عُرابي عبد الحيّ عُرابي – ماجستير في العقيدة الإسلامية – مدرس في جامعة تراكيا – أَدِرنه
تمهيدٌ:
يُعدُّ ابن نبيٍّ أحدَ أهمِّ علماء الاجتماع -بعد ابن خلدون- الذين درسوا نشوء الحضارات ونهوضها والأمراض التي تصيب حضاراتها من منطلَق استطلاعيٍّ رصينٍ، إلّا أنّه كما لم يغدُ ابن خلدون ظاهرةً في البلاد الإسلاميّة في زمنه؛ فإنّ ابن نبيٍّ قد ناله المصير ذاتُه، وعلى الرّغم من شهرة الرّجلين وتداول كتبهما إلّا أن المؤسّسات الرّسميّة لم تُولِ أطروحتيهما في دراسة المجتمعات الإسلاميّة كبير اهتمام، ولم تسعَ إلى تناول قراءتيهما بالدّعم والمراجعة والتبنّي.
مفهوم الحضارة:
تشير المراجع اللّغويّة إلى أنّ الحضارة مأخوذة من مادّة (حَضَرَ) والّتي تفيدُ الإقامة في الحَضَرِ وتضادّ الإقامة في البادية([1])، إلّا أنّ ابن خلدون يشير في مقدِّمته إلى أنّ العمران البدويَّ أصلُ العمران الحَضَريِّ، فجَعَل طور البداوة السّابق على التحضُّر أصلاً له([2])، أما الحضارة في الرؤى المعاصرة فتطلق على معنَيَين، أحدهما موضوعيٌّ مشخَّص، وثانيهما ذاتيٌّ مجرَّد، ويقصَد بالحضارة بمعناها الموضوعيِّ جملة مظاهر التّقدّم الأدبيِّ والفنّيِّ والعلميِّ والتّقنيِّ؛ إذ إنَّ مزيّة هذه المظاهر انتقالُها من جيل إلى جيل في مجتمع واحد أو مجتمعات متماثلة، فيقال: الحضارة الأندلسيّة أو الإسلاميّة أو الهنديّة مثلاً، فتنحصر الحضارة ههنا بنطاقها الجغرافيّ ولغاتها المحلِّيّة، أمّا الحضارةُ بمعناها الذّاتيّ المجرّد فتطلق على مرحلة التّطوُّر الإنسانيِّ المقابلة لمرحلة التّوحُّش، أي إنّ الحضارة ههنا تعرَّف بمعناها الغائيِّ فلا مشاحَّة في إطلاقه على أيِّ حضارة وإن اختلفت حدود الزّمان والمكان لاشتراكها في عناصر مُتَّحدة، وقد ترادف الحضارة مفردة الثّقافة، إلّا أنَّهما لا يدلّان على مدلول واحدٍ، فالثَّقافة تطلق عند بعض المفكّرين على تنمية العقل بالفكر، بينما يطلقها آخرون على نتيجة هذه التّنمية، ويقصد بها علماء الأنثروبولوجيا -من طرف آخر- كلَّ مظهر من مظاهر الحياة سواء كان المجتمع في حالة التّخلُّف أو التَّقدُّم، في حين أنَّ الحضارة تُطلَق عندهم على منتجات المجتمعات المتقدِّمة([3])، وما يهمُّنا في هذا المقام إدراك مفهوم الحضارة عند ابن نبيٍّ وأثر هذا المفهوم في رؤيته لنهضة الحضارة وأفولها.
مفهوم الحضارة عند ابن نبي:
توزَّعت بحوث ابن نبي عن الحضارة في العديد من كتبه ومقالاته الّتي أطَّرها بسلسلة “مشكلات الحضارة” التي شغلت حيِّزًا كبيرًا من مشروعه الفكريِّ، وذلك كما في “شروط النّهضة” و”مشكلة الثّقافة” و”وجهة العالم الإسلامي” و”ميلاد مجتمع” و”آفاق جزائريَّة” وغيرها، معتمدًا العمق في التّحليل والاستفاضة في البحث للوصول إلى إبداع نظريَّة متكاملة في فهم الحضارة وأسباب نشوئها ومشكلاتها التي تعترضها فتؤدِّي إلى أفولها.
