د. عبد الكريم بكار
إنَّ تحديد الأهداف والغايات في كل مجالات الحياة هو دائمًا شيء جوهريّ ومهم؛ لأنّ الهدف يشكّل البوصلة لأنشطتنا في الـمجال الذي نعمل فيه.
إنّ الهدف الذي ينبغي أن نحدِّده أولًا هو الهدف النهائيّ لكلّ المؤسسات والأشغال التعليمية، وحين نحدِّد الهدف النهائيّ يسهل علينا تحديدُ الأهداف الفرعيّة، وكلّ ما يتوسّل به إلى تحقيقها.
لو سئلتُ؛ ما الشيء الذي يمكن أن يكون الهدف النهائيّ والأكبرَ لكلّ العمليات التعليمية، لقلتُ دون تردّد: إنّه (الحياة الطيّبة) وهذا استلهام لقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: آية 97].
الحياة الطيّبة المرادة هنا هي الهناء والسعادة والأمن والاستقرار والنجاح والرخاء، وشعور المرء بأنّه ماضٍ في الطريق الصحيح، وعلى هدي عقيدته ومبادئه وقِيَمِه…
مكوّنات الحياة الطيبة:
يشكل الانسجام الذاتيّ على نحو عامٍّ رمزًا لشيئين: الاستقرار والاندماج، وكلاهما يَنتج من شيئين: وضوح الرؤية وزوال التناقض من الحياة اليوميَّة للإنسان… هذا يفرض على مؤسساتنا التعليمية التركيزَ على مجموعة العقائدِ والمبادئ والقيم التي ترسم خطّ السير الشخصي للطالب في هذه الحياة، مثل الإيمان العميق بالله تعالى، والعمل للآخرة والاستقامة والحفاظ على التماسك الأسريّ، وبرِّ الوالدين والرحمة والتعاون، واحترام خصوصيات الآخرين والجدية والمثابرة والشغف بمعرفة الجديد.
إنّ المعنى السلبيّ الذي يُقابل الانسجام الذاتيّ هو (الاغتراب الذاتيّ) وهو مصطلح يُشير إلى العديد من المعاني السيئة، منها: العجز والعزلة واللامبالاة والاستسلامُ لليأس والإحباط، وفقدُ المعايير، وتفكّك القيم.
هذه المعاني تشيع لدى كثير من فتياننا وفتياتنا؛ بسبب الخلل الهائل الذي أوجدته الحضارة الحديثة.
نحن نعيش في واقع شديد التعقيد، وحتى يتّخذ الطالب القراراتِ الصحيحةَ في حياته يحتاج إلى (الاتصال العميق) بذاته وبمحيطه، وهذا هو (الوعي).
لا شكّ في أنّ المناهج والأنشطة المدرسيّة المتوافرة الآن تساعد على إيجاد الوعي الذي نتحدث عنه، لكن على نحو جزئيٍّ؛ وإنَّ لدى بعض المدارس اليابانية تجاربَ جميلة في هذا الشأن، ولعلَّ ما يلفت النَّظر منها شيئان:
الأول: هو طرح الأسئلة المفتوحة على الطلاب دون انتظار أجوبةٍ على تلك الأسئلة منهم، بغية إيقاظ عقولهم حول بعض المسائل والقضايا المتعلِّقة ببعض القيم أو بمستقبل البلاد، ومن ذلك مثلًا:
الثاني: ترتيب زيارات لوزراء وقادة وعلماء ورؤساء بلديَّات ورجال أعمال بارزين للمدارس، وهذا منظَّم وكثيف لدرجة أنَّ الطالب حين يتخرّج من الثانويَّة يكون قد التقى على الأقلِّ بخمسين شخصية مجتمعية… ويغدو من خلال السماع لتجاربهم وآرائهم والنقاش معهم وقد صار على وعي تامٍّ بالعديد من جوانب الحياة، كما أنّ اللقاء بالقادة والناجحين يولِّد طاقة تحفيزيّة هائلة لدى الطلاب.
من المتفق عليه أنَّ المدارس والجامعات -مهما علا شأنها- لا تخرِّج علماء، ولهذا فإنّ أنفسَ ما تقدِّمه لطلَّابها هو إشعال رغبتهم في المزيد من التعلّم وتحبيب القراءة والكتاب إلى نفوسهم، ومن المؤسف أنَّ معظم مدارسنا قد أخفقت في هذا إخفاقًا شديدًا، وهذا قد يعود إلى عدد من العوامل، لكن يبدو أنّ أهمها يكمن في الأسلوب الذي تقدِّم به المدارس المعرفة والتجربة لطلابها، وفي نوعيَّة العلاقة التي تربط الطالب بأساتذته.
إني لأتطلّع حقيقةً إلى اليوم الذي نتَّخذ فيه من مدى نجاح المدارس في تحبيب التعلُّم إلى طلابها معيارًا أساسيًّا في تقييم جودتها ودرجة تصنيفها.
يشكّل النجاح في الحياة عنصرًا مهمًّا في تكوين (الحياة الطيّبة) فأمَّة الإسلام التي تعاني من التخلّف في العديد من المجالات في حاجة إلى أن يكون بين أبنائها أكبر عدد ممكن من الناجحين والمتفوقين، كما أنَّ النجاح يُلبّي حاجاتٍ عميقةً في نفوسنا، مثل تملُّك القوَّة، والتقليل من الحاجة إلى الناس، وتأمين متطلَّبات الحياة، بالإضافة إلى أنَّ النجاح يُجنِّبُنا تذوُّق مراراتِ الفشل.
