آسية بنسلمون – ماجستير تربية ودراسات إسلامية
كانت كتاتيب القرآن الكريم في العصور الإسلامية بمنزلة المدارس الابتدائيّة في عصرنا الحاضر، وكان لها أكبر الأثر في الحفاظ على اللغة العربية وانتشارها بين جميع الأعراق المسلمة؛ إذ كان التلاميذ يتعلّمون فيها القراءة والكتابة العربية والقراءة الصحيحة للقرآن الكريم، كما كان الأطفال المسلمون يتلقّون في هذه الكتاتيب تعاليم الدين الأساسيّة، فيتعرفون على أركان الإسلام ومعنى الإيمان، ويتعلّمون كيفيّة الوضوء والصلاة، إضافة إلى ذلك كان الأطفال يستمعون فيها لجملةٍ من مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه الكرام.
وفي العصر الحديث وبعد سقوط الخلافة العثمانيّة وقيام الجمهوريات، حلّت المدرسة العامّة محلّ الكتاتيب، ولكنها أخذت جانبًا علمانيًّا بحتًا على الأغلب، ووصل الأمر ببعض البرامج التعليميّة في الدول العربيّة والإسلاميّة إلى إهمال العربيّة مقابل الاهتمام المبالغ به باللغات الأجنبيّة، ممّا هدّد العربيّة بالضياع.
مع الانتشار الواسع للمدارس بقيت جملةٌ من المجتمعات الإسلاميّة تحافظ على كتاتيب القرآن الكريم وتحرص على إرسال أبنائها إليها بعد العودة من المدارس الرسميّة أو في الصيف في العطلة المدرسيّة الطويلة، وقد كان للكتاتيب دور كبير في الحفاظ على اللغة العربيّة وتعليم القرآن ومبادئ الدين والسيرة النبويّة في ظلّ الإهمال الحكوميّ المتعمّد للعلوم العربيّة والإسلاميّة في برامجها التعليميّة، والتضييق المستمرّ على مراكز التعليم الشرعيّ في عديدٍ من الدول الإسلاميّة، ومنها سوريا في فترة تسلط عائلة الأسد عليها.
فما سرُّ نشأة هذه الكتاتيب؟ كيف بدأت؟ وكيف كانت برامجها التعليمية؟ وما هو واقعها اليوم، وما واجبنا تجاهها لتعزيز وجودها واتّخاذه سبيلًا للحفاظ على لغتنا وديننا وأطفالنا؟
أهمّيّة القرآن في حياتنا:
في خضمّ ما تعيشه أمّتنا من تقلّبات وتغيّرات، وانتشار الفتن في المجتمعات انتشار النار في الهشيم، فإنّ الإنسان المسلم يقف حائرًا وتائهًا متسائلًا: أين السبيل؟ وأين النجاة؟ لا يدري أيّ وجهةٍ يسلكها، وأيّ طريقة ينهجها، ثمّ سرعان ما يتجلّى له ذلك النور الذي لا ينطفئ، ويبصر وجهته التي لا يضلّ فيها، ألا وهي وجهة القرآن الكريم، فيسارع إلى رحابِهِ ليتفيّأ من ظلاله ويقتبس من أنواره، متدبّرًا قوله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [سورة المائدة: الآية 16] مدركًا أن لا شيء أعظم من كتاب الله تعالى، فيجتهد في تدارسِهِ والتهيُّؤ لخدمته، عاملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلّمه))([1])، وإنَّ تعلّم القرآن الكريم وتعليمَهُ لا يتحقّقُ أوّلًا إلا بالتمكّن من قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [سورة العلق: آية 1]، فالقراءة والكتابة مفتاح تعلّم كتاب الله تعالى، وذاك هو العلم الذي يُنتفع به، ويرتقي المرء به من مرتبة الأخذ والتعلّمِ إلى منزلة العطاء والتعليم والإنفاق ممّا علّمه الله.
