الأستاذ: تَميم اليونُس – إجازة في الشريعة الإسلامية
إن الأمم الكبرى كلها تمرُّ خلال عمرها الطويل في مراحل مختلفة من الانتصارات والانكسارات، والعرب أمة من الأمم التي شرَّفها الله وأعزَّها بدينه الإسلام، يمرُّ عليها ما يمرُّ على غيرها من صعود وانحدار… وفيما تلا فترة ثورات الربيع العربي وما تخللها من انكسارات ومؤامرات على الشعوب العربية المسلمة، ظهرت موجة من اليأس والعجز عند الشباب العربي المسلم، ونتيجة لهذا الإحساس بالعجز واليأس ظهرت بعض الأفكار والمقالات والكتابات السلبية، وهذا أمر طبيعي، ولكنه ومع ازدياد كمية هذه المناشير التي تثبط الناس وتقتل الثقة بالنفس وما يتخللها من طعن بالعرب وبالقيم الإسلامية التي يحملونها، يراودك الشك في مصدر هذه الرسائل وتلك المقالات الطويلة المنمقة التي لا تكف عن مقارنة العرب بالغرب، وتدعو إلى الانسلاخ عن الإسلام بحجة أنه المسؤول عن كل ما أصابنا من مصائب.
إن هذه الهجمة المنظمة على العرب وعلى ما يحملونه من ثقافة إسلامية، أو ما يقدسونه من أوامر ربانية؛ تعيد ذاكرتنا إلى تاريخ الحركات المتطرفة التي تبنت القيام بهجمات فكرية خبيثة على الإسلام وحمَلتِه من العرب عبر التاريخ الإسلامي الطويل، إذ عرفت تلك الحركات باسم (الشعوبية).
إن ما شاهدناه في القرن العشرين من هجوم على المسلمين عامة، وعلى العنصر العربي خاصة، هو مظهر من مظاهر عودة الحركة الشعوبية التي تهدف إلى الطعن بالإسلام والعنصر العربي، بعدِّه أصل عناصر الإسلام، وبِلغتِه جاء القرآن الكريم، ودونت السنة النبوية، وألِّفت علومُ الحضارة الإسلامية.
وقد تمثلت الشعوبية المعاصرة في عدة مظاهر، منها: تحميل العرب خاصة مسؤولية سقوط الخلافة الإسلامية؛ من خلال تصويرهم العنصر الخائن، وكلنا نعلم أن سقوطها كان نتيجة لانهيار في الأمة كلها، بكل أعراقها.
ومن مظاهر الشعوبية المعاصرة محاولة الغرب إنكار أي إسهامات للعرب في الحضارة، ومحاولتهم النيل من العرب بإشاعتهم في مسارحهم أن العرب قوم يخبئون ذيولهم تحت عباءاتهم الطويلة، ثم نشوء تيارات من المثقفين والأدباء العرب يحتقرون قومهم، وينسبون كل خير فيهم إلى اليونان والأمم السابقة، وفيما تلا ثورة الخميني في إيران وما تبعها من محاولة للتسلط على العرب، زادت الحكومة الإيرانية المتطرفة حجمَ الكراهية للعرب تحت ذرائع مختلفة، مما جعلهم موضوعا لكثير من الهزليات الشعبية في إيران.
وسأعرض في هذه المقالة موجزًا عن مبدأ الإسلام، وتكليف الله للعرب بحمله، ما أدى إلى ظهور حملات منظمة للقضاء على العرب ومهاجمتهم من قبل الأمم التي رفضت الإسلام، أو التي خلطته بعصبيتها القومية واستخدمت الدين في خدمة مصالحها الفئوية، وقد خبتت هذه الحركة في فترة حكم المماليك والترك، وعادت للظهور بأشرس صورها في عصرنا الحديث، وزادت من هجومها المنظم فيما تلا ثورات الربيع العربي؛ لقتل الأمل في نفوس العرب ومنعهم من التحرك والقيام من جديد.
قانون الاصطفاء الإلهي:
إن الله سبحانه خلق الخلق ونوَّعه بحكمته، وكما نوّع أصناف الخلق فقد نوّع خلقة البشر، فمنهم الأحمر والأبيض والأصفر والأسود، وجعلهم شعوباً وقبائل مختلفة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة الحجرات: آية 13].
وكان من حكمة الله أن يصطفي من خلقه ما يشاء، فقد اصطفى آدم وذريته وأخلفهم في الأرض، وجعل المخلوقات مسخَّرة لهم، ثم اصطفى من بني آدم من يشاء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران: الآية 33]، وقال تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة البقرة: آية 130]، وكل ذلك لحكمة إلهية فقد يصطفي الله أفرادا وقد يصطفي أقواما، وليس اصطفاؤه أقواما دليلاً على أن كل من فيهم هو أفضل ممن لم يصطفِهم؛ إذ مرجع الأفضلية إلى التقوى كما قال ربنا سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة الحجرات: آية 13].
