فلسَفةُ الأَخذِ والعَطاءِ في الإسلام .. وجهُ الإنسانيةِ المُشرِق

رؤية تحليلية – القيم الإنسانية والسياسة بين النظرية والتطبيق على خلفية الأحداث الأمريكية والفرنسية سنة ٢٠٢٠م
يناير 4, 2021
دور الإعلام في نشر المفاهيم الخاطئة.. نتفليكس نموذجًا
يناير 4, 2021

فلسَفةُ الأَخذِ والعَطاءِ في الإسلام .. وجهُ الإنسانيةِ المُشرِق

تحميل البحث كملف PDF

د. عماد كنعان

جرب أن تقرأ بنور قلبك

أُهديك عزفَ حروفٍ قُدَّتْ من أنفع وأنفس وأبرك مَعينٍ أشرقت عليه الشمس وسامره القمر، أهديها غضَّةً طريَّةً كأنها حديثة عهد بربها، إنها كالمطر الزلال العذب الفرات الميمون، أهديها لك عساك تُمنح نعمة قراءتها بقلبك، جرب أن تقرأ ما بين يديك من آلاء الله بنور قلبك، من أجلك جرب أخي المكرَّم.

أهديكم تلكم الأطياف التي نَسبُها ربانيُّ بشهادة الخالق والخلق، ومن أعيان أفلاكها قبس من وحي طور موسى الكليم عليه السلام، وقَدَر جميل من غار محمد عليه أشرف الصلاة والسلام، أهديها إلى من ابتُلِيَ بضرورةِ معاملة البخلاء الذين يعيشون لأنفسهم عالةً على النَّاس يتلقَّفُونَ فُتَاتَ موائدهِم؛ خَشيَةَ أن ينَزَلِقَ مخالطُهم في مستنقعات ذُلِّهِم، ويتعرَّى من عِتْرَةِ أصحاب اليد العليا.

بَشَائرُ بين يَديك

إنه أَنْفَعُ للمرء أَنْ يُصَوِّبَ مقاصد تعامله مع الخَلْقِ, وأن يُحَسِّنَ مناهج تواصله معهم, وذلك عبر إدراك خصالهم السلبية: من أسقامٍ خُلُقِيَّةٍ معديةٍ، وهَناتٍ نفسية مُجْحِفَةٍ، وأدواءٍ فطريَّةٍ مُعْضِلَةٍ، وهو بتحرِّيهِ الشخصي واستكشافه الحصيف لعيوبهم اليسيرة والكبيرة على السواء يستطيع رسم خارطةٍ واضحةِ المعالم تَدُلُّهُ على أنجع السبل أثناء تواصله معهم بحيث ينفعهم فيما يطيق, ويحذر من شرورهم التي يعلم أو يجهل, وهو ما يحفظ عليه سعادته من جهة, ويديم له حسن تواصله معهم من جهة أخرى.

 وقد حَدَّثَ أبو إدريس الخَوْلَانِيُّ، أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله r عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دَخَنٌ», قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تَعْرِفُ منهم وتُنْكِر» قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها», قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: «هم من جِلْدَتِنَا، ويتكلَّمُونَ بأَلسِنَتِنَا» قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإِمَامَهُم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: « فاعتزل تلك الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»([1]).

إن شمعة العمر هي جسدٌ عليلٌ يحترقُ شوقًا إلى قبرٍ آمِنٍ, وإن الحياة ليست إلا بابًا من أبواب المحن الدَّافقةِ كأطياف الصبحِ إذا تَنَفَّس, وإن أحكم الخَلْقِ من أبصر وعورة الطريق, وتَعَرَّفَ أزقة المشوار المُلَغَّمَةِ وحدد بعناية أروقته الخانقة الضيقة, ثُمَّ إنه شَرَعَ على عجلٍ دونما إفراط مضني أو تفريض مبدد, بغية تطبيب الجراح النازفة, وترميم ما أفسد القلب الهائم والعقل المعاند, وذلك بعدما تحقق له على بصيرة أن خَالِقَهُ بالمرصاد, والنَّار دونما أدنى ترددٍ تتربَّصُ بالمكابرين الدوائر.

