنة.

وأمر فقه الموازنات مما أجمع عليه العلماء، يقول الإمام العز رحمه الله تعالى: (أجمعوا على دفع العظمى في ارتكاب الدنيا) وقال ابن دقيق العيد: (من القواعد الكلية أن تدرأ أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما إذا تعين وقوع إحداهما…، وأن يحصل أعظم المصلحتين بترك أخفهما إذا تعين عدم إحداهما)([12]).

ضوابط فقه الموازنة:

مما مر يعلم أنه لا بد من توافر عنصر العلم بالأحكام من جميع جوانبها لمن يريد أن يجتهد في الموازنة بينها، وثمة قواعد منضبطة يسير عليها الموازن حالة الموازنة بين الأحكام، جمعها الإمام العز -رحمه الله تعالى- في سبعة:

أولاها: الجمع بين المصالح حال تعارضها، بمعنى أن نجمع بين المصالح في حال استطعنا فعلها كلها، وضرب لذلك مثالا فقال: (لو بقي من وقت عرفة ما يسع العشاء الآخرة والذهاب إلى عرفة، فالأصح أنه يصلي العشاء صلاة الخوف ويذهب إلى عرفة، فيكون جمعًا بين الفضيلتين، فصلاة الخوف لأجل المال مشروعة فلأن تشرع لأداء الحج أولى)([13]).

ثانيها: التقديم بالرتبة، وهذا يعني تقديم طاعة الأعلى منزلة على غيره، فطاعة الله مقدمة على طاعة غيره، وطاعة ولي الأمر مقدمة على طاعة من دونه، وبر الأم مقدم على بر الأب، وما كان في دائرة الضرورات مقدم على ما بعده من الحاجي والتحسيني على ما سنذكره.

ثالثها: تقديم الأرجح، وهذا مبني على تقديم الأفضل على غيره وله صور كثيرة جدًّا (كتقديم الصلاة الوسطى على سائر الصلوات، وتقديم فرائض الصلوات على نوافلها)([14]).

رابعها: التقديم بالنوع، وهنا يقدم النوع الأفضل على غيره من أنواع الفضائل والمصالح، ففي أنواع العبادات الصلاةُ عبادة أفضل من غيرها على خلاف في ذلك، فإن الأحاديث أثبتت أن الجهاد يتلو الإيمان، فنوع الجهاد أفضل؛ ولكن الإمام العز -رحمه الله تعالى- جمع بين ذلك بجعل الجهاد والحج المبرور أفضل من صلاة مفروضة([15])، والدِّين نفسه نوعٌ مقاصدي مقدم على النفس عند الجمهور بترتيب المقاصد أو الضروريات الخمس.

خامسها: التقديم بالحكم كتقديم الصلاة المشروعة فيها الجماعات على ما لم تشرع، وما كان واجبا مقدم على ما هو سنة.

سادسها: التقديم بالكم والمقدار أي ما كان أكثر فعلًا فهو أكثر فضلًا.

سابعها: التقديم بالدوام والعموم، وهذا يثبت في كل فضيلة تعد دائمة، فما كان له صفة الدوام من المصالح يقدم على ما كان آنيًّا، وما كان عامًّا يقدم على ما كان خاصًّا، وحينما تتساوى المصالح في ذلك كله نقرع بينها أو نتخير في الأمر([16]).

معالم فقه الموازنة:

يمكن تحديد معالم فقه الموازنة من خلال أمور عدة أهمها:

أولًا: فهم الأولويات ومراتبها.

ثانيًا: النظر في المآلات بالنسبة للتقديم والتأخير من حيث معرفة الحكم واستنباطه.

ثالثا: النظر في تحديد الحق والعدل في عملية التوازن، وهذا من أهم المعالم إن لم يكن أهم معلم في معرفة الحكم وإثباته الذي ينبني عليه التوازن في جميع مراحله السابقة.

رابعا: تحديد الحقوق والواجبات العامة والخاصة.