ولقد فضَّل الله بعض الأقوام على آخرين ببعض النعم والعطايا، كما فضل بني إسرائيل بكثرة الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة: آية 47]، وقد ذكّر موسى عليه السلام قومه بنعم الله عليهم فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [سورة المائدة: الآية 20]، وعندما عصوا بدَّل الله حالهم وجازاهم من البلاء بمقدار ما كفروا من النعمة، قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [سورة البقرة: آية 61].
اصطفى الله سبحانه من مختلف أعراق بني آدم أناساً صالحين أوحى إليهم بالنبوة أو الرسالة ليبلغوا دينه إلى الناس، وانقطعت النبوة فترة في انتظار النبي الخاتم الذي شاع نبؤه ونبأ قومه في الكتب السماوية السابقة، وقبيل مبعثه كان علماء الأديان يترقبون ظهوره، وكان اليهود لا يشكون في أنه مبعوث فيهم؛ إذ يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وكان النصارى مثلهم في ذلك.
النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم:
انقطعت الرسالة فترة من الزمن، ثم شاء الله سبحانه أن يرسل نبيَّه الخاتم إلى عباده، فنزل أمره على نبي عربي هو سيد الكائنات محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي العدناني صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك اصطفاء من الله ونعمة منه على العرب، قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [سورة التوبة: 128] (قوله تعالى: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} يقتضي مدحًا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها، وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم))([1]).
إن اصطفاء الله للعرب لحمل الرسالة لم يكن اعتباطًا إنما يرجع إلى أن العرب على استعداد لقبول الرسالة وحملها والدفاع عنها إذ كانوا قوما أصفياء النفوس لم تتكدر عقولهم بفلسفات الحضارات وجدلياتها.
ويبدو أن هذا الاختيار قد أحدث ردة فعل لدى الشعوب غير العربية فأخذت تبث شكوكها وتكشف عن استيائها، وإن قول الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 12٤]، قول صريح وقاطع في الرد على كل من يعترض على حكمة الله في اصطفائه لمن شاء من عباده.
وممن اشتهر عنه إنكار الوحي إلى نبي عربي اليهود، وقد ذكر الإمام الرازي وجهين لمحاجة اليهود في نزول الرسالة الخاتمة على نبي عربي عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [سورة البقرة: آية 139]، وقال: (اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْمُحَاجَّةِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا، أَحَدها: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَوْلَهُمْ إِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَالنُّبُوَّةِ لِتَقَدُّمِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَتُجَادِلُونَنَا فِي أن الله اصطفى رسولًا مِنَ الْعَرَبِ لَا مِنْكُمْ وَتَقُولُونَ: لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ لَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، وَتَرَوْنَكُمْ أَحَقَّ بِالنُّبُوَّةِ مِنَّا! وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْإِيمَانِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ…).
العرب بين التشريف والتكليف:
وقد كان مع هذا التشريف الإلهي للعرب – باختيار النبي الخاتم منهم – تكليف شاق؛ إذ وقع على عاتقهم تبليغ رسالة الله ونشرها بين الأمم، وقد قاموا بذلك أيما قيام، حتى قضى عشرات الآلاف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق حاملين دين الله ومجاهدين دونه، وقد شاركهم في هذا الشرف آخرون من غير العرب كالصحابي الجليل سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي رضي الله عنهم أجمعين.
ومهما يكن فقد كان العرب في مطلع الإسلام هم أصل هذه الدعوة وحملتها، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه موصيًا من سيخلفه: (وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ وَمَادَّةُ الإِسْلاَمِ)([2])، وقد نالوا من الشرف بمقدار ما حملوا من هموم الدعوة والبذل في سبيلها فأكرمهم الله بخيرية هذه الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَه))([3]).
نزول القرآن بالعربية:
لقد نزل القرآن الكريم أول ما نزل بين العرب وبلغتهم قال الله تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [سورة يوسف: آية ٢]، وقال ربنا سبحانه: {وَهذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: آية 12].
وكان نزول القرآن بلغة العرب لحكم كثيرة ظهر منها للبشر ما ظهر وخفي ما خفي، ومن الحكم الظاهرة ما ذكره الله في كتابه من عادته في خلقه أن يرسل كل رسول بلغة قومه ليفقهوا قوله، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة إبراهيم: آية 4].
