تحميل البحث كملف PDF
الشيخ عبد العظيم عرنوس
أسماء الله الحسنى ينبوع متدفق ثرٌّ لا ينضب معينه ولا تغيض بركاته، والعلم بأسماء الله وصفاته أشرف العلوم على الإطلاق، وشرف العلوم بشرف المعلوم، ولا يوفَّق للعلم بها وإدراك أسرارها إلا من أنار الله بصيرته وأضاء قلبه ورفرفت روحه وهي تجوب وتحلق لقطف الجنى المثمر لتعيد صياغة النفس وصقل الروح، وبناء الأمة وفق المعاني الكبيرة الرائقة لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، والمتأمل يرى آثار قدرة الله في تصريف شؤون الكون كله بمن فيه وما فيه، والله بقدرته وعلمه أحكم بناء السموات ووازن بين حركة الأجرام السماوية والكواكب والنجوم، قال محمد إقبال:
(من جذاب تتوالى الأنجم ** كوكب من كوكب مستحكم)
وقال العالم الألماني بول ميلر: (إن السماء أشبه بمدينة ذات طرق سريعة تتدفق خلالها المجرات والنجوم).
والله بقدرته التي لا حدود لها أمسك السموات والأرض، قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 41] فهو سبحانه الفعال الحقيقي في الكون والوجود.
ومن قدرته جل وعلا الجمع بين المتناقضات وهذا من أسرار القدرة التي لا يعلم أحد كيف تعمل، قال الأديب الشاعر وليد الأعظمي
جَمعُ النقيضين من أسرار قدرته ** هذا السحاب به ماءٌ به نار
ملح الطعام مثال يصيح بالغافين عن حقيقة قدرة الله، فالملح يتكون من الكلور وهو من المواد الكيماوية الخطرة والمهمة أيضاً، ويعتبر من المواد شديدة السمية، والصوديوم عنصر خطر شرِهٌ للماء ويشتعل بمجرد ملامسته الماء، ويبلغ من شدة اشتعال الصوديوم أنك لا تستطيع أن تمسكه بيدك فقد يحرقها بسبب الرطوبة الموجودة فيها، لكن هناك رابطة تربط بين هذين العنصرين وهي عبارة عن رابطة شاردية تتمثل بانتقال ألكترون واحد من الصوديوم إلى الكلور فيتشكل مركب كلور الصوديوم، مركب لا غنى لأي إنسان في الكون عنه ألا وهو ملح الطعام.
فهل سألنا أنفسنا أي قدرة استطاعت أن تجمع بين هذين الشرَّين وتؤلف بينهما: الكلور والصوديوم ليكونا ملحاً لا يستساغ الطعام بدونه، بل لا يمكن أن يعيش الإنسان بدونه.
والماء العذب والأجاج متجاوران، فلا يطغى أحدهما على الآخر، قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ [الفرقان: 53] فأي قدرة تستطيع إقامة هذا الحاجز سوى قدرة الله الطليقة.
قال العز بن عبد السلام: (معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العليا هي أفضل الأعمال شرفا وثمرا)[1]، روى البخاري مسلم واللفظ له عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ)). وَفِي رِوَايَةِ: ((مَنْ أَحْصَاهَا)).
والله عز وجل عرفنا بأسمائه الحسنى لغرض نفيس قلَّ من يلتفت إلى بريقه ألا وهو التخلق بها واستجلاب معانيها لتكون حركة الإنسان في حياته فردا ومجتمعا وأمة على أنوارها وهديها فيعم الصلاح والإصلاح، ويتأهل الإنسان للقاء الملك يوم القيامة وقد تحقق وتخلق بأسمائه الشريفة، قال أحمد زروق الفاسي: (كل الأسماء يصح التخلق بمعانيها؛ إلا الاسم (الله) فانه للتعلق فقط)[2].
