مع الطنطاوي (في سبيل الإصلاح).. لنكون جميعًا مشاريع إصلاح
يناير 4, 2021
أعمال القلوب وأثرها في التشريع الإسلامي
يناير 4, 2021

منظومة القيم وتجلياتها في النظام الإسلامي السياسي

تحميل البحث كملف PDF

أ. د. حسن الخطاف – أستاذ المنطق والثقافة الإسلامية بجامعة قطر – كلية الشريعة والدراسات الإسلامية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإنَّ الحديث عن القيم في أيامنا هذه يكتسي أهميّة كبرى نظرا إلى التلاعب الحاصل بها ومحاولات تطويعها لتكون خادمة لمصالح البعض دون البعض، وخاصّة القيم السياسية؛ إذ كثيرا ما نرى الدساتير تتغيرَّ بتغيُّر الحاكم كما حصل في بلدنا بعد وفاة المجرم حافظ الأسد، ليصبح الدستور قميصا لابنه الذي شرّد الشعب السوري سيرا على نهج أبيه. والدساتير من أكثر ما يصنع القيم لتمُّيزها بالثبات عادة .

من هذا المنطلق يأتي هذا المقال مبينا مفهوم القيم وأنواعها كجانب نظري ليتمَّ تطبيقه على أبرز القيم في النظام الإسلامي السياسي.

ومن الواضح أنَّ اختيار النظام الإسلامي السياسي دون غيره؛ لأن السياسة وقيمها هي المؤثر الأكبر في بقية أنظمة الناس الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.

المبحث الأول: منظومة القيم

  • مدخل: مفهوم القيم والتفريق بينها وبين الأخلاق

تطلق ” القيم ” بالمعنى الفلسفي على كل ما هو معياري مطلق لا يرتبط بزمن أو منفعة، والقيم متنوعة بتنوع موضوعها، فهناك قيم عقلية كالوصول إلى الحقيقة والوضوح والموضوعية في الطرح والبُعد عن المنفعة الشخصية، وهناك قيم اقتصادية كالربح والانتفاع والاستغناء عن الآخرين، ومثل ذلك القيم السياسية كالمنافسة الشريفة في الوصول إلى الحكم، وكذا قيم العدل والاستشارة. وعلى هذا فالقيمة بالمعنى الفلسفي يُقصد بها هنا الأحكام المعيارية الموجِّهة للسلوك الجمعي نحو الخير الذي تراه هذه المجموعة، والذي يربطها نسيج اجتماعي مُحدّد، ومن هذا المنطلق تكتسب القيم ميزة كبرى.

من المنطلق السابق يمكن التمييز بين القيم والأخلاق، فالقيم هي تعبير معياري يبتعد عن السلوك الفردي الذي يوصف بالأخلاق، (والأخلاق جمع خُلق بسكون اللام أو ضمها، وهي طبيعة الشيء) ([1]) أو الهيئة الأصلية التي طُبع عليها الإنسان، يقول الزبيدي: (والخُلْق، بالضم، وبضمتين الخُلُق: السجية، وهو ما خلق عليه من الطبع)([2])، ويقول القرطبي عن الأخلاق: (إنها أوصاف الإنسان التي يعامِل بها غيره وهي محمودة أو مذمومة)([3]).

فالأخلاق تميل إلى الفرديّة أكثر؛ لأنها تعبير عن سلوك الإنسان وتصرفاته الاختيارية مما يُمدح عليه أو يُذم، فالتصرفات المبنية على الإباحة لا تدخل في منظومة الأخلاق، وإذا قلنا الأخلاق الاجتماعية فهي تماثل مفهوم القيم أو تقترب منه.