خامسا: الحرص على معرفة القول المتفق عليه أو الذي قال به جمهور العلماء، فيقدم في إثبات الحكم على غيره إلا إن ظهرت مصلحة تقتضي الأخذ بغيره.

دوائر المصالح المبنية على مقاصد التشريع العامة:

بناء على مقاصد التشريع الخمس حفظ الدين والنفس والعقل والعرض أو النسب والمال؛ فإنا نستطيع أن نقول: دوائر المصالح بالنسبة للمقاصد خمس دوائر، لكل مقصد دائرة فيها المهمات الأساسية التي تحافظ عليها ثم مكملاتها وكذا متمماتها، فكل دائرة تحتوي في قواعدها على الأحكام التي تحفظ مصالحها بجلب المنافع لها وكذا التي تبين مفاسدها وتدرؤها عنها.

هذه الدوائر الخمس تقسم احتياجاتها من حيث الوجود والعدم إلى ثلاث مراتب، وهي:

أولًا: الضروريات، وهي الأمور التي لا بد منها للحفاظ على كل دائرة بذاتها بحيث لو أهملت هذه الأمور لضاعت الدائرة وذهب المقصد.

ثانيًا: الحاجيات، وهي التي يكون بوجودها رفع لمشقة يعسر بقاء الدائرة بوجودها، وتوصل إلى مشقة لا تحتمل مثلها عادة مع بقاء أصل المقصد.

ثالثًا: الكماليات، وهي الأمور التي تحافظ على المقصد من حيث رفع جنس المشقة، وجعل الدائرة في صورة مرضية لا إهانة فيها ولا مذلة، ولا يركن فيها المقصد إلى التطلع إلى سفاسف الأمور ومحقراتها([17]).

والأولان واجبان من حيث الوجود بالنسبة للمصلحة ومن حيث العدم بالنسبة للمفسدة، فلا يجوز فيهما ترك مصلحة تؤدي إلى الحفاظ على الذات المقصودة في الدوائر ولا إيجاد مضرة تؤدي إلى تعطيل أو إهلاك الأمر المقصود من كل دائرة مقاصدية، وأما الكماليات فهي مستحبة من حيث الوجود والعدم لتكون الحياة في كل دائرة في أعلى مراتب العيش الهنيء الرغيد.

وبناء على هذا البيان ستجري التطبيقات التي سنذكرها لبيان فقه الموازنة، ولا بد قبل ذلك من التنبيه على ضرورة الترتيب بين الدوائر كما ذكرناها، وهناك خلاف بين الأصوليين في تقديم النفس على الدين لأنها قوامه، والجمهور على تقديم الدين على النفس إلا أن هناك رخصًا شرعها الله تعالى رحمة بالعباد تقدَّم فيها النفس على الدين ظاهرًا؛ فإنَّ حق الله مبني على المسامحة، وحق العباد مبني على المشاحة والمماطلة، وذلك كالنطق بكلمة الكفر مكرهًا بلسانه دون الاعتقاد بها.

نماذج تطبيقية من الواقع السوري على فقه الموازنة

في الوضع السوري اليوم تتضارب كثير من المصالح أو تتداخل المصالح بالمفاسد، ولا يمكن البحث عن حكم الشرع في ذلك إلا عبر فقه الموازنات، وما يحدث في سوريا اليوم يقع لكثير من بلدان المسلمين في القديم والحديث، وسأذكر أمثلة على ذلك.