والأمر العاجب أن الله كرَّم الإنسان أيما تكريم ووهبه من المواهب والصفات ما لا يدخل تحت حصر، كما يعبر محمد الأسدي: (الإنسان نسخة الوجود؛ لأن فيه الطبائع والعناصر والمعدن والنبات والحيوان والإنسان والشيطان والملك)[3]. وأعلى هذه المواهب والتكريم أن الله خلق آدم على صورته، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)). قال ابن حجر: وقال حرب الكرماني في كتاب السنة: (سمعت إسحاق بن راهويه يقول: صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن. وقال إسحاق الكوسج: سمعت أحمد يقول: هو حديث صحيح[4].
وقال ابن بطال: (وذهب طائفة إلى أن الهاء كناية عن الله تعالى وهذا أضعف الوجوه، لأن حكم الهاء أن ترجع إلى أقرب المذكور، إلا أن تدل دلالة على خلاف ذلك، وعلى هذا التأويل يكون معنى الصورة معنى الصفة كما يقال: عرفنى صورة هذا الأمر أي صفته ولا صورة للأمر على الحقيقة إلا على معنى الصفة، ويكون تقدير التأويل أن الله خلق آدم على صفته أي خلقه حيًا عالمًا سمعيًا بصيرًا متكلمًا مختارًا مريدًا، فعرفنا بذلك إسباغ نعمه عليه وتشريفه بهذه الخصال)[5].
وقال ابن تيمية: (لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله، فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك، وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين من الكتب)[6].
قال ابن باز: والمعنى عند أهل العلم أن الله خلق آدم سميعا بصيرا ، متكلما إذا شاء… وليس المعنى التشبيه والتمثيل، بل الصورة التي لله غير الصورة التي للمخلوق، وإنما المعنى أنه سميع بصير متكلم إذا شاء ومتى شاء ، وهكذا خلق الله آدم سميعا بصيرا… لكن ليس السمع كالسمع وليس البصر كالبصر ، وليس المتكلم كالمتكلم ، بل لله صفاته جل وعلا التي تليق بجلاله وعظمته، وللعبد صفاته التي تليق به، صفات يعتريها الفناء والنقص، وصفات الله سبحانه كاملة لا يعتريها نقص ولا زوال ولا فناء، ولهذا قال عز وجل : ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] ، وقال سبحانه: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4]، فلا يجوز ضرب الوجه ولا تقبيح الوجه)[7].
فيظهر جليا من هذه النقول أن بني آدم اختصهم الله تعالى بمزيد فضل وكبير تكريم، بأن وهبهم جل جلاله من صفاته، مع التنويه بأن صفات الخالق غير صفات المخلوقين، فصفات الله ذاتية ثابتة لا يماثلها شيء ولا يطرأ عليها تغيير، وصفات المخلوقين موهوبة طارئة متغيرة يمكن سلبها في أي وقت.
وبنو آدم بما وهبهم الله من صفاته شأنهم في الدنيا خطير، ودورهم في الاستخلاف كبير، وعندما يدركون هذا ويتحققون بمعاني أسماء الله وصفاته فإن الله يمنحهم سلامة الحركة في الحياة، وريادة الأمم، وطيب العيش يوم يلقونه، ويحظون بجواره في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
غير أن آثار أسماء الله وصفاته في حياة المسلمين والتحقق والتخلق بها أضحت باهتة وشبه غائبة، الأمر الذي أدى إلى ضعف الأمة الإسلامية وعطل تقدمها، خصوصا عندما اشتغل العقل المسلم بغير ما هو مؤهل له وبما لا يدخل في اختصاصه، واستنزفت طاقات العقول المسلمة قرونا طويلة وما زالت وهي تخوض في خلافيات جزئيات علم الكلام حتى أصبح من أعقد العلوم وأشقها على طلاب العلم، وانقسمت الأمة بين الذين غفلوا عن مقصد علم الكلام، إلى سلف وخلف ومعطلة ومجسمة، وضاع فقه الأولويات في هذا الخضم الهائل والسيل الجارف والكم الكبير من جزئيات الكلام، وما لهذا عرفنا الله بأسمائه وصفاته، والعقل وظيفته الاشتغال والتفكير في المادة، وأما ما وراء المادة فليس له إلى ذلك من سبيل، فالله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وغاية وجودنا التعبد بأسماء الله وصفاته وتحقيق معانيها في واقعنا لعمارة الأرض. قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].
قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: (فأما معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله؛ فلا تحصل من علم الكلام، بل يكاد أن يكون الكلام حجاباً عليه ومانعاً عنه، وإنما الوصول إليه بالمجاهدة التي جعلها الله سبحانه مقدمة للهداية)[8].
ونتج عن كل هذا عقيدة باردة لا تكاد تحرك المشاعر والوجدان، أو تؤثر في نهضة الأمة، يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب: (وخطأ أي خطأ – بالقياس إلى الإسلام- أن تتبلور العقيدة في صورة (نظرية) مجردة للدراسة الذهنية – المعرفية الثقافية – بل خطر أي خطر كذلك. لو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشرة عاما أو أكثر أو أقل حتى يستوعبوا النظرية الإسلامية. ولكن الله -سبحانه- كان يريد أمراً آخر، كان يريد منهجاً معيناً متفرداً، كان يريد بناء جماعة وبناء حركة وبناء عقيدة في وقت واحد. كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة، كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الحركي الفعلي، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو الصورة المجسمة للعقيدة)[9].
ويقول رحمه الله: (والقرآن الكريم لا يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية – كالذي جدّ فيما بعد بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية – إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر؛ إن اللّه هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن. وجعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل. وقدر اختلاف الليل والنهار ..هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس، وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرها تدبر الواعي المدرك. إن اللّه الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون ربا يدين له البشر بالعبودية ولا يشركون به شيئا من خلقه. أليست قضية منطقية حية واقعية لا تحتاج إلى كد ذهن، ولا إلى بحث وراء الأقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة، ولا تدفئ القلب مرة ولا تستجيش الوجدان؟!)[10].
والمطلوب إذن رد الأمر إلى نصابه لتستقيم النفس على العقيدة الصحيحة، وتسير الحياة على الجادة القاصدة، فلا تحيد أو تميل ذات اليمين وذات الشمال.
إن الناظر في القرآن الكريم حينما يمر على أسماء الله وصفاته ويتفكر في معانيها ومراميها وأسرار ورودها في سياق الآيات ليدرك أن الله يريد من وراء ذلك أن يصبغ الإنسان حياته وفق إيحاءات الأسماء الحسنى، ولا يجنح إلى اجتزاء المعاني بل يحيط بها إحاطة شاملة.
ولقد غلب على الخطاب الإسلامي في الأغلب الترهيب والتخويف والتعنيف، وغفل عن الترغيب التشويق والتحبيب، قال النووي : (وَقَدْ تَتَبَّعْت الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْوَارِدَةَ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَجَمَعْتُهَا فِي كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ ، فَوَجَدْت أَحَادِيثَ الرَّجَاءِ أَضْعَافَ الْخَوْفِ مَعَ ظُهُورِ الرَّجَاءِ فِيهَا)[11].
خذ مثلا اسم الله البصير لا نكاد نجد من يكتب ويتحدث عن ذلك إلا بالترهيب والتخويف بأن الله يبصر أعمال الإنسان السيئة ويحصي عليه أنفاسه الرديئة، ومن ثم فالعقوبة الأليمة تنتظره يوم القيامة إن لم يتب -وهذا حق لا ريب فيه- لكن لا نجد -في الغالب من يتكلم أو يكتب بأن الله يبصر الأعمال الصالحة ويفرح بعبده حين يراه على هذه الحال الحسنة.
