دور الإعلام في نشر المفاهيم الخاطئة.. نتفليكس نموذجًا
يناير 4, 2021
منظومة القيم وتجلياتها في النظام الإسلامي السياسي
يناير 4, 2021

مع الطنطاوي (في سبيل الإصلاح).. لنكون جميعًا مشاريع إصلاح

تحميل البحث كملف PDF

د. ياسين عبد الله جمّول – دكتوراه في اللغة العربية، مدير تنفيذي في منظمة غصن زيتون للتعليم والثقافة

مقدمة

حينما تموج الحياةُ بالفساد والفتن، وتزكمُ الأنوفَ روائحُ الدماء، وتعطّل الحواسَّ مشاهدُ الدمار والتشرّد يعجز كثيرون تحت هذا الركام من الآلام عن النهوض، كبارًا كانوا أو صغارًا. ويزيد الأمرُ صعوبة إن كانت الأحداث متداخلة في مفاصل التاريخ؛ فحينها تزلّ أقدامٌ ويَتِيهُ أعلامٌ ذوو أحلام؛ وقد يبصّر الله بالحقّ مَن يكون أصغرَ منهم لفضلِ صلاحٍ عنده ومزيدِ توفيقٍ وتسديدٍ له من الله.

ولعل هذا ما ينطبق على رسائل الإصلاح التي بدأها “علي الطنطاوي” قبل أن يُتمّ العشرين من عمره. ومعرفة سياق رسائل الإصلاح التاريخي مهمّ لفهمها على وجهها من جهة، ولمعرفة قربها منا اليوم وأهميتها لنا؛ فأهل الشام الذين أخذتهم فرحة نصر تمثيلي للخروج من عباءة الحكم العثماني لم يلبث فجر دولتهم بالاقتراب حتى أفاقوا في اليوم التالي على احتلالٍ فرنسيٍّ، فلم يصبروا قليلًا حتى انتفضوا ثائرين عليه إلى أن طردوه بعد زمن طويل عن أرض الشام.

ولكنّ عقودًا من الزمن تحت سلطة الاحتلال لا يمكن اختصارها في سطرَين، فقد هزَّت بلاد الشام فاضطربت وارتجّت أطرافها كلها؛ لأن الاحتلالَ حصل معه اختلالٌ في الفكر والسياسة وحياة الناس، إذ التفتَ كثيرون نحو فرنسا يرونها حاملةَ حضارةٍ ونموذجَ نجاحٍ، فتعقلوا بسراب التحضُّر تحت عباءة الانتداب، وآخرون عادوا لسلاحهم –وكان قريبًا منهم – فثاروا يُقارعون المحتلّ ومَن مشَوا في ركابه.

ومع انشغال “النُّخَب” بقتال المحتلّ أو اللَّهث وراءَه تطحنُ الناسَ أدواءٌ وأدواء، ليمضي خيِّرون في علاج ما يظهر لهم من أعراضٍ على الأبدان، ويدقّق الـمُصلِحون لينهضوا بعلاج ما يخفى تحت ذلك في العقول والأذهان؛ ولا يدرك ذلك إلا الموفَّق المسدَّد من المصلِحين.

سبيل الإصلاح في الحياة الاجتماعية:

إن مَن يَعِشْ مع الناس فيرى ويسمع يدركْ خطورة ما يَسرِي فيهم من الأمراض، فتكون الحياة الاجتماعية ميدانَهُ للإصلاح؛ لأنها القاعدة العريضة التي ينهض عليها المجتمع، وكلُّ إصلاح فوقَها لم يُؤسَّس على صلاح فيها يختلّ؛ لذا شغلت الحياة الاجتماعية الحيّز الأكبر في رسائل الإصلاح عند الطنطاوي.

فدفعَ بمِبضَع الجرَّاح لديه في قضايا: الأخلاق الاجتماعية، ومشاكل الأزواج، وغلاء المهور، وارتياد المقاهي، والنفاق وضياع الأمانة، وآداب الضيافة والتزاوُر، والتبذير في الهدايا والأفراح، والاختلاط وتشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، والتبرّج وأثر التغريب في نشر السفور، وضرورة مواجهة الباطل كيلا يُغلب الحق لجبن أهل الحق عن المواجهة وميلهم إلى العزلة.