  • مصدر القيم

لكل أمةٍ أو مجتمعٍ مصدر تُستقَى منه القيم، فقد تكون قيما دينية أو بشرية، وما كان دينيا قد يكون صحيحا وقد يكون مُحرَّفا، وما كان بشريا قد يكون متوافقا مع الدين كقيمة إتقان العمل عند الكثير من المؤسسات الغربية بصرف النظر عن الدافع إلى ذلك، وهو متوافق مع ديننا، والفطرة الإنسانية النقية من أعظم مصادر القيم حتى لو كان الإنسان في مجتمعٍ جاهلي، وهذا ما يُفسِّر لنا الكثير من القيم الخيِّرة التي كانت سائدة في الجزيرة العربية قُبيل الإسلام، كقيمة الكرم والمحافظة على العِرْض ونُصْرة المظلوم مع ما رافق هذه القيم من الانحراف في بعض جوانبها. وقد تكون القيم مناقضة للدين كقيمة الحرية العقدية والشخصية الموجودة في التصور الغربي، إذ تتناقض مع الدين في الكثير من تفاصيلها.

بالنسبة للمسلمين فإن أصول القيم عندنا دينية ثابتة لا تتزحزح، لأن مصدرها القرآن الكريم وما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت به الأمة حتى صار بمثابة التوجُّه الجمعي، وتتميز هذه القيم بثباتها ومعياريتها.

  1. بيان أهمية منظومة القيم الإسلامية:

أ. أهمية القيم الإسلامية على مستوى الأفراد:

 تُعدُّ القيم الإسلامية بالنسبة للأفراد موجهة للسلوك وضابطة للأفكار، لأنَّ مصدرها هو الوحي وليس الفكر البشري المتأثر بالمنفعة، فحيثما حلَّ الإنسان وجدت قيم تجب مراعاتها، ذلك أن هذه القيم مرتبطة بمفهوم الإحسان الذي يشعر فيه المرء أنه يراقب الله تعالى وكأنه يراه، وأقلُّ ذلك أن يشعر الإنسان بمراقبة الله تعالى له، والشعور بمراقبة الله تعالى من أعظم الدوافع لإصلاح الفكر والسلوك، وبالتالي للسير على القيم.

وكم نحن بحاجة اليوم إلى تمثل هذه القيم التي لها أثر كبير على الأفراد في غربتنا التي دفعنا إليها الإجرام المتمثل بعصابة الحكم في سورية، فالمطلوب من السوري اليوم أكثر مما هو مطلوب منه سابقا، وخاصة في البلاد التي تتحكم فيها القيم الأرضية.

 التعبير عن قيمنا في الغُربة هو دعوة إلى ديننا، والدعوة إلى الدين ليست مقصورة على علمائه.

ب. أهمية القيم الإسلامية على مستوى  الجماعة :

القيم الإسلامية تُعبِّر عن روح الأمة وهويتها وتميِّز المجتمع الإسلامي عن غيره، فقيمة الإخاء والتضامن التي عرَفها المجتمع الإسلامي في العصر النبوي من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لا تجد لها مثيلا، وكذلك قيمة العلم التي نبغ فيها علماء المسلمين انطلاقا من كونها قيمة كبرى دعت إليها الشريعة وحضت عليها ورفعت من شأنها.

4.خصوصية منظومة القيم الإسلامية

خصوصية منظومة القيم الإسلامية تكمن في ثباتها وإنسانيتها؛ لأنها منسجمة مع الفطرة والانسجام نابع من مصدرها الذي هو الوحي،  ولذا فهي تتميز بالانضباط والوضوح والشمول، كما تتميز بنظرتها الإنسانية بعيدا عن المصالح الأنانية الفردية، فالعدل لا يتجزأ وهو فوق الجميع، والحرية لها ضوابطها بحيث لا تؤدي إلى إيذاء المجتمع، والقوة مطلوبة للأفراد وللمؤسسة العسكرية حماية للأمة، ومثل ذلك قيمة العلم والتضامن الاجتماعي في وجه الشَّر.