والحقيقة أنّ القرآن الكريم والحرص على تعلّمه هو سرّ وجود الكتاتيب وانتشارها في المجتمعات المسلمة.
نشأة الكتاتيب:
الكتاتيب: هي جمع لكلمة كُتَّاب، تلك الكلمة التي تطلق على مكانٍ أو فضاءٍ واسعٍ يكون بجوار المسجد غالبًا، يُشرِفُ فيه شيخُ الحيِّ أو إمامُ المسجد على تعليم الأطفال أساسيّات القراءة والكتابة العربيّة والقرآن الكريم.
إنّنا إذا ما رجعنا إلى تاريخنا الإسلامي نجد أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان المعلّم الأوّل لأصحابه، يحثّهم على طلب العلم ويُقرِئُهم القرآن الكريم، ثمّ كان يُقرِئُ بعضُهم بعضًا، ويحثُّ كلَّ واحدٍ منهم على تعلّم القراءة والكتابة، بل إنّه صلى الله عليه وسلم جعل التعليم مساويًا للحريّة، حيث جعل فداءَ بعض أسرى بدر ممّن لا مال لهم أن يعلّم الواحد منهم عشرةً من الغلمان الكتابةَ فيُخلّى سبيلُهُ، فكان ممّن تعلّم منهم زيدُ بن ثابتٍ رضي الله عنه([2])، وكانت هذه الحادثةُ نقطةَ نشوءِ الكتاتيب في التاريخ الإسلاميّ، وقد استمر نظام تعليم القراءة والكتابة بأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ الخلفاء من بعده، روي عن عبد الله بن سعيد بن العاص رضي الله عنه؛ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يُعلّم الناس الكتابة بالمدينة، وكان كاتبا محسنًا([3]).
وقد استمرّ التعليمُ بالكتاتيب مدى الأزمنة والعصور في كلّ المجتمعات الإسلاميَّةِ خاصّةً في البوادي والقرى، فهذه الكتاتيبُ مع بساطتها وضيقِ مساحتِها -عادةً- إلاّ أنّ لها دورًا مهمًّا في محو الأميّة وربط المتعلّمين بكتاب الله، وتنوير عقولهم وصقل ألسنتهم منذ الصغر، وممّن اشتهروا في تاريخنا الإسلامي بالتعليم في الكتاتيب التابعيُّ المقرئُ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ الكوفيُّ وقيسُ بن سعدٍ، وعطاءُ بن رباحٍ والكُمّيت الشاعر، وعبد الحميد كاتب بني أميّة، والإمام الزهريّ والأعمش والحجاج بن يوسف الثقفيّ، وأسد بن الفرات فاتح صقليّة، وغيرهم كثير، ومنهم من كان يعلّم الصبيان أوّل النهار والبنات في آخره([4])،
ونلاحظ من الأسماء المذكورة أنّ الكتاتيب في الزمن الأوّل كان يقوم عليها علماء كبار، حيث كان الأطفال ينهلون منهم شيئًا من العلوم الإسلاميّة إضافة إلى القرآن الكريم، وهذا ما افتقدَتْهُ الكتاتيبُ في العصور اللاحقة.
منهج الكتاتيب في التعليم:
كان التعلُّم في الكُتاب يأخذ معظم نهار الطالب من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر أو العصر عدا يومَ الجمعةِ غالبًا، ويختلفُ منهج التعليم من كُتاب إلى آخر حسب بيئة المُلقِّن ومستوى ثقافته، حيث يجلس المعلّم على الأرض مواجهًا طلّابه، ويتجمّع التلاميذ المبتدئون على مسافةٍ قريبةٍ من الشيخ المعلِّمِ، ويقوم مساعدٌ له من الطلبة المتميّزين بإرشادهم، وغالبًا ما يعتمد التحفيظ على وسائل معروفة من ألواح خشبيّةٍ وأقلام.