يقول الطنطاوي: (وتوارَى أنصار الفضيلة من وجه هذه العاصفة الفاجرة الهوجاء، وهم جمهرة أهل الشام وعلماؤهم وأفاضلهم وعقلاؤهم، وحسِب أولئك أن الظفر تمّ لهم، وأن أهل الدِّين قد انكسروا، فكشفوا القناع وانطلقوا يسرحون وحدهم في الساحة ويمرحون… وكانت النتيجة أن انحطم السدّ، فطغَى سيل الرذيلة وعمّ، وامتدّ في هاتَين السنتَين أضعاف ما امتد أيام الفرنسيين الذين هم أفسق الناس)([1])[1946م].

وقال في العادات الاجتماعية السيئة وما يكون فيها من هدر وتبذير: (وُلد لي مولود، فأُهدي إلى أمّه أكثر من عشرين علبة (شكلاطة) من هذه العُلب التي جدّت في دمشق وصارت (موضة) الوقت، عادت حطبًا انتهى إلى المدفأة؛ فاحترقت 400 ليرة كان يمكن أن يُشترى بها من خبز البلدية عشرون ألف رغيف! ومن الثياب النسائية المستعملة (التي توزعها وزارة التموين) 400 ثوب! ويمكن أن يتزوج بها من الفقراء أربعة رجال! ففكروا كم ننفق من الأموال في أشياء لا يأتي منها خَير، وما في تركها ضَير؛ ونحن نشكو الفقر والمرض والجهل! فإلى متى نضيع أموالًا نحن اليومَ أحوج إليها من كل يوم مضى؛ لأننا في عهد تجديد وبنيان، ولأننا في أول طريق الاستقلال؟!)([2]).

ويقول عن الأخلاق في المجتمع: (نحن اليوم في مطلع نهضة، ولكل نهضة جسم وروح؛ فأما الجسم فهذه السياسة وما يتصل بها، وأما الروح فهي الأخلاق والعقائد والمـُثُل العليا؛ فإذا لم تعتنِ به الحكومات والجمعيات والمدارس؛ كانت نهضتنا جسمًا بلا روح: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت)([3]).

سبيل الإصلاح في التربية والتعليم:

ولا يخفّف من أمراض المجتمع شيء كما تفعل التربية والتعليم، لذا جاءت تاليةً في النصيب من إصلاح الطنطاوي؛ فتناول أركان العملية التعليمية (الطالب والمعلم والمنهاج والمدرسة)، وما أرشدَ إليه نجدنا اليوم بأمسّ الحاجة إليه؛ لأنه تكلّم على فساد الحياة التعليمية وخطورة المناهج الموضوعة، وعلى ضرورة تطوير التعليم، وأهمية الأدب، وأكّد ضرورةَ تحرير المسائل وتدوينها، وأهميةَ عدم التمييز بين الناس في الخدمات التعليمية، وأهمية نشر التعليم في القرى المحرومة، مع محاربة الدعوات للعامية.

يقول الطنطاوي عن بعض الفساد في الحياة التعليمية: (ليس في العربية صعوبة، ولا في كتابتها وعلومها تعسير؛ هذه ضلالة يجب أن ينتهي حديثها، وألا نعود إلى إضاعة الوقت وإفساد النشء في الكلام فيها. ويجب أن نحببها إلى الطلاب، ونرغّبهم في مطالعة كتبها؛ حتى يألفوها، ويسهل عليهم فهمها. فالحكاية ليست حكاية كتابة تُسهَّل، ولا قواعد تُيسَّر، ولا أغراض خبيثة تُحقق من وراء هذه السُّتُر اللمّاعة؛ ولكنها مشكلة المعلم أولًا، والتلميذ ثانيًا؛ فهاتوا المعلم القوي في علوم اللغة صاحب الاطلاع فيها، وهذا المعلم لا يُوزن بالشهادات. وأما التلميذ فيجب أن نحبّب إليه المطالعة، ونعرّفه قيمة العلم ونُذيقه لذّته)([4]).