 

المبحث الثاني: تجليات منظومة القيم في النظام الإسلامي السياسي

هناك قيم كثيرة مرتبطة بالنظام الإسلامي السياسي، ومن أبرز هذه القيم قيمتا الشورى والعدل، وهما من القيم التي تضبط العلاقة بين الحاكم وبين الأمة، وبنزع هاتين القيمتين يصبح الحاكم بعيدا عن المساءلة ويتصرف وكأنَّه هو الأوحد وكأن ما يملكه يملكه منفردا به كما هو الحال في عائلة الأسد.

والذي ينبغي ألا يفوتنا أنَّ الله تعالى لم يذكر في منظومة النظام الإسلامي السياسي في القرآن الكريم غير هاتين القيمتين، ويتعين علينا ملاحظة هذا عند النّظر الفقهي المتعلق بواجبات الحاكم وخرمه لهذه الواجبات، فلولا أهمية هاتين القيمتين لما ذُكرتا في القرآن الكريم، ولَمَا جاء التأكيد عليهما من خلال تصرفات النبي عليه الصلاة والسلام، فهاتان القيمتان تمثلان أبرز المقاصد الشرعية المتعلقة بالحاكم .

أولا: قيمة الشورى

الشورى قيمة كبرى، وليس للحاكم الاستبداد بالرأي فهو وكيل عن الأمة في تنفيذ شرع الله تعالى، ولا يصدر عن رأي نفسه، ومن هنا يجب عليه مشاورة أهل الحل والعقد وأعيان الأمة في القضايا المصيرية، قال الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، ومن الملاحظ أنَّ الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم مع أنَّه رسولٌ مُسدَّد من قِبَل الوحي، وقال الله تعالى مبيِّنا وصف المسلمين الذين اتبعوا النبي: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38].

وقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم هذه القيمة في حياته، والنصوص في هذا كثيرة وهي معلومة، لكنَّ الذي يعنينا في هذه القيمة أمران:

الأول: ما لو كان الحاكم لا يشاور من هم أهل للمشورة بحسب مضمون المشورة .

الثاني: هل المشورة ملزمة للحاكم أم يبقى له الاختيار فيها.

ومن الملاحظ أنّ هاتين المسألتين تُبعدان الحاكم عن الاستئثار بالرأي، مع أنَّ الثانية أخفُّ من الأولى، والذي أراه في هذا أنَّ الحاكم الذي لا يستشير تُنزع منه صفة الحكم ولا يصلح أنْ يكون حاكما، ولا فرق في ذلك بين أنْ لا يستشير أصلا، وبين ما لو وَضع اختيارا منه – من غير كفاءة- مجموعة من الناس كواجهة للمشورة، والمقصود بالنزع هنا أنّه ليس مؤهلا للحكم هذا من حيث التأسيس النّظري، وبقاؤه على سُدّة الحكم نوع من المغالبة في الحكم، أي أنَّه فاقدٌ للمواصفات التي تؤهله للحكم، ولا يُعرف نزوعه نحو التفرد والبُعْد عن الاستشارة إلا من خلال الوقائع، فإذا انفرد بوقائع خطيرة متصلة بكيان الأمة، كالمصالحة مع عدوٍ لا يرى فيها أهل الاختصاص مصلحة للأمة، فإنَّه يُحكم على تصرفاته بالتفرد والاستئثار .

أما فيما يتصل بالمسألة الثانية فإنّ القيمة تكون شبه معدومة إنْ قلنا بأنها ليست ملزمة، وبعيدا عن الخلاف الفقهي في هذه المسألة فإنه ينبغي مقاصديا أنْ تكون الشورى ملزمة في القضايا التي تمسُّ الأمة وكيانها؛ لأنَّ عواقب التصرف المنفرد في مثل هذه القضايا قد تأتي على الأمة جميعها. وهذه المسألة تحتاج فقها إلى درْسٍ أكثر لتحديد ما يمكن أنْ يتصرف فيه الحاكم من شؤون الأمة وما لا يمكن أنْ يتصرف فيه، كما لا أرى فقها ما يمنع تحديد عدد الموافقين أو المخالفين من أصحاب الاختصاص وتُعطى صلاحية للحاكم في اتِّخاذ القرار في ضوء ذلك.