أوّل ما يبدأ به الطالب في الكتاب هو تعلم الحروف والكتابة والقراءة عن طريق الشيخ أو عن طريق مساعديه، ثم يلقّنُهُ الشيخُ القرآنَ الكريم إلى أن يتعلّم ويصبحَ ماهرًا يكتُبُ لوحَهُ بيدِهِ، ويُلزِمُهُمُ الشيخ باستظهار القديم قبلَ الجديدِ من المحفوظ، ولا يسمحُ بالخطأ فيه، فإن أخطأ يكلّفُه بإعادته مرّات ومرّات حتى يستظهرَه، وقد يعاقبُهُ إن أخطأ.
كانت عقوبات شيخ الكتّاب نظامًا متعارفًا في الكتاتيب، ولكنّها قد تكون قاسيةً في بعض الأحيان، حتى إنّ منها ما كان سببًا في انفصال العديد من الطلبة عن التعلّم وحفظ القرآن، ومنها ما ترك آثاره السلبيّة في نفوس كثير من الحفظة، كما لا ينكر أحدٌ الآثارَ الإيجابيّة للعقوبات حينما توضع في موضعها وبمقدارها الصحيح.
أمّا استراحة الطلاب والمعلّمين؛ فقد كانت يومَ الجمعة، وكانت بداية ذلك في عصر الخلافة الراشدة استنادًا إلى ما رُوِيَ أنّ أطفال الكُتّاب في المدينة المنورة خرجوا إلى ظاهرها في يوم خميسٍ لاستقبالِ أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه؛ عند عودته من رحلة فتح بيت المقدس، فأصابهم من السير على الأقدام عناءٌ شديدٌ، فأشار عمر ألّا يذهب الأطفال إلى الكتّاب في يوم الجمعة التالي ليستريحوا ممّا نالهم([5])، وصار الأمر بعد ذلك عادةً متّبعةً في أن يكون يومُ الجمعة يومَ راحةٍ وإجازة.
وقد خرَّجت تلك الكتاتيب حُفَّاظًا وقُراء وعلماء كبار في الماضي، ورغم انتشار التعليم الأكاديميّ فقد كان طلاب الكتاتيب متميّزين في المدارس لحذق فهمهم وتوقّد ذاكرتهم بسبب أخذهم القرآن الكريم غضًّا طريًّا منذ نعومة أظفارهم، إلّا أنّ دورها قلَّ في الأزمنة الأخيرة وضعُفَت وظيفتُها، لأنّها لم تَرَ اهتمامًا ولا تطويرًا في منهجها، إضافة إلى انتشار المدارس الحكوميّة.
واقعُ الكتاتيب اليوم:
لقد ضَعُفَ دورُ الكتاتيب في عصرنا الحالي نظرًا لحلول المدرسة والتعليم الرسميّ محلّها، ولكنها ما زالت مستمرّة في معظم المجتمعات الإسلاميّة في فترة الإجازة الصيفيّة أو بعد العودة من المدرسة، ومع كلّ التهميش والمضايقات التي تُحاصِرُها فما زالت قائمةً بفضل الله، وقد اتخذت بعض القوى المتنفذة في العالم من هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م حجة للضغط على الدول الإسلامية لإجبارها على إغلاق كثير من كتاتيب تعليم القرآن الكريم، كما حدث في باكستان وأفغانستان وغيرها من الدول بحجة أن هذه الكتاتيب تخرِّج المتطرفين والإرهابيين، وقد وجدت بعض الحكومات العلمانيَّة المتطرفة في ذلك الوقت في التوجه الأمريكي حجة للتضييق على الكتاتيب والمدارس الإسلامية من خلال إغلاقها أو التدخل في شؤونها وبرامجها الداخلية كما فعل نظام الأسد في سوريا عقب حربي أفغانستان والعراق.