ويقول عن وجوب النفرة إلى القرى والمناطق المحرومة للتعليم فيها: (أيبقى هؤلاء الناس جاهلين يعيشون بمعزل عن الحياة، يترفع الشاب المتعلم عن الجلوس إليهم ومصافحتهم، وإذا بعثوه ليكون معلمًا لهم أو موظفًا فيهم أقام الأرض وأقعدها ولم يدع وسيلة للتخلص من هذا (النفي) إلا توسل بها! إن الشاب النافع هو الذي يخدم ويعمل ويدع أثرًا صالحًا، وأما صاحب الجعجعة فلا ينفع أحدًا… إن ميدان القرية أحوج الميادين إلى همم الشباب ومعرفتهم ونشاطهم)([5]).

سبيل الإصلاح في الدعوة والإرشاد:

ولأنه ليس تعليمًا مجردًا، بل تعضده وتنهض به التربية حضرت في رسائل الإصلاح مع الدعوة والإرشاد؛ فأول ذلك بيان ضرورة التأصيل، لأن الإصلاح إن لم يكن مبنيًا على الأصول الصحيحة جاء إفسادًا؛ وكم من تحرير انقلب إلى تدمير! وصاحَ بالدعاة للتقرب من الشباب والنصح لهم، وهمسَ في آذانهم بحبّ وصدق وكان في مثل سنّهم ويعرف حالهم من نفسه؛ وهذا أبلغ ما يكون من الخطاب، فلا يأتي الصوت من بعيد أو غريب، فيُرمى المنادِي بالبُعد عن الواقع وجهل تفاصيله وما يناسبه.

يقول الطنطاوي: (إن هذا العلم دين؛ فعلينا أن ننظر عمن نأخذ ديننا، وألا نأخذ العلم إلا عن رجل نثق بدينه كما نثق بعلمه، ونطمئن إلى إيمانه كما نطمئن إلى منطقه، فإن لم يكن إلا العلم والمنطق لم ينفعاه عند الله شيئًا)([6]).

ويقول: (إنَّ ما وصلْنا إليه فيه الخبيث والطيب؛ فكيف نميز الخبيث من الطيب؟ وإن ذلك كله يتغير ويتبدل؟ الجوابُ واضحٌ بيّنٌ لمن أعمل فيه فكره وكان فكره مجردًا عن الهوى، فالمقياس هو شرع الله... إن سبيلَ الإصلاح بيّنٌ ظاهرٌ إن شئنا سلوكَه؛ فَلْيتفقِ الدعاة إليه على منهج واحد، نرتب فيه المقاصد التي ندعو إليها، نقدّم الأهمّ على المهمّ، لا ندعُ الأصول ونتنازعُ في الفروع. إنَّ الدعاة منا كُثُر، والمسلمون حاضرون ليستجيبوا لهؤلاء الدعاة؛ فإن لبثوا على خلافهم وتنازعهم وتضارُب مناهجهم كان عليهم إثمُ أنفسهم، وإثمُ هذه الأمة التي تمشي وراءهم وتقتدي بهم)([7]).

ويقول للشباب([8]): (إن الله الذي وضع الشهوة في النفوس جعل دواءها الزواج، فإذا تعذّر الزواج فهناك طرق للوقاية من الفاحشة: هناك الدِّين، والشرف، والصحة والرياضة. وأنتم يا إخوتي – وأنا شابّ مثلكم – أنصح لكم أن تصرفوا ميولكم نحو جهة عُلوية؛ وإن الشاب إذا دأبَ على المطالعة والبحث، ورغبَ في التفوق أو استغرقَ في تجارة أو صناعة لا يجد في نفسه بقية للشهوة؛ فإنما تستعبد الشهوة فارغ الرأس واليد والوقت: إن الشباب والفراغ والجِدَة .. مفسدة للمرء أي مفسدَة!).