أولا: بين تطبيق بعض أحكام الشريعة ودفع الظلم

هناك دعوات لتطبيق أحكام الشريعة، وهي مصلحة لا تستغني عنها الأمة مطلقًا في خضم هذه المأساة التي تعصف بهذا البلد المبارك، وفي مقابلة ذلك هناك مصلحة أخرى هي رفع الظلم واستقرار البلد، فالظاهر هنا تزاحم مصلحتين؛ المصلحة الأولى في مجال الدعوة إلى الله تعالى وحفظ الكليات الخمس لازمة محقة، فإقامة التشريع واجبة، وفي مقابلها مصلحة أخرى متمثلة بحرب الظلم وإعادة الحقوق لأهلها، والتفرغ لإحداهما يضيع شيئًا من الأخرى؛ فهنا نستطيع القول بأن الأرضية لإقامة جميع شرائع الدين وأحكامه في المناطق الشمالية من البلاد غير متناسبة تناسبًا كاملًا، ويحتاج تطبيق بعض الأحكام إلى تأهيل المجتمع كما يحتاج إلى استقرار وإعادة الحقوق وحفظ النفوس؛ فالمصلحة الثانية يظهر فيها التقديم في أكثر من موضع بناء على أن تعطيل بعض الأحكام لأجل مصلحة أخرى قد يكون وجيهًا، وهذا ما فعله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حينما ترك قطع يد السارق في عام المجاعة([18])، وفي هذا تقديم للحفاظ على النفس مقابل تطبيق حدود التشريع الإسلامي.

وهذا ظاهر في الحالة السورية لأن القتل مستحر في العباد، والالتفات إلى تطبيق جميع الأحكام وخاصة الحدود قد يضيع النفس التي يقوم التطبيق بها أو عليها، ثم إن الملاحظ في المناطق الشمالية من سوريا إقامة الأحكام الشرعية لكن بشكل ناقص، فالشرع يحكَّم في أغلب القضايا التي يقع بها الناس على المستوى الأسري والاجتماعي والقضائي كما هو ملاحظ، لكن الإشكالية التي تعرض هي تطبيق بعض الحدود وما ينتج عنها في وضع غير مستقر وفتن وقتلٍ وحرب لم تهدأ، فلا بد هنا وَفق فقه الموازنة من اعتبار الظروف والأحوال والمفاسد المتعارضة وإدراك الناس لحِكَم التشريع.

ولو اعتبرنا الأمرين من المفاسد فقلنا: عدم تطبيق بعض أحكام الشريعة مفسدة، وعدم رفع الظلم مفسدة أخرى، وتصورنا تعارض درء المفسدتين معًا كليًّا أو جزئيًّا، فالذي يظهر أن عدم وجود مكان وزمان وظروف ومجتمع مؤهل للتطبيق يجعل تقديم رفع المفسدة الثانية أولى من الأولى في بعض تلك الأحكام، خصوصًا أن رفع الظلم فيه إبقاء للنفوس والمحافظة عليها وجعلها مؤهلة لتطبيق الشريعة، يقول الإمام العز رحمه الله تعالى: (التقرير على المعاصي كلها مفسدة لكن يجوز التقرير عليها عند العجز عن إنكارها باليد واللسان)([19]) فالعجز الحقيقي أو الحكمي شرط في افتراض التعارض.

ثانيًا: الموازنة بين العبادات المالية

في الواقع السوري يشتدُّ الفقر يومًا بعد يومٍ، فتتعارض المصالح في حياة الناس، من ذلك تعارض الذهاب إلى حج النافلة مع حاجة الناس الملحة إلى صدقات الأغنياء والميسورين، فكلٌّ من الحج والصدقة فيه منفعة أخروية للغني، ففي مثل هذه الحالة يُرَجَّحُ تقديم الصدقة على الحج لأن إنقاذ النفس البشرية من الهلاك أو العوز المهين واجب ديني أخلاقي، وهو من باب الكفاية الواجبة على الأغنياء، فتقديم مصلحة الصدقة على الحج أمر ظاهر، قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (وربما يحرصون على إنفاق المال في الحج فيحجون مرة بعد أخرى وربما تركوا جيرانهم جياعا، ولذلك قال ابن مسعود: في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب، يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجارُه مأسورٌ إلى جنبه لا يواسيه)([20]).