بدايةً يشير ابن نبيٍّ إلى أنَّ الحضارة بما يتعارف عليه علماء الأنثروبولوجيا تعني “كلَّ شكلٍ من أشكال تنظيم الحياة البشريَّة”([4])، ولا يخلو هذا التّعريف من تعميم مُخِلٍّ؛ إذ لا يخلو أيُّ مجتمع من هذه الأشكال وإن تدنّى مستواها، لينطلق ابن نبيٍّ في حفريَّاته في صياغة مفهومٍ للحضارة من خلال بروز المفاهيم التي يتوصَّل إليها مع المجتمعات الّتي تعاني مصاعب التّخلّف والضّعف والقابليّة للاستعمار، مستندًا إلى فرضيّة عدم إمكان التّوصل إلى بناء هذا المفهوم إلّا بدراسة هذه المجتمعات، فالحضارة تتبع ظروف المجتمع المتخلّف وهي أداته الّتي تعطيها القدرة على النموّ، فتكون بذلك مجموع الشروط المادِّيَّة والأخلاقيّة الّتي تتيح لمجتمع معين أن يقدّم لكلّ فرد من أفراده في أطوار وجوده المساعدة الضروريّة له([5])، فيكون مفهوم الحضارة بذلك مستندًا إلى ظاهرة مركّبة ترتبط بالفرد فكرًا وتعاملًا.
لقد انطلق ابن نبي في دراسته لنشوء الحضارة من عدة جوانب، كبنية الحضارة وعناصر تركيبها، إضافة إلى وظيفتها الّتي تتعمّق في فهم الغاية التي تؤدّيها بنُظُمها في المجتمعات الّتي تنتشر أفكارها فيها؛ ليتوصّل في النهاية إلى تحليل طرق نشوء الحضارة وتطوّرها وغايتها الرساليّة الّتي تحقّقها([6])؛ لنخلص إلى أنّ الحضارة ليست عبارةً عن وفرة المنتجات الفكرية والمادية وتكديسها؛ إذ إنّ ذلك يتخم المجتمع بالشيئيّة ويسلبه طاقة القيام ويوقعه في خانة التبعيّة والاستهلاكيّة، بينما الأمر على النّقيض من ذلك؛ لأن للحضارةِ قدرةً على البناء والإبداع وصناعة الأُطُر الملائمة لذلك، ضمن رؤية شاملة للوسائل والأهداف.
ويتكوّن مفهوم الحضارة عند مالك من عدة محاور ترتكز على انسجام الجهود الإنسانيّة وتكاملها مع قوانين النّهوض المادّي والمعنويّ وجملة الشروط الخاصّة بالنموّ والازدهار في شتّى المجالات الفكريّة والروحيّة والاقتصاديّة والمادّيّة في الواقع المعاش([7])؛ إذ الغاية من تاريخ الإنسان السّير بركب التقدّم إلى أفضل أشكال الحياة الرّاقية([8])؛ ومن ثَمَّ تتطلَّب عمليّة بناء الحضارة أُسسًا فكريّةً معيّنةً وجهودًا في عالَمَي الأشخاص والأشياء، ولكنّ ذلك لا يتم إلّا في صورة برنامج تربويّ يهدف لتغيير الإنسان من الداخل وفق شروط معيّنة، حتّى يتمكّن من أداء وظيفته الاجتماعيّة ويحقّق بناء المجتمع المتحضِّر([9]).