ولقد أكد الله سبحانه عربية القرآن حينما اتهم الكفار نبيه بأخذه من بعض الرهبان فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [سورة النحل: الآية 103].
وقد اختار الله العربية لغة كتابه الخاتم لما فيها من سعة ودقة لا تحويها اللغات الأخرى، قال الإمام الشافعي: (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً ولا نعلمه يحيط بجميع علمه نبي)([4]) وأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض من أسرارها فقال: (تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة)([5])، وصدق في ذلك فقد شهد العجم للعربية كما شهد لها أبناؤها، قال الإمام الزمخشري – وهو خوارزمي ليس له أصل عربي – في مقدمة كتابه (المفصل): (اللهَ أحمدُ على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين، والمشق بأسنة الطاعنين)، ويقول المستشرق الإيطالي كارلو نلينو عن اللغة العربية بعد أن تعلمها وسحرته بجمالها: (اللغة العربية تفوق سائر لغات العالم رونقًا وغنًى ويعجز اللسان عن وصف محاسنها).
وإن العربية ليست لغة قوم وإنما لغة سماوية يمتاز بها كل من نطق بها وإن كان من أصل غير عربي، حتى نص كثير من علماء السنة على أن العربية اللسان وليست العرق، قال الإمام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط في معرض حديثه عن العرب: (وما ذكرنا من حكم اللسان العربي وأخلاق العرب يثبت لمن كان كذلك وإن كان أصله فارسيًّا وينتفي عمن لم يكن كذلك وإن كان أصله هاشميًّا) وهذه قاعدة مهمة في بيان معنى العرب والعربية، فأفضلية العرب في تمسكهم بدين الله فإن أهملوا ذهب فضلهم.
وقد تحدث الجاحظ حول هذه المسألة أثناء ذكره لعروبة إسماعيل عليه السلام فقال: (وقد جعل الله إسماعيل وهو ابن أعجميين عربيا لأن الله فتق لسانه بالعربية المبينة على غير التلقين والترتيب ثم فطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوء والتمرين، ثم حباه من طبائعهم -أي العرب- ومنحه من أخلاقهم وشمائلهم، وطبعه من كرمهم وأنَفهم وهمتهم على أكرمها وأسناها وأشرفها وأعلاها)([6]).
بداية الحركة الشعوبية:
إن الحرب السرية المنظمة على الإسلام والعرب بِعدِّهم حكامَ الدولة الإسلامية الأولى وحماتها بدأ منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من خلال عمل فارسي وآخر يهودي أدى إلى اغتيال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل غلام فارسي، ثم قيام الفتنة على عثمان رضي الله عنه واستمرارها في عهد علي كرم الله وجهه؛ إذ ذهب ضحيتها الآلاف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم، ومن أبرز من ظهر اسمه في مقتل عمر الأمير الفارسي المسلم الهرمزان، ولولا ما رآه عبيد الله بن عمر من سقوط الخنجر الذي قتل به أبوه من بين أيديهم لبقي الأمر سرًّا أبد الدهر لا يعلم به أحد، ومن أشهر من اشتهر بإذاعة الفتنة في زمن علي عبد الله بن سبأ اليهودي، وقد أدت جهودهم المنظمة إلى اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وكانت كل تلك الاغتيالات تتم بيد أناس مسلمين دخلوا الإسلام نفاقا كالهرمزان وابن سبأ، أو أدت بهم حماقتهم إلى أن يكونوا أداة بيد قوى منظمة تعمل على هدم الدولة الإسلامية كقتلة عثمان رضي الله عنه.
هذا هو حال الحرب السرية على الإسلام في العصر الراشدي، ونلاحظ أن دوافعها إما أن تكون دينية كاليهودية، أو عرقية كالفارسية، وقد استمرت هذه الحركة في العصر الأموي ولكنها ضعفت آثارها على المجتمع بينما كانت تتقد تحت الرماد.
وفي العصر الأموي، وتحديدا في خلافة عبد الملك بن مروان، توجهت الدولة إلى تعريب دواوين الخراج والاستغناء عن المسؤولين الروم والفرس في الدولة؛ إذ لم يكونوا من أهل الثقة أو الأمانة، قال البلاذري في فتوح البلدان: (ولم يزل ديوان الشام بالرومية حَتَّى ولي عبد الملك بن مروان، فلما كانت سنة إحدى وثمانين أمر بنقله، وذلك أن رجلا من كتاب الروم احتاج أن يكتب شيئًا، فلم يجد ماء فبال في الدواة، فبلغ ذلك عَبْد الملك فأدَّبه، وأمر سُلَيْمَان بْن سَعْد بنقل الديوان، فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة، ففعل ذلك وولّاه الأردن، فلم تنقض السنة حتى فرغ من نقله، وأتى به عَبْد الملك فدعا بسرجون كاتبه، فعرض ذلك عَلَيْهِ فغمه وخرج من عنده كئيبا، فلقيه قوم من كتاب الروم، فقال: اطلبوا المعيشة من غير هَذِهِ الصناعة، فقد قطعها اللَّه عنكم).