وهذا الأمر ينطبق على كل عمل مسنون في العبادات يشتمل على جهة إنفاق مثل العمرة والذبائح المسنونة؛ فالتصدق العيني بالقيمة والمال يراه الملاحظ لحال الناس أفضل بكثير من تلك الأعمال، وأرى أنَّ القيمة المالية هنا في سوريا أفضل من تقديم لحوم الأضاحي إلا قدرًا يسيرًا تتحقق فيه إقامة لتلك الشعيرة المطلوبة دينيًّا، ولو قربت ذلك بشاهد من الواقع لاتضح الأمر أكثر، فمثلا كيلو غرام من لحم الضأن يساوي حاليًا خمسة عشر ألف ليرة سورية أي ما يعادل خمسين ليرة تركية تقريبًا، فهذا اللحم أصبح يعد حاليا من الكماليات والترفيه، وهناك حاجات بل ضرورات في المأكل والمشرب والملبس أو العلاج يقضيها الفقير بهذا المبلغ أفضل له بكثير من أكلة لحم واحدة، خصوصًا أن الفقير لا يستطيع تخزين اللحم لعدم وجود الكهرباء أصلًا.

إن الناظر فيما تقدم يجد أن حقًّا على كل من يريد أن يتبرع بشيء التبرع به نقدًا أفضل بكثير للفقير في الحالة الطارئة التي تعيشها بلادنا، فالمقاصد في المذهب الحنفي أكثر رعايةً في هذا المقام إذ إنه أجاز دفع القيمة بدل العين في الواجبات المالية.

ومثل هذا نقل الزكاة، فإن مصلحة الدفع في بلد المزكي مقصودة شرعًا، وفي نقل المغتربين وغيرهم لها إلى سورية مثلا مصلحة مقصودة للشرع أيضا، والثانية مقدمة خصوصا إذا كان صاحب الحاجة قريبا للمزكي مع وجود القائلين بالجواز أيضا، والله تعالى أعلم.

ثالثا: ولاية الفُساقِ

والنظر في ولاية الفساق من باب دفع المفاسد والموازنة بينها؛ إذ يجب أن يكون من يتولى أمور المسلمين ممن تتوفر فيه شروط الصلاح والتقوى والعدل بين العباد، وألا يكون مغتصبا لحقوقهم، وغير ذلك من الشروط في ولاية المسلمين، وفي الوضع السوري حقيقة مرة هي أن في المناطق المحررة تحكمها بعض القيادات الفاسدة التي تتسلط على العباد وتتحكم بعيشهم، وهذه مفسدة يجب دفعها كما هو مقرر في أحكام الشريعة، ولكن يقابل ذلك مفسدة أخرى وهي أن عزل أمثال هؤلاء في وقت الحروب مما يثير فتنة أعظم تؤدي إلى الانشغال عن دفع ظلم الطاغية الباغي الذي يقتل العباد ويستعين بأهل الكفر ويمكن لهم في البلاد.

فلو قدمنا عزل أمثال هؤلاء وبهم تسير رحى الحرب ويحصل دفع الظلم الأكبر عن الناس، لأدى ذلك إلى الانشغال عن المفسدة العظمى المتمثلة بالنظام الطاغي الذي يشرد الأبرياء ويستأصل شأفتهم ويحتلُّ ديارهم، فهنا يجب دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما، وهذه قاعدة عظيمة كثيرًا ما استند إليها الأصوليون والفقهاء في تقرير الأحكام، هذا يقول الإمام العز بن عبد السلام: (إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة قدمنا أقلهم فسوقًا، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتضرع للأموال، قدمنا المتضرع للأموال على المتضرع للدماء والأبضاع، فإن تعذر تقديمه قدمنا المتضرع للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها)([21]).

ضرورة مراعاة فقه الموازنة في الفتاوى

من شروط الفتوى الصحيحة عند الفقهاء أن تكون قائمة على أدلة صحيحة واجتهاد منضبط، وفوق ذلك أن تكون قائمة على فقه الموازنة إن كانت مما تتوارد عليه مفاسد أو مصالح عدة، وتزداد الحاجة إلى الموازنة في المصالح والمفاسد في أوقات الحروب، وخاصة في بلاد معقدة الأوضاع كبلادنا سورية في الوقت الحالي، فيجب أن تكون الفتوى مناسبة للوضع الذي تقال فيه ومراعية لمصالح العباد وفق المتفق عليه أولا ثم رأي الجمهور ثم اجتهادات آحاد الفقهاء، فيتخير المفتي منها ما يراعي مصالح العباد ما لم يكن رأيًا شاذًّا.