وكذلك عندما نخاطب الناس بأن الله سميع يسمع ما يصدر عن العبد من أقوال مخالفة فاحشة فيجب الحذر والخوف من الله -وهذا حق لا ريب فيه- غير أن التوازن في الخطاب يوجب ذكر الجانب الآخر لاسم الله السميع فالكلم الطيب يسمعه ويرفعه، ويسمع تلاوة عبده لكتابه، ويسمع قول الحق لإصلاح عوج المفسدين، فيثمر مثل هذا الخطاب النهوض في الطاعات، ليرَ الله عبده في أحسن أحواله عاملا للصالحات آمرا بالمعروف قائما يتلو آيات الله متقلبا في الساجدين -خاصة في الأسحار- يناجي ربه ويدعوه ويستغيث به، فيفرح لأن الله يراه على الحالة التي يحبها الله، ويحدوه علم الله ورؤيته لذلك للمزيد من القيام والسجود، قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الشعراء: 217-220]، وكما قال الله تعالى عن داود عليه السلام: ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سبأ: 11]، فتمتلأ نفسه بالسعادة والسرور، ويتحفز للمزيد من العمل مع إحسانه غاية الإحسان وإتقانه، فيلقى الجزاء على ذلك في الدنيا والآخرة.
قال القشيري في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16] : في هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وسكون وأنس قلب لقوم)[12]. فما ظنننا بمن هو أقرب إلينا من أنفسنا!!!
والأمثلة على ذلك كثيرة، والقرآن مليء بهذه الكنوز النفيسة، والتأمل في كتاب الله مع التدبر يمنحنا كثيرا من الطاقات المشجعة، أما ذكر الجانب الأحادي -أعني التخويف والترهيب- فقد يكون له أثر سلبي ويثبط عن العمل ويوقع في اليأس والقنوط، والقرآن الكريم ذكر الترغيب مصاحبا للترهيب، ليقع التوازن في الخطاب القرآني للنفس البشرية، وخطابه بالترغيب أكثر من الترهيب لأن النفس البشرية بفطرتها وطبعها تميل للترغيب وتحب التبشير، وهذا هو هديه صلى الله عليه وسلم، روى مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: ((يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا))[13]، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا))[14].
أثر الأسماء الحسنى في الحياة
القوة الحقيقة الفاعلة في الوجود هي قوة الله تعالى، وكل قوة في الوجود منحة من الله، وعندما يتشبع المؤمنون بهذا الحقيقة ويأخذون بالأسباب المعنوية والمادية، ويستمدون من اسم الله القوي القوة والمدد والمعونة والنصر فإنه لا يستطيع أن يكيدهم أحد، فالمؤمن في أقلِّ أحواله يعادل اثنين من الكفار وقوته تفوق قوة الأعداء، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 65-66].
واسم الله القدير يحدونا -وقد وهبنا الله القدرة- أن نكون قادرين على استجلاب النصر بتحقيق شروط الاستخلاف، قادرين على الأمر بالمعروف وتغيير المنكر، قال رسول الله ﷺ: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))[15].
وكلما ازداد الإيمان واليقين كلما كنا أقدر على تغيير المنكرات، قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: (إذا كنت منكرا على نفسك قدرت على الإنكار على غيرك)[16].
على قدر قوة إيمانك تزيل المنكرات، وعلى قدر ضعفه تقعد في بيتك وتتخارس عن إزالتها. فأقدام الإيمان هي التي تثبت عند لقاء شياطين الإنس والجن.
ولنأخذ مثلا اسم الله المحيي المميت، فقد وهب الله الإنسان القدرة على أن يحيي قلبه بنور الإيمان والمعرفة، ويميت نوازع الشر في نفسه ويحيي فيها نوازع الخير، وأن يبني حياته كلها على إحياء الحق وإماتة الباطل، فيبذل ما يستطيع من نفسه ووقته وماله وجهده في سبيل إحياء العقيدة والشريعة في نفوس الناس، وإماتة الشرك والباطل والشر بكل سبيل متاح، وأن يحيي في القلوب الأمل ويميت اليأس والقنوط، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن لله عبادا يميتون الباطل بهجره، ويحيون الحق بذكره)[17]، وما دام الإنسان حيا فإنه يبقى على العهد مع ربه، قال تعالى: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: 31].