إن عدم إدراكِ أهمّيّة الكتاتيب القرآنية ودورِها في الحفاظ على الدين واللغة من قبل بعض المجتمعات يُهدّدُ مستقبلَها، ممّا يوجِبُ علينا التعريفَ الدائمَ بدورها في المجتمع والحرصَ على دعم مسيرتها.
رغم ما هو معلومٌ للجميع من إيجابياتِ هذه الكتاتيبِ فإنّها لا تخلو من بعض المآخذ، منها:
– أنّ بعضَ المعلمينَ لا يهتمّ بمن تحت يدِهِ بمقدار ما يهتمّ بما يجني منهم من رزقٍ زهيدٍ سواء من أئمّة مساجد أو سواهم، وبعضهم متطوّعون لا ينالون مقابل عملهم أجرًا ممّا يُشغلهم عن التفرّغ التامّ للتعليم.
– ضعفُ التكوينِ العلميّ والمنهجيّ للشيخ المعلّم، فأغلبهم لا يزيدون على حفظ القرآن الكريم، دون إلمامٍ بعلومِ اللغة أو التفسير، ممّا يقيم قطيعة بين تلاوة القرآن الكريم وفهمِهِ، وبين الحفظِ والسلوكِ.
– قصورُ البرنامج التعليميّ فيها عن الحِفاظ على شخصيّة اليافعين في مواجهة دعوات التطرّف والغلوّ التي تستغلّ حماس طلّاب القرآن لخدمة الإسلام؛ إذ تقوم بتوجيه بعضهم إلى خدمة أهدافها الشريرة، كما فعلت داعش في سوريا والعراق.
– ومن سلبيات الكتاتيب قديمًا وحديثًا الاهتمام بتحفيظ الذكور دون الإناث في أغلب الأحيان.
– عدم الاهتمام بطرق التعليم الحديثة -التي تتناسب أكثر مع تركيبة الطفل في عصرنا- وما فيها من وسائل التحفيز التي تحبّب الطالب بكتاب الله، وتجعله يتردّد على الكُتّاب بفرحٍ وشَغَفٍ.
تصويبُ المنهج التعليميّ في الكتاتيب:
لقد كان للكتاتيب القرآنيّة أعظمُ الأثرِ في التاريخ الإسلاميّ، وما زالت إلى اليوم تحافظ على لغة أبنائنا في ظلّ الإهمال الحكوميّ للغة العربيّة والاهتمام المبالغ فيه باللغات الأجنبيّة، وما زال لها الدورُ الأكبرُ في تعليم عامّة الناس مبادئَ الدين والوضوءِ والصلاةِ؛ إذ أهمَلَت الحكوماتُ العربيّةُ والإسلاميّة هذا الواجبَ، وكذلك الحال في كثير من الدول الإفريقيّة والآسيويّة فما زال الكُتَّاب هو الرابط الأهمّ بين الطفل المسلم ودينِهِ، ففيه يتعلّم الأطفالُ الوضوءَ والصلاة والحروف العربيّة وقراءَةَ القرآن وأركانَ الإيمان والإسلام، ولكنّ هذا لا يعني أبدًا أن نغفلَ عن العملِ على تصويبِ هذِهِ الكتاتيبِ ودفعِها للمزيدِ من العطاء… وسأشيرُ إلى بعضِ النقاطِ التي تحتاجُ منّا عنايةً وتصويبًا.