سبيل الإصلاح في الاقتصاد والمجتمع:

وتأكيدًا لعيشه وسط الناس وإحساسه بأوجاعهم وجدنا مساحة من صيحات الإصلاح تعالج جوانب الاقتصاد والمجتمع، مما لا يخرج كذلك عن واقعنا الذي نعيشه اليوم؛ إذ فضح الطنطاوي تجّار الحروب الذي يغتنون على حساب آلام الناس وجوعهم، وشدّد النكير على مَن يأكلون أجور العمّال وتعبهم وطالبَهم برفع الأجور وتحسين ظروف العمل، وانتقد التوظيف الخاطئ وما يكون فيه من هدرٍ لطاقات مميزة وإساءةٍ للوظائف وللمجتمع، مع عيبه الإسراف والتبذير والسفه وقلة التدبير.

يقول الطنطاوي في بعض الواجب على أهل العلم والفضل في الحرب: (وإنّ من أوجب ما يجب علينا في هذه الحرب أن نُنشئ جمعياتٍ موثوقًا برجالها بأمانتهم ودينهم، تكون في كل حيّ كالوسيط بين الغني المحسن والفقير المحتاج. إن من أهم ما ينبغي لهذه الجمعيات أن تصنعه هو أن تختار للإحسان أسلوبًا يهون به العطاء على المعطي). ويحكي تجربته في مشروع خيريّ شارك فيه: “مشروع الرغيف: حين كنتُ قاضيًا في القلمون فرضْنَا على أهل كل بيت من القادرين رغيفًا واحدًا في اليوم، ووكلنا مَن يجمعه، ووزعنا ما جمعناه على المحتاجين، وتركنا مَن هم بين ذلك فلم نأخذ منهم ولم نعطهم، وهذا الرغيف الذي لا يصعب إعطاؤه على أحد ولا تشعر به الأسرة أحيا الله به أهل القلمون؛ وهم أكثر من سبعين ألفًا في سنة القحط والضيق. وما ذكرتُ ذلك لأفخر به، ولا لأنه الأسلوب البديع الذي لا نظير له؛ بل لأمثّل به على ما أريد، والعبرة بالأعمال لا بالأقوال)([9]).

ويقول في تجّار الحروب؛ وهم هم في كل زمان وفي كل حرب([10]): (وما هذا القصر لملك ولا أمير، ولكنه لتاجرٍ من هؤلاء التجّار الذي يحيَون في أيام الحروب التي يموت فيها الناس، ويغنَون حين يفتقرون؛ فنحن نرجو الرُّخْص وهم يتمنَّون الغلاء، ونحبّ أن تنتهي الحرب وهم يحبّون أن تدوم. على أنني لا أعمّم القول؛ وإن في الموسِرين لمحسِنين، وفي التجّار لمنصِفين).

سبيل الإصلاح في الفكر والسياسة:

ومع انهماك الطنطاوي في الإصلاح الاجتماعي والتربوي لم يكن ليهمل السياسة والفكر؛ فإنما هي حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض في حياة الناس وما يسري فيها من أمراض، فعرضَ للإصلاح فيهما بمقالات في بيان الفارق بين الدعوات القومية والدعوة الإسلامية، وحقيقة دعوى النهضة النسائية ومساواة الرجل بالمرأة، وفضح أنواع الاحتلال وأن الاحتلال الاقتصادي أشد وأخطر من الاحتلال العسكري.

قال الطنطاوي([11]): (اعلموا أن الاستقلال الحقيقي لا يكون إلا عندما يلتفت (المصريّ)([12]) فلا يرى حوله شركة أجنبية، ولا مدرسة أجنبية، ولا متجرًا لأجنبي، ولا عقارًا يملكه أجنبي، وتكون كل خيرات (مصر) لأبناء (مصر)؛ هذا هو الاستقلال؛ فعلى كل (مصريّ) أن يعمل له ما يستطيع. هذا احتلال شرّ من احتلال الجيوش، والخلاص منه أصعب وأشقّ؛ لأنه لا يكون بالرصاص والبارود، ولا يكون بالمظاهرات والثورات، بل يكون بإعلان النفير العام: في الكتّاب أولًا وتجنيد القوى الأدبية كلها للعمل على إعلاء همّة الشعب، وأن نردّ عليه عزّته وكبرياءه. ثم نعمل على أن ندفعه إلى اقتحام المخاطر، ثم نعلّمه بغض الأجنبي حتى يكون له دينًا، ثم لنُفهم هذا الشعب أن الأوربي يضحك علينا).