الحلّ اليتيم.. في التَّربية والتَّعليم

امتنَّ الله سبحانه علينا أن أنْبَتَنَا نباتًا حسنًا في كنفِ أسرةٍ مؤمنةٍ، تُحِسُّ بآلام النَّاس، وتَرِقُّ لسُهَادِ أَنِينِهِم، وتَسْكُبُ الدمع النَّديَّ لبَوْحِ مُصَابِهِم، ولقد كانت كلماتُ وَعْظِهِمْ المُكَرَّرَةِ تستوطنُ قَعْرَ آذاننا، وطالَمَا تذمَّرنا من إرشادهم لنا صغارًا، غير أننا اليوم ممتنُّون لصادقِ نصحهم كبارًا.

الوالد الكريم لم يكن يبرح يهمس في لحظات سكوننا إذا ما تناهى له أن أحدًا ما قد بذل لنا معروفًا، يا بُنَيَّ: لا ترمي أَحْمَالكَ على النَّاس.

والوالدة الحبيبة تحذرنا -صبَّحنا مسَّانا- من قُبْحِ شيمةِ عدم رد الجميل إلى الغير مؤكدةً علينا بحزمٍ، يا بُنَيَّ: خُبْزُ الرِّجال على الرِّجال دَيْنٌ، وعلى الأنذال صدقةٌ.

هكذا رُبِّيْنَا، نستمع للطيف نصحهم بآذاننا، ثُمَّ لا نلبثُ أن ننصتَ له بقلوبنا.

 نحن بفضل الله وحده ما هجرنا ما تربَّينا عليه قطُّ، وطالما أُبْنَا لسالف عهدنا إذا ما مسَّنا طائفٌ من الشيطان فانثنينا:

ويَكْبُرُ ناشئُ الفتيانِ فينا   على ما كانَ عَوَّدَهُ أَبُوْهُ

في المسجد العتيق الدافئ، ما زال شيخنا الحليم، يلقي علينا دروس السيرة النبوية الشريفة، وكأني اللحظة جالسٌ في مجلسه وهو يُسْهِبُ القول بِجِدٍّ دونما أدنى فتور، مؤكدًا أن هذه الشمائل من عظيم فيض النُبُوَّةِ هي للاقتداء والتطبيق، ولم تكن ولن تكون يومًا للإعجاب والتصفيق.

وما أطيب تلكم الأيام الخوالي ذواتِ العَدَدِ التي كنَّا فيها بعد أن نشهد قرآن الفجر، نتسوَّرُ حول وَجْدِ مجلس الذِّكر، ثُمَّ وحي حلقةِ الحِفظ، ثُمَّ نختمُ مع قطافٍ مباركٍ من عبقِ الصحيحين.

وقد كان شيخنا الفاضل سخيًّا معطاءً لا يعرفُ أيّ من أفنان البُخْل وضروبهِ طريقًا إلى قلبه وعقله وجيبه، فعزَّزَ كرمهُ العمليّ نُصْحهُ النظريّ لنا بأن نعيش باذلين لأطايب الموائد، لا أن نتسوَّلَ على فُتَاتِ الموائد، وهو ما عزَّزَ تربيةً أسريةً كانت تراقب – عن كسبٍ وعلى وَجَلٍ – مبادرات السَّخاء عندنا لتشجعها وتُثَمِّنَهَا،  وتستهجن – وأحيانًا بقسوةٍ مفرطةٍ – محاولات الشُّحِ فينا لتَقْمَعها، ولا أقول هنا لتهذِّبها وتشذِّبها على الرغم من أن ذلك أنفعُ تربويًا، وذلك أن الأسرة كانت في حالة حساسيةٍ مفرطةٍ دائمةٍ من خُلُقِ (البُخْل الشَنيع) كما كان يحلو لها أن تسمِّيه.