أولًا: ممّا ينبغي إدراكُهُ؛ أنّ أهمّ دَوْرٍ للكتاتيبِ القرآنيّة هو ربطُ الطفل بالقرآن الكريم، وتربيتُهُ على الخُلُقِ والعملِ الصالحِ، والحفاظُ على اللغةِ العربيّة والهويّة الإسلاميّة في المجتمع، وهذا لا يتأتّى إلا بالرجوع إلى المنهج الذي سار عليه أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فشيوخُ الكتاتيب هم أنفسهم عليهم أن يتّخذوا القرآن الكريم منهاج حياةٍ ومشروعَ عُمُرٍ، وعلينا أن نبذُلَ جُهدَنا في تعريف المعلّمين عِظَمَ الأمانة التي يحملونها، وأنّ حفظ القرآن ليس في حفظ حروفِه فقط، ولكن بالعمل والتخلّق به، قال العلَّامة المغربيّ فريد الأنصاريّ رحمه الله: (إنّ الحفظ هو الذي مارسَهُ أصحابُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حيث كانوا يتلقّون خمس آيات أو عشرًا فيدخلون في مكابدَةِ حقائقها الإيمانيّة ما شاء الله.. وإنّ الذي لا يُكابِدُ منزلة الإخلاص ولا يجاهد نفسه على حصنها المنيع، ولا يتخلّق بمقام توحيد الله في كلّ شيء رغبًا ورهبًا لا يُمكن أن يُعتبرَ حافظًا لسورة الإخلاص.. ثمّ إنّ الذي لا تلتهبُ مواجيدُه بأشواق التهجّد لا يكونُ من أهل سورة المزمّل..)([6])، فلا بدّ للشيخِ من أن يكون مربّيًا قدوةً لطلابه، منتبهًا لأخلاقهم، فلا يليق بمن يَحْفَظ القرآن أن يسبّ ويتكلّم بالكلام الفاحش، أو يجلس يحفظ القرآن، فإذا أذّن المؤذن للصلاة خرج يلهو ويلعب ولا يصلّي كما يحدث في بعض الكتاتيب، وهنا يكون واجب المعلّم ألا يركّز على التحفيظ فقط، بل يجب أن يكون هدفه تكوين شخصيّة متّزنةٍ تجمعُ بين الحفظ وجماليّة السلوك.
ثانيًا: وممّا ينبغي الانتباه له هو عدم اللجوء إلى العقوبات العنيفة التي تنفّر الطلاب من حفظ القرآن، لأنّ القرآن ميسّرٌ من عند الله، فيجبُ التيسير والتسهيلُ في تحفيظه، قال تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} [سورة القمر: آية 17]، فينبغي بسطُ يدِ الرحمة للمتعلّمين -خاصّة الصغار منهم- وتشجيعُهم على قراءة القرآن وحفظه، ولا يقولنَّ إنسانٌ إنّ ابني سينسى ما قرأ وحفظ فما فائدةُ الاستدامةِ في هذه الكتاتيب؟ فإنّ الإنسانَ وإن كان يحفظ القرآن وينسى، فإنّ عليه أن يستمرّ لأنّ القرآن يشتغلُ في داخله من حيث لا يشعر، فمَعَ مرورِ الوقت سيطهّر قلبه ويهذّب سلوكه، يقول فريد الأنصاريّ رحمه الله: (وإنّ أحقّ ما تُوهَبُ له الأعمارُ كتاب الله، وفي مَثلٍ بليغ أنّ نملة انطلقت في طريقها عاقدة عزيمتها على حج بيت الله من أقصى الأرض، فقيل لها: (كيف تدركين الحج وإنّما أنتِ نملة؟ إنّك ستموتين قطعًا قبل الوصول)، قالت: (إذن أموتُ على تلك الطريق)([7])، فالشاهدُ من هذا المثلِ أنْ يُكرّسَ الانسانُ حياتَهُ لكتابِ الله لا يكلّ ولا يملّ ولا ييأس، ليرضى الله عنه ويفتح عليه من أسرار القرآن الكريم، أو يأتيه أجلُهُ وهو على ذلك.