ولعل من المهم هنا التنبيه إلى أن القول الراجح عند تعارض الاجتهادات الصحيحة هو ما يتوافق مع مصالح العباد ومقاصد التشريع المتفق عليها وفق قواعد التشريع الكلية ومنها المشقة تجلب التيسير([22]) كما جاء في الحديث: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين))([23]).

إن فتاوى التكفير التي ابتليت بها الأمة هي في حقيقتها تدفع مفسدة سوء العقيدة وتسعى للمحافظة على إطار الحياة الدينية كما يزعم من يصدرها، لكن بالمقابل أليس التوسع في التكفير حتى يشمل الخلافيات قد أفسد النسيج الاجتماعي وأثار الفتن بين المسلمين ومكن لعدوهم، وأظهر الدين وأهله بمظهر الإجرام؟ ففتاوى التكفير بهذا الشكل ممن لا علم له بالفتوى ولا دراية له بحقائق المكفرات المخرجة من الدين أمر يجب دفعه، فالتكفير غالبًا ما يكون مفسدة محضة في سورية لبنائه على تصورات خاطئة وفهم أبتر، ونادرًا ما يكون مصلحة إلا أنَّ مفسدته أعظم من مصلحته المتمثلة في الحفاظ على الطابع الديني العام؛ فالتكفير في الإسلام مسألة بالغة الحساسية، لها أهلها الذين لا مراء في علمهم وفهمهم لمقاصد التشريع، وقد اشتهر عنهم: لو أن رجلا فيه تسعة وتسعون موجبًا للكفر ولديه موجب واحد للإيمان حكمنا بإيمانه ولا نكفِّره.

ترتيب المقاصد في فقه الموازنة:

قد ذكر أن الدوائر المقاصدية خمسٌ مرتبةٌ كالتالي: الدين ثم النفس ثم العقل ثم العرض ثم المال، وقد ضرب العلماء أمثلة كثيرة على طريقة إصدار الأحكام حال تعارضها بالرجوع إلى هذا الترتيب في الأولوية؛ فالجهاد مثلًا فيه إهلاك النفس، لكنه في مقابل مصلحة قيام الدين يغدو واجبًا ولا يلتفت إلى ما فيه من ضرر على النفس، إذ مقصد قيام الدين أولى من الحفاظ على النفس عند تعارضهما.

وعند تعارض ضرورة ما في باب حفظ النفس مع حاجة في مقصد حفظ الدين تقدم الضرورة، فتترك الفرائض كالصلوات والصوم وغيرها إن تعارضت مع ضرورة حفظ النفس، فلو كان هناك غريق وصائم، ولا يُنقَذ الغريق إلا بفطر الصائم لوجب عليه الإفطار وإنقاذ النفس، وكذا لو ضاق الوقت عن الصلاة في مقابل إنقاذ نفس لوجب إنقاذها وقضاء الصلاة فيكون جمعا بين المصلحتين([24])، وتقدم النفس على العقل إذ في إنقاذ النفس مصلحة أعظم من العقل، فشرب الخمر مع الإكراه بالقتل رخصة واجبة لإنقاذ النفس، وصون العرض مقدم على المال فبذله لإنقاذ العرض واجب.