وكان يشرف على ديوان الخراج بالعراق في ذلك الوقت رجل يسمى “زادان فروخ” من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي، وتصادف أن قتل هذا العامل أثناء فتنة عبد الرحمن بن الأشعث بين سنتي 82 و83 هجريّة، وهو الأمر الذي سهل على الحجاج تحقيق سياسة الدولة المالية الجديدة الساعية إلى تعريب الدواوين؛ إذ كلف الحجاج رجلًا يسمى صالح بن عبد الرحمن ممن كان يجيد اللغة الفارسية والعربية بتعريب ديوان خراج العراق، وقد حاول “مردان شاه” ابن “زادان فروخ” الذي قتل في فتنة ابن الأشعث أن يدفع رِشوة لصالح بن عبد الرحمن حتى يثنيه ويمنعه عن عمله في تعريب الدواوين، وأبى هذا العامل العربي، وأتم عمله بنجاح باهر، وتخرج على يديه نفر من كبار موظفي المالية العرب في العراق.
إن اعتماد الأمويين العربية لغةً رسميةً في الدواوين وسك العملة وإخراج الموظفين الروم والفرس والأقباط وغيرهم من هذه الوظائف؛ أدى إلى الحد من أطماعهم في الترقي في وظائف الدولة المسلمة والمشاركة فيها، فامتلؤوا حقدا على العرب، وقد أضاف الأمويون إلى تعريب العملة والدواوين اقتصارهم في الولايات والمناصب الكبرى على العرب خاصة، مما زاد حقد الأقوام الأخرى على العنصر العربي وعلى دينه الإسلام، ولم يعد هناك فرق بين كلمة عربي ومسلم حتى غدت كلمة (عربي) مرادفة لكلمة (مسلم) فقد اعتذر دهاقين بخارى من قلة الضرائب فكتبوا إلى الوالي أشرس يقولون له: (ممن تأخذ الخراج وقد صار الناس كلهم عربًا) أي أصبحوا مسلمين([7]).
لقد كانت الشعوبية في هذه الفترة تتقد تحت الرماد، وقد وجد الفرس الحاقدين على بني أمية متنفسهم في الدعوة العباسية، فأيدها قسم منهم نكاية بالدولة الأموية التي صبغت الحياة كلها بالصبغة العربية ومنعتهم من الإمارات والولايات، وقد حاول هؤلاء فيما بعد وعلى رأسهم أبو مسلم الخراساني أن يعلنوا عن مطامعهم ويحولوها إلى دولة، ولكن العباسيين كانوا لهم بالمرصاد.
الشعوبية في العصر العباسي:
إن إطلاق اسم “الشعوبية” على الحركات التي تحض على كراهة العرب كان في العصر العباسي، حيث ظهر العداء للعرب في أجلى صوره بعد منع بني العباس مؤيديهم الفرس من السيطرة على قيادة الدولة الإسلامية، وقد ظهرت لها بعد تلك الفترة تعريفات عدة؛ إذ غدت لفظة شعوبي عرفا على من يكره العرب، سواء كان الشعوبي مسلما أو غير مسلم، يقول البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق: (الشعوبية: الذين يرون تفضيل العجم على العرب ويتمنون عودة الملك إلى العجم)، ويقول الإمام القرطبي: (الشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم) وأما اللسان فيعطي تعريفا واضحا للشعوبية حين يقول: (الشعوبي هو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلًا على غيرهم)([8]).
وقد أسمى الشعوبيون حركتهم في بدايتها بحركة (التسوية) أي بين حقوقهم وحقوق العرب، تلك التي تبدلت تدريجيا إلى حركة تفضيل العجم على العرب، قال المفكر الإيراني علي شريعتي: (تحولت الشعوبية تدريجيًّا من حركة تسوية إلى حركة تفضل العجم على العرب، وعملت عبر ترويج المشاعر القومية وإشاعة اليأس من الإسلام إلى ضرب سلطة الخلافة)([9]).
ومن أشهر من تكلم عن الشعوبية وأظهر ملامحها الجاحظ المتوفى سنة (255هـ)، حيث تعرض لها في كثير من مؤلفاته، مما يدل على أنها أصبحت أحد أسوأ الأمراض الاجتماعية في القرن الثاني والثالث الهجري.