ثالثًا: كما يجب أن تضمّ الكتاتيب دائمًا جناحًا للبنات، للحرص على تخريج الفتاة القرآنيّة المتشبّعة بأخلاق القرآن الكريم، وإنّي لأعلم في بلادنا بلاد المغرب شيخًا جليلًا كرّس حياته لتحفيظ البنات صغارًا وكبارًا منذ أربعين سنة في كُتّاب متواضعٍ جانبَ مسجدٍ، ولقد رأيته يتردّد على الكُتّاب صباحًا ومساءً كلّ يومٍ ولم يَشْكُ قطُّ كلَّ تلك السنين من تعبٍ أو بُعدِ الطريق، يدرّسهم بالألواح والمصاحف حيثُ يجلسُ الصبيان الصغار لأقلّ من عشر سنوات في الأمام والبنات والنساء في الخلف، ويحفِّظ المتميّزات منهنّ بعض المتون العلميّة بعد تمكنهنّ من القراءة والكتابة، وقد تخرّجت على يديه مئات الحافظات والمربِّيات الطاهرات.
رابعًا: يستحبّ للشيخ المعلّم أن يستخدم السبورة لشرح بعض قواعد التجويد، أو لشرح الآيات، مراعاة للفروق الفرديّة، ولا يتمّ الاقتصار على التلقين، ففي بالِ الطفل اليوم كثيرٌ ممّا يُشغِلُهُ ويحتاجُ إلى مزيدٍ من جذب اهتمامه والعناية به.
خامسًا: خلقُ جوٍّ من الراحة النفسيّة للطلاب بإشعارهم بالأمان وعدم ترهيبهم، وفي المقابل تحسيسهم بعظمة القرآن الكريم وعدم ترك المجال لهم للاستهانة بالحفظ أو بحرمة القرآن الكريم.
سادسًا: ربطُ شراكاتٍ مع الجمعيّات الإسلاميّة أو مع مؤسّسات الأوقافِ لتنظيمِ مسابقاتٍ وتحفيز الحافظين والحافظات وتكريم أصحاب الأخلاق الحسنة.
ومختصر الكلام؛ يجب الاهتمام بكلّ الوسائل التي تُسهِمُ في نشر ثقافةِ حفظ كتاب الله تعالى بين الناس، ويبقى أهمّ شيءٍ في ذلك كلّه أن يحمل الشيخُ أو المعلّم رسالةً وهدفًا في تعليمه لكتاب الله تعالى، ويبتغي بذلك وجه الله خالصًا له، مربّيًا طلابه على أخلاق القرآن الكريم.
استمرار الكتاتيب في البلدان الإسلاميّة:
ما زالت الكتاتيب قائمةً بفضلِ الله في معظم البلدان الإسلاميّة وخاصة في إفريقيا وشرق آسيا، كما يُلاحَظُ أيضًا انتشار حفظ القرآن في الكتاتيب القرآنيّة بتقاليدها القديمة في بلدان المغرب العربيّ بشكل كبيرٍ بدايةً من ليبيا ومرورًا بتونس والجزائر والمغرب وصحاري موريتانيا، وينالون المراكز الأولى في نسبة حفظ القرآن الكريم.
وما الإقبال الكبيرُ هذا إلَّا بعدما أيقنَ الجميعُ أنّ القرآن هو السبيلُ المنجي، وأنّه هو النور الذي يُنيرُ حياة الإنسان، وهو الخير كلّه، قال سبحانه: {فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى} [سورة طه: الآية 123] فمن حَفِظَ القرآن الكريم وعمل به؛ لا يضلّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، عن أبي شريحٍ الخزاعيّ رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ((أبشروا أبشروا أليس تشهدون أنْ لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: إنّ هذا القرآن سببٌ -أي حبلٌ- طرفُهُ بيد الله، وطرفُهُ بأيديكم فتمسّكوا به، فإنّكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدًا))([8]).
كتاتيب القرآن في المجتمع السوريّ:
بلاد الشام كمصر والعراق وأقاليم المغرب الإسلامي كانت موئلًا للعلم والدين تنتشر فيها المدارس الإسلامية والكتاتيب فتمحو عنها عتمة الجهل والتخلف، كانت كذلك في التاريخ القديم واستمرت على نسق واحد في فترة الخلافة العثمانية وحتى ما بعد ذلك سواء في فترة الاحتلال الفرنسي أو الحكومات اللاحقة.
