أعمال القلوب وأثرها في التشريع الإسلامي
يناير 4, 2021
مقاربات – العدد التاسع كاملاً PDF
يناير 4, 2021

تاريخنا والنقد

تحميل البحث كملف PDF

د. عبد العزيز محمد الخلف

يبدو أن الرغبة في فهم الماضي هي حاجة بشرية مشتركة، فقد ظهرت حكاية التاريخ على نحو منفصل في الحضارات المختلفة في جميع أنحاء العالم.

والتاريخ هو جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، فردًا أو مجتمعًا، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية. والتاريخ أيضًا علم يبحث في الوقائع والحوادث الماضية. وحقيقته كما قال ابن خلدون: (خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال)([1]).

والتاريخ علم مهم لحياة البشرية، ولكن لا تتم الاستفادة منه على أكمل وجه إلا بعد امتلاك معارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحقّ، وينكّبان به عن المزلّات والمغالط؛ لأنّ الأخبار -كما يقول ابن خلدون- (إذا اعتمد فيها على مجرّد النّقل ولم تحكَّم أصول العادة وقواعد السّياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ ولا قيس الغائب منها بالشّاهد والحاضر بالذّاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادّة الصّدق)([2]).

ولكن مما ينبغي الانتباه إليه أن لكل أمة في التاريخ ظروفها وأحوالها، فلا يصلح -والحالة هذه- أن نحاكم تاريخ الأمس بمنظار اليوم، بل لا بد من نقده مع استحضار ظروفه وأحواله كافة.

وقد أولع بعض الناس بنقد التاريخ والنيل من رموزه وانتقاص أحداثه بسبب قياسهم الماضي بالحاضر، وهو خطأ منهجي بيِّن، لذلك لا بد عند دراسة التاريخ ومقارنة تاريخ بآخر من استحضار عدة أمور منها:

١. شكل الدولة: فالدول القديمة كانت بمعظمها دولًا شموليةً فردية، وحين مقارنة دولة بدولة لا بد من أن تكون الدولتان في عصرٍ واحدٍ حتى تصح المقارنة، أما مقارنة دولة قديمة بأخرى معاصرة فهذا ظلم وإجحاف في المقارنة، وقد كانت الدولة الإسلامية في سائر العصور القديمة متقدمة على كل الدول التي كانت في الفترة ذاتها، فالقضاء مستقل، والحاكم عرضة للنقد والمساءلة أمام أهل الحل والعقد، والتعليم متطور والدولة لا تتدخل فيه، فإذا قارنته بالدول التي كانت قائمة وقتها وجدتَ نتيجة المقارنة لصالح تاريخنا. أما مقارنة شكل دولة ما في عصر قديم بشكل الدولة المعاصرة فهو ظلم وبعد عن الصواب في المقارنة.

٢. التفريق بين الراعي والرعية: قد يكون بعض الحكام ظلمة أو فساقًا، وقد لا يتمتعون بسيرة مرضية، وهذا لا يدل على فساد الدولة بأكملها، بل كان عموم الشعب على غير سيرة الحاكم، ملتزمًا بأحكام الإسلام، سائرًا وفق أحكام الشريعة المطهَّرة، فلا يصح وصف حقبة تاريخية بوصف ما لأن حاكم تلك الحقبة كان فاسدًا، فلا بد -حين الحديث عن تاريخ دولة ما- من تبيان الحالة المجتمعية وعدم إغفالها. والعجيب أن أكثر من يكتبون عن التاريخ يغفلون الحالة المجتمعية ويركزون على الحالة السياسية، مع أن دراسة أحوال المجتمع والناس قد تكون أكثر أهمية من دراسة الحالة السياسية، لاتساع الشريحة المجتمعية بخلاف الشريحة السياسية.

٣. سلطات الحاكم: كان الحاكم في كثير من دول العالم يتمتع بسلطات مطلقة، ولكن الدولة لم تكن في وقتها من التطور بحيث تتوغل في كل مفاصل الحياة، بل تُرِكَت كثير من القضايا للناس يُمضون فيها رأيهم ما لم يكن الحاكم فيها طرفًا، وفي الدول الإسلامية لم يكن السلطان يملك التصرف في كل شيء، بل كان التعليم مستقلًا والقضاء مستقلًا، وإنفاق الدولة على الخدمات ما كان بصورته اليوم، ولم تكن مؤسسة الجيش كما هي عليه اليوم، وبالتالي فإن كثيرا من جوانب القصور التي تنسب للراعي لم تكن ضمن سلطاته أصلًا، وما تغولت الدولة في شؤون القضاء والتعليم إلا في العصور المتأخرة وفي الدولة الحديثة بشكل خاص.

٤. مصدر المعلومات التاريخية: فكثير من المعلومات التي يوردها كبار كتاب التاريخ الإسلامي هي محل نظر، حيث يوردونها دون تحقيق أو تمحيص أو تمييز بين الغث والسمين، ولو قرأت في تاريخ الطبري وهو يروي عن أبي مخنف الشيعي الرافضي الكذاب لوجدت العجب العجاب من كثرة الغث الذي يورده، فإن لم تكن على دراية بحال أبي مخنف فإنك ستحتار بما تسمع، هل تصدِّق ما تقرأ أو تكذِّب؟، وما هو ميزانك في ذلك؟. ولعله يشفع للطبري وغيره أنهم يوردون الروايات بأسانيدها، ويُتبِعون الرواية الباطلة بأخرى سليمة، وبذلك تعتدل كفتا الميزان، ولكن القارئ قد يركن إلى بعض الروايات ويعجَل قبل أن يصل إلى الروايات الأخرى. فلا بد من نقد الروايات قبل استعمالها في المقارنة.

ولذلك فإن الدارسات التاريخية المقارنة تستلزم معرفة واسعة واطلاعًا كبيرًا وأدوات نقدية متنوعة، وإلا وقع الناقد المُقارِن في الخطأ ومجانبة الصواب من حيث يظن نفسه يحسن صنعًا.

([1]) عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص (46).

([2]) مقدمة ابن خلدون، (13).