انتشار الشعوبية:
وقد انتشرت الشعوبية بين المسلمين الفرس، لأنهم أول من دخل في الإسلام من غير العرب، وفيهم طائفة لم تقبل ما صار عليه حال قومهم من الدخول في الإسلام، فعزموا على إشاعة الكراهية والفتنة بينهم، ثم ظهر شعوبيون هنود وأتراك ومن مولدي الأندلس، يقول الجاحظ في رسالته فخر السودان على البيضان: (إن الشعوبية لم تكن تشيع بين الفرس فحسب، وإنما طالت بقية الأمم كالأندلسيين والزنج من أهل أفريقيا واجتمعوا وهؤلاء على العداء للعرب والاستطالة عليهم والحط من شأنهم).
لقد امتدت ساحة المواجهة بين المسلمين العرب من جهة والشعوبية من جهة أخرى على رقعة واسعة من الحجاز إلى خراسان عبر بلاد العراق، كما تمثلت في بلاد الشام واليمن والعراق معرجة إلى شمال إفريقيا والأندلس وفي مناطق أخرى حيث يقيم الموالي([10]).
أعمال الشعوبيين بين القديم والحديث:
يؤكد بعض المؤرخين أن حادثة اغتيال أبي لؤلؤة المجوسي للخليفة عمر بن الخطاب كانت أولى الأعمال العدائية للحركة الشعوبية انتقاما للدولة السامانية التي قُهرت في عهده([11]).
وقد تزاوجت شعوبية اليهود مع شعوبية الفرس في صدر الإسلام وكان من روادها اليهودي اليمني عبد الله بن سبأ([12]).
وانتقاما من العرب تحالفوا مع القوى الأجنبية المعادية للإسلام والمسلمين كتحالف الطوسي وابن العلقمي مع هولاكو والمغول، وكان لهذا التحالف امتداد في العصر الحديث حين تحالف الإيرانيون مع بوش لإسقاط صدام حسين وإقامة دولة فارسية في العراق على أنقاض الدولة العربية([13]).
مظاهر الشعوبية:
عملت هذه المقاومة الشعوبية في مجالين كما بين ذلك الدكتور عبد الله السامرائي:
١_ مقاومة قامت في وجه الإسلام واستهدفت محاربته وتشويه مبادئه بكل الأساليب، وقد تمثلت هذه المقاومة بحركتين كبيرتين هما حركة “الغلو” وحركة “الزندقة” ويطلق عليها المقاومة الشعوبية الدينية.
٢_ وثمة مقاومة أخرى استهدفت الطعن في العرب وتشويه حضارتهم وهدم سلطانهم وتفضيل الشعوب الأخرى عليهم، ويطلق على هذه المقاومة الشعوبية العنصرية.
أما الشعوبية الدينية فكانت منظمة لها أساليبها الخاصة في العمل وتنظيماتها المحكمة في إعداد الدعاة والاتصال بالناس، وعلى الرغم من أن الشعوبية العنصرية لم تكن منظمة تنظيما يحدد معالمها وأساليبها ويوحدها في حركة واحدة، فإن الشعوبية العنصرية كانت تتستر بالإسلام وتعمل على تحقيق أغراضها من خلال التظاهر بالولاء القبلي والولاء السياسي([14]).
وتحاول الشعوبية طمس الذات العربية وقطع الجذور تاريخيا وثقافيا وتفتيت الوحدة، فتبدأ بمهاجمة الأنساب العربية القديمة، وتهاجم العرب القدامى، وتظهرهم بمظهر التأخر والهمجية وتسخر من ثقافتهم، وتشكك في شعرهم بما تُدخله فيه من انتحال، وتهاجم العربية، وهي بعد ذلك تهاجم المروءة العربية بما فيها من فروسية وكرم ووفاء وفصاحة، وهي تندد بالمثل الخُلقية وبالقيم العربية الإسلامية، وتذهب إلى التحلل، وتنزع إلى المجون، وتدعو إلى نظرات اجتماعية وخلقية تتعارض كليا مع القيم العربية الإسلامية، والشعوبية تفعل ذلك باسم الظرف والحضارة وتتبجح بدعوى الحرية الاجتماعية، وهي تدرك أنها سبيلٌ فعال لتفكيك الروابط وإضعاف الكيان الاجتماعي.