انقداح الحضارة وأثر الفكرة الدينيّة فيها:
لم يغفل ابن نبيٍّ في نقاشاته وأبحاثه أهمّيّة الدّين في بناء الحضارة، فعدَّه أساس تحريك عجلة التاريخ ونقطة البداية في بناء صرحها؛ لأثره في حركة التّاريخ ودوره في حياة الأفراد والمجتمعات… ويستند مالك في رؤيته هذه على وجود عناصر الحضارة المادّية في عامّة الأمم، وحاجتها لاستثمار هذه الشّروط والتّأليف بينها إلى المحرِّك أو القادح الذي ينسج عملية البناء والتّركيب فيما بينها، ويختار ابن نبيٍّ -في هذا الإطار- “الفكرة الدينيّة” محرِّكة الحضارة وموقدة انطلاقتها، ولعلّنا نجد تأسيسًا لهذا الإطار عند سابقيه كـ ابن خلدون في نظريّته عن “العصبيّة” وتوينبي في نظريّته عن “التّحدي”.
إنّ “الفكرة الدينيَّة” الّتي تقف خلف النهوض الحضاريّ لا تقتصر على مجتمع دون آخر، فسواءً كُنّا بصدد المجتمع الإسلاميّ أو المجتمع المسيحيّ أو المجتمعات الّتي اختفت من الوجود فإنّنا نستطيع أن نقرّر أن الفكرة التي غرست أثرها في حقل التّاريخ ناتجة عن فكرة دينيّة([10]).
ولعلّ مردّ هذا عائد إلى أنّ العلاقة الرّوحيّة بين الله والإنسان تولّد العلاقة الاجتماعيّة وتنشئها، وهي ما يربط بين الإنسان والإنسان، فنستطيع بذلك النّظر إلى العلاقة الاجتماعيّة والدينيّة تاريخيًّا على أنها حدَثٌ، ومن الوجهة الكونيّة على أنّها تطوّر اجتماعيٌّ واحد([11])، فبضعفِ العلاقة الدينيّة تضعف الشّبكات الاجتماعيّة وبقوّتها تقوى.
ولعلّ أهمّ آثار هذه الفكرةِ عند ابن نبي فهم العلاقة بين قوّة “الفكرة الدينيّة” وضعفها أثناء نشوء الحضارة وتطوّرها أو أفولها؛ فيتجلّى ذلك في انتقال العقل بسبب قوة الروح من مرحلة الخمول إلى النهوض وملء مجالات الحياة بالفنون والعلوم والصّناعات، إلّا أنه لضعف الروح أمام نهضة العقل تخرج الغرائز عن السّيطرة وتتسرّب من المنافذ التي تتيحها المادّة فيتاح لها التّمدّد إلى أن تصل إلى مرحلة التغوُّل في مواجهة “الفكرة الدينيّة”، فتتوقّف آثار هذه الفكرة في المجتمع وتدخل الحضارة ليل التاريخ مُتِمَّةً بذلك دورتها([12]).
إنّ الفكرة (الدينيّة/المعنويّة) التي مثَّلت مبعث الحضارة الإسلاميةَ الدينُ الإسلاميُّ، حيث بدأت دورته بنزول القرآن وتغلغل مبادئه في نفوس المؤمنين به، فشهدنا بعد ذلك حياة المثل العليا، كما شهدنا ظهور علوم جديدة وحركة فكرية لا تضاهى، إلى أن ظهرت حياة التّرف وحبّ العظمة، فبدأت شمس الحضارة تأفل رويدًا رويدًا.
ولعلّ أهمّ ما نستخلصه من كلام ابن نبيٍّ عن “الفكرة الدينيّة” وأثرها في بناء الحضارة كونُ الدين العاملَ الأساسَ الّذي يعَدُّ السرّ الكوني المركِّب بين ثلاثيّة (الإنسان والتّراب والوقت)، والباعث لها بقوّة فعّالة في التاريخ([13])، فيشكّل الظّواهر والقيم والمبادئ الاجتماعيّة([14])، والحضارة من هذه النظرة الفاحصة لا تقوم إلّا في ظلّ وجود شبكة من العلاقات الاجتماعيّة الّتي تشكّل الميلاد الحقيقيّ للمجتمع في التاريخ وبداية إنجازه التاريخيّ على ضوء “الفكرة الدينيّة”([15])، وما دامت هذه الفكرة مستمرّة في التّركيب بين هذه الفئات الثلاثِ فإنّها ستبقى منتمية إلى كتلة بناء الحضارة في التّاريخ([16])، أمّا إذا صار الإيمان بالفكرة محض جذبٍ فرديٍّ، فإنّه سيفقد إشعاعه، وستنتهي رسالته التّاريخيّة لعجزه عن دفع الحضارة وتحريكها([17]).