ومن أهم ما عالجه الطنطاوي في رسائله الإصلاحية على الصعيد الفكري والسياسي “القومية والإسلامية” في رسالتَين طويلتَين، وكان مما قال: “الخلاصة أن العربية والإسلامية كدائرتَين: صغيرة وكبيرة، إحداهما وسط الأخرى إلا هلالًا دقيقًا، هو موضع الاختلاف بينهما، أي: أن بينهما باصطلاح أهل المنطق عمومًا وخصوصًا عامًا إلا من وجه واحد، هو مسألة المليونين من العرب غير المسلمين، والخمسمئة مليون من المسلمين غير العرب([13])؛ أيهما أحق بأن نتولاه؟).

وفي نقاشه دعاة القومية يقول: (إننا نحبّ العرب لأنهم قوم محمّد صلى الله عليه وسلم، واللسان العربي لأنه لسان القرآن… ولكنّا لا ندعو إلى عصبية، ولا نعدل بأخوّة الإسلام أخوّة. ونحن لا ننكر إخواننا في الوطن واللسان من النصارى؛ ولكنّا نسألهم ألّا يطلبوا منا وهم مليونان أن نقطع لأجلهم إخوّتنا بخمسمئة مليون مسلم غير عربي يحبّوننا ونحبّهم، ويشاركوننا عقائدنا وعبادتنا).

منهج الطنطاوي في سبيل الإصلاح([14]):

ولعل ما يكشف سرّ القَبول الذي كان لرسائل الطنطاوي في سبيل الإصلاح منهجه فيها؛ فقد كان في مقالاته الإصلاحية كلها ينطلق من قصة واقعية يعرض فيها لمشكلة يعيشها الناس، ولا يقف عند النقد والتجريح والهدم؛ بل يطرح رؤيته الإصلاحية لمعالجة المشكلة، مع نثره رسائل إصلاحية من حولها، وعرضه صورَ نجاحٍ فيها من الشرق والغرب تؤكد قابلية رؤيته للحياة والتطبيق.

وإنما جاءت وفق هذا المنهج عن وعي وقصد؛ ففي رسالة له عن المشاكل الزوجية يشرح منهجه فيما يكتب، وكأنه يحكي منهجه في كتابه كله، يقول: “لقد كُتب فيها وكُتب.. فلم يُغنِ المكتوب شيئًا؛ ذلك أن المشكلة تحتاج إلى حلّ عملي يقوم به الآباء، لا إلى نظريات وفلسفات يُدلي بها الكتّاب والأدباء، من أجل ذلك نحوت في هذا البحث نحو العمل: فلم أتعمّق ولم أتفلسف! ومن أجل ذلك ضربت من الواقع أمثلة، وأخذت من الحياة شواهد وصورًا)([15]).

وهذا منهج أصيل في الإصلاح ينطلق في معالجته من حياة الناس بواقعية دون تعقيد، ولا يهبط عليه بنظريات وفلسفات بعيدة عنهم.

الإصلاح في الشام بين الأمس واليوم:

ما مضى من قراءة “في سبيل الإصلاح” إنما كان الهدفُ منها نصبَ علاماتٍ في طريق الإصلاح الذي تنتظره منّا ساحة الشام اليوم؛ فقد صاحَ بهذه الدعوات الإصلاحية أعلامٌ دفعوا من حرياتهم ودمائهم أغلى الأثمان، والتدقيق فيما عُرض يقرّب المسافات بين أمس واليوم في بلدنا.