وهكذا اسم الله الوتر -كما مر معنا في الحديث- وقد خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر -أعني اسم الوتر- من بين الأسماء الحسنى لمعاني عظيمة لم أجد من تعرض لها من المتقدمين، فالله وتر يحب الوتر، ولعل من جملة المراد أن الله يحب من عبده أن يكون وترا في بعض الأحايين يخلو بنفسه يتفكر في عظمة الله وآياته في الأنفس والآفاق فيزداد إيمانا وتفيض عيناه من خشية الله، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، والنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كان يخلو في غار حراء، ومن هنا جاءت سنة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، ولعل من ثمار الخلوة أن الشخص عندما يكون وترا يتخلص من ضجيج الحياة ومشاغلها وأعبائها فيفكر في عيوب نفسه فيصلحها، ويتفكر في معضلات الأمة ومشاكلها وكيفية الخروج من هذه المآزق.
قال ابن حجر عن معنى الوتر: وقيل: (هو منصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية والتفرد على سبيل الإخلاص… قال القرطبي: ويظهر لي وجه آخر وهو أن الوتر يراد به التوحيد، فيكون المعنى أن الله في ذاته وكماله وأفعاله واحد ويحب التوحيد، أي أن يوحد ويعتقد انفراده بالألوهية دون خلقه)[18].
وأما اسم الله الحكم، فلا نرتضي أحكام الجاهلية، ونسعى لإحلال أحكام الإسلام مكانها، وهذا يحتاج لمجاهدة ومصابرة ودعوة إلى حكم الله ببيان محاسن أحكام الإسلام ومساوئ حكم الجاهلية، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
(ولم أر مثل حكم الله حكما * ولم أر مثل باب الله بابا)
ونتعلم من اسم الله الحكم أن نحرك عقولنا ونبذل جهدنا فيما يستجد من قضايا لنجد لها الحلول الناجعة لأمراض أمتنا، روى البخاري عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)). ومرجعيتنا في ذلك كله وحي الله، فالحكم حكمه والقضاء قضاؤه، قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى: 10]، وقال: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ [الأنعام: 114]، وقال: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57].
وعندما يكون الحكم لله واقعا محققا في الأرض يسود العدل والسلام والحق ويتساوى الناس في الحقوق والواجبات. وقس على ذلك باقي أسماء الله الحسنى وصفاته العليا.
ونهاية: فأسماء الله الحسنى لم يعلمنا الله إياها ويهبنا من نفحاتها لتكون ترفا عقليا؛ بل لنحقق هذه الأسماء اسما اسما وصفة صفة في حياتنا، ونستلهم منها مقصود ومراد الله من ذلك. والله من وراء القصد.
[1] شجرة المعارف والأحوال للعز بن عبد السلام، ص (18).
[2] (تفسير روح البيان: ج9)
[3] (كتاب التيسير والاعتبار للأسدي ص 169)
[4] (فتح الباري: ج 5 ص 183)
[5] شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 7)
[6] بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (6/ 373)
[7] بتصرف بسيط من مجموع فتاوى الشيخ 4/ 226
[8] إحياء علوم الدين (1/86).
[9] (معالم في الطريق) ص (37).
[10] (في ظلال القرآن ج5 ص 344).
[11] المجموع شرح المهذب (5/ 109)
[12] تفسير البقاعي (7/255)
[13] البخاري رقم (3038)
[14] البخاري رقم (69)
[15] مسلم رقم (78).
[16] الفتح الرباني والفيض الرحماني، المجلس السابع.
[17] حلية الأولياء (1/55).
[18] (فتح الباري:ج11 ص 124)