عناصر الحضارة عند ابن نبي:
تتركّب الحضارة من عناصر متعدّدة، إلّا أنّ عناصر تركيب الحضارة ليست منتجاتٍ حضاريّةً بالضّرورة، بل هي أصول تفرضها طبيعة المنتجات وشروط الإنتاج([18])، ومن هنا فإنّ ابن نبيٍّ يسعى إلى تحليل وافٍ لعناصر الحضارة، داعيًا إلى تناول المسألة كما تتناول المختبرات التّحليلات والتفاعلات الكيميائيّة([19])، وقد توصَّل بعد طول بحث إلى أن عناصرَ البناء الحضاريّة محصورة بالمعادلة الآتية: (منتوج حضاريّ = إنسان + تراب + وقت)([20])، ومجموع المنتجات الحضاريّة بالضرورة ناتج عن مجموع إنسان ومجموع تراب ومجموع وقت([21])، ومهما تكدَّست المنتجات الحضاريّة فلا يشي ذلك بوجود حضارة حقيقيّةٍ، لتأكيده المستمرّ على فهم الحضارة بناءً مركّبًا يشمل العناصر الثّلاثة فقط مهما بلغت درجة تعقيد هذا البناء([22])، كما يلتزم مالك في أبحاثه عن بناء الحضارة وشروط انطلاقها بمحوريّة الإنسان (فردًا ومجتمعًا) فيها؛ إذ يعدُّه المحور الرّئيس في أيّ مشروع حضاريّ، فهو البداية والغاية، كما أن قوّة فكره أو مرضه دليل على قوّة حضارته وضعفها؛ إذ إنّ جميع الأعراض التي ظهرت في السّياسة أو في صورة العمران لم تكن إلَّا تعبيرًا عن حالة مرضيّة يعانيها الإنسان الجديد الّذي خلف إنسان الحضارة الإسلاميّة، والذي كان يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي سينتج عنها في فترات متفرّقة المشاكل الّتي تعرّض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين، فالنّقائص التي تعانيها النّهضة الآن، يعود وزرها إلى ذلك الرّجل الذي لم يكن طليعة في التّاريخ([23]).
إنّ التّراب لا يكون عامل حضارة إلا بتهيئته مادّة المنتجات الاجتماعيّة، وكذا الوقت، فلا يكون عنصرًا في بناء الحضارة إلّا إذا تكيّف مع المجتمع فأصبح زمنًا اجتماعيًّا تجري فيه عمليّات الصناعة ونهضة الاقتصاد والثقافة([24])، ويضاف الدين إلى هذه العناصر ليكون المركِّب الأساس فيما بينها، ومن ثَمَّ فإن رؤية مالك لعناصر الحضارة تجتمع بهذه الثلاثية مع “الفكرة الدينيّة” فيطلق عليها مجتمعة مصطلح “العُدَّة الدّائمة” الواجبة لتحقّق الحضارة([25]).