فالجبهات السياسية والعسكرية والإنسانية تستهلك أكثر الموارد البشرية والمادية حتى اليوم في ثورتنا، على نحوٍ قريبٍ مما كان أيام نادَى الطنطاوي بالإصلاح؛ فليكن أولُ ما يسأل المـُصلحون أنفسهم: كم تأخذ حياة الناس الاجتماعية من أوقاتهم واهتماماتهم؟ هل يمضي الأعلام جميعًا وراء مشاكل السياسة والعسكر تاركين الناس يغرقون في مشاكل اجتماعية لو صُرفت نحوها كتائب من الباحثين والـمُرشدين اليومَ ما أدركت الظواهر الغريبة التي سرت في ظلام الموت والدمار بين السوريين؛ لا يختلف في ذلك مَن هم في الداخل عمن هم في دول اللجوء والشتات. أم أنّ أصحاب الفضيلة ينسحبون مجددًا أمام العاصفة الهوجاء من الفتن والمشاكل، ليعود سيل الباطل العرمرم يكتسح حياتنا ويخرّب مجتمعنا؟!

قد يخلو مجتمعنا من عادات سيئة كالتي ضربها الطنطاوي أمثالًا، لكنه ينضح بعادات لا تقلّ سوءًا وخطرًا عن تلك، أفرزتها سنوات الحرب؛ فالحرب في مسيرة الأمم مرض، والمرض كلما طال زادت آثاره الجانبية وأخطاره، ولن يسعد بسريان المرض في المجتمع السوري إلا أعداؤه، حتى صاروا يشبّهون الشام بالرجل المريض يلزمه مَن يأخذ بيده!([16]).

فإن أردنا لثورتنا أن تنهض بروحٍ وجسدٍ كما عبّر الطنطاوي فنحن بحاجة لمراجعة دقيقة لأخلاقنا الاجتماعية، وإصلاح ما دخلها من الخلل والفساد.

ولعل من التوافق الحسن في الأهمية أن جاء ملف التعليم ثانيًا فيما شغل من رسائل الإصلاح، والحال اليوم كمثل ما كان أو هو أشد خطورة؛ فالمنظمات الدولية منذ سنوات تتحدث عن أكثر من مليونَي طفل سوري محروم من التعليم، وأن نسبة التعليم بين الأطفال السوريين في دول الجوار تتفاوت بين 25% حتى 60% في أحسن الأحوال([17])، ما يعني حرمان مئات الآلاف من الأطفال في كل بلد منها من التعليم، فضلًا عن مئات الآلاف في الداخل السوري حُرموا لسنوات كذلك من الخدمات التعليمية.

فالإصلاح في قطاع التعليم من أعظم الواجبات اليوم على السوريين كي تحقق ثورة الكرامة أهدافها؛ فكل الفاعلين على الأرض السورية اليوم يتنافسون في السيطرة على التعليم، لأنهم يدركون أنه بالتعليم تُصنع الهوية ويُعاد تشكيل الوعي([18]).

فمئات المخيمات اليوم تنتثر في الشمال دون مدارس أو مراكز تعليمية، وآلاف من الأطفال يعجزون عن ثمن القرطاسية وتكاليف الانتقال إلى المدارس، مع اختلافٍ في المرجعيات والمناهج والإدارة التعليمية بين المعنيّين في قطاع التعليم؛ ما يوجب الإنذار الأحمر لتأكيد حيادية التعليم عن المنازعات السياسية والفكرية، وتأكيد سياديته كذلك فلا يُسمح لأحد بالعبث فيه؛ لأنه عبثٌ في مستقبل البلد عبر الإخلال في تربية حمَلَة أركانه من الطلاب.

وقد سرَى بين السوريين من الدعاة والـمُصلحين اليومَ ما حذّر منه الطنطاوي منذ عقود من الاختلاف والتنازع في الفروع وترك الأصول الجامعة، فانصرف الناس عن الدعوة، بل جمحَ فريقٌ فانصرف كذلك عن الدِّين، وخرجت دعوات إلحاد وانحراف لا تعرفها الشام وأهلها؛ ولعل هذا ينبّه الـمُصلحين على خطورة رأس مال الثورة والبلد، وهم الشباب، الذي خاطبَهم الطنطاوي همسًا في آذانهم وغمسًا في أرواحهم لشدة قربه منهم، فهلّا تساءلنا عن مدى قربنا من الشباب وانشغالنا بمشاريع تنفعهم قبل العجب لانحرافهم وانصرافهم إلى دعوات الباطل!