ثم تأتي الشعوبية إلى العرب والإسلام فتنكر دورهم في حمل الرسالة الإنسانية، وتحاول طمس دورهم الحضاري، فتدعي أن الحضارة العربية الإسلامية ما هي إلا اقتباسات من الأعاجم.. تريد بذلك زعزعة الثقة بالذات، وصرف الانتباه إلى الثقافات الأعجمية، وهي تفعل ذلك في وقت تحاول فيه إحياء التراث الأعجمي وتمجيد الآثار الأعجمية، وتعمل على بثها في المجتمع العربي الإسلامي، وعلى تحويله عن ذاته، وتريد بعد هذا أن تطبع الإدارة والحياة العامة بطابع أعجمي، فتترجم الكتب عن الفارسية في المراسيم والعادات وشكل الحكم والأخلاق، وتضع كتبًا ورسائل تنسبها للقدماء وتعمل على بثها وترويجها([15]).
واتخذ هؤلاء سبلا مختلفة، منها: إكثارهم من الترجمة عن الفارسية في موضوعات تتصل بصميم الذات الفارسية كالأدب والتاريخ والتقاليد والمثل، وقد شهد العصر العباسي ترجمة واسعة عن الفارسية، وهي مستقلة عن حركة الترجمة التي تبناها الخلفاء، ومن أمثلة هذه الترجمات “خداينامه” أو “سير ملوك الفرس” وهو كتاب ينطوي على كثير من الأساطير والمواعظ والتمجيد، ويغلب عليه عنصر القصة والأسطورة، ومنها “الآيين نامه” وهو يتضمن أدبًا ومُثلًا أخلاقية مجوسية لا تأتلف والمفاهيم الإسلامية، وقد ترجمه ابن المقفع([16]).
وسلكت الشعوبية سبلًا متعددة بين ظاهر ومستور، ولكلٍّ منها أثرها وخطرها الخاص، فهي تريد أن تربك العقائد وتشوه المفاهيم الإسلامية لتزعزع قاعدة المجتمع وأساسه، وهي تنفذ باسم العقل والمنطق إلى تحوير معنى النصوص والمفاهيم الإسلامية؛ إذ تنتقل إلى التأويل الذي يخرج النصوص من معانيها الإسلامية إلى مفاهيم غريبة بعيدة عن الإسلام([17])، وهم يفعلون ذلك باسم الحرية الثقافية وتحت ستار الفكر المتحرر، ومن ذلك ما عبر عنه أحد الشعوبيين بقوله: (نرفض في الظاهر ما بيننا من العداوة ونظهر موافقتهم ومساعدتهم وندخل في دين محمد ونؤمن به، ثم نفسد عليهم دينهم بلطيف الحيل وندرك منهم ما لم يمكن إدراكه بالقهر والغلبة)([18]).
يقول ابن قتيبة: (وأعاذنا الله من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية، فإنها لفرط الحسد ونغل الصدر؛ تدفع العرب عن كل فضيلة، وتلحق بها كل رذيلة، وتغلو في القول وتسرف في الذم وتبهت في الكذب وتكابر بالعصيان)([19]).
ولذا نجد الشعوبية تنتهي في كثير من الحالات بالخروج على الإسلام وسلوك طريق الزندقة، فهي تبدأ من التهجم على العرب إلى مهاجمة العربية وتنتهي بالهجوم على الإسلام، وقد أدرك الجاحظ الصلة الوثيقة بين الشعوبية والزندقة حين قال: (فإنَّ عامَّةَ مَن ارتاب بالإسلام إنما كان أوَّل ذلك رأي الشُّعوبية والتمادي فيه وطول الجدال المؤدِّي إلى القتال، فإذا أبغض شيئاً أبغضَ أهلَه، وإنْ أبغَضَ تلك اللغةَ أبغض تلكَ الجزيرةَ، وإذا أبغض تلك الجزيرةَ أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالاتُ تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام؛ إذ كانت العرب هي التي جاءت به وكانوا السَّلف والقدوة)([20]).
يقول الدكتور عبد الله السامرائي: (ومن متابعة نشاط الحركة الشعوبية وقفت على أن أهدافها تتركز في ثلاثة أمور أساسية متداخلة: تشويه مبادئ الإسلام وهدمها من الداخل بكل الأساليب، ومحاربة الأمة العربية والعمل على إزالة سلطانها وتشويه حضارتها، من أجل إعادة السلطة وإحياء الحضارة الإيرانية)([21]).