وقد تعلمنا ثُمَّ حَمَلنا إلى من بعدنا أن الصحابة الكرام قد فقهوا جيدًا من معلمهم الأكرم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر خلق الكرم في النَّفس والأهل والأقربين والأُمَّة جمعاء، فقد ضحوا بأرواحهم، وقدَّموا أبناءهم، وأنفقوا أموالهم، في سبيل أن تسقي غمامة الإسلام الخيِّرة، وِهَادَ الأرض المقفرة ونُجُودَهَا المُجْدِبَة، وذلك بعدما ترسَّخت كلمات الحبيب المصطفى في ثنايا عقولهم، وباتت ضيفةً حبيبةً على ضفاف قلوبهم، فما خانوا العهد، ولا ضيعوا الأمانة، فقد عرفوا – أسكنهم الله فسيح جنانه – ثُمَّ التزموا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنَّمَ في مِنْخَريِّ رجل مسلم، ولا يجتمع شُحٌّ وإيمانٌ في قَلْبِ رجل مسلم))([2])، وقوله فداه روحي وبَنِيَّ والوالدين: ((إن البَخِيل بعيدٌ من الله عز وجل بعيدٌ من النَّاس، بعيدٌ من الجنَّة، قريبٌ من النَّار، ولجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى الله عز وجل من عابدٍ بخيلٍ، وإن أدوى الدَّاء البُخْل))([3]).

أطيافٌ من أقمارِ إمامِ الأسخياء

إن مولانا وقائدنا إلى كلِّ خيرٍ رسول الله مُحَمَّدٌ الكريم كان أُسْوُةً حَسَنَةً يمضي بِنَا اتِّبَاعُ سيرته الرشيدة إلى تجنُّبِ مزالقِ أخطرِ الطرقات، وعثراتِ أعسرِ المنحدرات، وإلى الأمان من الفزع الأكبر يوم يحشر النَّاس جِثِيَّا، فهو قِبْلَةٌ لنيل شرف الدنيا، وحُجَّةٌ لبلوغ علياء الآخرة.

إن فلسفة الغنى والفقر، والعطاء والأخذ، والإنفاق والإمساك، عند رسول الله r متباينة جذريًا عن الرؤية القاصرة للغالبية من البشر؛ فالنُّبُوَّةُ تقرر باسم ممثلها في الأرض مولانا رسول الله r أن البذل في سبيل الله ادِّخار رابح، فمن يحوِّل لقمةً كانت وافدةً إلى فمه نحو فم أخيه هو امرؤ شبعان، ومن يِضِنُّ بها عليه فيبتلعها نَهِمًا هو خاسر وضعيف الإيمان، ويمكن تبيان هذا الفقه النَّبَوِيِّ لمتلازمة السَّخاءِ والشُّحِ من خلال الأحاديث الشريفة الآتية:

!- حدثت عائشة أم المؤمنين أنهم ذبحوا شاة، فقالت: يا رسول الله، ما بقي إلا كتفها؟ قال النَّبِيُّ r: ((كلها قد بقي إلا كتفها))([4])، يعني أنه إنما كان لهم ما تصدقوا به فحسب.

إذًا لقد بقيت كلها أي ما بذل عن نفس رضيَّةٍ، وذلك باستثناء كتفها الذي تَقَوَّتَتْ بنت الصِّدِّيق به لتستعين على طاعة الله، هذا يعني أنني في كل مرة أُعْطِي بها فأنا آخُذُ، وهذا تلاحمٌ وتزاوجٌ بل وانصهارٌ بين مفهوم العطاء والأخذ في المنظور النَّبَوِيِّ السديد، وهو فلسفةٌ مبتكرةٌ نادرًا جدًا أن تجد فكرًا بشريًا يؤصلها نظريًا، وسلوكًا إنسانيًّا يؤديها عمليًا.

!- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله r: ((ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره جائعٌ إلى جنبه وهو يعلم به))([5]).