ومن المسائل التي يقع فيها الخلاف في تقدير المصلحة بذل المال في الحروب، إذ تتوارد عليه ثلاث مصالح، وهي شراء السلاح للدفاع عن الناس، وإطعام الفقراء حفظًا لأنفسهم من الهلاك، ونشر العلم حفظا للمجتمع من الجهل ومهالكه، وقد تتعارض هذه المصالح عند شح الموارد، فيقع الخلاف في تقديم أحدها وتأخير الباقي، وبناء على النظر في دوائر المصلحة نجد الغذاء مقدمًا على العلم إذا قورن به، إذ ترك الغذاء إذهاب للنفس التي يقوم بها العلم فلا تبقى فائدة منه، وعند وجود مؤسسات واعية أمينة يقل التعارض بين هذه المصالح، ويقل النزاع الفقهي فيها، فتقوم المؤسسات بتقدير حد الضرورات والحاجات والكماليات في كل من الغذاء والتعليم ودفع العدو، ثم تنفق بمقتضى ذلك فيستمر العيش ولا ينقطع العلم ويحصل دفع العدو الصائل، وما يجري في المثال السابق يجري في أمور كثيرة في الحرب مثل تزاحم مصلحة الإنفاق لردع العدو مع الإنفاق لاستقرار الأمن أو لقيام المؤسسات الخدمية التي ترعى شؤون الأمة وتقوم بمصالحها كدور القضاء ومؤسسات المياه والكهرباء وتعبيد الطرقات وإدارة المعابر وغيرها.

ومن المهم في فقه الموازنات قاعدة الضرورات، فقد ذكر العلماء أن الضرورة حاكمة على كل حكم؛ فمتى وجدت الضرورة بشروطها وضوابطها فالحكم يتبعها حيثما وجدت، يقول الدكتور محمد فتحي الدريني في معرض حديثه عن النظام الشرعي العامِّ: (على أن مما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد قاعدة الضرورة أو قاعدة الحاجة التي تبلغ مستوى الضرورة، فهي حاكمة على التشريع كله)([25]) فيمكن القول: إن الموازنة تكون فيما عدا الضرورة وإلا فهي المقدمة دومًا إذا لم تعارضها ضرورة أخرى بمنزلتها أو أعلى منها، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 ([1])إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، 3/403.

( ([2]تأصيل فقه الموازنات لعبد الله الكمالي، ص49.

([3]) فقه الأولويات السياسية والاقتصادية د. نهاد إسحق 1/37.

(([4] أخرجه مسلم في صحيحه، باب الابتداء بالنفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، رقم997، 2/692.

(([5] شرح صحيح مسلم للنووي، 7/83.

(([6] أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان أن الدين النصيحة، رقم 55، 1/74.

 ([7])أخرجه البخاري في صحيحه، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد على الفقراء حيث كانوا، برقم: 1496، 2/127، وأخرجه مسلم في صحيحه باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، رقم: 19، 1/51.

([8]) أخرجه البخاري في صحيحه باب فضل مكة وبنيانها، رقم 1584، 2/146. وأخرجه مسلم في صحيحه باب جدر الكعبة وبابها، رقم 1333، 2/973.

([9]) شرح صحيح مسلم للنووي، 9/89.

([10]) فتح الباري للإمام ابن حجر العسقلاني، 2/448.

(([11] أخرجه البخاري في صحيحه، باب قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادًا، رقم: 4477 6/18، وأخرجه مسلم في صحيحه، باب بيان كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، برقم141، 1/90.

([12]) المنثور في القواعد للزركشي، 1/349.

([13]) القواعد الكبرى للإمام العز بن عبد السلام، 1/98.

(([14]المصدر السابق، 1/93-94.

(([15] المصدر السابق، 1/97.

(([16] القواعد الكبرى، 1/124-127.

([17]) المقاصد العامة للشريعة الإسلامية للدكتور يوسف حامد، 1/166. علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف، 1/199.

([18]) علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف، 1/86.

 ([19]) القواعد الكبرى، 1/110.

(([20] إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، 3/409.

(([21]القواعد الكبرى، 1/86.

(([22]شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا، 1/157.

(([23]جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، باب صب الماء على البول في المسجد، برقم 220، 1/54.

([24]) القواعد الكبرى، 1/66.

(([25] المناهج الأصولية للدريني، 1/202.