نحن اليوم في عصر الحداثة السائلة، حيث انتهى عصر الأفكار والمذاهب الكبيرة، فنحن نشهدُ التفكيكَ لكلّ ما هو مشترك وجامع، إذ تعمل العولمة على جعل الشباب ينغمسون في بحار المتعة واللذَّة واللهو والتسلية والولع الشديد في البحث عن الخلاص الفرديّ والمستقبل الشخصيّ… هذه الوضعيّة تشكِّل تحدِيًا غير مسبوق لكلِّ الهويّات الثقافيّة والوطنيّة، وحين يضعف الانتماء العقديُّ والوطنيُّ؛ فإنَّ الدفاع عن الذاتية الدينية والأخلاقيَّة يصبح في مهبِّ الريح.
إنَّ الهويَّة الثقافيَّة عبارة عن مركَّب من المعتقدات والفنون والعادات والقوانين والأعراف التي تمنح الأمّة خصوصيَّتها بين الأمم، وإنَّ عقيدتنا الإسلاميَّة السمحة تشكِّل عماد هويَّتنا الثقافيَّة بالإضافة إلى بعض القيم الأساسية، مثل الحفاظ على تماسك الأسرة والوفاء للصديق واحترام الكبير ورعاية حقوق الجار، والوقوف إلى جانب الضعيف والمظلوم…
إنَّ من واجب المدارس بناء عقول منفتحة وثقافة رحبة لدى الطلاب، يستطيعون من خلالها التمييز بين الصالح والطالح والغثَّ والسمين، كما أنَّ عليها أن تُجسِّد في علاقاتها وأعرافها ونُظُمها الداخليَّة كلّ ما يساعد على تشكيل الشخصيَّة الإسلاميَّة السويَّة.
الإسلام رحمةٌ للعالمين، والمسلمُ معنيٌّ بهداية العالم، وإيصال رسالة الإسلام إليه، كما أنَّه مهتمٌّ بإعمار الأرض، وازدهار الأوطان ونظافةِ البيئة، والحفاظ على الموارد التي أتاحها لنا الخالق الجليل.. هذا كلُّه يتطلَّب من مدارسنا تنشئةَ جيلٍ يحمل عقلَ المواطن العالميِّ وقلبَه وروحَه.
المواطن العالميُّ: إنسانٌ تتجاوز اهتماماته حدود الوطن الذي يعيش فيه، إنّه ينظرُ إلى بني البشر جميعًا على أنَّهم يستحقُّون المساعدة والعيش الكريم والحماية من الفقر والظلم والمرض، إنَّ الذين يمكن أن يُسْتَثْنَوا من هذا هم فقط الذين نعدُّ أنفسنا في حالة حربٍ معهم.
نحن في عصر الإنسان المرتحِل الذي يولد في بلد، ويتعلّم في بلد، ويعمل في بلدٍ ثالثٍ، وهذا يتطلَّب من المدارس أن تزوِّدَ طلابها بعددٍ من المهارات الثقافيَّة، وترسِّخَ في أذهانهم عددًا من المفاهيم والمفردات الأخلاقيَّة التي تساعدهم على تفهُّم التنوُّع الثقافيِّ والمشاركة في الأعمال مع أشخاص مختلفين دينيًّا ولغويًّا، بالإضافة إلى القدرة على التفاوض وتداول الأفكار، والمشاركة في النقاش، وتفهُّم الخصوصيَّات والعادات والتقاليد والأعراف المرعيَّة لدى الآخرين.
هذه المفاهيم والمهارات تحتاج إلى بناء خلفيَّة ثقافيَّة حديثة لدى الطلاب، كما تحتاج إلى تدريب عمليٍّ واسعٍ عبر الأنشطة المصاحبة للمنهج الدراسيِّ.
الأوَّل: هو السعي إلى أن يكون العالم بأسره مكانًا أفضل للعيش على نحو دائم، ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا.
الثاني: هو الاشمئزاز من الظلم والتطفيف في المعايير، فالظلم هو أساسٌ لمعظمِ ما يحلُّ بالبشرِ من نزاعٍ وعذابٍ وتشرد.
فتربية المواطن العالميّ ليست من الترف أو الأمور الكماليَّة، إنَّها في الحقيقة جزءٌ من اللياقة الحياتيَّة لدى طلابنا.
من المهمِّ دائمًا لطلابِنا ليحيَوا (حياةً طيِّبةً) ألَّا نقع أسرى لما نعرف، ولما نستطيع فعلَهُ، بل علينا التفكير دائمًا فيما يجب علينا فعله، ونحن اليومَ نرى بأمِّ أعيننا سرعة التطوُّرات الهائلة على كلِّ أصعدة الحياة، ممَّا يوجب علينا أن نُعِدَّ طالب الثانويّ -مثلًا- ليحيا ويعمل، ويبدع في بيئةٍ ستكون موجودةً بعد عشر سنواتٍ، وهذا يعني أنَّ على المدارس محاولةَ اكتشاف وتخيُّل المعطياتِ السائدةِ التي سيتعاملُ معها الطالب بعد تخرُّجه من الجامعة، فيومئذٍ ستكون على نحوٍ مؤكَّدٍ فرصٌ وتحدِّياتٌ لا عهد لنا بها اليوم.
إذا كان ما يحتاجه التعليم العامُّ ممَّا ذكرناه كبيرًا وملحًّا، فإنَّ حاجة (التعليم الشرعيِّ) إلى ذلك أكبر وأشدُّ إلحاحًا بسبب عدم وجود جهاتٍ عليا ترعاه، وتعمل على تطويره وتحديثه.
والحمد لله ربِّ العالمين