ثانيا: قيمة العدل في الحكم

الحُكم في الإسلام عبارة عن تكليف من جهتين: من جهة الحاكم فيتقدم من يرى في نفسه كفاءة، ومن جهة الأشخاص الذين يختارون الحاكم، فهم مكلفون في اختيار من يرونه مناسبا لحماية دينهم ودنياهم، وعليه فالحاكم مؤتمن على عقيدة  الأمة وأخلاقها واقتصادها ومكلف بالدفاع عنها، وهو يمثل الأمة ولا يُمثل الله تعالى، فإنْ خالف وانحرف عن الشريعة وقيمها التي هي المقياس لعدالته واستمراره وقع في الإثم، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة))([4]) .

العدل بين الرعية من أكبر القيم السياسية في الإسلام ومن أعظم الواجبات على الحاكم، فإقامة العدل سبب لبقاء الأمة والظلم سبب في خرابها، ونظرا لهذه الأهمية جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحاكم العادل ممن يظله الله تحت ظل عرشه يوم القيامة([5])، فإذا لم يقم الحاكم بذلك فقد غشَّ الرعية، يقول صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ))([6]).

وعدم العدل من الحاكم يستتبعه عدم العدل من الولاة الذين هم تحت إمرته، وكذا عدم العدل من القضاة وهذا يؤدي إلى خراب الأمة.

والذي ينبغي ألا يفوتنا أنّ القرآن الكريم نصَّ على هذه القيمة في مواطن كثيرة، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 49] وقوله سبحانه وتعالى { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] ، فهي جزء من وظائف النبي عليه الصلاة والسلام وجزء من وظائف الأنبياء {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]

ومما يتحتم التذكير به أنَّ الوجه المقابل لغياب العدالة هو الظلم،  والظلم بتعريف الإمام الغزالي: (هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه)([7]).

وإذا وقع الظلم وقع الخراب والدمار وهو السبب الرئيس في سقوط الحضارات، ولعله السبب الأبرز في إهلاك الأمم السابقة:

{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13]، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: 45]، { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52].

يقول فخر الدين الرازي (ت: 606): (عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر، بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم، ويقال في الأثر المُلك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم. وهذا تأويل أهل السنة لهذه الآية، قالوا: والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لِـما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق)([8]).

وليس بالضرورة أنْ يكون العذاب استئصالا كما حدث لقوم عاد وثمود … فقد: (يجيء صاعقة أو غرقا أو فيضانا أو ريحا أو خسفا أو قحطا أو مجاعة وارتفاعا في الأسعار أو أمراضا وأوجاعا أو ظلما وجورا أو فتنا واختلافا بين الناس… أو ضَعفًا في القلوب ووهنا في النفوس كما هو حالة الأمة الإسلامية)([9]).

فإذا كانت قيمة العدالة بهذه المنزلة فهي كلية من كليات النظام السياسي التي لا ينبغي أنْ تُخترق بأي حالٍ من الأحوال، وأكثر ما تُخترق من جهة القرابة وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك عندما سرقت المرأة المخزومية وأرسلوا له شفيعا ليكلِّم النبي في شأنها، وهو أسامة بن زيد فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حد من حدود الله)) ثم قام خطيبا في الناس وقال: ((يا أيها الناس، إنما ضل من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، سرقت لقطع محمد يدها))([10]).

معاذ الله أنْ تسرق فاطمة رضي الله عنها لكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أنْ يعبِّر عن أهمية هذه القيمة، ويؤكد على أنَّ اختراقها سبب في تدمير المجتمعات.