وقد عادت الشعوبية بقوة في العصر الحديث بعد تولي الثورة الإيرانية مقاليد الحكم ودعوة الخميني إلى تصدير الثورة الإيرانية إلى الدول المجاورة، وما رافق ذلك من خطاب طائفي وإذكاء للنعرات الطائفية والمذهبية بين شعوب المنطقة.. يقول الدكتور صبري محمد خليل: (ورغم أن هذه الشعوبية التاريخية قد خفتت في مراحل تالية، إلا إنها استمرت في الظهور عبر تاريخ إيران رغم تغير الأنظمة السياسية الإيرانية)، ثم يقول مبينا غاية الشعوبية المعاصرة: (كما تقوم الشعوبية في الأمة العربية المسلمة على الدعوة إلى إلغاء أربعة عشر قرنا من التاريخ أوجد فيه الإسلام للعرب أمة ليعودوا إلى الشعوب السابقة على الفتح الإسلامي..).
ولا يخفى ما للكيان الصهيوني من دور في بعث الشعوبية من جديد وإذكاء نارها، فيقول الدكتور مبينا دور الكيان الصهيوني في إظهار الشعوبية المعاصرة: (وفي هذا السياق فقد أثبت اكتشاف شبكات التجسس الإسرائيلية في العديد من الدول العربية استهداف إسرائيل للأمن القومي العربي بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية.. ويضاف إلى هذا كله مجموعة ضخمة من مراكز الدراسات والأبحاث التي تسهم أيضا في أعمال التجسس والتخريب والتشجيع على الانقسامات والفتن داخل العالمين العربي والإسلامي.. وتعتمد الموساد ومراكز الأبحاث المشار إليها على مجموعة من النظريات والمخططات التي ترمي في آخر المطاف إلى تفتيت المجتمعات العربية عبر إثارة الفتن وتأجيج حالة التمرد والعصيان والتنازع، وذلك من خلال الاستعانة بالجماعات الإثنية والطائفية والمذهبية التي تعيش حالات من التذمر والغضب والنزوع نحو الانفصال والتقسيم)([22]).
ولا بد من الانتباه إلى أن الشعوبية الحديثة تتخذ اليوم مظاهر مختلفة وتتلبس ملابس شتى، منها:
١_ الدعوة الحارة إلى إحياء اللهجات العامية المحلية وهجر اللغة العربية الفصيحة، وقد تنادي بإحلال اللاتينية محل الحروف العربية والانصراف عن قواعد النحو والإعراب وترك الشعر التقليدي ذي الوزن الخليلي.
٢ _ الدعوة إلى التفريق بين العقليات وتعميق الفروق بينها في الدراسات والبحوث، وربط المبدعين العرب بشتى ألوان العلوم والفنون بغير الأصل العربي ورده إلى أصول آرية أو إلى أصول غير عربية.
٣ _ إشاعة فكرة الرفض التي تتبنى رفض الماضي، ورفض الكتب الصفراء، ورفض التراث، ورفض كل اعتزاز بمجد تليد بحجة التطلع إلى الأمام؛ احتذاء بأمم أخرى تختلف ظروف حياتها عن ظروف الحياة العربية حاضرا وماضيا ومستقبلا.([23])
الشعوبية وثورات الربيع العربي:
لقد تعالت أصوات الشعوبية أيضا مع بدايات ثورات الربيع العربي فكأنها وجدت في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة فرصة لتحقيق مآربها وأطماعها.. وتأثر بها كثير من المثقفين والأكاديميين العرب، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فأصبحنا نرى الاستخفاف بالعرب، وتصويرهم بمظهر الإفلاس الحضاري والفشل الاجتماعي، كما لم نعهده من قبل.
(والحقيقة أن العرب أمة من الأمم مثلهم مثل غيرهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، بل لو قيسوا بأكثر أمم الأرض تحضرا وتقدما لكانوا من الخمس أو السبع الأوائل، وإن كانوا يمرون بظروف استثنائية مزعجة فهذه سنة الحياة.. لكن الاستهزاء بهم وجلد الذات، وإظهارهم على أنهم أمة الجنس والطعام والتفاهات؛ أمر لا يقبله عاقل، فهذه الفئة من الناس موجودة في غيرنا من الأمم أكثر مما هي عندنا، وإن كثرة المناشير المسيئة لأمتنا تؤدي إلى سلبية أكثر وإلى ضرر أكبر على النفسية العربية، ومن يقرأ التاريخ يعلم أن لا شيء يدمر الأمة مثل فقدان الثقة بالنفس والأمل.. لهذا كشخص عربي أشعر بالألم عندما يرسل لي أحدهم واحدة من تلك المقالات المسيئة التي تقتات على الاستياء العام للشعوب العربية وتغذيه، وأدعو أصدقائي إلى زجر من يشيع مثل هذه المقالات بدل تأييده، ولنشغل أنفسنا بالعمل ولنكف عن السلبية فقد قال الرسول ﷺ: ((إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكُهُمْ))([24])وأنتم يا أيها الدعاة العباقرة والمفكرون اليائسون! يا من ترون أنفسكم في عالية لا يبلغها بنو قومكم وتتكبرون على أوجاعهم وتسخرون من آلامهم؛ إن كنتم لا تثقون بأمة عربية يبلغ تعدادها مئات الملايين وتشكل جزءا أساسيًّا من أمة المليار ونصف، ولا تزال رغم سقوط دولتها منذ أكثر من مئة عام في تقدم مستمر… فاعتزلوا الناس والتزموا الصمت؛ يكن ذلك خيراً لكم وللناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت))([25]).