دورة الحضارة:
لم يحصل أن اتّفق المفكّرون على تعريف واحدٍ للحضارة أو عوامل تطوّرها وانتكاسها والعمر المفترض لها، إلا أنّهم عمدوا إلى رسم دوراتٍ يرون الحضارات داخلة فيها، فمن دورة العصبيّة عند ابن خلدون إلى التناقض عند هيجل أو صراع الطبقات عند ماركس أو الأطوار الثلاثة عند دوركايم([26])، وقد استفاد ابن نبي من فكرة دورات الحضارة الّتي بحثها المفكّرون وعلماء الاجتماع السّابقون، فتفحّص مقالاتهم ونقدها([27])، واستفاض في البحث لتكوين نظرةٍ جامعة في فهم دورات الحضارة، فتوصّل إليها وحدَّد مخصّصاتها وشروطها، وضبطها بين البداية والأفول، محدّدًا المرحلة التي تسبق البداية والمعالم الّتي تسم النهاية([28])، فابتدع ابن نبيٍّ دورة (النهوض والأوج والأفول) بحسب التَّفاعل الذي تقوم به الفكرة الدينيّة مع ثلاثيّته الشهيرة على نحو ما أسلفنا من أنّ الحضارة تبدأ بارتباط فكرة دينيّة معيّنة تنهي سطوة الغرائز الجسديّة وتطلق الروح من سجنها فينطلق العقل معها ليَؤُول الحال مرّة أخرى إلى ارتباط الغرائز بسطوة العقل فخمود الألق الروحيّ وسيطرة المادّة على حسابها([29]).
ومرَدُّ هذه الدورة برأي الباحث عائد إلى أنّ أيَّ حضارةٍ إنما تنتج عن فكرة جوهرية تطبع المجتمع في مرحلة ما قبل التحضر، وتدفعه لدخول ميدان التاريخ بحضارة واثقة، فقد أخرجت الفكرة المسيحية أوروبا إلى مسرح التاريخ، وبنت عالمها الفكري انطلاقًا منها، إلا أنّها تغيّرت بتغيّر فكرتها مع استعادة عصر النهضة أدبيّات الإغريق وفلسفاتهم الماضية([30])، لتصبح حضارة الغرب بذلك معنيّة بالمادّة لا الرّوح، ولو أردنا دراسة دورة الحضارة الإسلاميّة -في تطبيقٍ لنظريّته- فإننا نلحظ بدايتها مع الفكرة الدينيّة الإسلامية، ففي مرحلة ما قبل الحضارة كانت الجاهليّة تضرب أطنابها على مجتمع الجزيرة العربيّة، فجاءت الفكرة الدينية الإسلامية محرِّرةً الروح من ربقة غرائز الواقع المحيط بها، ودفعت بمعتنقيها إلى طور الأوج، فقام المسلمون بالفتوح ونشر العلوم وتطوير الفنون، لتصل إلى طور الأفول مع نهايات طور الأوج -أو ما سمّاه عصر ما بعد الموحّدين- حيث بدأت قوّة الفكرة الدينيّة في تسيير المجتمع بالغياب ومالت الطّبيعة إلى استعادة غَلَبَتِها على الفرد والمجتمع([31])؛ وهكذا نصل إلى النّتيجة الّتي وصل إليها ابن نبيٍّ من قبل في عدمِ وجود حضارةٍ ما تكاد تشذّ عن هذه الدورة([32]).
تعاني الحضارة – لا ريب- من مشكلات عديدة ترهقها وتترابط فيما بينها بوشائج متعدّدة تدفعها إلى النّكوص عن غاية النهوض الروحيّ والسموّ العقليّ إلى غايات المادّة وطغيان الأشياء والاستهلاك وتصنيم الأشخاص، وذلك لغياب الفاعليّة المطلوبة من العقيدة والأفكار والثّقافة، وهو ما يحتاج بحدّ ذاته إلى توسُّعٍ وتقصٍّ مستفيض يوضّح المقصود بالفاعليّة وقواعدها وأنواعها وأسباب تخلّفها عن أداء دورها.