الكتاتيب في فترة حزب البعث([9]):
كانت أمور بلادنا لا تزال بخير إلى أن تسلَّط حزب البعث على مقاليد السلطة في سوريا؛ إذ بدأ عتاته بمضايقة العلماء ومراكز التعليم الإسلامية والكتاتيب القرآنية فيها، ويوما بعد يوم -وتحت وطأة السجن والتعذيب والتهديد للعالم وعائلته ومن يلوذ به- بدأ العلماء يهاجرون والمدارس الإسلامية تنحسر والكتاتيب القرآنية تقلّ، وزاد الأمر خطرا بوصول حافظ الأسد وعصابته إلى السلطة حيث سعى جاهدا إلى محاصرة السلطة الدينية على المجتمع وبعد أحداث 1982 قام بتهجير المئات من علماء سوريا ممن كان منتسبا لجماعة الإخوان المسلمين أو ليس كذلك، كما قام بإغلاق كثير من المؤسسات الإسلامية وما يتبعها من مراكز تعليمية ومصادرتها، حيث انحسر دور الكتاتيب القرآنية، وكان غالبا ما يتم السماح لأئمة المساجد بافتتاحها في الفترة الصيفية على ألا يأخذ المعلمون أجرًا من الطلاب، وتحت رقابة المخابرات التي كانت تزور هذه المعاهد وتحصي أسماء الطلاب وأعدادهم وفي كثير من الأحيان تأخذ ضريبة من إمام المسجد مقابل ألا تتدخل في التعليم أو لا تغلق الكُتّاب، ومما يحزن القلب المحاولات البعثية لتدنيس هذه المراكز القرآنية الطَّاهرة بإلصاق اسم الطاغية المجرم حافظ الأسد بها، حيث أطلق عليها رسميًّا اسم “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم” كعادة هذا النظام الفاسد في سرقة جهود الناس ونسبة كل خير إلى نفسه وكلِّ شرٍّ إلى شعبنا.
وقد كان لما تبقى من كتاتيب القرآن الكريم في المناطق السنية دور كبير في محو الأمية وتعليم الأطفال القراءة والكتابة في ظل التدمير العلوي الممنهج لنظام التعليم في كثير من المناطق السنية النائية أو الفقيرة ضمن سياسته لتخريب الجيل المسلم السني وتجهيله واستعباده.
لقد بذل نظام الأسد جهده للتضييق على المدارس الإسلامية وكتاتيب القرآن، ولكن مقاومة العلماء والشعب السوري المسلم لذلك نجحت في الحفاظ على قدر لا بأس به من هذه المدارس والكتاتيب، وتُعَدُّ مضايقات الأسد للحركة الدينية في سوريا وإطلاقه العنان للتبشير الشيعي والجمعيات الإيرانية، مع طرد المعلمات المنقبات من المدارس الرسمية وتدمير التعليم في كثير من المناطق السنية؛ من أهم الأسباب التي أدَّت إلى انطلاق الثورة السورية.
كتاتيب القرآن بعد الثورة:
بعد الثورة السوريّة احتوت الجمعيّاتُ والمؤسّسات العاملة في الداخل المحرّر والمخيمات الأطفالَ واليافعين، وافتتحت لهم الكثير من الكتاتيب في المساجد والخيم، يقوم عليها معلمات فاضلات، وشباب غيورون على دينهم يعلّمون الأطفال القراءة والكتابة وباقي المواد العلميّة، ويحفّظونهم القرآن الكريم، فأسهم ذلك بشكلٍ كبيرٍ في محاربة الجهل وتنوير العقول ومواكبة السير وتكسير الركون العلميّ الذي سبّبته الحرب.