إذًا الكرم هو حصن ينجي المسلم من الوقوع في براثن إيمان منقوص لا تستقيم معه عيشة، ولا يستجار من دونه بحبيب، وهو يملي علينا أن لا يملأ شخيرنا أزقة الحيِّ بسبب تُخْمَةِ مَعِدَتِنَا وسائر أروِقَتِهَا بالطعام اللذيذ والشراب السائغ، وجار لنا لا يطيق النوم من شدة قرع طبول الجوع إيذانًا ببدء معارك المغص والدوار وأشباههما.

والنُّبُوَّةُ تقرر باسم ممثلها الأول في الأرض مولانا رسول الله r أن الصدقة هي حَلٌّ ناجعٌ لكثير من مشكلاتنا، ووقاية مكفولة من العديد من مصائبنا، وإليك باقة من الوصفات النَّبَوِّيَّات النافعات:

*-  عن أبي أُمامة، قال: قال رسول الله r: ((حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء))([6]).

*- عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله r قال: ((إن صدقة السِّر تطفئ غضب الرَّب، وإن صنائع المعروف تَقِي مصارع السوء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر وتقي الفقر, وأكثروا من قول: لا حول ولا وقوة إلا بالله، فإنها كنزٌ من كنوز الجَنَّة، وإن فيها شفاءً من تسعةٍ وتسعين داءً، أدناها الهَمُّ))([7]).

*- عن الحارث الأشعري، أن رسول الله r قال: ((إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بِهِنَّ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بِهِنَّ… وآمركم بالصدقة، ومَثَلُ ذلك كَمَثَلِ رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقَرَّبُوهُ ليضربوا عنقه، فجعل يقول: هل لكم أن أفدي نفسي منكم؟ وجعل يعطي القليل والكثير حتى فدى نفسه))([8]).

*- عن الحسن، قال: قال رسول الله r يروي ذلك عن ربه عز وجل أنه يقول: ((يا ابن آدم، أَوْدِعْ من كنزك عندي: لا حَرَقٌ، ولا غَرَقٌ، ولا سَرَقٌ, أُوفِيكَهُ أحوج ما تكون إليه))([9]).

*- عن أبي هريرة، أن النَّبِيِّ r قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا مَلَكَانِ ينزلان، فيقول أحدهما اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللَّهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا))([10]).

وفي ظلال أقمار سخائه المبهر فِدَاهُ الرُّوح والوَلَدُ، وكريمُ المالِ والنَّسَبِ، وهو الذي كان تُرْجُمَانًا عمليًّا للوحيين، نترنَّمُ على أنغام شدوٍ وابتهالٍ – كأنه بَعْضُ أحاديث أهل الفردوس الأعلى – بأعراسٍ من عطائه لكريم المال، ومسارعته لبذل نفيس الروح عليه صلاة لا تخبو أنوارها وسلام لا يفتر تغريده:

+- فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كان النَّبِيُّ r أجود النَّاس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يَلْقَاهُ جبريل، وكان جبريل عليه السلام يَلْقَاهُ كل ليلة في رمضان، حتى يَنْسَلِخَ، يعرض عليه النَّبِيُّ r القرآن، فإذا لَقِيَهُ جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المُرْسَلَة)([11]).

+- وعن موسى بن أنس، عن أبيه، قال: (ما سئل رسول الله r  على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غَنَمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا!، فإن مُحَمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفَاقَةَ)([12]).

+- وعن عُمَر بن الخَطَّاب رضي الله عنه، أن رجلًا جاء إلى النَّبِيِّ r  فسأله أن يعطيه، فقال النَّبِيُّ r: ((ما عندي شيءٌ، ولكن ابْتَعْ عليَّ، فإذا جاءني شيءٌ قضيته))، فقال عُمَر: يا رسول الله، قد أعطيته، فما كلَّفك الله ما لا تقدر عليه، فَكَرِهَ النَّبِيُّ r  قول عُمَر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أَنْفِقْ؛ ولا تخف من ذي العرش إقلالًا، فتبسَّمَ رسول الله r، وعُرِفَ في وجهه البِشْرُ لقول الأنصاريِّ، ثُمَّ قال: ((بهذا أُمِرْتُ))([13]).