وبمثل ذلك القرب نقترب من الناس في معاشهم وأوجاعهم؛ فلن يسمع الناس صوتًا يأتي من بعيد، ولا بد للإصلاح حتى ينفع ويحقق هدفه أن يُلامس أوجاع الناس وآلامهم، ليرتقي بهم ويمسح على جراحهم؛ فأكثر أهلنا في ضيق وحاجة مع الأمراض السارية الشديدة، فلا ينشغل المـُصلحون بأدواء الفكر والتعليم والاجتماع عن جوع الناس ومرضهم؛ ولا يغرقون معهم فيها كذلك فلا يرون الأدواء الأخرى، إذ قد تكون أخطر عليهم في دينهم وديناهم من الجوع والمرض.

فالحديث عن فساد في الجمعيات والمؤسسات والأفراد العاملين لن ينفع دون استنهاض الهمم للإصلاح، فإن كان ثمة فساد ففي الناس خير كثير وصلاح، وإن كانت حاجةٌ ففي السوريين مُوسِرون وأغنياء؛ لكن على الـمُصلحين حُسن الوصول إليهم ليحملوا الضعفاء والمحتاجين، كما أن عليهم التوجيه والسعي لجمع الكلمة بين العاملين في القطاع الإنساني لتنسيق الجهود وتسديدها.

والدعوة الإصلاحية للنزول إلى الميدان والعيش مع الناس لإصلاح ما فسد في شتى جوانب حياتنا لا يعني بحالٍ أن ينزل كل الرُّماة عن الجبل، فلا بد من دوام المرابطة على ثغور الفكر والثقافة؛ فليست الحرب الناعمة اليومَ على السوريين بأخفّ خطرًا وأقل ضررًا من الحرب الساخنة التي حصدت ملايين منا، فلا بد من تنشيط مراكز الفكر والبحث؛ فأمامها قضايا كثيرة للعمل بها، مما يمدّ جبهات الإصلاح الأخرى كلها بالـمُؤَن من أبحاثٍ ودراساتٍ جادّة توجّه البوصلة نحو برّ الأمان الذي يبحث عنه السوريون؛ ففي الاجتماع والتعليم والدعوة والاقتصاد والفكر كثيرٌ مما يلزم دراسته وتحليله والخروج بتوصيات تبيّن الصواب فيه؛ فهو عبء لا يقل أهمية في الإصلاح عن غيره، وكثيرون ممن أُخذوا وانحرفوا إنما كان ذلك من انحراف مصادر التلقي والبحث عندهم، وقضايا عظيمة في ثورتنا ما زال التوثيق فيها دون مستوى التضحيات؛ فلا بد من استنفار جهود الباحثين والكتّاب للتدوين والكتابة على امتداد الجبهات.

وقد بدأ الطنطاوي كتابه في سبيل الإصلاح برسالة عنوانها “أين الأقلام”، وكان مما قال: (نحن اليومَ في معركةٍ مع الاستعمار؛ فهل رأيتَ جيشًا في معركة يَدَعُ مَدافعه فلا يُطلقها؟! وإنَّ مِن أمضى أسلحتنا لَهذه الأقلامُ؛ فما لِهذه الأقلامِ نائمة؟! وما لبعضها لا يزال يلهو ويلعب؟!)([19])

خاتمة:

لم يكتب الطنطاوي رحمه الله في سبيل الإصلاح ليظهر مُصلحًا مبرزًا؛ بل صرخ في الناس منذ نحو مئة عام، وامتدت صيحته مع الأجيال لينهض المصلحون، فهي صيحة ليكون كل واحد منا مُصلِحًا ساعيًا في سبيل الإصلاح، فقال في مقدمة كتابه: (إننا إن لم نجد في عصرنا من المصلِحين كالذين كانوا في الصدر الأول؛ فلا أقلّ من أن نتشبَّه بهم ونسلك سبيلهم، فنصيح بالناس بقَدْر ما في حناجرنا من قوة؛ ندعوهم إلى الإصلاح وندلّهم على طريقه، وإذا جاءت أصواتنا خافتة فضاعت في جلَبة المجتمع فلم تُسمع؛ فإنّ حسبَنا أنْ فعلْنَا ما استطعْنَا)([20])، وحينما دفعه للطباعة بعد نحو ستين سنة من إصداره أول مرة قال: (حاولت وأنا أكتب وأؤلف وأخطب وأحاضر من ستين سنة أن أجعل حظًّا من عملي هذا في سبيل الله، ثم في سبيل الإصلاح)([21]).