ختمٌ وإيجاز:
لا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته النهضويّة ما لم يتعمّق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها؛ إذ الحضارات المعاصرة والماضيةُ والقادمُة عناصر للملحمة الإنسانيّة منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريثٍ له فيها([33])؛ ومن ثَمَّ فإنَّ أهمَّ ما يمكننا الختمُ به من آراء ابن نبيّ في الحضارة كونها مفهومًا مركّبًا يتساوق مع الظّاهرة الحضاريّة في نشأتها وتطوُّرها وأفولها؛ إذ هي في فحواها انسجامٌ لجهود الإنسانيّة مع السُّنن الإلهيّة في النّهوض المادّي والمعنويّ في شتّى المجالات الإنسانيّة والعلميّة والدينيّة، فالغاية من ذلك التقدّم والارتقاء بالإنسان إلى أفضل أشكال الحياة الممكنة، إلّا أنّ عمليّة بناء الحضارة تستدعي أُسَسًا يحصرها ابن نبي في عالَمَي الأشخاص والأشياء، إضافةً إلى حاجتها لمحرِّك يعطي العمليّة البنائيّة قوّتها واستمرارها، وهو ما حدَّده بـ “الفكرة الدينيّة” المنتمية -بضرورة الحال- إلى عالَم الأفكار، مشيرًا إلى أنّ ذلك لا يتمُّ إلّا بتنسيق شاملٍ يهدف لتغيير الإنسان من الداخل وفق شروط معيّنة، تُمكِّنهُ من أداء وظيفته الاجتماعيّة وبناء المجتمع المتحضِّر، واختلال هذه الشروط عند ابن نبيّ سيؤدّي لطغيان هذه العناصر بعضها على بعضٍ، وانزواء الأفكار المحرِّكة للحضارة مقابلَها؛ مما يُنذر بأفول شمسها واستفحال التبعيّة الفكريّة والاستهلاكيّة وأمراض عديدةٍ في جَسد المجتمع وفكرِه.
([1]) ينظر لسان العرب، جمال الدين، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط3، مادة: حضر.
([2]) ينظر مقدمة ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، أو ما يعرف بـ تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن ابن خلدون، تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط2، 1988، (ج1/ 152-153).
([3]) ينظر المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، د. ط، 1982، (ج1/ 475- 477) وينظر المعجم الفلسفي، د. مراد وهبة، دار قباء، القاهرة، 2007، (280) مادة “الحضارة”.
([4]) آفاق جزائرية، مالك بن نبي، مكتبة النهضة الجزائرية، د.ط.ت، (30).
([5]) ينظر المصدر السابق، (46، 47)، وينظر الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري، د. بدران بن الحسن، سلسلة كتاب الأمة، العدد 73، ط1، 2000، (69، 70).
([6]) في مفهوم الحضارة، د. بدران بن الحسن، مجلة نوافذ: اتجاهات فكرية، 25 /12/ 2003.
([7]) ينظر البناء الحضاري عند مالك بن نبي، د. جيلالي بوبكر، دار المعرفة، الجزائر، د.ط، ت، (38).
([8]) ينظر ميلاد مجتمع، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1974، (16).
([9]) ينظر مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي، محمد عبد السلام الجفائري، الدار العربية للكتاب، تونس، 1984، د.ط، 125، ويقارن بالمصدر السابق، (39).
([10]) ينظر ميلاد مجتمع، (52).
([11]) ينظر المصدر السابق نفسه.
([12]) ينظر المصدر السابق، (101-104-105).
([13]) ينظر ميلاد مجتمع، (74).
([14]) ينظر وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1985، (27).
([15]) حديث في البناء الجديد، مالك بن نبي، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، د.ت.ط، (100-101).
([16]) ينظر شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1986، (86).
([17]) ينظر وجهة العالم الإسلامي، (27).
([19]) ينظر آفاق جزائرية، (69).
([20]) ينظر تأملات، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، بيروت، د.ط.ت (197).
([21]) ينظر المصر السابق نفسه.
([22]) ينظر المصدر السابق، (198).
([23]) ينظر وجهة العالم الإسلامي، (36).
([24]) ينظر آفاق جزائرية، (74).
([25]) ينظر شروط النهضة، (92).
([26]) أي المرحلة اللاهوتية، ثم الميتافيزيقية، ثم الوضعية.
([27]) ينظر شروط النهضة، (93-99).
([28]) ينظر شروط النهضة، (98، 99).
([29]) ينظر شروط النهضة، (105).
([30]) مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة: بسام بركة، أحمد شعبو، دار الفكر، دمشق، 2002، (41).