ويقول القاضي اليَحْصُبِيُّ في مدح كرم النَّبِيِّ r متعجِّبًا من غرائب ضروبه: «فانظر سيرة نَبِيِّنَا r وخلقه في المال، تجده قد أوتي خزائن الأرض، ومفاتيح البلاد، وأُحِلَّت له الغنائم، ولم تُحَلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ، وفتح عليه في حياته بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشَّام والعراق، وجلبت إليه من أخماسها، وجزيتها، وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلَّا بعضه، وهَادَتْهُ([14]) جماعةٌ من ملوك الأقاليم، فما استأثر بشيءٍ منه ولا أمسك منه درهمًا، بل صرفه مصارفه وأغنى به غيره، وقوَّى به المسلمين، وقال r: ((ما يسرُّني أنَّ لي أُحُدًا ذهبًا يبيت عندي منه دينارٌ، إلا دينارًا أرصده لِدَيْنٍ))، وأتته دنانيرُ مرَّةً فقسَّمها، وبقيت منها ستَّةٌ، فدفعها لبعض نسائه فلم يأخذه نومٌ حتَّى قام وقسَّمها، وقال: ((الآن استرحت))، ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله»([15]).

ثَقافَةٌ  يُنكِرُها الإسلام

إن أصحاب الأَرْغِفَةِ المُعَلَّقَةِ بالنُّجوم لا تطالها إلا أحلام المحتاجين من دون بطونهم الخاوية وأجسادهم العارية، هم متطرِّفون في اقتصادهم، ومخطئون في حرصهم، يعيشون – واأسفاه عليهم – في الدنيا عيشة الفقراء، ويحاسبون يوم القيامة حساب الأغنياء، فهم قد أسرفوا في شُحِّهِم، وفَرَّطوا في جَنْبِ ربِّهم وأُمَّتِهم وأهلهم، تساقطت من حولهم قلوب جميع من عرفهم في خريفٍ مُبَكِّرٍ من دنياهم قد أصاب فصول عُمُرِهِم المُقْفِر.

إن تلك الأرغفة الآيلة إلى بطون غيرهم لا محالة، من ذوي القربى أو ربما من عامة الناس، قد تكون لهم نجاة من لظى سوء ما أتوا به من مشين الذنوب، وحتى من حالق الكبائر، لكنهم قوم تكاد تحسبهم لقبح بخلهم من ذوات الأربع كأنهم لا يعقلون، وعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله r: ((تعبد عابد من بني إسرائيل، فعبد الله في صومعته، ستين عامًا، فأمطرت الأرض، فاخضرت، فأشرف الراهب من صومعته، فقال: لو نزلت فذكرت الله، لازددت خيرًا، فنزل ومعه رغيف أو رغيفان، فبينما هو في الأرض، لقيته امرأة، فلم يزل يكلمها وتكلمه، حتى غشيها، ثُمَّ أغمي عليه، فنزل الغدير يستحم، فجاءه سائل، فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين، أو الرغيف، ثُمَّ مات فوزنت عبادة ستين سَنَةٍ بتلك الزَّنْيَةِ، فرجحت الزَّنْيَةُ بحسناته، ثُمَّ وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته، فرجحت حسناته فغفر له))([16]).