ويبقى واجبُ القائمين على هذه الكتاتيب القرآنية اليوم أن يُلحِقُوا بها البرامج التعليميّة التي تَحفَظُ الطلَّاب من أفكار الغلوّ والتشدّد التي ما زالت تتشبّثُ بالبقاء في المخيمات أو الداخل المحرّر؛ فإن من أهمّ الأخطار التي تهدّد طلاب الكتاتيب اليوم التطرّف والغلوّ، ففي كتاتيب القرآن يتعلّم الطفل أوّل مبادئ الإسلام وفيها يتعلّق قلبُهُ بدينِه منتظرًا أن يشبّ ليخدمَهُ بكلِّ ما يستطيعُ.. وبينما هو في ريعانِ الصبا ككتلةٍ متوقّدةٍ؛ إذ به تحومُ حولَهُ شياطينُ التطرّف والإرهاب باذلةً جهدَها لتُغويَه وتستزلّ قدمَهُ وتستخدمَهُ في خدمة عقائدِها الفاسدةِ وأجندَتِها الآثمة، وإنّ القائمينَ على هذه الكتاتيبِ مطالبونَ بوضعِ برنامجٍ تعليميّ وتربويّ للأطفال واليافعين يشرحُ الإسلام ويُبيّن مقاصدَه ويتضمّن بعضَ علومه بما يتناسب مع التركيبة العقليّة للطفل بما يحميه من الانزلاقِ في طرق التطرّف والتكفير، أو حتى التميُّع والنفاق والحداثة… عن إبراهيم التيميّ، قال: ((خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدّث نفسَهُ: كيف تختلفُ هذه الأمة ونبيّها واحدٌ؟! فأرسل إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيّها واحدٌ، وقبلتُها واحدةٌ؟! فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنّا أُنزِلَ القرآنُ علينا فقرأناه، وعلِمنا فيمَ نزل، وإنّه سيكونُ بعدَنا أقوامٌ يقرؤونَ القرآن ولا يدرونَ فيمَ نَزَلَ، فيكونُ لهم فيه رأيٌ، فإذا كان لهم فيه رأيٌ اختلفوا، واقتتلوا..)([10]).
خاتمة:
إنّ الكتاتيبَ القرآنيّةَ شعاعٌ ثقافيٌّ مهمٌّ في المجتمع المسلم، فهي تُسهِمُ في الحفاظِ على اللغة العربيّة ونشر العلم، وتمسّك الناس بحبلِ الله المتين، فإذا عمّت وانتشرت هذه الكتاتيب في مجتمعاتنا بتلك المعايير التي سبق أن ذكرناها؛ فسيكثُر الخير والنفع والفضيلة ببركة القرآن الكريم، وينشأ جيلٌ قرآنيٌّ يحفظُ عُرَى الإسلامِ، فمن أراد الدنيا فعليه بالقرآن ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معًا فعليه بالقرآن، ففيه عزُّ الدين والدنيا، والحمد لله رب العالمين.
([1]) رواه البخاري بسنده عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، باب (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رقم (5027).
([2]) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 328 / مكتبة المعارف بيروت 1991 .
([3]) التراتيب الإدارية لمحمد عبد الحي الكتاني / تحقيق عبد الله الخالدي ج 2 ص 48 الطبعة الثانية.
([4]) آداب المعلمين لمحمد بن سحنون / تحقيق حسن حسني عبدالوهاب ص 148 دار الكتب الشرقية تونس.
([5]) التراتيب الإدارية 2/294.
([6]) هذه رسالات القرآن للعالم فريد الانصاري / تقديم عبد الناصر المقري ص 13 دار السلام للطباعة والنشر /الطبعة 1 / القاهرة 2010
([8]) رواه الطبراني في الكبير وابن حبان في صحيحه.
([9]) واقع الكتاتيب والتعليم الإسلامي في سوريا أفاد به الأستاذ محمد علي النجار.
([10]) رواه البيهقي في شعب الإيمان رقم (2092) وابن سلام في فضائل القرآن رقم (76).