فوظيفة الإصلاح لا تقاعُدَ فيها ولا انفصالَ عنها، وهذا ما يوافق رسالة ديننا الحنيف؛ فالإصلاح لم يكن يومًا عندنا في المساجد وحدَها، وليس هو وظيفةَ علماء الدِّين والدعاة وحدَهم؛ فالفسادُ عمّ واشتدّ، وصار الإصلاحُ واجبَ الوقت، ولا يسع صاحبَ رسالةٍ التخلفُ عنه والتعذّرُ عن القيام به، ولا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها؛ فَلْنسلكْ طريق الإصلاح، ولا يهمّنا أن نُدرك صلاح الأمة؛ بل همُّنا ألا نموتَ إلا على جادّة الإصلاح.

([1])  كتاب في سبيل الإصلاح، علي الطنطاوي، دار المنارة، جدة، ط6 2006: ص132.

([2])  في سبيل الإصلاح: ص39.

([3])  في سبيل الإصلاح: ص169.

([4])  في سبيل الإصلاح: ص50.

([5])  في سبيل الإصلاح: ص94.

([6])  في سبيل الإصلاح: ص36.

([7])  في سبيل الإصلاح: مقدمة الطبعة الثانية ص14و17.

([8])  في سبيل الإصلاح: ص155.

([9])  في سبيل الإصلاح: ص80.

([10])  في سبيل الإصلاح: ص75.

([11])  في سبيل الإصلاح: ص70و72.

([12])  جاء كلام الطنطاوي رحمه الله في رسالة عن حادثة وقعت في مصر تمثّل الاحتلال الاقتصادي فيها؛ والكلام عام يصحّ في كل البلاد.

([13])  الأعداد التي يذكرها الطنطاوي كانت وقت كتابته رسائله في الإصلاح، ورسالته المنقول عنها كلامه هذا مؤرخة في الكتاب بسنة 1946م.

([14])  هذه كلمات موجزة في منهج الطنطاوي الإصلاحي الأصيل كما ظهر في كتابه “في سبيل الإصلاح”؛ على أن دراسة تفصيلية في منهجه تصلح أن تُفرد برسالة أكاديمية أو ورقة بحثية.

([15])  في سبيل الإصلاح: ص253.

([16])  جاء في مذكرات الجنرال الإيراني المقتول في حلب حسين همداني على لسان مرشد الثورة الإيرانية “خامنئي” وهو يأمر سليماني بالعودة إلى سورية: “سورية بلد مريض، ولكنه لا يعرف أنه مريض، وهذا المرض يجب شرحه وتفهيمه للساسة ورجال الدولة في سورية، وإذا رفض هذا المريض الذهاب إلى الطبيب فيجب أن تأخذوه، وهو لن يخبر الطبيب بمرضه، وإذا رفض أخذ الذي وصفه الطبيب عليكم أن تجرّعوه الدواء بأنفسكم، وتراقبوه لتتأكدوا أنه يأخذ الدواء حتى يشفى”. رسائل الأسماك، ما تقوله مذكرات الجنرال همداني: الوصاية الإيرانية على سورية، فاطمة الصمادي، مجلة سياسات عربية، العدد22، أيلول 2016.

([17])  يُنظر: تعليم الأطفال اللاجئين السوريين: إدارة الأزمة في تركيا ولبنان والأردن، مؤسسة RAND، 2015.

([18])  يُنظر مثلًا: التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا (2) الأدوات التعليمية والاجتماعية، مركز الحوار السوري، حزيران/ 2020.

([19])  في سبيل الإصلاح: ص23.

([20])  في سبيل الإصلاح: ص21.

([21])  في سبيل الإصلاح: ص14.