إن المرء لا يكاد يفقه كيف يجتمع في المسلم إيمان وبخل، فالأول يفوح عطرًا، والثاني ينفث كيرًا، والإيمان يعزز ثقافة التضحية، والبخل تتآكل معه أطراف اليقين الهشَّة، لقد كان من المشركين العرب من هو على سخاء محمود، حيث لم يمنعه كفره بالله، وعبادته لوثن من تمر أو خشب أو حجر؛ عن إطعام الطعام، وإغاثة الملهوف، وحمل الكَلِّ، وسقاية الحجيج، وفك العاني، فكيف يتفق لمسلم يؤمن بأن الأرزاق مقدرات، وأن الطير تغدو خِمَاصًا وتعود بِطَانًا أن ينام على شُحِّهِ النَّتِنِ، تاركًا من ورائه رَحِمًا جائعًا، أو جارًا عاريًا، أو مستجيرًا غارمًا.

لقد كان أهل الجاهلية العمياء وهم العاكفون على تقديس أوثانٍ وضيعةٍ يُسَفِّهُونَ بعبادتها أنفسهم، يترفَّعون عن وجود جائعٍ أو عارٍ أو سقيمٍ ذي فاقةٍ فيما بينهم، فَيَهبُّونَ في مظهرٍ حميدٍ يتعاضدون في سبيل إغاثته، فكان ابن جدعان – على سبيل المثال – عنده صحافٌ تُعْرَضُ كل صباح للفقراء، وقد امتلأت بالبُرِّ والسمن والعسل، وفيهم يقول أُمَيَّةُ بن السَّلطِ مادحًا وقد حُقَّ لهم حُسْنُ الثناء([17]):

قَومي ثَقِيفُ إِن سَأَلتَ وَأُسرَتي
لا يَنكِتونَ الأَرضَ عِندَ سُؤالِهِم
بَل يَبسُطونَ وجوهَهَم فَتَرى لَها
قَومٌ إِذا نَزَلَ المُقِلُّ بِأَرضِهِم
وَإِذا دَعَوتَهُم لِكُلِّ مُلِمَّةٍ
  وَبِهم أُدافِعُ رُكنَ مَن عاداني
لِتَطلُبَ العِلَّاتِ بِالعيدانِ
عِندَ السُؤالِ كَأَحسَنِ الأَلوانِ
رَدّوه رَبَّ صَواهِلٍ وَقيانِ
سَدُّوا شُعاعَ الشَمسِ بِالفُرسانِ

إن حاسد البخلاء على ما كَنَزُوا من مالٍ أحمقُ لأنهم قد دفعوا مقابل طَمْرِهِ في أحضانهم أَنْفَسَ ما يملك الإنسان من محبَّة الله والخَلْقِ له.

فهم فقراء إلى مَلْبِسٍ ومَطْعَمٍ ومَسْكَنٍ كريم، وهم -في الوقت نفسه- فقراء قد مَسَّهُم ضَنْكٌ من وحدةٍ يفرضها عليهم كل من ابتلاه الله بوجوب مخالطتهم من زوجة وأبناء وغيرهم من المنكوبين بوجوب معاشرتهم فرج الله عنهم أجمعين.

إنهم باختصار جدًا سيوارَون الثَّرى عَرَايا، والمال السجينُ سَيُطْلَقُ سراحه وتُسْبَرُ الخَبَايا، ويُحَالُ إلى مستحقِّيهِ من البرايا.

هذا ما قاله لي جَدِّي.. لكن بيني وبينك

ما زال رَجْعُ صدى صوته قِبْلَةً لي لا أَضِلُّ إذا ما يَمَّمْتُ وجهي نحوها أبدًا…

حفيدي الحبيب:

اعْلَمْ أن المَعْرُوفَ في البَخِيل ضائعٌ، والمديحَ له مَجْلَبَةٌ للذَّمِّ، وتزكيَتَهُ أمام النَّاس بابٌ عريضٌ للابتلاء، وترقيتَه إفقارٌ للخَلْقِ، والبعدَ عنه غَنِيَمةٌ، ومعاملتهُ استثمارٌ خاسرٌ، وغِنَاهُ كَسْرٌ للخواطر وتعطيلٌ لرأسِ مالٍ ما أعوزَ الأُمَّةَ إليه، وصدقَتَهُ مَنٌّ وأَذَى.. واعلم بُنَيَّ أن المنفعةَ من البَخِيل مُقْتَضَبَةٌ بترويحٍ يصيبُ النَّفس عند ذكر عجائب هواجس شُحِّهِ، وغرائب مسوِّغات بُخْلِهِ.