وإذا كانت هذه القيمة بهذا الشكل فيتعين إعادة النّظر في فهم الموقف من السلطان الجائر وطبيعة الحكم الذي يقوم به، وعدم المبالغة في الخوف من الفتنة حتى صار الكثير من فقهاء السلطان يجعلون التعبير عن الرأي نوعا من الخروج على السلطان، وهو فقه أبعد ما يكون عن مقاصد الشرع وروحه، بل صار الأمر أن تجد من يروج للسلطان مهما ظلم وجار ليدافع عن سلوكه، ويرى عدم إظهار خطئه حتى لو كان يمارس الزنا ويشرب الخمر، وقد رأينا بعضا من هؤلاء كيف تربّوا على موائد خليفة حفتر ليدافعوا عنه([11]).

ولا ينبغي أنْ ننظر إلى قضية عدم العدل على أنّها مسألة جزئية فليست القضية هي الجور بحقِّ واحد من الرعية – مع خطورتها-  وإنما هي قضية أوسع من ذلك لاتصالها المباشر بالتوزيع العادل وتنصيب أصحاب الكفاءة والمحافظة على قيم المجتمع وإبعاد الفجَّار والفسقة والأخذ على أيديهم وعدم تسليم الدولة لأعداء الأمة، فهذا كله جزء من عدم القيام بالعدل.

وإذا كان الأمر كذلك تكون قيمة العدالة قيمة كلية لا تقبل النسخ ولا التخصيص أو التقييد وما جاء من أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام تنهى عن الخروج عن الحاكم الظالم ينبغي أن تُفهَم في ضوء الكلية السابقة، فمن فقد شرط العدالة ليست له ولاية صحيحة بل هي ولاية اضطرار وهي أقرب ما تكون إلى حالة من يضطر لأكل الميتة، يقول حجة الإسلام الغزالي عند حديثه عن الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الحاكم: (فإن قيل فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن الاختيار ولكن الضرورات تبيح المحظورات)([12]).

               وفرق كبير بين أنْ تكون ولاية الحاكم بمثابة ولاية من لا يجد إلا لحم الميتة، وبين أنْ يصبح لحم الميتة -الذي أبيح استثناء- هو الأصل ويغدو ذا طعم طيب ولذيذ في الأفواه.

الخاتمة

ظهر لنا مما سبق أنَّ القيم هي الموجِّه الأكبر للمجتمعات ومن هذا المنطلق تكتسي أهمية واحتراما، وأبرز هذه القيم في منظومتنا الإسلامية السياسية قيمتا الشورى والعدل، فينبغي المحافظة عليهما وعدم هدرهما، فهما لا تقبلان نسخا ولا تخصيصا ولا تقييدا.

 

([1]) انظر: الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي، المحكم والمحيط الأعظم، المحقق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2000 م، ج4، ص 536.

([2]) محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق، تاج العروس من جواهر القاموس، مجموعة من المحققين، دار الهداية، مادة:خلق، ج25،ص257.

([3]) نقل هذا القول ابن حجر في الفتح ، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ترقيم  محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة – بيروت، 1379، ج10،ص456.

([4]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار ، رقم: 229، مجموعة من المحققين، الناشر: دار الجيل – بيروت

([5]) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ” سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق في المسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، قال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه ” صحيح البخاري ، كتاب الحدود، باب فضل من ترك الفواحش، رقم: 6806

([6]) رواه البخاري [باب من استرعى رعية فلم ينصح] رقم (7151).

([7])  الغزالي، قواعد العقائد، تحقيق: موسى محمد علي، الناشر: عالم الكتب – لبنان، الطبعة: الثانية، 1405هـ – 1985م، ص204.

([8]) فخر الدين الرازي، تفسير الرازي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 هـ، ج18، ص 410.

([9]) محمد هيشور، سنن القرآن الكريم في قيام الحضارات وسقوطها، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1996، ص 225-226،

([10]) صحيح مسلم، كتاب الحدود، كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان رقم،: 6788 .

([11]) انظر في مدح الخليفة حفتر السلفيين،

([12]) الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، وضع حواشيه: عبد الله محمد الخليلي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 2004 م،ص130.