وأختم بقول الإمام أحمد في بيانه عقيدة أهل السنة: (ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فإن حبهم إيمان وبغضهم نفاق([26])، ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون لها بفضل فإن لهم بدعةً ونفاقًا وخلافًا)([27]).
خاتمة:
إن الشعوبية حركة قديمة حديثة، وعلى الباحثين المسلمين أن يدرسوها دراسة دقيقة ليوجهوا المجتمع المسلم إلى اكتشاف ظواهرها ومخططاتها في تدمير المجتمعات المسلمة عبر بث الفتن بينها وبين العرب، وتشويه الإسلام من خلال تسليط الضوء على مشاكل العرب الاجتماعية ونسبتها إلى الإسلام.
ومن الواجب علينا أيضا؛ تعريف الباحثين العرب بهذه الحركة وأهدافها، حتى ينتبهوا إلى أنفسهم فلا يكونوا ضحية لها من حيث لا يشعرون… والله المأمول أن يرشدنا إلى الصواب، والبعد عن مواطن الزلل والفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
([1]) الحديث رواه مسلم، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (6077) بترقيم المكنز، وقد ذكره القرطبي في تفسير سورة التوبة (8/301) دار عالم الكتب.
([2]) قطعة من حديث رواه البخاري في باب قصة البيعة واتفاق الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، رقم (3497) طبعة البغا.
([3]) رواه الشيخان وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([4]) كتاب الرسالة، تحقيق أحمد شاكر (34).
([5]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، باب طلب العلم، والعلم إذا أطلق علم الدين، رقم (1556).
([6]) الجذور التاريخية للشعوبية، للدكتور عبد العزيز الدوري (٧٨).
([7]) كتاب الشعوبية حركة مضادة للإسلام والأمة العربية للدكتور: عبد الله سلوم السامرائي، (٣٣).
([8]) الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (٤٩).
([9]) من مقال بعنوان الشعوبية على الشبكة العنكبوتية باسم المعرفة https://www.marefa.org/شعوبية.
([10]) الشعوبية حركة مضادة للإسلام والأمة العربية للدكتور عبد الله السامرائي (6).
([11]) من مقال على الإنترنت بعنوان استنهاض الشعوبية ودرء المد القومي العربي لرانية المدهون.
([12]) من مقال الشعوبية في العصر الحديث من موقع شبكة البصرة عام ٢٠٠٢.
([13]) من مقال: الشعوبيون الجدد، للدكتورة حسناء عبد العزيز القنيعير، عبر الانترنت.
([14]) الشعوبية حركة مضادة للإسلام والأمة العربية للدكتور عبد الله السامرائي (7).
([15]) الجذور التاريخية للشعوبية، د. عبد العزيز الدوري (٩٤).
([16]) الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (٥١).
([17])الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (٩٤).
([18]) الشعوبية حركة مضادة للإسلام والأمة العربية للدكتور عبد الله السامرائي (٤٣).
([19]) الجذور التاريخية للشعوبية للدكتور عبد العزيز الدوري (٥١).
([20]) كتاب الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، طبعة دار الجيل 1996 (7/220).
([21]) الشعوبية حركة مضادة للإسلام والأمة العربية للدكتور عبد الله السامرائي (٧).
([22]) الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري من مقاله المعنون بـ (الشعوبية التاريخية والمعاصرة من منظور نقدي إسلامي).
([23]) مجلة رابطة الأدب الإسلامي العالمية من مقال بعنوان بين شعوبية القدماء وشعوبية المعاصرين، للدكتور بكري شيخ أمين.
([24]) رواه مسلم، باب النهي عن قول هلك الناس، رقم (6850) بترقيم المكنز.
([25]) من مقالات منشورة على الإنترنت للأستاذ محمد علي النجار، وحديث ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([26]) حديث ((حب العرب إيمان وبغضهم نفاق))، رواه البيهقي في شعب الإيمان، رقم (1495) والحاكم في المستدرك، رقم (6998).
([27]) عقيدة الإمام أحمد رواية أبي بكر الخلال، دار قتيبة 1408- ص (81)