نعم يا جَديَّ طيب الله ثراك… بالتَّجرِبَةِ وَحدَهَا تَعَلَّمتُ: أن البَخِيل فينا عالةٌ علينا، نلقاه في السرَّاء خِلًّا ماهرًا في اصطياد عيوب المغلولةِ أيديهم إلى أعناقهم، يَصْرِفُ بغيبتهم الشُّبهة عن نَفْسِه، وفي الضرَّاء تزداد شهيته على أكل لحوم المَبْسُوطَةِ أياديهم كلَّ البَسْطِ لينجو من خلال الطَعْنِ بهم من بذلِ بعض دراهمَ معدوداتٍ مُتَعَفِّنَاتٍ قد يضطر – لا سمح الله – أن يُخْرِجَهَا من جيوبه الصَّدِئة.

إن البُخْل عيبٌ مَشِيْنٌ، وأربابهُ ذوو عاهاتٍ مُسْتَديمةٍ، وإن مقابلة تَقْتيرهِمْ بِحَجْبِ سخائنا عنهم تَمَثُّلٌ وضيعٌ بهم، وإن اليد العُليا خيرٌ من اليد السفلى.

 

 

([1]) البخاري : كتاب المناقب, باب علامات النبوة في الإسلام, حديث: (‏3430‏).

([2]) أحمد: «المسند»، ومن مسند بني هاشم،  مسند أبي هريرة، حديث: (‏7312‏).

([3]) الخرائطي: «مساوئ الأخلاق»، باب ما جاء في ذم البخل، حديث: (‏360‏ ). وانظر؛  الترمذي: «الجامع الصحيح»، الذبائح، أبواب البر والصلة عن رسول الله r,  باب ما جاء في السخاء، حديث: (‏1933‏).

([4]) أحمد: «المسند»، مسند الأنصار، الملحق المستدرك من مسند الأنصار،  حديث السيدة عائشة، حديث: (‏23713).

([5]) الطبراني: «المعجم الكبير»، باب من اسمه الأشعث، ومما أسند أنس بن مالك، حديث: (‏750‏).

([6]) البيهقي: «شعب الإيمان»، فصل فيمن أتاه الله مالًا من غير مسألة، حديث: (‏3391‏).

([7]) الطبراني: «المعجم الأوسط»، باب الألف من اسمه أحمد، حديث: (‏951‏).

([8]) ابن خزيمة: «صحيح ابن خزيمة»، كتاب الصيام، جماع أبواب فضائل شهر رمضان وصيامه،  باب ذكر تمثيل الصائم في طيب ريحه بطيب ريح المسك، حديث: (‏1778‏).

([9]) البيهقي: «شعب الإيمان»، التحريض على صدقة التطوع، حديث: (‏3187‏).

([10]) البخاري: كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ) [الليل: ٥]، حديث:(‏1385‏).

([11]) البخاري: كتاب الصوم، باب أجود ما كان النَّبِيُّ r  يكون، حديث: (‏1812‏).

([12])  مسلم:  كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله r شيء قطُّ، حديث: (‏4376‏).

([13]) الترمذي: «الشمائل المحمدية»، باب ما جاء في خلق رسول الله ‘، حديث: (‏347‏).

([14]) هَادَتْهُ: بذلت له الهدايا تقرُّبًا.

([15]) عياض بن موسى اليَحْصُبِيُّ: «الشّفا بتعريف حقوق المصطفى»، (92).

([16])  ابن حبان: «صحيح ابن حبان»، كتاب البر والإحسان، باب ما جاء في الطاعات وثوابها،  ذكر الخبر الدال على أن الحسنة الواحدة قد يرجى بها للمرء، حديث: (‏379).‏

([17]) عائض القرني: «خلق المسلم»، ( 46).